جيني تُدرك أنَّ الأحداث الكبرى التي مرَّت بها سوف تكون لها تَبعاتها في المستقبل
وصلت جيني باكستر إلى فندقها بأسرعِ ما يُمكن أن يأخذها زوجٌ من الخيول المُسرِعة. لقد نجحت في مهمتها؛ ومع ذلك، انحدرت دمعاتٌ متمرِّدة قليلة من خيبة الأمل على خدَّيها الآن بينما هي وحيدة في العربة شبه المظلمة. وفكرت في الشاب المُتلهِّف الذي تركته واقفًا كَسِيرَ القلب على الرصيف، وقفازها يتدلَّى من يده، وملأتها الحسرة لأن الحظ السيئ جعلها لا تُقابله إلا وهي تنتحِل صفة شخصية زائفة. وكان عزاؤها الوحيد هو أنه لم يكن لديه أيُّ دليلٍ يقوده إلى هُويتها، وعقدت العزم على أنها لن تراه مرةً أخرى أبدًا؛ ومع ذلك، فهذا هو التناقض في الطبيعة البشرية، فما أن انتشَت بعزمها هذا حتى انهمرت دموعُها بغزارة أكثرَ من أي وقتٍ مضى.
كانت تعلم أنَّ لديها ما يُؤهلها للاستمتاع بمشاهد مثل ذلك الحفل الذي غادرته للتوِّ مثل أي شخصٍ كان هناك؛ فلديها ما يُؤهلها من حيث التعليم، أو المظهر الشخصي، أو العقل الراجح، مثل ضيوف الدوقة الجديرين بكل تَرْحاب؛ ومع ذلك فقد حُرِمت من حقها في الدخول مثلهم مثل بيري اليائسة التي تقِف عند باب جنة عدْن المُوصَدِ في وجهها. لماذا اختار القدر المُتقلِّب فتاتَين ربما تكون لهما نفس الجدارة، وجعل إحداهما أميرة، بينما توجَّب على الأخرى أن تعمل بكدٍّ ليلَ نهار لمجرد أن تحصل على حقها في العيش؟ ولا شيء عديم الجدوى مثل كلمة «لماذا»؛ فهي تستهلُّ السؤال، لكنها أبدًا لا تُقدِّم جوابًا شافيًا.
جفَّفت جيني دموعها بتنهيدةٍ عميقة عندما توقَّفت العربة أمام بوابة الفندق. وصرفت التنهيدةُ كل الأفكار الطائشة عن ذهنها، وكذلك كل التساؤلات العقيمة التي تبحث فيها عن أسبابٍ وتبريراتٍ بلا جدوى. وأصبحَت الفتاة الآن في مواجهةٍ مباشرة مع حقائق الحياة، وستتماهى الأحداث التي لعبت فيها دورًا مؤخَّرًا في صورة حلم.
وبعد انصراف العربة، سارت بنشاطٍ عبر الردهة، وقالت لحارس البوابة الليلي:
«أحضِر لي عربةً أخرى عند الباب خلال خمس عشرة دقيقة.»
قال الرجل في دهشة: «أتريدين عربةً أخرى يا سيدتي؟»
«نعم.» ووضعت جنيهًا ذهبيًّا في يده، ثم ركضت بخِفَّة صاعدةً الدَّرج. كان حارس البوابة معتادًا على مزاج السيدات الثريات المُتقلب، ولو أنَّ طلب استدعاء عربة في منتصف الليل هو أمرٌ لم يُطلَب منه من قبل. ولكن إذا كانت كل النساء يمنحنَ مثل هذا البقشيش السخي، فلهن الحق في طلب عربة إذا أردن، وطلبُهنَّ على الرَّحب والسعة؛ لذلك استدعى العربة عند الباب على وجه السرعة.
أيقظت جيني الخادمة التي غلبها النوم بينما كانت تجلس في انتظارها.
وقالت: «هيا، يجب أن تحزمي كلَّ شيء في الحقائب على الفور. وأحضري لي ثوبي العادي، وساعديني في خلع هذا.»
قالت الخادمة، وهي تُساعدها في خلع فستانها: «أين قفاز يدكِ الأخرى يا سيدتي؟»
«ضاعَ. لا تَشغلي نفسكِ بذلك. بعد أن تحزمي كل الحقائب، احصلي على قسطٍ من النوم، وأعلميهم في الاستقبال كي يوقظوكِ مبكرًا لتلحقي بقطار الثامنة صباحًا المُتجه إلى باريس. وهذه نقود لتُسددي فاتورة الفندق والباقي هو أجركِ. وربما ألحقُ بكِ في المحطة. ولكن إذا لم أفعل، فعليكِ التوجُّهُ إلى الفندق الذي ننزل به في باريس، وانتظريني هناك. لا تُخبري أحدًا عن وِجهتنا، ولا تُجيبي عن أي أسئلةٍ ذات صلة بي، إن سألكِ أحد. هل تَعين جيدًا ما أقول؟»
«نعم سيدتي.» وبعد لحظاتٍ معدودة، استقلَّت جيني العربة، وطلبت من السائق أن يسلك الشوارع شبه المهجورة. ثم صرفت العربة في تشارينج كروس، وسارت في شارع ستراند حتى استقلت عربةً أخرى، وتوجَّهَت مباشرة إلى مكتب «دايلي بيجل»، الذي شكَّلت نوافذُه العلوية صفًّا من الأضواء، وكلها تزداد سطوعًا بسبب الظلام الدامس بالأسفل.
وهناك وجدت الأشخاص الذين يكتبون بطريقة الاختزال في انتظارها. وقابلها رئيس التحرير عند باب الغرفة المُخصَّصة لها، وقال بقلقٍ واضح على وجهه: «حسنًا، هل نجحتِ في مهمتكِ؟»
أجابت باقتضاب: «نجاح تام.»
فردَّ بحزمٍ: «حسنًا! أقترحُ الآن قراءة الأوراق المكتوبة على الآلة الكاتبة فور خروجها من الآلة، وتصحيحها من أي أخطاءٍ كتابية واضحة، وإرسالها على الفور إلى عُمَّال التجميع. وربما يُمكنكِ إلقاء نظرةٍ على البروفات النهائية، التي ستكون جاهزةً بمجرد أن تُنهي عملية الإملاء تقريبًا.»
«ممتاز. راجِع أنت تهجئة أسماء الأعلام وتحقَّق من الألقاب. فلن يكون لديَّ مُتسَعٌ من الوقت لمراجعة البروفات الأخيرة بعناية.»
«حسنًا. زوِّدينا أنتِ بالمادة الصحفية، وسأعمل أنا على توظيفها والاستفادة منها على النحو الأمثل.»
دخلَت جيني الغرفة، حيث ينتظرها كاتب الاختزال على المكتب؛ وهو جالسٌ تحت مصباح كهربائي مُعلق فوق رأسه، بينما تُلقي كُمَّةُ المصباح الدائرية الخضراء بالأشعة البيضاء مباشرةً على دفتر ملاحظاته المفتوح. واندمجت الفتاة مرةً أخرى في أجواء العمل، وكان هواؤها المُنعِش بمثابة مُنشِّط لأعصابها المُرهَقة. ونحَّت كل مشاعر الشوق والندم جانبًا مع الفستان الباريسي الذي خلعته وكانت الخادمة تحزمه بعناية في تلك اللحظة. وبدَت نواميس الطبيعة معكوسة؛ إذ تخلَّت الفراشة عن جناحَيها الرقيقَين الرائعين، وتحوَّلت إلى يرقةٍ وهي ترتدي زيَّ العمل الكئيب. وبينما هي عاقدةٌ يدَيها خلف ظهرها، أخذت تجوب الغرفة ذهابًا وإيابًا، وتُمْلي الكلمات على مسامع الكاتب؛ مائتي كلمة في الدقيقة، وأحيانًا أكثر. وفي صمتٍ، دخل كاتب اختزال آخر إلى الغرفة، وهو يمشي على أطراف أصابعه، ليحلَّ محل الكاتب الحالي، الذي غادر في صمتٍ أيضًا. ومن الغرفة المجاورة، تناهَت إلى وعيِها النقراتُ الخفيضة، والمُتملمِلة، والسريعة للآلة الكاتبة، دون أن يُسبِّب لها ذلك إزعاجًا. وفي تمام الساعة الثالثة صباحًا تقريبًا، أصبح الأزيز المُنخفض الصادر من دوَّارات ماكينات الطباعة في القبو محسوسًا أكثرَ منه مسموعًا؛ حيث تُطبَع الطبعة الأولى للبلاد. كان الوقت يطير، حيث يرقص بأقدامٍ رشيقة في ويست إند، وتَحيك هيئتَه بدأبٍ أصابعُ رشيقة في شارع فليت (شارع مشهور). اللهو والعمل، والعمل واللهو، كلٌّ منهما يُكمِل الآخر؛ فتصرُّفاتُ العابِثين يُسجِّلها الكادحون.
وبعد مرور أكثر من ثلاث ساعاتٍ من الإملاء، توقفَ صوتُ الفتاة، الذي أصبح الآن أجشَّ بعدما كان موسيقيًّا؛ فجلسَتْ على كرسيٍّ وأراحت رأسها المُتعَب على المكتب الخالي، وأغمضت عينَيها المُجهَدتَين. كانت تعلم أنها قد تحدَّثت ما بين ١٥ و٢٠ ألف كلمة، وهو رقم يكاد يتساوى في مقداره مع ما قد يحويه كتاب صنع شهرةَ مؤلفٍ وثروته. وهذا كلُّه من أجل خبرٍ زائل يُطالعه القراء ليومٍ واحد، أو لصدْر النهار، أو من الأرجح أن يطويَه النسيان عند صدور الصحف المسائية!
وبعد فترةٍ وجيزة من آخر نقرة على الآلة الكاتبة، جاء رئيس التحرير.
وقال لها: «لم أرغب في إزعاجكِ أثناء مباشرة عملكِ، ولذا ظللتُ في مهمَّتي الخاصة، التي لم تكن خفيفة بالمرة، ومن ثمَّ فإنني أُقدِّر الضغط الهائل الذي وُضِع على كاهلكِ. إنَّ مقالكِ رائع يا آنسة باكستر؛ فهذا بالضبط ما أردتُه، ولم أكن آمُل أبدًا في الحصول عليه.»
قالت الفتاة وهي تضحك ضحكةً باهتة بسبب صوتها الذي أصبح أجش: «أنا سعيدة لأن المقال قد أعجبك.»
«لا داعي أن أسألكِ عما إذا كنتِ هناك بالفعل؛ لأن مثل هذا الوصف الواضح لكلِّ التفاصيل ما كان ليُقدِّمه غير شخص حضر الحفل بنفسه ويُجيد الوصف. كيف تمكنتِ من الدخول؟»
تمتمَت جيني وقد غالبها النعاس: «دخول ماذا؟» ووجدَت صعوبة في التركيز فيما يقوله.
«دخول حفل دوقة تشيزيلهورست.»
«أوه، كان الدخول سهلًا؛ لكن المشكلة كانت في الخروج.»
قال رئيس التحرير: «مثل السجن، أليس كذلك؟ والآن، هل تودِّين تناوُل قليل من النبيذ، أو شيء أقوى؟»
«لا، لا. كلُّ ما أحتاجه هو أن أحظى بقسطٍ من الراحة.»
«إذن دعيني أطلبُ لكِ عربة؛ وسأوصلكِ إلى المنزل، إذا سمحتِ لي بذلك.»
«أنا مُتعبة جدًّا لدرجة أنني لا أقوى على العودة إلى المنزل؛ سأبقى هنا حتى الصباح.»
«غير معقول. عليكِ العودة إلى المنزل والنوم لمدة أسبوع إذا أردتِ. استيقظي؛ فأنا أعتقد أنكِ تتحدَّثين في نومكِ الآن.»
«أنا أستوعِب تمامًا ما تقوله وأعي ما أفعله. لديَّ عمل يجب أن أُتِمَّه في الثامنة. من فضلك، اترك أوامرَ بأن يُوقِظَني أحد السُّعاة في السابعة ويُحضر كوبًا من القهوة مع البسكويت أو المخبوزات أو أي شيء يمكن تناوُلُه كإفطار. واترُكني الآن لأنام من فضلك. أنا مُمتنَّة جدًّا لك، لكنني سوف أتمكن من إخبارك بكل ما تريد معرفته على نحوٍ أفضل لاحقًا.»
كان على رئيس التحرير أن يرضى بهذا، وذهب بعد ذلك لينال قسطًا من الراحة التي حصل عليها بجدارة. أما بالنسبة إلى جيني، فقد بدا لها أنه لم تمرَّ غير لحظةٍ على رحيله، حيث وجدت الساعيَ يضع القهوة وبعض المخبوزات على المكتب بجانبها ويقول لها: «إنها السابعة الآن يا آنسة!»
أنعشَت القهوةُ الفتاةَ وجدَّدت نشاطها، وعندما مرَّت على غرف التحرير لاحظتْ مظاهر الإهمال وعدم التنظيم البادية عليها، وهو ما تكون عليه كلُّ الأماكن عند زيارتها في وقتٍ غير معتاد، فقد انقضَت ساعات العمل الدَّءوب وغابَ عنها الصخب. وامتلأت الغرف بالأوراق المُمزقة، والسِّلال التي فاضت بمُخلَّفاتها؛ وبدت هادئةً وغير مرتَّبة وخالية تمامًا في ضوء الصباح الرمادي الذي تسلَّل فيما يبدو مُقتحمًا المكان ذا الإضاءة الصناعية المعتادة، كاشفًا فراغًا كانت تُخفيه. أدركت جيني وجودَ علاقة بين إحساسها، أنها لم تنم طوال الليل، والأجواء المسيطرة على هذه الغرف المهجورة.
وفي محطة القطار وجدت خادمتها تنتظرها مُحاطةً بالأمتعة.
«هل حصلتِ على تذكرتكِ؟»
«أجل يا سيدتي.»
«لقد غيرتُ رأيي، ولن أذهب إلى باريس الآن. اطلبي من الحمَّال أن يضع تلك الحقائب في مكتب حفظ الأمتعة، وأن يُحضِر لي المفاتيح والإيصال.»
وبعد إتمام ذلك وتسوية الأمور المالية بينهما، أعطت جيني للخادمة خمسة جنيهات زيادةً فوق الأجر المُتفَق عليه، وشاهدَتها أثناء دخولها إلى عربة القطار، وهي مسرورة جدًّا بالمكافأة. ثم استقلَّت جيني عربةً تجرُّها الخيول وعادت إلى شقتها، وبذلك أسدلت الستار على مشهد حفل دوقة تشيزيلهورست بكل أحداثه التي استنزفت طاقتها.
لكن مثل أي حدث، يُشبه المرَض، فإنه يُخلِّف وراءه آثارًا وتبعاتٍ كثيرة، لا أحدَ يعلم إلى أي مدًى ستدوم في المستقبل؟ كان أول أعراض هذه التبِعات بضع مراسلات، ولأن لا شيء يبعث على الكدَر والضيق أكثرَ من قراءة سلسلةٍ من الرسائل، فسوف نكتفي بذكر فحواها فقط هنا؛ إذ عندما استعادت جيني صِفتها مرةً أخرى، كتبَت رسالةً طويلة إلى الأميرة فون شتاينهايمر، تُوضح فيها تفاصيل انتحال شخصيتها، وتطلُب منها العفوَ عما فعلَته، وقد ساقت مُبرِّراتها لفعل ذلك؛ ولكنها لم تأتِ نهائيًّا على ذكر اللورد دونال ستيرلنج، ربما لأنه لم يخطر ببالها. وتلقَّت ردَّيْن على رسالتها: أحدهما رزمة بريدية مُسجَّلة تحتوي على عقد الماس الذي سبق أن قدَّمته لها الأميرة، والآخر رسالة بخطِّ الأميرة نفسِها. وأكَّد بريق الماس المُتألق لجيني أن الأميرة قد صفحت عنها بسرعة، كما أن مضمون الرسالة أكد ذلك. وفي الواقع، لقد عاتبَتْها الأميرة لعدم إفصاحها لها عن السرِّ قبل الآن. وكتبت سموُّها: «إنه لضربٌ من المرَح كنتُ سأستمتع به، ولو أني كنتُ عرَفتُ حينها، لَمَا أرسلتُ تلك البرقية المشئومة. لكنكِ تستحقِّين لأنكِ لم تمنحيني ثقتَك، وأنا سعيدة لأنكِ شعرتِ بالخوف؛ فقد وصلَت برقيتي في تلك اللحظة غير المواتية، تمامًا مثل البرقيَّات في المسرحيات التمثيلية! لكن، هل أنتِ متأكدة يا جيني من أنكِ قد أخبرتِني بكل شيء؟ فقد وصلت رسالة من لندن في اليوم السابق لوصول رسالتكِ، وقد حيَّرتني بشدة في البداية. وهي من دون ستيرلنج، الذي كنتُ أعرفه في واشنطن (كان شابًّا مغرورًا في ذلك الوقت. آمُل أنه قد تحسَّن منذ ذلك الحين)، حيث كتبَ فيها إنه قد التقى بفتاةٍ في حفل دوقة تشيزيلهورست ومعها دعوة الأميرة فون شتاينهايمر إلى الحفل. واعتقد في البداية أنها الأميرة (وهو أمر يحمِل إطراءً لكلٍّ منَّا)، لكنه اكتشف لاحقًا أنها ليست هي. ويريد الآن أن يعرف، وهو يعتقد — على نحوٍ منطقي تمامًا — أنني أعرفُ من كانت تلك الفتاة، ويتوسَّل إليَّ، بصداقتنا القديمة، وإلى آخر ذلك. إنه شاب لطيف، لكنه مغرور بعض الشيء (يعتقد هؤلاء الدبلوماسيون الشبابُ أنهم يُمسكون بزمام الكون في أيديهم)، وأودُّ أن أُسدِيَه معروفًا وأعطيَه معلوماتٍ عنك، لكنَّني رأيتُ أنني يجب أولًا أن أعرف رأيكِ في الأمر. ومن المُفترَض أن أُرسل إليه على عنوان السفارة في مدينة سانت بطرسبرج؛ حيث أعتقد أنه موجود هناك حاليًّا. وبالمناسبة، كيف حصل على قفازك، أم أن هذا مجرد تفاخُر من جانبه؟ يقول إن هذا هو الدليل الوحيد الذي لديه، وسوف يقتفي أثرَكِ من خلاله، على ما يبدو، إذا لم أُخبره مَن أنتِ وأُرسِل إليه عنوانَكِ. والآن، ماذا يتوجَّب عليَّ أن أقول عندما أُرسِل إليه في سانت بطرسبرج؟»
وردًّا على ذلك، أرسلَت جيني خطابًا غير مُترابط إلى حدٍّ ما، على النقيض تمامًا من أسلوبها المعتاد في الكتابة. وقالت إنها لم تذكر الشابَّ في رسالتها السابقة، لأنها كانت تُحاول نسيان هذا الحدَث العارض الذي كان هو الشخصيةَ المحورية فيه. ولا يُمكنها بأي حالٍ مُقابلتُه مرة أخرى، ومن ثمَّ ناشدَتِ الأميرة ألا تكشف عن هُويتها له حتى ولو تلميحًا، كما شرحت لها كيف حصل على القفَّاز تمامًا مثلما حدَث الأمر، وأنها اضطُرَّت إلى التضحية بالقفاز لتحرير يدِها من قبضته. لقد أبدى الرجل قدرًا كبيرًا من السماحة واللُّطف في مساعدتها على الخلاص من وضعٍ غير سليم، لكن سيكون من المُخجِل جدًّا أن تراه أو تتحدَّث معه مُجددًا.
عندما وصلتْ هذه الرسالة إلى القصر في ميران، أرسلت الأميرة برقيةً إلى لندن تقول فيها: «أرسلي إليَّ قفاز اليدِ الأخرى.» فأرسلَته جيني إلى الأميرة. وبعد أيامٍ قليلة جاءت رسالة أخرى من الأميرة.
«لقد حيَّرتُ الشاب للغاية، على ما أعتقد، وبنفس القدْر من الدهاء الذي يُخيَّل إليه أنه يتحلَّى به. حيث كتبتُ له رسالةً شِبه غاضبة وأرسلتُها إلى سانت بطرسبرج، وقلتُ إنني اعتقدت طوال الوقت أنه حقًّا لم يستطع التعرُّف عليَّ في الحفل، على الرغم من تصريحاته القوية في البداية. ومن ثمَّ، رأيتُ كيف أنه انخدع بسهولةٍ حين اعتقدَ أنني امرأة أخرى، ومن هنا استحوذ عليَّ إغراء لا يُقاوَم للتمادي في خداعه. وسألتُه: ألستُ مُمثلةً جيدة؟ وتابعتُ القول، مع مسحةٍ من الغضب، إنَّ المغازلة الهادئة في الشرفة كانت جيدة جدًّا في طريقتها، ولكن عندما يصل الأمر بشابٍّ إلى أن يندفع في جنون وذهنٍ غائبٍ إلى الشارع خلف امرأة مُتزوِّجة مُحترمة والتي كانت قد ركبت للتوِّ في عربتها وعلى وشك الانصراف، فإنَّ هذا أمر قد تجاوز كلَّ الحدود، وهكذا أصبح القفاز في حوزته؛ ونظرًا لأنَّ قفاز اليد الأخرى غيرُ ذي قيمة لي، فقد كان من دواعي سروري أن أُرسله إليه، لكنني حذَّرتُه من أنه إذا تناهت قصة القفازات إلى سَمْع زوجي، فسأُنكر أنها لي أو أنني قد ارتديتُها من الأساس. كم أودُّ أن أرى نظرة الاندهاش على وجه دون عندما يسقط القفاز الآخر من رسالتي، حيث أرسلتُه في طردٍ كبير أُجرة بريده باهظة. أعتقدُ أن فكرة إرسال القفاز إليه هي إلهامٌ خالص من جانبي. أتخيَّل أن سيادته مخدوع تمامًا الآن، ولن تُساوركِ أيُّ مخاوفَ بعد الآن من أن يعثُر عليكِ.»
قرأَت جيني هذه الرسالة مرةً أو مرتين، وعلى الرغم من شعورها الودود تجاه الأميرة، كان هناك شيء في الرسالة يُزعِجها. ومع ذلك، فقد بعثت برسالةٍ إلى الأميرة تشكرها فيها على ما فعلتْه، ثم حاولت أن تنسى كلَّ ما له صِلة بالحفل. لكنها لم يُسمَح لها أن تمحوَ من ذهنها التفكيرَ في اللورد دونال، حتى لو كان في مقدورها إنجازُ هذه المهمة دون عوائق. وبعد ذلك بفترةٍ قصيرة، وصلت رسالة موجزة من الأميرة مُرفقة برسالة كَتَبَها الدبلوماسيُّ الشاب في سانت بطرسبرج.
«الأميرة العزيزة … (مرت سريعًا على مقدمة الرسالة) مُمتن جدًّا لكِ من أجل قفاز اليد الأخرى، إذ يُمكنني الاحتفاظ بواحدٍ واستخدام الآخر كدليل. أرى أنكِ لا تعرفين الشابة الغامضة حقَّ المعرفة فحسب، ولكنكِ قد تقابلتِ معها بعد الحفل، أو على الأقل تراسلتِ معها عبر البريد. إذا لم يدُلَّني القفاز على يد صاحبته، فسوف أزوركِ على أمل أن تُكفِّري عن قسوتكِ الحاليَّة فتُخبريني أين أجدُ صاحبة القفاز واليد.»
أما فيما يخصُّ هذه الرسالة الموجَزة، فقد كتبتِ الأميرة فيها: «إنَّ دون ليس أحمقَ كما كنتُ أظن. يبدو أنه قد تحسَّن خلال السنوات القليلة الماضية. أرجو أن تُخبريني بالضبط ما قاله لكِ خلال ذلك المساء.»
لكنَّ جيني لم تَمتثِل لرغبة الأميرة. وكلُّ ما فعلته أنها حثَّتها مُجدَّدًا على عدم إفشاء السر.
مضَت عدة أيام لم تسمع جيني خلالها المزيدَ من أيٍّ من المُمثلين المشاركين في هذه الكوميديا الصغيرة، وبدأ الأمر يتَّخذ في أفكارها طابعًا من اللاواقعية التي يبدو أن الأحداث البعيدةَ تتجمَّع حولها. ثم مضت في عملها اليومي على نحوٍ يُرضي أصحاب عملها ويَزيد من حسابها المصرفي، وإنْ كانت لم تحدُث أي تَجرِبة في عملها الصحفي جديرة بالتسجيل لعدة أسابيع. لكن الهدوء في مقر أي صحيفة نادرًا ما يدوم طويلًا.
ففي عصر أحد الأيام، أتى السيد هاردويك إلى المكتب الذي كانت جيني تجلس فيه تُباشر عملها، وقال لها:
«لقد جاء كادبوري تايلور هنا بالأمس، وكان حريصًا جدًّا على رؤيتكِ. فهل عاد مرةً أخرى عصر هذا اليوم؟»
«هل تقصد المحقق؟ لا، لم أره منذ ذاك اليوم في قلعة شتاينهايمر. فيمَ كان يُريد مقابلتي؟»
«حسب ما فهمت، هو يُحقق في قضية مهمة جدًّا، نوعٌ من القصص الرومانسية في الأوساط الراقية؛ وأعتقدُ أنه يلتمِس مساعدتك لسَبْر أغوارها؛ يبدو أنها مُحيِّرة له.»
قالت الفتاة وهي تنظُر إلى صاحب عملها مع بريق فرحةٍ في عينَيها: «لا شيءَ يمكن وصفه بأنه صعبٌ لدرجة أن يُحيِّر السيد كادبوري تايلور.»
«حسنًا، يبدو أنه مُشوَّش الذهن الآن، وقد أوضح لي أنه مُعجبٌ جدًّا بالطريقة الماهرة التي حللتِ بها لغز الماس في ميران، ولذا يعتقد أنكِ ربما تكونين مصدرَ عونٍ كبير له في مُعضلته الحاليَّة، وعلى استعداد لكي يدفع لكِ مقابل ذلك نقدًا أو عينًا.»
قالت الفتاة: «أفهم معنى الدفع نقدًا، لكن ماذا يقصد بالدفع عينًا؟»
«أوه، هو يعتقد أن بإمكانكِ كتابةَ مقالٍ رائع عن هذه القضية. فهي، حسب قوله، تخصُّ أشخاصًا في الطبقة الراقية — أشخاصًا يحملون ألقابًا — وبالتالي قد تحصلين للصحيفة على عمودٍ مُثير للاهتمام أو عمودَين.»
قالت الفتاة باستخفاف: «فهمت، وهذا — بالطبع — شريطةَ أن نذكُر أن عبقرية السيد كادبوري تايلور الفائقة هي التي فكَّت خيوط القضية المتشابكة.»
قال رئيس التحرير: «لا أعتقد أنه يُريد ذكر اسمه. في الواقع، لقد قال إنه لن يكون من المفيد الإشارةُ إليه على الإطلاق؛ فلو أن الناسَ اكتشفت أنه نشر أيًّا من القضايا التي عُهِدَ بها إليه، فسيخسر عمله. وهو يعمل على هذه القضية منذ عدة أسابيع، وأعتقد أنه لم يُحرِز إلا تقدُّمًا محدودًا نحو حلِّها. وقد بدأ صبر مُوكله ينفد، ومن ثمَّ جال بخاطر المُحقق أنكِ قد تُوافقين على مساعدته. وقال بقدرٍ كبير من الزهو إنه لم يكن يعرف أنكِ على صِلةٍ بصحيفة بيجل، لكنه استخدم ذكاءه وتوصَّل إلى أنكِ تعملين في هذا المكتب.»
قالت جيني ضاحكة: «يا له من ذكي! أنا متأكدة من أنني لم أُخفِ حقيقة عملي في دايلي بيجل.»
«أعتقد أن السيد تايلور لن يتردَّد في الاتفاق معكِ على أنه ذكي؛ ومع ذلك، قد يكون من المفيد مُقابلتُه ومساعَدتُه إذا استطعتِ؛ لأنه لا شيء يستحوذ على شغَف العامة أكثر من غراميات الطبقة الراقية. هذا هو عُنوان مكتبه. هل تُمانعين في زيارته؟»
أجابته وهي تُدوِّن العنوان في دفتر ملاحظاتها: «لا، على الإطلاق.»