جيني تُقابل مُحققًا مُخضرمًا
ذهبت الآنسة باكستر في وقتٍ مبكر إلى المحطة قبل مغادرة القطار الأوروبي، وأخذت تسير على الرصيف ذهابًا وإيابًا، على أمل أن ترى السيد كادبوري تايلور الذي تعرِف وجهه وهيئته جيدًا. ثم استعانت بحمَّالٍ يتحدَّث الفرنسية، وتظاهرتْ أمامه بأنها لا تعرِف الإنجليزية.
وقالت: «أرغبُ في ركوب كابينة من الدرجة الأولى مع رجلٍ نبيل، سأشير لك نحوه كي تعرفه. وسأعطيك خمسة شلنات، ولذا عليك أن تُعيرَني كامل انتباهك. ولا داعي للقلق بشأن أمتعتي؛ فهي تحمل بطاقاتٍ تعريفية وجرى تسجيلها، ولكن عليك أن تُراقبني وتتبَعني في أي عربة أدخلها، وتُحضر معك حقيبة اليد وهذا الصندوق الثقيل.»
كان الصندوق الثقيل عبارة عن آلة كاتبة في حقيبتها. وقُبيل مغادرة القطار، دخل المحقق الشهير إلى المحطة بهيئته الطويلة النحيلة وهو يسير بخُطًى هادئة واثقة. كان يرتدي معطفًا خفيفًا يصل إلى كعبَيه تقريبًا، ويخلو وجهه المتوقِّد اليقِظ من شاربٍ أو لحية تمامًا. وعندما صعد إلى الرصيف، اقترب منه رجلٌ قصير بدين وتبادَل معه الحديث.
قال صديق المُحقق: «كنتُ أخشى أن تتأخر، لكنك جئتَ في موعدك تمامًا كالمعتاد.»
فقال السيد كادبوري تايلور: «محطة السكة الحديد ليست بالمكان الأكثر إلهامًا في لندن لقضاء نصف ساعةٍ إضافية، كما أنني كانت لديَّ بعضُ الحقائق لأستجمعها، والتي دوَّنتها الآن في دفتر ملاحظاتي، وأنا مُستعِدٌّ تمامًا للذَّهاب حالَما يتحرك القطار.»
«لقد حجزتُ كابينة مسموحًا فيها بالتدخين حيث سنكون بمُفردنا.»
قال كادبوري تايلور: «حسنًا يا سميث؛ أنت دائمًا تُحسن الاختيار.» ودخل الرجلان الكابينة معًا.
وبينما أخذ الحراس يصيحون: «ليجلس كلٌّ منكم في مقعده من فضلكم.» اقتحمت الآنسة باكستر الكابينة التي جلس فيها المُحقق وصديقه معًا في ركنَين مُتقابلين.
فقال سميث: «أستميحُكِ عذرًا، هذه كابينة مُدخِّنين.» ردَّت عليه السيدة بصوتٍ عالٍ بالفرنسية، وعلى الفور رفعَ الحمَّال الآلة الكاتبة وحقيبة اليد على المقعد المجاور لها. أظهر سميث استياءَه من التطفُّل، وبدا على وشك إلقاء اللوم على الحمَّال، لكن الرجل أجاب بسرعة وهو يُغلق الباب: «إن السيدة لا تتحدَّث الإنجليزية.» وفي اللحظة التالية تحرك القطار مغادرًا المحطة.
قال المُحقق: «لم يكن هناك داعٍ يا عزيزي سميث أن تعتمد على الحمَّال للحصول على معلوماتٍ تُفيد بأن السيدة لا تتحدَّث الإنجليزية. إنها سكرتيرة صاحب عملٍ ثري جدًّا في شيكاجو، وقد أتت من تلك المدينة إلى نيويورك، حيث أبحرت وحدَها على متن الباخرة سيرفيا، قادمةً إلى إنجلترا لإجراء بعض الأعمال الخاصة، والتي يُمكنني توضيحها لك بالتفاصيل الكاملة، إذا كان الأمر جديرًا بالاهتمام. لقد أتت من ليفربول إلى لندن عبر سكة حديد جريت ويسترن، وهي الآن في طريقها إلى باريس. وهذا كله واضح بالطبع حتى للمُشاهد العادي، ولذا يا عزيزي سميث، يُمكننا أن نُناقش قضيَّتنا بقدْرٍ من الأمان كما لو كنَّا وحدَنا تمامًا.»
صاح سميث بدهشة: «لكن، يا إلهي! كيف لك أن تعرف هذا كله يا كادبوري؟»
قال المُحقق بضجر: «يا صديقي العزيز، لا أحدَ يحمل آلة كاتبة معه وهو مسافر إلا إذا كان هذا الشخص سكرتيرًا. وهذه الفتاة، إذا لاحظتَ، تعمل الآن على مَلء هوامش كتابها بطريقة الاختزال، مما يُدلِّل على وظيفتها. كما أنَّ من الواضح أنها سكرتيرة رجل ثري؛ إذ إنها عبَرَت المُحيط قادمةً من أمريكا في كابينة درجة أولى على متن الباخرة سيرفيا، وهو ما يتَّضِح من خلال إلقاء نظرة سريعة على المُلصق الموجود على الحقيبة؛ ومن الواضح أنها جاءت بمفردها، أي إنَّ صاحب عملها لم يكن برفقتها؛ لأن الآلة الكاتبة تحمل مُلصَق (غير مطلوب)، ومن ثمَّ حُزِمَت ووُضِعَت على مقعدٍ جانبها؛ لأنه إذا كان رجل أعمال من شيكاجو يُسافر برفقة سكرتيرته، لوُضِعَت علامة «مطلوب في الكابينة» على حقيبة الآلة الكاتبة بدلًا من ذلك، حيث إن رجل أعمالٍ مثله يُفترَض أن يكتب مئات الرسائل، حتى وهو على متن باخرة في المحيط، لتُصبح جاهزةً للإرسال لحظةَ وصوله إلى الشاطئ. ومن الواضح أن حقيبة الآلة الكاتبة جديدة ومختومة باسم بائعها في شيكاجو وعُنوانِه. وما يدلُّ على أنها جاءت عبر جريت ويسترن هو ظهور كلمة «تشيستر» على بطاقة أخرى فوق الحقيبة. وأعتقد حقًّا أن لديها عملًا خاصًّا في إنجلترا، وإلا لكانت قد سافرتْ إلى فرنسا مباشرةً من نيويورك إلى هافر؛ ولذا، كما ترى، يا ولدي العزيز، هذه كلُّها أمور يمكن استنتاجها بقوة الملاحظة، وهي جليَّة تمامًا لأي شخصٍ تعنيه التفاصيل.»
تمتم سميث قائلًا: «نعم، كل شيء يبدو بسيطًا جدًّا الآن بعد أن فسَّرته.»
قال المُحقق بعدم اكتراث: «كان ينبغي أن أكون أكثر غموضًا عمَّا أنا عليه الآن، لو أنني فقط لم أستفِض في الشرح والتفسير. لقد أصبحَت عادةُ التفسير هذه رذيلةً عندي، وأخشى أنه يجدُر بي الإقلاع عنها.»
قال سميث مُتلطفًا: «آمُل ألا تفعل هذا من أجلي، لأنني لو تُرِكتُ لأعتمد على نفسي، فلن أستطيع أبدًا معرفة كيفية توصُّلِك إلى استنتاجاتك الرائعة. هل تتوقع إذن أن يكون لُغز الماسات النمساوية صعبًا؟»
«صعب؟ أوه، لا يا عزيزي! لأصدُقكَ القول، لقد حلَّلتُ القضية بالفعل، ولكن لكي أجعل الأمريكي يشعُر بأنها مُعقدة وبأنني قطعتُ مشوارًا طويلًا كي أصِل إلى الحل، وهو بالتأكيد لن يُمانع، فهو مليونير حقَّق ثروته من توصيل الناس مقابل المال، لكونه صاحب سكة حديد، فسوف أتوجَّه الآن إلى فيينا. وإذا أخبرتُه بحل اللغز مباشرةً في لندن، فلن يُقدِّر مَوهبتي أكثر مما فعلتَ أنت قبل لحظةٍ عندما شرحتُ لك كيف عرَفتُ أن هذه الفتاة الفرنسية قادمة من شيكاجو.»
قال سميث بأسفٍ عميق: «لا تُؤاخذني في ذلك يا كادبوري؛ فأنا أعترفُ أنني انزعجتُ للحظةٍ لأن كل شيءٍ بدا بسيطًا للغاية.»
«يا صديقي العزيز، إنَّ كلَّ لُغز في هذا العالم بسيط باستثناء لغزٍ واحد، وهو أن تجد مشكلة يُمكن أن تصفها بأنها صعبة.»
«إذن مَن سرق الماس؟ هل هو الملازم؟»
ابتسم المُحقق وحدَّق لأعلى نحوَ سطح العربة لبضع لحظاتٍ تشويقية.
ثم قال أخيرًا: «لدَينا هنا أمير مُفلس تزوَّج وريثةً أمريكية، كما يفعل الكثير من الأمراء. وتبدأ الفتاة حياتها في النمسا بمليون دولار، لنَقُل مائتَي ألف جنيه إسترليني، وعلبة ماس يُقال إنها تساوي مائتي ألفٍ أخرى على أقل تقدير، وربما أكثر. ولا شيءَ يُنذِر بكثيرٍ من السوء إذا هم أنفقوا هذه الأموالَ بسرعةٍ كبيرة للغاية، أليس كذلك يا سميث؟»
«لا، أظنُّ ذلك.»
فتابع المُحقق: «وهكذا سيظن الرجل العادي؛ ومع ذلك، فقد أقلعتُ منذ فترةٍ طويلة عن عادة الظن؛ ولذلك كان عليَّ أن أتأكد. أول مسألة حدَّدتها لنفسي كي أتحقق منها هي: كم المبلغ الذي أنفقه الأمير والأميرة منذ أن تزوَّجا؟ فوجدتُ أن الإصلاحات في قلعة شتاينهايمر، الواقعةِ في تايرول، قد تكلَّفَت ما يقرُب من أربعين ألف جنيه. إنه مكان ضخم، ولم تحظَ عائلة شتاينهايمر بوريثةٍ منذ عدة قرون. كما استدان الأمير الكثير من المال عند الزواج، وتطلَّب الأمر ستين ألف جنيهٍ لتسوية تلك الديون؛ وهو في ذلك يُحاكي الأمراءَ الأوروبيين في بذخهم إلى حدٍّ ما، ولكن مَنْ يرغب حتمًا في اقتناء كل وسائل الراحة والفخامة، لا يُمكنه ادخار المال. وحتى لا أُضجرك بالتفاصيل، وجدتُ أن مبلغ مائتي ألف جنيه قد أُنفِق منذ شهرين تقريبًا؛ أي قبل السطو المزعوم في واقع الأمر. ولا شك أن الأمير مُفلس، وإلا لَمَا تزوَّج وريثةً من شيكاجو، وماذا عساها أن تفعل الأميرة، بطبيعة الحال، بعدما أصبحت مُفلسة؟»
صاحَ سميث بحماس: «ترهن الماس خاصتها!»
فابتسمَ المحقق.
«جالَ بخاطري أن الاحتمال الأرجح هو أن تطلُب مالًا من والدها. فسألتُه عما إذا كانت قد فعلت، وحددتُ له تاريخ الرسالة تقريبيًّا. فاتسعت عينا الرجل العجوز عند سماع سؤالي، وأخبرني أنه تلقى فعلًا رسالة بذلك. فتجرأتُ وسألتُه: «لكنك لم تُرسل المال؟» فأجاب: «بلى، لم أفعل؛ فالحقيقة هي أن المال شحيح للغاية في شيكاجو الآن، ولذا أرسلتُ إليها برقية كي تُرجئ الحديث عن ديونها لبعض الوقت.» وأكَّد هذا الاستنتاجَ الذي توصلتُ إليه بالفعل؛ إذ بعد أن فشلَتِ السيدة في الحصول على المال من والدها، لجأت إلى الماس، وهو الضمان الوحيد الذي بحوزتها، ويُمكنها تقديمه إلى البنك. ومن المُحتمل أنها فعلت ذلك قبل وصول برقيَّة والدها، وهذا هو سبب رغبتها الواثقة في استدعاء الشرطة والإدلاء بمعلوماتٍ عن الواقعة. فقد توقَّعَت أن تحصل على المال لاسترداد مجوهراتها، ولأنها امرأة ذكية، كانت تعرف الغباء المعهود للشرطة الرسمية، ومن ثمَّ اعتقدَتْ أنه ليس هناك ما يُنذر بأن يتمكَّنوا من اكتشاف خدعتها الصغيرة. ولكن عندما وصلتِ البرقية التي تُفيد بعدم إرسال أي أموال إليها، تغيرت ملامح الموقف برُمته؛ ذلك أنها لم تكن تعرف، ولكن لو أن الشرطة أُعطِيَت مُتسَعًا من الوقت، فلربما تمكنَت من العثور على الماس بضربة حظ.»
«لكن يا عزيزي كادبوري، لماذا لم تأخذ الماس علانيةً وترهنه وتحصل على المال بضمانه؟»
«يا صديقي العزيز، هناك عشرات الأسباب، وأي سبب منها كافٍ لتوضيح وضع المرأة في القضية؛ أولًا: ربما هي تخشى الإساءة إلى كبرياء عائلة فون شتاينهايمر. ثانيًا: نحن لا يُمكننا التنبُّؤ بطبيعة علاقتها مع زوجها؛ فربما لم ترغب في أن يعرِف أنها تُعاني من عجزٍ مالي. ولكني مُتأكد تمامًا ولا يُساورني أدنى شكٍّ في أنها قد سرَقَت ماساتها. كلُّ ما ينبغي أن أفعله الآن هو معرفة عدد الأشخاص الموجودين في فيينا الذين بإمكانهم أن يُقرِضوا مبالغَ كبيرة من المال بضمان مجوهراتٍ ثمينة، وعندئذٍ، سوف أعثر على مَن رهنَت الأميرةُ ماساتها عنده.»
«ولكن يا عزيزي كادبوري، إنَّ السيدة تُقيم في ميران، وفيينا تبعُد عنها مئات الأميال. كيف يُمكن لسيدةٍ في منطقة تايرول أن ترهن ماساتها في فيينا دون أن يُلاحظ أحدٌ غيابها؟ أم هل تعتقد أن لديها وكيلًا تولَّى القيام بذلك نيابةً عنها؟» مرة أخرى ابتسم المُحقق باستسهالٍ ثم قال:
«لا، ليس لديها وكيل. إنَّ الماس لم يُغادر فيينا. انظر، لقد أُعلِن عن الحفل، وكانت هناك حاجة ماسة إلى أموالٍ فورية؛ ومن ثمَّ رهنت الماس قبل أن تُغادر عاصمة النمسا، ومن المُحتمَل أنها لم تكن تنوي أن يعرف أحد أنه مفقود؛ ولكن عشية الحفل أصرَّ زوجها على أن ترتدي الماسات، ولكونها امرأةً سريعة البديهة، قالت إنها قد سُرقَت. وبعد أن أعلنت ذلك، كان عليها بالطبع أن تلتزم بما قالت. والآن، بعد أن فشلَت في الحصول على المال من أمريكا، يُساورها قلق بالغ أن يُستعان بمُحقِّق مُخضرم للتحقيق في الواقعة.»
في دوفر، بعد أن سجلت الآنسة باكستر ملاحظاتها على هذه المحادثة الشيقة بطريقة الاختزال، شاهدت المُحقق وهو يودِّع صديقه سميث، الذي عاد إلى لندن على متن قطارٍ لاحِق، وداعًا حارًّا، ولم تعرف المزيد من السيد كادبوري تايلور بعد ذلك. ثم وصلت إلى قلعة شتاينهايمر في ميران دون مزيدٍ من المغامرة.