اكتشافات مُذهِلة
تشيتان خوسلا
جامعة ستانفورد
تشيتان خوسلا هو حامِل أستاذية ويلز إتش راوسر وهارولد إم بيتيبرِن في جامعة ستانفورد في قِسمَي الكيمياء والهندسة الكيميائية والأستاذية الفخرية في قِسم الكيمياء الحيوية. حصل خوسلا على درجة الدكتوراه عام ١٩٩٠ من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، وبعد إتمامه دراساتِ ما بعد الدكتوراه في مركز جون إنيز في المملكة المتحدة، انضمَّ إلى ستانفورد عام ١٩٩٢. على مدى العقدَين الماضِيَين، درس خوسلا الإنزيمات المِعيارية التي تُكوِّن فئةً من المُنتجات الطبيعية ذات الأهمية الطبية تُسمَّى البوليكيتايد واستغلَّ خصائصها لهندسة مضادات حيوية جديدة. عمَدَ خوسلا مؤخرًا إلى دراسة مرَضِ الذَّرب البطني بهدف تطوير عِلاجات لهذا المرض المُهمَل رغم انتشاره. علاوةً على ذلك، شارك في أكثر من ٢٥٠ منشورًا علميًّا و٥٠ براءة اختراع أمريكية، وهو حاصل على العديد من الجوائز والتكريمات بما في ذلك جائزة إيلاي ليلي في الكيمياء الحيوية وجائزة الكيمياء البحتة وجائزة آرثر سي كوب للباحث العلمي من الجمعية الكيميائية الأمريكية، وجائزة آلان تي واترمن من مُؤسَّسة العلوم الوطنية. انتُخِب خوسلا زميلًا للرابطة الأمريكية لتقدُّم العلوم عام ٢٠٠٦ وعضوًا في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم عام ٢٠٠٧ وعضوًا في الأكاديمية الوطنية للهندسة عام ٢٠٠٩. في عام ١٩٩٥ شارك في تأسيس شركة كوسان للعلوم الحيوية، وهي إحدى الشركات العامة المُتخصِّصة في التكنولوجيا الحيوية والتي طورت مضادات حيوية جديدة معتمدة على البوليكيتايد. وأخيرًا، يُعدُّ خوسلا أيضًا مُؤسِّس ومدير ألفاين للمُستحضرات الدوائية، وهي شركة تُطوِّر دواءً إنزيميًّا فمويًّا اكتُشِف في مَعملِهِ لعلاج الداء البطني.
عزيزتي أنجيلا
إنَّ واحدًا من أشدِّ المجالات غير المطروقة إثارةً بالنسبة إلى الكيميائيين يقَع عند نقطة التِقاء الطبِّ بالكيمياء. هنا سُأركِّز على مجموعةٍ فرعية من المُشكلات عند نقطة الالتقاء تلك، والتي تُسمَّى الأمراض اليتيمة. هدَفي هو إقناعُكِ أنَّ هذه الترسانة من الأمراض تُمثِّل فُرصةً واعِدة على نحوٍ استثنائي أمام الأجيال الجديدة من الكيميائيين.
دَعيني أبدأ بِتناوُل الأسئلة الثلاثة التي تتبادَر إلى الذِّهن على الفور: (١) ما هو المرض اليتيم؟ (٢) لماذا يجِب أن تهتمِّي به؟ (٣) كيف يُمكن للكيمياء أن تُحدِث تغييرًا؟
(١) ما هو المرَض اليتيم؟
على الرَّغم من أن مُصطلَح المرض اليتيم يَعني الكثير من الأشياء بالنسبة إلى كثيرٍ من الناس، فان له معنًي مُحدَّدًا نسبيًّا في أوساط الطبِّ الحيوي؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية، مَثلًا، يُعرَّف بكونه مرضًا يُصيب أقلَّ من ٢٠٠ ألف مواطن. تتضمَّن الأمراض اليتيمة الأمراض النادرة للغاية مثل مرض جنون البقر، وهو مرض نادر جدًّا (لِحُسن الحظ) حتى إنَّ المُختصِّين لم يُشخِّصوا إلا بِضع حالات في العقود العديدة الماضية، وتشمل أيضًا الكثير من الأمراض الاستوائية الواسِعة الانتشار، مثل الملاريا، التي لا تنتشر بدرجة كبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية.
ثمَّة سببان على الأقلِّ يُفسِّران لماذا تستحقُّ هذه الأمراض انتباهكِ. أولًا، تُعدُّ الأمراض اليتيمة، بحُكم طبيعتها في الغالب، مَيدانًا لم تَطْرُقه الجهود البحثية؛ فمن المُستبعَد أن تُوجِّهَ صناعة المُستحضرات الدوائية جُهدَها لهذه الحالات نظرًا لأنها تُقدِّم القليل من الحوافز المالية، ومن غير المُحتمَل أيضًا أن ينخرِط عُلماء الأحياء في دراستها؛ وذلك لنقص النماذج الحيوانية المُمثِّلة لهذه الأمراض، باستثناء القليل من الأمراض المندلية (الاضطرابات الأُحادية الجين)، هذا بالإضافة إلى تدنِّي مُعدلات الإصابة بها، ممَّا يجعل من الصعب دراستها في البشر. لذا فبَين أنبوبِ الاختبار والمريض فجوة هائلة، ولن يكون من المُبالَغة القول إن صحَّة (بل وفي بعض الأحيان نجاة) مريض مُصاب بأحد الأمراض اليتيمة تعتمد على جودة الرؤية الجزيئية المُنبثِقة من أنبوب الاختبار. إن أنابيب الاختبار، كما تَعلمين جيدًا الآن، هي المَوقع الذي يشهد العمليات الكيميائية. إليكِ مرَض جُوشيه، وهو مرض وِراثي خطير يُؤثِّر على الكثير من أعضاء الجسم، مثالًا على ذلك. فحتى وقتٍ قريب، لم يكن بِوُسْع العلماء إلا أن يُقدِّموا للمَرضى علاجًا داعمًا يشمل مُسكِّنات الألم والتدخُّل الجراحي. أما اليوم فثمة إنزيم يُسمَّى إيميجلوسيريز، تنتجه تقنيات الحمض النووي المُؤتلف (وهي أساليب لصنع كميات كبيرة من بروتين مطلوب)، قادر على الحدِّ من مُعظم أعراض المُصابين بمرض جوشيه؛ إن هذا لَمثال جيد لما تنطوي عليه كيمياء أنابيب الاختبار من فاعلية. ثانيًا، إنَّ هذا الميدان يتَّسِم بثرائه وتنوُّعِه الهائل. على الرغم من انخفاض مُعدَّل انتشار أيٍّ من هذه الأمراض، بِحُكم طبيعتها، فإن هناك أكثر من ٥٠٠٠ مرَض يَتيمٍ مُختلف، ومُعظمها يفتقِر إلى أدواتٍ ذات فاعلية إكلينيكية لتشخيصها أو إدارتها أو مُعالجتها أو الشفاء التامِّ منها. هذا يَعني أنَّ هُناك الملايين من المرضى المُصابين بأمراضٍ مثل مرض جُوشيه في انتظار علاج من شأنه أن يغيِّر حياتهم. في عصر الطب الجُزيئي كالذي نشهده الآن، يمكنكِ أن تُمضي حياتك كاملةً تحاولين انتقاء مَسارِكِ عبْر دُروب المُشكِلات المُحفِّزَة لطاقتك الفكرية دون أن تَشعُري مُطلقًا بأنك تعملين في مجالٍ مكتظ فكريًّا.
على المستوى الجُزيئي، تتميَّز الخلايا أو الأنسجة أو الأعضاء بدرجةٍ هائلة من التعقيد، ويُقال إن المرء لا يَسعُهُ فَهْم ظاهرة بيولوجية مُعينة كما ينبغي حتى يُعيد تشكيل جوهرها داخل أنبوب اختبار مُستخدِمًا جُزيئات مُحدَّدة، وهذه الخطوة تُعدُّ نقطة البداية في حلقة الوصل بين الكيمياء والأحياء. يسعى الكيميائيون المُهتمُّون بالأحياء إلى مُحاكاة السلوك الجوهري للكائنات والخلايا في خصائص فُرادى الجُزيئات وتفاعُلاتها بعضها مع بعض. تسمح لهم أيضًا هذه القدرة بإعادة تشكيل جوهر مرضٍ ما داخل أنبوب اختبار، وذلك بدراسة كيفية انحِراف السلوك الجُزيئي الحيوي. في حالة الأمراض اليتيمة، فإن للكيمياء القُدرة على خلْق مسارٍ جُزيئي، انطلاقًا من الفرضيَّة الأشدِّ بساطةً وبدائيَّة. إن المنطق الجُزيئي لبيولوجيا الأمراض عادةً ما يشمل جُزيئًا حيويًّا ذا وفرةٍ غيرِ معتادة أو جُزيئًا حيويًّا غير مُتوفِّر، أو جُزيئًا حيويًّا في غير موضعه الصحيح، أو جزيئًا حيويًّا ذا خللٍ تركيبي. إن تحديد سبب وطبيعة أي خطأ من هذا القبيل داخل أنبوب اختبار وتوصيفه يُمثِّل الكيمياء في صورتها المثالية، وغالبًا ما يُعَدُّ الخطوة الأولى نحو تطوير تشخيصٍ أو علاجٍ جديد لمرَضٍ بَشريٍّ ما.
دَعِيني أُوَضِّح بعضًا من التعليقات المذكورة سلفًا مُستعينًا بتجربتي الخاصة مع أحد الأمراض النادرة، ألا وهو مرَض الذرب البطني. مرض الذرب البطني (والمعروف أيضًا بالداء البطني أو الداء الزُّلاقي أو الاعتلال المعوي الجلوتيني أو الذرب اللامداري) هو مرض التِهابي يسبِّب ضَعْف الامتصاص في الأمعاء واختلال بِنية الأمعاء الدقيقة وعدم تحمُّل الجلوتين، وهو خليط مُعقَّد من البروتينات ذات الأهمية الغذائية والموجودة في الحبوب الغذائية الشائعة مثل القمح والشيلم والشعير. على الرغم من أن المرَض كان يُعَد غيرَ شائعٍ إلى وقتٍ قريب، فإن العديد من الدراسات الوبائية تُشير إلى أن مُعدل انتشار مرض الذرب البطني يتراوَح بين ٠٫٥ و١٫٠٪ في مُعظم أجزاء العالم. كغيرها من الاضطرابات المناعية، مثل مرض السُّكري من النوع الأول والتِهاب المفاصل الروماتويدي والتصلُّب المُتعدِّد، فإن كِلا العامِلَين الوِراثي والبيئي يَلعَبان دَوْرًا في البدايات الأولى للذرب البطني. لكن خِلافًا لهذه الأمراض، فإن التعبير عن الذرب البطني يَعتمِد على التعرُّض الغذائي للجلوتين. تخفُّ أعراض المرض حين يُستبعَد الجلوتين من غذائهم وينتكسون إذا أُعِيدَ مرَّةً أخرى في نظامهم الغذائي؛ ولذلك فإن الذرب البطني يتميَّز عن بقية الأمراض الالتِهابية المُزمِنة بوجود عاملٍ بيئي بالغ الأهمية حدَّدَهُ العلماء.
عادةً ما يظهَر المرض في الطفولة المُبكرة مَصحوبًا بأعراضٍ شديدة تشمل الإسهال المُزمن وانتِفاخ البطن وضَعف النمو، ويُعاني هؤلاء الأطفال من ضَعفٍ عامٍّ حاد. ولكن، بالنسبة إلى كثيرٍ من المرضى، قد لا تتطوَّر الأعراض إلا في فترةٍ لاحِقة من حياتهم عندما يُسبِّب المرض الإعياء والإسهال وفقدان الوزن وفقر الدم والأعراض العصبية. إن الذرب البطني مرض مُزمن وقد يزيد، إن لم يُعالَج، من خطورة الإصابة بمُضاعفات مثل أمراض العظام والعُقم والسرطان. لا يُوجَد خيار علاجي مُتاح لمرضى الذرب البطني؛ العلاج الوحيد هو الالتزام مدى الحياة بنظامٍ غذائي صارِمٍ خالٍ من الجلوتين. من الصعب جدًّا المُداوَمة على استبعاد الجلوتين تمامًا من الغذاء. إلى جانب استخدامه على نطاقٍ واسع باعتباره مادَّةً غذائية، فضلًا عن كونه مادة إضافية تُستخدَم لتعزيز خصائص الغذاء، يُعدُّ الجلوتين مُكوِّنًا لا يُنَوَّه عنه في مُعظم الأطعمة المحفوظة في عبوات وزجاجات ومعلبات. علاوةً على ذلك، لا تتوفَّر المنتجات المُعتمَدة الخالية من الجلوتين على نطاقٍ واسِعٍ، وعادةً ما تكون أغلى بكثيرٍ من نظيراتها المُحتوية على جلوتين. من الأمور غير المُستغرَبة هو ما أوضحَهُ العديد من الدراسات الإكلينيكية الحديثة، وهو أن الخلل في وظيفة الأمعاء يستمرُّ لدى الكثير من المرضى رغم الجهود المبذولة لاستبعاد الجلوتين من نظامهم الغذائي. ثَمَّةَ حاجةٌ مُلحَّة لتطوير بدائل علاجية آمِنة وفعَّالة لمَرضى الذرب البطني عِوضًا عن الاتباع الدائم لنظام غذائي صارم خالٍ من الجلوتين.
(٢) على الجبهة الداخلية
تنامى اهتمامي بمرض الذرب البطني عام ١٩٩٩، حين تبيَّن أخيرًا أنَّ ابني ذا السنوات الثلاث مُصاب بهذا المرض بعد توعُّكٍ طويلٍ وضَعفٍ في النمو. سرعان ما تعلَّمتُ ثلاثة دروسٍ حول المرَض، اثنين منها فقط استخلصتُهما من المَراجِع العلمية. أما عن الدرس الأول، فقد بدأتُ أُدرك مدى خفاء الجلوتين، رغم انتشاره، في حياتنا اليومية؛ فهو لا يُوجَد في المخبوزات والمكرونات فقط، بل وفي جميع أنواع الأغذية المُصنَّعة والبضائع الاستهلاكية غير المُتوقَّعة (صلصة الصويا، والأظرف البريدية مُجرَّد مثالَين). ثانيًا، من واقِع اطِّلاعي على المَراجِع العلمية، نما لديَّ تقدير لطبيعة المرض الوراثية، وهو ما دفعني وزوجتي، بالتالي، إلى الخضوع للاختبار. للأسف الشديد، اكتشفْنا أنَّ زَوجَتي تُعاني أيضًا من الدَّاء البطني وفي مرحلةٍ مُتقدِّمة منه. واليوم، فإنَّ تناوُل ولو كمية ضئيلة من الجلوتين في وجباتهما (وهو أمر ليس نادِر الحدوث للأسف خاصة إذا تناوَلْنا الطعام خارج المنزل)؛ كفيلٌ بأن يُصيب زوجتي وابني بِوَعكةٍ صحية عنيفة. إنَّ إمضاء ما يقرُب من ثلاثة عقود من حياتها بنظامٍ غذائي عاديٍّ بينما تُعاني من مثل هذا المرض المناعي الخطير لهو أمرٌ يستحقُّ التأمُّل. ثالث هذه الدروس، وربما أوثَقُها صِلة بهذه الرسالة، هو أنَّني قد أُصِبتُ بالدهشة لِما أبداه الكيميائيون من إغفالٍ تامٍّ للذرب البطني باعتباره فُرصة بحثية، رغم أنه ربما يكون مرَض المناعة الذاتية الوحيد (أي مرض يدمِّر الجهاز المناعي بسببه نفسه بدلًا من مُهاجمة الأجسام الغريبة) الذي تتسبَّب فيه مادة كيميائية مُحدَّدة جيدًا لكنها مُعقَّدة (جلوتين).
بعد يَومَين من تلقِّي الأخبار فيما يخصُّ تشخيص زَوجتي، تلقَّيتُ مُكالمة من الدكتورة ريتا كولويل (مديرة مُؤسَّسة العلوم الوطنية حينها) تُبلِّغني عن اختياري للحصول على جائزة آلان تي واترمن لعام ١٩٩٩. من مزايا هذه الجائزة أنها تتضمَّن مِنحةً سخيَّةً غير مُقيَّدة لمُدَّة ثلاث سنوات. على الفور تقريبًا، عقدتُ العزْم على توظيف الأموال في دراسة مرَض الذرب البطني. لن يُمكِّنني هذا المسعى فقط من تكوين فَهْمٍ أعمق لمُشكلةٍ قُدِّر لها أن تُلازِم أُسرتي، بل سيمنحني فُرصةً أيضًا لتوعِيةِ بعضٍ من أفضل الطلَّاب وأنجبِهم بشأن أهمية الكيمياء في دراسة الأمراض المناعية.
(٣) دَور الكيمياء
كان توجُّهنا لدراسة الذرب البطني قد حفَّزه جُزئيًّا إدراكُنا أنه يتميَّز عن باقي أمراض المناعة الذاتية البشرية بمُلاءمته للوصول إلى حلولٍ عن طريق الكيمياء. كما أوجزنا سلفًا، فإن المادة الكيميائية المُسببة للمرض، وهي الجلوتين، قد تحدَّدت دون لبْس؛ لذا فقد افترضنا (ولا نزال نعتقد) أنه ينبغي أن يكون بالإمكان تعيين نقطة ضَعْف هذا المرض من خلال تعقُّب مسار الجلوتين ببساطة. إننا، إجمالًا، نُواصِل جهودنا في مَعمَلِنا لاكتشاف وإيجاد نَوعَين من الأساليب العلاجية. في أحدِ هذَين المَنهجين، نسعى للتخلُّص من سُمِّيَّة الجلوتين قبل أن يَضُرَّ بالعضو الرئيسي المُتأثِّر (الأمعاء الدقيقة). في استراتيجية تكميلية، نسعى إلى تثبيط واحدٍ أو أكثر من البروتينات البشرية غير الضرورية والتي تُعدُّ عاملًا مساعدًا في المراحل المُبكِّرة من الاستجابات المُمرِضة للجلوتين الغذائي داخل المرضى. سأُقدِّم لكِ فيما تبقَّى من هذه الرسالة تقريرَ حالةٍ مُوجزًا عن كلٍّ من المَنهجَين؛ وذلك لأوضِّح لكِ كيف تُؤدي الكيمياء دورًا محوريًّا في جهودنا لترجمة الرؤية العلمية إلى علاج عَمَلي للمرضى.
عندما بدأتْ تبرُز الاكتشافات الجوهرية السابق ذِكرُها، برَز إلى الوجود أيضًا أمَلٌ في التوصُّل إلى استراتيجية علاجية بسيطة لكنها ذات فاعلية مُحتمَلة لعلاج هذا المرض. لقد افترضْنا أنه في حالِ أمكن التحقُّق من قُدرة الإنزيمات الفموية على الهضم السريع لببتيدات الجلوتين المُسبِّبة للتَّسَمُّم المناعي، مثل الببتيد ذي البقايا الثلاثِ والثلاثين، بينما يتقلَّب الطعام داخل المَعِدة، فسيكون من المُمكن التخلُّص من سُمِّيَّة الجلوتين الغذائي قبل وصوله إلى الأمعاء الدقيقة. لأسبابٍ أشرْنا إليها سابقًا، أثار اهتمامنا الإنزيمات التي تَشقُّ بقايا الجلوتامين والبرولين في البروتينات الجلوتينية الغنية بالجلوتامين والبرولين، وقد اكتشف العلماء حاليًّا إفرازَ مثل هذه الإنزيمات من طائفةٍ مُتنوِّعة من الكائنات الدقيقة والنباتات؛ اثنان منها، يَضمَّان بروتيازًا خاصًّا بالجلوتامين من نباتِ الشعير وبروتيازًا خاصًّا بالبرولين من جرثومة، خضَعا مُؤخَّرًا للتجارب الإكلينيكية البشرية. بالرغم من أنه ستمضي عدة سنوات قبل التحقُّق من جدواهما الإكلينيكية، فإنَّني آمُل أن يَمنحكِ ما سبق فِكرةً عن كيفية ترجمة الرؤى الكيميائية البسيطة إلى استراتيجيات إكلينيكية.
لقد عملنا على مدار السنوات الخمس الماضية على إنتاجِ مُثبِّطٍ صغيرِ الجُزيئات لترانسجلوتاميناز٢ بحيث يُمكن استعماله كعقَّار تجريبي في البشر. بالتزامن مع ذلك، نُحاول تطوير نموذجٍ حيواني لمِثل هذا العقَّار الإكلينيكي المُحتمل. استكشفنا ثلاث فئاتٍ مُختلفة من المُثبِّطات الاصطناعية لترانسجلوتاميناز٢ وأنتجنا نَموذجَين لقردٍ وقارِضٍ لاختبار هذه المُركَّبات، آمِلين أن يتسنى لنا خلال العامين أو الثلاثة أعوام القادمة تجربة أحدِ هذه المُثبطات إكلينيكيًّا في سبيل إثبات جدوى مفهومه. ثمَّة ثلاث نتائج مُحتملة لهذه الدراسة؛ فقد نُدرِك، من ناحية، عدَم إمكانية الوقاية من هذا المرض الناتج عن الجلوتين، حتى في حال ثَبَّطنا الترانسجلوتاميناز٢ المعوي، وقد نكتشف، من ناحيةٍ أُخرى، أن المُثبِّط الصغير الجُزيئات الذي توَصَّلْنا إليه ذو فائدة إكلينيكية للمرضى في ظِلِّ تَصوُّرات مُعيَّنة مُتحكَّم بها. سيكون لدَينا حِينها عقَّار مُحتمَل ومُستهدَف ثبتت جدواه الإكلينيكية، ولن يمر وقت طويل قبل أن يصِل مثل هذا العقَّار إلى الأسواق. ولكن ينبغي ألا نُغفِل وجود تصوُّرٍ آخَرَ قد تُؤدِّي فيه تجاربنا إلى التحقُّق من فاعلية ترانسجلوتاميناز٢ كمُستهدَفٍ عقَّاري، لكن يتبيَّن لنا أن العقَّار المُحتمل مُرتبِط بمشكلاتٍ أخرى غير ذات صلة، وتعود الكُرة في هذه الحالة إلى ملعب الكيمياء لإيجاد علاج أفضل.
آمُل أن أكون قد مَكَّنتُكِ من استشعار أهمية الكيمياء في ميدان الأمراض اليتيمة. في حالة الذرب البطني، مضى نِصف قرنٍ منذ حدَّد دبليو كي ديك، طبيب الأطفال الهولندي، الجلوتين باعتباره المُحفِّز البيئي الرئيسي لهذا المرض، وخلال هذه المدة، خضع انتشار المرض ومُسبِّباته للدراسة المُستفيضة على يدِ علماء الأحياء والأطباء الإكلينيكيِّين، غير أنه تعرَّض للإهمال التام بوصفه فُرصة علاجية، وإنَّني لأعتقِدُ اعتقادًا جازمًا أنَّ بوُسْع الكيمياء سَدَّ هذه الثغرة في العَقد القادم. إن الداء البطني ليس فريدًا من نوعه على الإطلاق بين الطائفة الواسعة من الأمراض اليتيمة. إليكِ على سبيل المثال الالتهابات المعوية المُسبِّبة للإسهال؛ على الرغم من كونها، لحُسن الحظ، نادِرة الحدوث في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن مثل هذه الالتهابات تسبب ما بين ١٫٦ و٢٫١ مليون حالة وفاة سنويًّا في مُختلِف أنحاء العالم، أغلبها تقَعُ بين الأطفال الذين تقلُّ أعمارهم عن خمس سنوات في بلدان العالم النامي. إن جيلكِ يتمتَّع بالتأكيد بقوَّة الإرادة والذكاء اللَّازِمَين لحلِّ هذه المشكلة، وإن كان الأمر كذلك، فسيكون مَيدان الكيمياء بلا شَكٍّ نُقطةً مُمتازة للانطلاق. إنني لأشجِّعُكِ على التفكير في سلوك هذا المسار من الدراسة المُتقدِّمة خلال مَسيرتك الأكاديمية.
تشيتان خوسلا
قراءات إضافية
-
Bethune, M. T.; Khosla, C. Parallels between pathogens and gluten peptides in celiac sprue. PLoS Pathogens 2008, 4, e34.
-
Fasano, A. Surprises from celiac disease. Scientific American 2009, 301, 54–61.
-
Maeder, T. The Orphan Drug Backlash, Scientific American, 2003, pp. 81–87.
-
Petri, W. A.; Miller, M.; Binder, H. J.; Levine, M. M.; Dillingham, R.; Guerrant, R. L. Enteric infections, diarrhea, and their impact on function and development. Journal of Clinical Investigation 2008, 118, 1277–1290.