جيني تحل لغز الماس
وجدَت الآنسة باكستر الحياة في القلعة مختلفة كثيرًا عما كانت تتوقعه؛ فالأميرة سيدة شابة وجذَّابة وفاتنة للغاية، ولكنها في حالةٍ من الاكتئاب المُستمر. وقد رأتها الآنسة باكستر عرَضًا مرةً أو مرتَين وقد بدَت آثارُ البكاء واضحةً على وجهها. ولم يكن الأمير رجلًا عجوزًا، كما تخيَّلت، بل هو شابٌّ ذو مظهر رجولي قوي. ومن الواضح أنه صاحب مِزاج صعب للغاية، وهو يتنقَّل ببطءٍ في جنبات القلعة مع عُبوسٍ دائم على جبينه.
وكانت مُراسَلات الأميرة في غاية الفوضى؛ فهناك مئات ومئات من الرسائل، وبدأت الآنسة باكستر في جدولتها وترتيبها. وفي الوقت نفسِه أبقت الصحفيةُ الشابة عينَيها مفتوحتَين؛ حيث أخذت تتجوَّل في القلعة دون أن يُضايقها أحد، وتتفحَّص كل ركنٍ من أركانها الغريبة، كما تحدَّثَت إلى الخدم، بل في الواقع، إلى الجميع، لكنها أبدًا لم تجد دليلًا واعدًا يقود إلى حلِّ لُغز الماس. وفي إحدى المرات صعدت إلى إحدى غرف البرج، وفوجئت بوجود الأمير هناك، حيث كان جالسًا على حافة النافذة، ينظر بذهنٍ شارد إلى الوادي الواسع المُبهج الذي يمتدُّ لأميالٍ عند سفح القلعة. فقفز واقفًا على قدمَيه وحدَّق بقوةٍ فيمَن اقتحم عليه خلوته، لدرجة أنَّ قلب الفتاة كاد أن يتوقَّف، ولم يكن ذهنها حاضرًا حتى ليُرشِدها للالتفاف والركض.
وقال لها باقتضاب، وهو يتحدَّث الإنجليزية بإتقان: «ماذا تريدين؟ أفترض أنكِ الفتاة القادمة من شيكاجو؛ أليس كذلك؟»
أجابت الآنسة باكستر، وقد نسيت للحظةٍ الدورَ الذي كانت تلعبه: «لا، أنا من لندن.»
«حسنًا، لا يُهم. أنتِ السكرتيرة التي تُرتِّب مراسلات زوجتي، أليس كذلك؟»
«بلى.» فتقدَّم الأمير بسرعةٍ نحوَها وأمسكها من معصمها عاقدًا جبينه بعبوسٍ شديد وقال بصوت أجشَّ:
«اسمعي يا فتاتي الطيبة! هل تريدين أن تحصلي على أموالٍ مني تفوق ما ستحصلين عليه من الأميرة خلال عشر سنواتٍ من الخدمة؟ استمعي إذن إلى ما أقوله لكِ. إذا كانت هناك أي رسائل من … من … رجال، فهل تُحضرينها إلي؟»
كانت الآنسة باكستر خائفةً للغاية، لكنها قالت للأمير بحِدَّة:
«إذا لم تترُك معصمي، فسوف أصرخ. كيف تجرؤ على وضع يدِك عليَّ هكذا؟»
فأطلق الأمير معصمها وتراجع.
ثم قال: «سامحيني؛ أنا رجلٌ بائس جدًّا. انسَيْ ما قلتُه.»
صاحت الفتاة: «كيف أنساه؟» ثم استجمعت شجاعتها وهي ترى شجاعتَه تخونه أمام عينَيها المُتَّقِدتَين وقالت: «ماذا تُريدني أن أفعل؟»
«أُريدكِ أن تُحضري إليَّ أي رسائل كتبها … كتبها …»
صاحت الفتاة: «كتبها فون شاومبرج!» حيث لاحظَت تردُّدَه واستنتجَت الاسم.
تفجرَت موجة عارمة من الغضب في وجه الأمير فاكتسى كلُّه بالحُمرة.
وصاحَ: «نعم؛ أحضري لي رسالةً وصلَتها من فون شاومبرج، وسأدفع لكِ ما تطلبين.»
ضحكت الفتاة.
وقالت: «أيُّها الأمير، ستعذُرني إذا وصفتُك بالأحمق؛ إذ لا تُوجَد رسائلُ من فون شاومبرج، لقد راجعتُ كامل المُراسلات.»
«ما الذي جعلكِ إذن تُخمِّنين اسم فون شاومبرج؟ أين سَمِعتِه من قبل؟»
«سمعتُ أنك تشتبِهُ فيه وتظن أنه قد سرق الماس.»
«أجل، فعلَها اللصُّ الجبان. ولولا أن الأمر سيُلوِّث اسم الأميرة بجيفةٍ مثله، لكنتُ …»
لكن الأمير أخذ يخطو غاضبًا في الغرفة ذَهابًا وإيابًا دون أن يُفصِح عما كان سيفعله. فأجبرته الآنسة باكستر بسرعة على التوقُّف وهي تقول في تردُّد:
«هناك أمرٌ يتعارَض مع واجبي تجاه الأميرة.» عندئذٍ توقَّف والتفتَ إليها بشدة وقال:
«ما هو الأمر المتعارِض مع واجبك؟»
«هناك رسائل مربوطة بشريطٍ أزرقَ رقيق، وهي مِن رجل، لم تسمح لي الأميرة بقراءتها، لكنها أخفتها في دُرجٍ سري في غرفة تبديل الملابس خاصتها، وأغلقته بالمفتاح، لكنها لا تكترِث كثيرًا بمفاتيحها وكلِّ شيء آخر، وأنا واثقة أن بإمكاني إحضارَها لك، إذا كنتَ تُريدها.»
قال الأمير: «نعم، نعم، أريدها، وسأُجزِل لكِ العطاء مقابل ذلك.»
أجابت الآنسة باكستر: «حسنًا، حسنًا، ستحصُل عليها. إذا انتظرتَ هنا عشر دقائق، فسأحضرها لك.»
قال الأمير مُترددًا: «لكن لا تقولي شيئًا للأميرة.»
«أوه، لا، لستُ بحاجة إلى ذلك؛ فمن المؤكد أن المفاتيح ستكون على طاولة الزينة.»
ركضَت الآنسة باكستر إلى غرفة الأميرة، ولم تجد صعوبةً تُذكَر في الحصول على المفاتيح، ففتحت قفل الدرج السري الذي رأت الأميرة تضع حزمة الرسائل فيه، وأخرجتها، وسحبَتْ ورقةً أخرى معها، قرأتها وهي تُحدِّق في دهشة، ثم أطلقت صفيرًا بشفتَيها الجميلتَين، جاء أشبهَ بالفحيح. فأخذَت كُلًّا من حزمة الرسائل والورقة معها، وركضت بسرعةٍ أعلى السُّلَّم وعلى طول الممر إلى الغرفة؛ حيث كان الأمير ينتظرها بصبرٍ نافد.
قال بشدة: «أعطيني إيَّاها.» وانتزع بوقاحةٍ حزمة الرسائل من يدِها. لكنها تشبَّثت بقطعة الورق المنفصلة ولم تقُل شيئًا؛ فوقف الأمير بجانب النافذة وفكَّ الحزمة بيدَين مُرتجفتَين، ثم تفحص الرسائل واحدةً تلوَ الأخرى، واستدار أخيرًا نحو الفتاة وقد عادت أماراتُ الغضب ترتسِم على وجهه.
وصاحَ قائلًا: «أنتِ تعبَثين معي أيَّتها الفتاة.»
فقالت بشجاعة: «لا، أنا لا أعبث.»
«إنَّ هذه هي رسائلي الخاصة، التي كتبتُها إلى زوجتي قبل أن نتزوَّج!»
«بالطبع هي كذلك. ماذا كنت تتوقَّع إذن؟ هذه هي الرسائل الوحيدة، حسب علمي، التي كتبها أيُّ رجلٍ إليها، والرسائل الوحيدة التي تهتمُّ بها من بين كل الآلاف التي تلقَّتها. عجبًا لك، أيُّها الأحمق الأعمى، لم يكن قد مضى على وجودي في هذه القلعة سوى يومٍ واحدٍ حتى علمتُ حقيقة الأمور؛ فالأميرة قد انفطر قلبها المسكين لأنك غيرُ لطيفٍ معها، وهي لا تهتم بأحدٍ على وجه الأرض سواك، أيُّها الغبي الكبير.»
صاح الأمير، وأسقط الحُزمة وتوجَّه مُسرعًا نحو الفتاة وهو يقول: «هل هذا صحيح؟ هل تُقسِمين على أن هذا صحيح؟» وقفتِ الآنسة جيني وظهرُها إلى الحائط، ووضعتْ يدَيها خلفها، وقالت:
«توقَّف، توقَّف؛ لا تلمِسْني مرةً أخرى. بالطبع هذا صحيح، ولو كان لديك إحساسُ طفلٍ في السادسة من عمره، لكنتَ أدركتَ الأمر منذ زمنٍ بعيد؛ وهي قد دفعت ستين ألف جنيه من ديونك بسبب القمار أيضًا.»
«عمَّ تتحدَّثين؟ لم تُعطني الأميرة بنسًا قط من مالها. أنا لا أحتاجه؛ فالله يعلم أن لديَّ ما يكفي من مالي الخاص.»
«حسنًا، قال كادبوري تايلور إنك … أوه، سأضمن لك، إنه مثل بقية تصريحاته، لغوٌ خالص.»
«عمَّن تتحدَّثين؟ ولماذا حمَت زوجتي ذلك البائس الحقير الذي تعرف أنه قد سرق ماساتها؟»
«هل تقصد فون شاومبرج؟»
«نعم.»
«أعتقد أن الأميرة تظنُّ أنه قد سرقها، والسببُ في أن الأميرة تحميه هو أن تمنعك من مُجابهته، لأنها تخشى أن يقتُلك، كونه رجلًا عسكريًّا، على الرغم من أنني أتخيَّل أنها كانت ستتخلص منك، وهذا من الأفضل لها.»
«لكنه سرق الماس، ما من أحدٍ غيره.»
«لم يفعل شيئًا من هذا القبيل. اقرأ هذه!»
أخذ الأمير، مُتعجبًا، الورقة التي سلَّمته إيَّاها وقرأها، وعقد جبينه من الحيرة.
وقال: «لا أفهم! ما علاقة هذا بالقضية؟»
«يبدو أنه طلبٌ موجَّهٌ إلى البنك في فيينا بشأن الماس، كتبَته الأميرة نفسُها.»
«بالطبع هو كذلك. حسنًا، لو أنَّ الأميرة قد تسلَّمَت الماس، لكانت هذه الورقة الآن في حوزة البنك بدلًا منك.»
«ربما أخطأتْ في كتابة هذا الطلب وكتبَت غيره.»
«ربما. لكن ربما لا تزال الحقيقة جديرةً بأن تكتشِفها.»
«إذن، خُذي هذا إلى الأميرة واسأليها.»
«من غير المُحتمَل أنها ستتذكَّر. من الأفضل إرسالُ برقيةٍ في الحال إلى بنك فيينا، نطلُب منهم فيها إرسال الماس إلى ميران مع مبعوثٍ خاص. لا أحدَ هناك يعلم أن الماس مفقود.»
صاح الأمير: «سأفعلُ ذلك في الحال.» وقد أصبح صوته أكثرَ حيويةً ممَّا لاحظَته الآنسة باكستر سابقًا. حيث أصبح سموه مهتمًّا بالفكرة.
وبعد تناول الغذاء، جاءت الأميرة إلى الآنسة باكستر، التي كانت جالسة إلى مكتبها، وسلَّمت لها رسالة.
«هناك دعوة من دوقة تشيزيلهورست لحضور حفلٍ كبير ستُقيمه قريبًا في منزلها الكائن في لندن. يبدو أنه سيكون حفلًا رائعًا للغاية، لكني لا أهتمُّ كثيرًا بتلك الأمور لأقطع كلَّ هذه المسافة إلى إنجلترا كي أستمتع بها. من فضلِك أرسلي إليها رسالة اعتذارٍ عن عدم الحضور.»
«سأفعل في الحال.»
في تلك اللحظة جاءَ مرسال من الأمير يطلب من الآنسة باكستر مُقابَلته في المكتبة. فنظرت الفتاة إلى الأميرة.
وقالت: «هل تأذنين لي بالذَّهاب؟»
نظرت الأميرة إليها بثباتٍ للحظة، مع مسحةٍ طفيفة من العبوس على جبينها الجميل.
وتحدثت سموها بتأنٍّ: «لا أظنُّ أنكِ بحاجةٍ إلى إذني؛ لقد تعطف زوجي ليهتمَّ بكِ كثيرًا. إذ بينما كنتُ أمرُّ عبر الردهة صباح اليوم، سمعتُ أصواتكما وأنتما تتجاذبان أطراف الحديث في حوارٍ حماسي للغاية.»
«هل كان لديكِ من الاهتمام بمناقشتنا ما يجعلكِ تتوقَّفين وتستمِعين إلى ما قُلناه، أيَّتها الأميرة فون شتاينهايمر؟»
«آه، أنتِ تُسيئين الأدب وتتطاوَلين في الحديث، وعليَّ أن أُعلِمَكِ أن تعتبري وظيفتكِ لديَّ قد انتهت.»
«بالتأكيد لن تطرديني من وظيفتي بهذه القسوة أيَّتها الأميرة. أعتقدُ أنه يحقُّ لي الحصولُ على إخطارٍ مدته شهر، أم أنه أسبوع فقط؟»
قالت الأميرة، التي لم يكن لديها حسُّ دعابة، وبالتالي اعتقدتْ أن الفتاة كانت جادةً عندما طلبت إخطارًا: «سأدفع لكِ راتبَ عامٍ كامل، أو عامَين إذا كان ذلك يُرضيكِ. لا أريد أن أتعامل معكِ بقسوة، لكنني أُريدكِ أن تُغادري على الفور.»
ضحكت الآنسة باكستر بمرح، وأجابت بعدما تمكَّنت من كبح جماح فرحتها: «أنا أكره مُغادرة القلعة بعدما بدأتِ الأمور تصير مُمتعة ومُشوقة. ومع ذلك، لا أعتقد أنني سأُضطَر حقًّا إلى المغادرة على الرغم من إقالتكِ لي؛ لأن الأمير عرض عليَّ صباح اليوم عشرة أضعاف المبلغ الذي تدفعينه لي.»
«هل فعل حقًّا؟»
«نعم بكلِّ تأكيد؛ إذا كنتِ لا تُصدقينني، فاسأليه. لقد قلتُ له إنه أحمق، لكن، يا للأسف! نحن نعيش في عصرٍ يدعو إلى السخرية، وقليل من الرجال يُصدِّقون كلَّ ما يسمعونه، لذلك أخشى أنَّ تعبيري عن رأيي قد أثَّر فيه قليلًا.»
قالت الأميرة بكبرياءٍ فاتر: «لن أُؤخركِ عن سموه أكثر من ذلك.»
«شكرًا جزيلًا. فأنا أتوق لمقابلته بشدة، لأنني أعلم أن لديه شيئًا مهمًّا ليُخبرني به. ألا تعتقدين أنتِ نفسك، أيَّتها الأميرة، أن الرجل يتصرَّف مثل الأحمق عندما يكون في حالة عشقٍ وهيامٍ عميقَين؟»
لم تردَّ الأميرة على هذا السؤال، وغادرت الغرفة.
قفزت الآنسة جيني على قدَمَيها وهرولت مسرعةً إلى المكتبة، فوجدت الأمير يمشي ذهابًا وإيابًا في الغرفة الطويلة، مُمسكًا ببرقيةٍ في يده. ومن ثم قال لها: «أنتِ امرأة مُميزة للغاية؛ اقرَئي ذلك.»
قالت الفتاة وهي تُمسك البرقية: «لقد أخبرني بذلك من قبل رجالٌ أكثرُ تميزًا منك، أيُّها الأمير فون شتاينهايمر.» كانت البرقية من مدير البنك في فيينا، وقال فيها: «سيصلُكم الليلة مبعوثٌ خاص مع الطرد مُستقلًّا قطارَ ميران السريع.»
قالت الآنسة جيني: «كما اعتقدتُ تمامًا؛ إن الماس لم يُغادر البنك أبدًا. أعتقد أن هؤلاء الخدم الحمقى الذين يُحيطون بالأميرة لم يعرفوا ما الذي أخذوه من فيينا وما الذي تركوه. وبعد ذلك، عندما لم تجد الأميرة الماس، فقَدوا صوابهم تمامًا، وكأنَّ كلَّ مَن في القلعة لم يَعُد لديهم أدنى قدرٍ من الذكاء ليستخدموه. لم أرَ قطُّ مثل هذا القدْر من عدم الكفاءة.»
فضحك الأمير وقال:
«ربما تعتقدين أنني لستُ ذكيًّا بما يكفي لأرى أن زوجتي تهتمُّ بي، أليس كذلك؟ هل لهذا السبب أعطيتِني رسائلي التي أرسلتُها إليها؟»
«أوه، إنَّ زوجتك تُحبك للغاية! وقد منحتني الأميرة الآن شرفَ أن أكون سببًا في إثارة شعورها بالغيرة. فَكِّر في ذلك! كما لو أنَّ من المُمكن أن أهتمَّ بك، مع أني رأيتُ رجالًا حقيقيِّين في حياتي.»
فرمَقَها الأمير بنظرة صارمةٍ وهو يقول:
«ألستِ تمتدحين نفسَكِ إلى حدٍّ ما أيَّتها الآنسة الشابة؟»
«أوه، لا يا عزيزي! أنا أعتبر ذلك عكس المدح؛ إذ ليس من المُفترَض أن يُراوِدني أيُّ إعجاب بشخصٍ ساذَجٍ مثلِك. يا له من مدحٍ حقًّا! وقد فصلَتني هي مِن وظيفتي بغطرسة، ولذا أستميحك عذرًا.»
«هل فعلَت الأميرة ذلك؟ ماذا قلتِ لها كي تفعل هذا؟»
«أوه، لقد قدَّمتُ أكثر الملاحظات براءةً، وكانت هي الحقيقةَ أيضًا، مما يدل على أن الصدق ليس دائمًا أفضلَ سياسة. لقد أخبرتُها فقط أنك عرَضتَ عليَّ عشرة أضعاف الراتب الذي تدفعه هي لي. وليس في ذلك ما يدعوك إلى القفز كما لو أن أحدَهم قد أطلق مُسدسًا على أذنك. أنت تعلم أنك قدَّمت لي هذا العرْض.»
صاح الأمير بغضب: «يا لكِ من مُزعجة بغيضة. هل أخبرتِها بالسبب الذي جعلني أُقدِّم لكِ هذا العرض؟»
«لا؛ هي لم تسأل.»
«سأكون شاكرًا لكِ بشدة إذا استخدمتِ مهارتك هذه لرأب الصَّدْع الذي تسبَّبتِ فيه دون أدنى مبالاةٍ من جانبك.»
«كيف يُمكنني ذلك؟ لقد أُمِرت بالمغادرة الليلة، بينما أرغبُ في البقاء كي أرى حلَّ لُغز الماس.»
«لن تُغادري الليلة. سأتحدَّث مع الأميرة حول هذا الموضوع إذا كان ذلك ضروريًّا. يُذكرني حديثك عن الماس بما أخبرني به والد زوجتي المُحترم، السيد بريجز، عن أنه قد استعان بمُحقق مشهور، اسمه تايلور على ما أظن، سيصِل هنا غدًا لتفسير لُغز الماس، ومن ثمَّ سيُصبح لديكِ منافس.»
«أوه، هل سيأتي كادبوري إلى هنا؟ هذا أمر مبهج للغاية. يجب أن أبقى وأستمع إلى تفسيره؛ لأنه مُحقق ذائع الصيت جدًّا، والاستنتاجات التي توصَّل إليها ستكون حتمًا الأكثر تشويقًا.»
«أعتقد أنني في انتظار بعض التفسيرات أيضًا؛ إذ يبدو أن والد زوجتي الوجيهَ قد كلَّف هذا الشخص دون أن يُفكر في ضرورة استشارتي على الأقل. وفي الواقع، عندما يأتي السيد بريجز إلى القلعة، فإنه يُقابلني وهو مُتجهِّمٌ ومُكفهرٌّ للغاية، لدرجة أنني أشكُّ أحيانًا فيما إذا كان هذا منزلي أم لا.»
«وهل هو كذلك؟»
«ماذا تقصدين؟»
«أقصدُ هل هو منزلك؟ قيل لي إنه مرهون حتى أعلى برجٍ فيه. ومع ذلك، لا يُمكنك إلقاء اللوم على السيد بريجز لقلقه بشأن الماس؛ فهو مِلكٌ لابنته.»
«إنه ملكُ زوجتي.»
«هذا صحيح. وهو ما يُعقِّد الأمور قليلًا، ويمنح شيكاجو وفيينا الحقَّ في أن تبدُوا قاتمتَين حزينتَين. والآن، يجب أن أستأذن سموك في الانصراف. وإذا وصل الماس بأمان في الصباح، فتذكَّر أنني أنوي المطالبة بإعلان أني مَن حلَلتُ لُغز اختفائه. وفي غضون ذلك، سأكتبُ قصة صغيرة لطيفة عنه.»
وفي الصباح، وصل الماس مع المبعوث الخاص، الذي أخذ في البداية إيصالًا رسميًّا باستلامه، ثم غادر. وعلى متن القطار نفسِه وصل السيد كادبوري تايلور، مُتواضعًا كما هو دائمًا، ولكن مع إعطاء بعض الدلائل في مظهره على أهمية الاكتشاف الذي ساعدَه منطقه الرائع في تحقيقه. وقد تهرَّب بلطفٍ من فضول السيد بريجز، وقال إنه ربما يكون من الأفضل الكشفُ عن السرِّ في حضور الأمير والأميرة، حيث أدَّت تحقيقاته إلى استنتاجاتٍ قد تكون غيرَ سارةٍ لأحدهما، ومع ذلك يجب عدم الكشف عنها في غيابهما.
تمتم السيد بريجز، الذي كان مُقتنعًا منذ فترةٍ طويلة بأن الأمير هو الجاني الحقيقي: «هذا ما كنتُ أظنه.»
ومن ثمَّ جلسوا جميعًا في المكتبة؛ فجلس الأمير، وفي جيب معطفه الماس، على رأس المنضدة الطويلة، وجلست الأميرة عند نهايتها، بعيدًا عن زوجها بقدْر ما تستطيع دون أن تلفت الانتباه. بينما وقفت الآنسة باكستر بالقُرب من النافذة تقرأ رسالةً مهمة من لندن وصلت إليها هذا الصباح. ثم جاء المُحقق الطويل النحيف مع السيد بريجز، وحيَّى الرجلُ اللندني الأمير والأميرة بانحناءةٍ واثقة. وجلس السيد بريجز إلى كرسي على جانب المنضدة، لكن المُحقق ظل واقفًا، ينظر بفضول إلى الآنسة باكستر، لكن من الواضح أنه لم يُدرك أنها السيدة التي التقت به وصديقِه مُصادفةً عندما استقلَّا القطار.
«أستميحك عذرًا يا صاحب السمو، ولكن ما يجب أن أقوله من الأفضل أن يُقال في حضور أقلِّ عددٍ مُمكن من المُستمعين. سأكون مُمتنًّا جدًّا إذا قرأتْ هذه الآنسة رسالتها في غرفة أخرى.»
قال الأمير ببرود: «الآنسة هي سكرتيرة سُموِّها وهي تثِق فيها ثقةً كاملة.»
لم تقُل الأميرة شيئًا، لكنها جلسَت وعيناها على المنضدة، دون أن يبدوَ عليها أي تأثُّرٍ بما يجري. وبينما تورَّد وجهها باللون الأحمر، رمقها المُحقق الذكي بنظرةٍ سريعة خاطفة، فرأى أمامه امرأة شاعرةً بذنبها، وتخشى أن يفتضح أمرها، لكنها لا تعرف كيف تتفادى ذلك.
قال السيد تايلور بلُطفٍ: «هل ستعذُرني سموك لإصراري؟»
قاطعه الأمير على نحوٍ فظ: «لا، واصِل روايتك دون الكثير من المُوارَبة والإطناب.»
تنحنح المُحقق، الذي يبدو أنه غير مُنزعج من أسلوب الأمير الفظ، ثم انحنى بعمقٍ نحو الأمير، وبدأ.
فقال، مخاطبًا الأميرة: «هل لي أن أسأل سموكِ، كم كنتِ تمتلكين من المال قبل مُغادرتكِ فيينا؟»
نظرَت إليه السيدة مُتفاجئةً لكنها لم تُجِب.
صاح الأمير، وقد طغى مزاجه العصبي عليه مرةً أخرى: «بحقِّ السماء، ما علاقة ذلك بفقدان الماس؟» بسط كادبوري تايلور يدَيه وهزَّ كتفَيه احتجاجًا على المقاطعة. وتحدَّث باحترام وإذعان، ولكن مع ذلك كانت هناك لمسةٌ من اللوم في نبرته.
«لقد اعتدتُ أن يُستمَع إليَّ بصبر، ويُسمَح لي بسرد قصتي بطريقتي الخاصة، سموَّك.»
«ما أشكو منه هو أنك لا تسرد أي قصة على الإطلاق، لكنك تسأل بدلًا من ذلك سؤالًا وقحًا للغاية.»
«الأسئلة التي قد تبدو لك غير ذات صِلة، قد تكون لعقلٍ مدرَّب …»
«كلام فارغ! حَمير مُدرَّبة! هل تعرف أين الماس؟»
أجاب كادبوري تايلور وهو لا يزال صامدًا، على الرغم من الاستفزاز الذي يتلقَّاه: «نعم، أعرف.»
«حسنًا، أين هو؟»
«إنه في خزائن البنك الذي تتعامل معه في فيينا.»
«أنا لا أُصدِّق ذلك. فمَن سرقه إذن؟»
«لقد وُضِعَ هناك من قِبَل صاحبة السمو الأميرة فون شتاينهايمر، بلا شك كضمانٍ مقابل المال …»
زأر الأمير، وقد انتفض واقفًا على قدمَيه، بصوتٍ جهوري وهو يقول: «ماذا! هل تقصد التلميح، أيُّها الشرير، بأن زوجتي قد سرقت ماساتها؟»
«إذا سمح لي سموك بالمُضي قدمًا في تفسيري …»
صاحَ الأمير وهو يُخرج الصندوق من جيبه ويضعه بقوةٍ على الطاولة: «كفاكَ حمقًا! هذا هو الماس.»
صاحَ العجوز بريجز، وهو يضربُ بقبضته على المنضدة المصنوعة من خشب البلوط: «ها هو! ألم أخبرك؟ كنتُ أعرف ذلك طوال الوقت. لقد سرق الأمير الماس، وها هو في حماسته يُخرجه من جيبه ويُثبت ذلك. كان هذا رأيي طوال الوقت!»
قالت الأميرة في خفوتٍ وهي تتحدَّث لأول مرة: «أوه، أبي، أبي! كيف يُمكنك أن تقول مثل هذا الكلام؟ لا يمكن أن يُقدِم زوجي على مثل هذا التصرُّف الشائن. فكرة أنه مَن سرق الماس غير واردة على الإطلاق! لا يمكن أن يفعل ذلك حتى لو كان يُساوي ألف مليونٍ وحتى لو كان متأكدًا من أن اكتشاف السرقة مُستحيل.»
أدار الأمير نظرَه إلى زوجته التي وضعت ذراعَيها على الطاولة ودفنتْ وجهها فيهما، بعد أن كان يُحدِّق في السيد بريجز، وبدا وكأنه على وشك أن يُصارح الرجل ذا الوجه الأحمر بالحقيقة.
فصاحت الآنسة جيني باكستر، وهي تتقدَّم بقوة إلى الأمام: «هيا، هيا، أتصوَّر أن الجميع قد سئم من هذا. فلتخرُج الآن يا سيد بريجز وخُذ السيد تايلور معك. أنا متأكدة من أنه لم يتناول أي إفطارٍ بعد، ومن المؤكَّد أنه يبدو جائعًا. وإذا استعنْتَ بمُحقِّقين يا سيد بريجز، فلا بدَّ أن تعتنيَ بهم جيدًا. هيا اذهب. ستكون غرفة الطعام أنسبَ من المكتبة الآن؛ وإذا لم تجد ما تُريد من الطعام، فاستدعِ الخدَم وسيُحضرونه لك.»
ومن ثمَّ اقتادت الرجلَين الصامتين أمامها، وأغلقت الباب، وقالت للأمير، الذي كان لا يزال يقف في حيرةٍ مِن إجباره على إظهار ما في حوزته على هذا النحو:
«إذن! ها قد تخلَّصنا من اثنين من الحمقى وتبقَّى اثنان. والآن يا أعزائي — لن أُبجِّل أيًّا منكما — أنتما ببساطةٍ شخصان وحيدان يُحِب أحدُهما الآخرَ حبًّا جمًّا، لكنكما تتباعدان بسبب سوء فهم أحمق يمكن أن تُصحِّحه بِضعُ كلماتٍ إذا كان لدى أيٍّ منكما شعور كافٍ للإفصاح بها، وهو ما ليس لديكما، ولهذا السبب أنا هنا للتحدُّث نيابةً عنكما. الآن يا سيدتي، أنا على استعدادٍ لأنْ أُقسِم أن الأمير لم يقُل لي أبدًا أيَّ شيءٍ يُخالِف حبَّه العميقَ لكِ، وإن كنتِ قد سمعتِ الحوار الذي دار بيننا، فلن تكوني في حاجةٍ إلى إخباركِ بذلك. وهو يظن أنكِ معجبة بذلك الأبله فون شاومبرج؛ وذلك ليس لأنني رأيتُ المسكين من قبل، لكنه لا بدَّ أن يكون أبله، وإلا فما كان الأمير ليغار منه. وكما أن أحدًا لم يسرق الماس بعد كل هذه الجَلبة، فإنَّ أحدًا لم يسرق الحُبَّ الذي يُكِنُّه أيٌّ منكما تجاه الآخر. أستطيع أن أرى من خلال الطريقة التي ينظُر بها أحدكما إلى الآخر أنني لستُ بحاجةٍ إلى أن أستسمِحَكما أن أترُككما وحدكما بينما أركض أنا إلى غرفتي كي أحزم أمتعتي.»
صاحت الأميرة: «أوه، لكنكِ لن تتركينا، أليس كذلك؟»
«كم يُسعدني أن أبقى؛ لكن لا راحة في هذا العالَم، وعليَّ أن أعود إلى لندن.»
عزيزتي الآنسة باكستر (انتقلَتْ بسرعة إلى الجزء التالي)، نحن في معضلة كبيرة للغاية هنا، ولذا أكتبُ إليكِ كي أطلب منكِ أن تُقابليني في لندن دون تأخير، ثم تستطيعين العودة إلى تايرول لاحقًا إذا كان التحقيق في لُغز الماس يستلزم عودتَكِ؛ حيث ستُقيم دوقة تشيزيلهورست حفلًا رائعًا في التاسع والعشرين من هذا الشهر. إنه حدَث مُهم للغاية، ستحضره شخصياتٌ بارزة من كل أنحاء أوروبا، ويبدو أن منظِّمي الحفل مصرُّون على عدم حضور أي صحفي. وقد بذلنا قصارى جهدنا للحصول على دعوة حضورٍ رسمية لمُراسلنا، ولكن دون جدوى، فالردُّ دائمًا أنهم سيُرسلون بيانًا رسميًّا كي تنشره كل الصحف. والآن، أريدكِ أن تستغلِّي براعتَكِ في العمل، وتحصلي على الدعوة إن أمكن؛ لأنني مصرٌّ على أن أحظى بتغطيةٍ صحفية لهذا الحفل مكتوبة بطريقة تجعل كلَّ من يقرؤها يعرف أن الكاتب قد حضرَها بالفعل. وإذا تمكنتِ من فعل هذا، فلا يسَعُني أن أُعبر لكِ عن مدى امتناني ومالكِ الصحيفة تجاهَ ذلك.
جلسَت الآنسة جيني باكستر للحظاتٍ مُستغرِقةً في التفكير، والرسالةُ في يدها، وأخذت تسترجع في ذهنها أسماءَ أولئك الذين قد يُمكنهم مساعدتُها في هذه المهمة، لكنها استبعدتهم واحدًا تلو الآخر، مُدرِكة جيدًا أنه إذا كان السيد هاردويك ومالك صحيفة بيجل قد التمسا مساعدة جميع أصدقائهم المُؤثِّرين دون جدوى، فإنها بدورها لم يكن بإمكانها أن تأمُل في النجاح بمساعدة عدد قليل جدًّا من الشخصيات المهمة التي تعرفها. ثم تساءلَتْ عمَّا إذا كان بإمكان الأميرة أن تحصل لها على دعوة؛ وفجأة لمعت عيناها، وقفزت بلهفةٍ على قدمَيها.
وصاحت بصوتٍ عالٍ: «يا للحظِّ السعيد! فأنا لم أبعث رسالةَ رفض الأميرة لحضور الحفل إلى دوقة تشيزيلهورست حتى الآن. لقد نسيتُها تمامًا حتى هذه اللحظة.»