الحمض النووي الراقص
سينثيا جيه بوروز
جامعة يوتا
سينثيا جيه بوروز هي أستاذ مُتميز في الكيمياء بجامعة يوتا، حاصلة على درجة البكالوريوس من جامعة كولورادو والدكتوراه من جامعة كورنيل وكانت قد تعاونَتْ كزميل أبحاث ما بعدَ الدكتوراه مع جيه إم لين، الحائز على جائزة نوبل، في ستراسبورج بفرنسا. عمِلَت بوروز كعضوٍ في هيئة التدريس بجامعة ستوني بروك قبل أن تنتقِل إلى يوتا عام ١٩٩٥. تنصَبُّ اهتماماتها البحثية على الكيمياء العضوية الحيوية مع التركيز على الحمض النووي والحمض النووي الريبوزي. بوروز مُتزوِّجة من عالِم الكيمياء الفيزيائية، سكوت أندرسن، ولديهما ثلاثةُ أطفال (ثلاثة توائم)، لوريل هي أصغرهم بفارِق دقيقة واحدة.
مرحبًا أنجيلا
مضَتِ البروفة النهائية ليلةَ أمس على ما يُرام؛ شكرًا لسُؤالك. اختار مسرح الأطفال للفنون الاستعراضية بجامعة يوتا، في إطار حفله المُوسيقي السنوي، مَوضوعاتٍ علميةً ليُصمِّم حولَها عروضًا موسيقية واستعراضية مُبتكرة تحت عنوان ساينتيا. تولَّت كلُّ فرقةٍ تصميم رقصةٍ تُسلِّط الضوء على فروعٍ علمية مُختلفة، بدءًا من الأحياء والطب وانتهاءً بالفيزياء والإلكترونيات. تتتبَّع خيوط القصة رحلة شابَّةٍ تُدعى آشا يَصحبُها بروفيسور عجوز حكيم لكنه غريب الأطوار (أليسوا جميعًا كذلك؟) في رحلةٍ داخل آلةِ الزمن الخاصة به لزيارة ماضي كوكبنا وكونِنا وحاضِرِهما ومُستقبلِهما. من المُقرَّر أن تُساعد هذه الرقصات المُشاهدين على التعرُّف على الفيروسات والليزر والغابات المطيرة ولبِّ الأرض الداخلي وكتاب نيوتن «الأصول الرياضية»، بينما يتراوَحُ سِياق العرض من النطاق المِجهري وحتى النطاق المَجرِّي، بِلا مُبالَغَة.
ابنتُنا لوريل في الصفِّ العاشر هذا العام؛ لذلك كانت ترقُص مع طلَّاب الفرقة الثانوية الأولى والتي تُخرِج استعراضاتِها آيمي ديلي. لقد كانتْ لوريل شَغوفةً بعِلم الفلك منذ نعومة أظافرها، ولذلك عندما طُلِبَ من فرقَتِها تصميمُ رقصةٍ عن «المَجرَّات»، ابتهجتْ للغاية. دامت فترة الاستعدادات ستَّةَ أشهُر، أمضت فِرقَتُها أغلبَها في التعرُّف على أشكال المجرَّات وتكوينها وحركتها ثُمَّ مُحاولة ترجمة هذه المفاهيم إلى صورةٍ استعراضية. اقترحتْ في بداية العمل على ماري آن لي، المخرجة الفنية لبرنامج تانر دانس، الاستعانةَ بخُبراء من الأقسام العلمية في جامعة يوتا لإضفاء المِصداقية العلمية على الرقصات المُصمَّمة. دعت فرقة لوريل البروفيسور باولو جوندولو، من قسم الفيزياء، وهو خبير في عِلم الكونِيَّات والطاقة المُظلِمة. عرض البروفيسور صُورًا مُذهلة من مرصد هابل الفضائي تُوضِّح الفروق بين المجرَّات الحلزونية والبيضاوية وغيرها من أنواع المجرَّات. أثناء البروفة النهائية ليلة أمس، كانت تنُّورات الراقِصات المُلتفَّة المُرصَّعة بالنجوم والمُتألِّقة باللَّون البنفسجي إضافة لصُورة الأشكال والحركات المَجرِّية المتنوعة أثناء الاستعراض.
كانت مُهمَّتي أن أكون «الخبيرة» المُتطوعة في مجال الحمض النووي للصف التاسع، الذي تتولَّى إخراج رقصاتِهم تينا ميساكا. لقد عكَفَ مُختبري على دراسة كيمياء الحمض النووي والحمض النووي الريبوزي لما يقرُب من عشرين عامًا، غير أنَّنا لم نَزَل عاجِزين عن فَهْم جميع التفصيلات المُعقَّدة لهذَين الجُزَيئين الحيَويَّين ذَوي الأهمية البالغة. بالرغم من ذلك، فقد أجرينا مُناقشة رائعة حول بعضٍ من المعلومات الرَّاهنة عن تكوين هذَين الحمضين، ولا سيما الجوانب الديناميكية للحمض النووي والتي هي من الأهمية بمكانٍ بالنسبة إلى وظيفته. ممَّا أثار إعجابي أنَّ بعضًا من طُلَّاب الصف التاسع قادرون على طرح مثل هذه التساؤلات الصَّعبة عن النتائج الطبية للتغيُّرات الطارئة على شفرتنا الوراثية. أعتقد أنكِ قد تَهتمِّين أيضًا بالاطلاع على مُقتطفاتٍ من مُناقشتنا.
(١) نُبذة من التاريخ والمعلومات العامة والأساسيَّات
الآن، ماذا يحدُث عندما نريد أن «نقرأ» إحدى متتابعات الجينوم المدفونة داخل هذا الملف من التلافيف؟ لو كُنَّا في مكتبة، لكان علينا التوجُّه إلى القسم الصحيح وإيجاد الرفِّ الصحيح والعثور على الكتاب الصحيح والوصول إلى الفصل الصحيح، ثُمَّ الشروع في نسْخ الجزء محلِّ اهتمامنا. إن الديناميكيات التي تُوجِّه كيفية حدوث هذا كله داخل الخلية هي أقصى ما توصلتْ إليه الأبحاث الراهِنة في مجال الحمض النووي. تؤدِّي بروتينات مُحدَّدة هذه الوظيفة عن طريق إعادة بناء الكروموسومات من أجل إتاحة مجال للوصول إلى الأجزاء المُستهدفة.
لم يجِد الطلَّاب على خشبة المسرح صعوبةً في تمثيل الأزواج القاعِدية المُكملة للحمض النووي وشرائطه المُلتفَّة. أما التضعيف فكان أشدَّ صعوبة لأن شريطي الحمض النووي يؤدِّيان مَهامَّ مُختلفة في أوقاتٍ مُختلفة، ومع وجود عشرين طالبًا فقط في الفِرقة؛ فمن الصعب إيضاح ما تفعله بِضع مئاتٍ أو آلافٍ من قواعد الحمض النووي في هذه الرَّقْصة المُتقَنة التي تُسمَّى التضعيف. بالرغم من ذلك، نجحتِ الرَّقْصة في إثبات حقيقةٍ مفادها أن بوُسْع المرء فرْض النظام على جميع هذه الوقائع التي تبدو فوضويةً في ظاهرها.
(٢) تَضرُّر الحمض النووي وطفراته وإصلاحه
أيكفي هذا؟ بالطبع. فنحن، برغم كلِّ ما سبق، في حاجةٍ إلى بعض التَّبايُن في جينوماتنا، وإلا فسوف نبدو كالمُستنسَخين، ولن يكون ثَمَّ إمكانية للتكيُّف والتطور. يختلف تسلسل الحمض النووي داخل البَشَر غير المُرتبطين بصِلة عن بعضهم الآخر بنسبة ٠٫١٪ تقريبًا، بينما يختلف تسلسُل الحمض النووي داخل البشر عن نظيره داخل القِرَدة بنسبة ١٪ تقريبًا، وتزيد هذه النسبة قليلًا عند المُقارنة بين البشر والفئران. يُعدُّ التوصُّل إلى الطُّرق الخفية التي تختلِف بها الجينومات البشرية عن بعضها الآخر، لا سيما تلك الاختلافات التي تُسفِر عن قابليةٍ وراثية للإصابة بمرضٍ مُعيَّن، أحد الأهداف الرئيسية لمشروع الجينوم البشري الرامي إلى تطوير الطبِّ الشخصي. أتوقَّع أن يشهَدَ هذا الحقل البحثي توسُّعًا يفُوق التصديق خلال حياتك المهنية.
يُعدُّ إصلاح الحمض النووي عمليةً مُنقِذة لحياة الجينوم (ديفيد، ٢٠٠٧). يجري العديد من الآليات المُوازية للتخلُّص من القواعد المُتضرِّرة جرَّاء جُذور الأكسجين أو النيتروجين أو المواد السامَّة المُتواجِدة في الطعام أو الهواء أو مُجرَّد زيادة في نوع تفاعُلي بالقُرب من الحمض النووي في توقيتٍ خاطئ. فالإنزيمات المسئولة عن إصلاح الحمض النووي ببتر القواعد تمسَحُ الجينوم بحثًا عن قواعدَ غير مُناسبة، ثم تكسِر الرابطة بين القاعدة والسُّكَّر بحيث تتمكَّن إنزيماتٌ أخرى من التجمُّع لتثبيت القاعدة الصحيحة في مُقابل النموذج غير المُتضرِّر. إن تراكُم أضرار الحمض النووي المُربِكة لعمليات الإصلاح، أو تراكم إنزيمات الإصلاح المَعيبة، قد يؤدي إلى أمراضٍ خطيرة من بينها السرطان والشيخوخة؛ فمع تراكُم أضرار الحمض النووي وطفراته، تقلُّ كفاءة الخلية وقد تُفضِّل الموت في نهاية المطاف على أن تُضاعِف جينومها المُختل. في الواقع، إنَّ التحكُّم في عملية إصلاح الحمض النووي لهوَ أمرٌ يَتوقُ إليه الكيميائيون حقًّا؛ فلو تمكَّنتِ من التوصُّل إلى الجُزيئات التي تُعزِّز من إصلاح الحمض النووي، فإن هذا من شأنه أن يَقي من السرطان والشيخوخة، أو إذا نجحتِ في تقديم علاجاتٍ للخلايا السرطانية المُثبِّطة لعملية إصلاح الحمض النووي، فسوف تموت هذه الخلايا من تلقاء نفسها. ها هو أُفُقٌ آخَر مفتوح على مِصراعَيه أمام كيميائيةٍ شابَّة لها اهتمام بالحمض النووي والطب.
(٣) التصوير الراقص للحمض النووي
أمضيتُ مع فِرقة الصفِّ التاسع وقتًا طويلًا مُتحدِّثين عن تضرُّر الحمض النووي وطفراته وإصلاحه، وأقدمتِ المجموعة على تجرِبةِ إفساد تَسلسُلاتهم ثُمَّ إصلاحها. لستُ على يقينٍ من أن المُلاحَظ العابر كان بإمكانه تفسير جميع ما انطوى عليه هذا الاستعراض من تعقيدات، ولكن لمعرفتي بالنقاشات التي يقوم عليها الاستعراض، فكنتُ أعتقد أنه مُذهِل.
بالنسبة إلى الملابس، فقد صمَّمتْ كلٌّ من سينثيا وويندي ترنر فساتين من القماش الشبكي، خاطتا فيه أشرطةً من الأنشوطات الزرقاء والصفراء والخضراء والحمراء، وهي الألوان الرئيسية التي تُمثِّل اللبنات الأساسية ذات القواعد الأربع. كان كلُّ نمَطٍ من الألوان التي اصطبغ بها الفستان فريدًا، تمامًا كالشخص الذي ارتداه! لقد استمتعتُ بتقديم المساعدة في متجر الأزياء، كانت حِياكة القماش الشبكي الخشِن مهمَّةً عويصةً قليلًا، لكن تثبيت الأنشوطات المُلوَّنة كان عملًا مُفعمًا بالمرَح. لقد حاولتُ تمييز الأنماط التي صمَّمْتُها بينما الرَّاقصون يَدورون سريعًا على المسرح، لكن كلَّ شيءٍ حدَثَ بسرعة بالغة حالتْ دون ذلك.
تولَّى تريستان مور تأليف الموسيقى لكلِّ جُزء من الاستعراض، وقد جرَّبْنا يومًا ما الأصوات التي يُمكن أن تُصاحِب استعراضًا راقصًا للحمض النووي. وبينما كنت ألقي مُحاضرة عن تركيب الحمض النووي وتضاعُفِه، كان تريستان يُسجِّل صوتي، ثُمَّ طلَبَتِ الآنسة تينا من الطُّلَّاب أن يَصيحوا قائلين كلماتٍ مُقتبَسة ممَّا ناقَشناه. سمعتُ «لفائف اللفائف» و«أزواج قاعِدية مُكمِّلة» و«نموذجك الشخصي الخاص» و«ستة مليارات قاعدة» و«طفرة». بعدَها بدقائق معدودة، أعاد تريستان تشغيل ما قد ألَّفَه على جهاز دمج الأصوات، وكانت مقطوعة مُطرِبة يتخلَّلها صوتي المُشوَّش بعضَ الشيء وهو يُردِّد «لفائف من لفائف من لفائف من لفائف …» و«طفرات، طفرات، طفرات …» أجرى الرَّاقِصون عرضًا تجريبيًّا مصحوبًا بالمُوسيقى، وكانت مُحاولة أولى رائعة. خضع العرض النهائي، بلا شك، لتعديلات مُحسِّنة وأحكم الراقصون ضبْط التزامُن، كما جرى إثراء الرقصات بمزيدٍ من المفاهيم العلمية والعناصر الفنية، وأخيرًا أسهمت الأزياء والإضاءة في نجاح المشروع.
لم أندَم على شيءٍ في هذا المشروع عدا عجزي عن تغطية كلِّ ما تتضمَّنُه كيمياء الحمض النووي من موضوعاتٍ أثناء حديثي إلى الرَّاقصين. يتعلَّق مجالي البحثي بتضرُّر الحمض النووي المُؤدِّي إلى الطفرات، وندرس التأكسُد الإضافي لقاعدة ٨-أكسوجوانوسين الذي تناولتُه سابقًا؛ يُعدُّ ٨-أكسوجوانوسين محطة نشطة لمزيد من التأكسُد مُنتجًا مركبات الهيدانتوين، وهي مركبات مُسببة للطفرات بنسبة ١٠٠٪ في اختبارات الخلايا البكتيرية؛ لذا فنحن في حاجةٍ حقيقية لمعرفة مدى تكرار وقوع هذه الأضرار وتوقيتها وعواقبها وكيفية اتقائها. أبتناول المزيد من فيتامين إي؟ هل نحن بحاجةٍ لتناوُل المزيد من الجِزر والكيوي؟ أنا شخصيًّا أفضِّل إضافة المزيد من الشوكولاتة إلى نظامي الغذائي!
(٤) دَعِينا لا نَنْسى الحمض النووي الريبوزي
بالعَودة إلى بَدْء الحياة، نعلم أيضًا كيف لعِب الحمض النووي الريبوزي دَور الجُزيء الأوَّلي الذي أدَّى المهامَّ الحديثة للحمض النووي والبروتينات (ياروس، ٢٠١٠). إن لمجموعة مُعينة من الأحماض الأمينية الريبوزية خواصَّ تحفيزيةً أو تنظيمية مثل البروتينات، بل ربَّما كان التسلسُل القاعدي للحمض النووي الريبوزي نظامَ حفظ المعلومات الأصلي. يعكف مُختبرُنا على دراسة كيفية تطوُّر بعض الفيتامينات الحديث، مثل الرايبوفلافين، من اللَّبِنات الأساسية للحمض النووي الريبوزي؛ كما نسعى لصُنع تجاربَ قد ترسُم نموذجًا للعمليات الحيوية التي شهدتها الأرض البدائية منذُ عدَّة مليارات من السنين (بروز، ٢٠٠٩). في ظلِّ افتقارنا إلى آلةِ الزمن التي امتلَكها البروفيسور في ساينتيا، ليس بوُسْعِنا إلا أن نفترِض اختلاط الهواء والماء والتُّربة وضوء الشمس لتكوين أولى العتائق.
لقد تأخَّر الوقت ويجْدُر بي أن أتوقَّف. آمُل حقًّا أن تَكوني قد استمتعتِ بهذا الرقص الكيميائي مع الحمض النووي وأن تُفكِّري فيه عند دراستك للأحماض النووية في مادَّتَي الكيمياء العضوية والحيوية بجامعة كاليفورنيا، سان دييجو. سيكون أمامك حينها المزيد من المَباحث التي تنتظِر الدراسة والاكتشاف؛ مباحث تَفُوقُ جميع التَّصوُّرات.
العمَّة سندي
شكر وتقدير
أتوجَّه بشكرٍ خاصٍّ إلى فرقة الصف التاسع التي تقودها الآنسة تينا ميساكا لتلك التجربة الرائعة التي حظيَتْ بها. أودُّ أيضًا أن أشكر الأستاذة ماري آن لي (المُخرجة الفنية لبرنامج تانر دانس) والسيدة لوريل أندرسن لما قدَّمَتاه من مشورة وتعليقات نقدية، بالإضافة إلى المؤسسة الوطنية للعلوم لتقديمها الدعم المالي لبرنامجنا البحثي.
قراءات إضافية
-
Bird, A. Perceptions of epigenetics. Nature 2007, 447, 496–498.
-
Burrows, C. J. Surviving an oxygen atmosphere: DNA damage and repair. In Chemical Evolution II: From Origins of Life to Modern Society, Zaikowski, L.; Friedrich, J. M.; Seidel, S. R. (eds.), ACS Symposium Series, American Chemical Society, Washington, DC, 2009.
-
David, S. S.; O’Shea, V. L.; Kundu, S. Base-excision repair of oxidative DNA damage. Nature 2007, 447, 941–950.
-
Edelson, E. Francis Crick and James Watson: And the Building Blocks of Life, Oxford University Press, New York, 1998.
-
Sayre, A. Rosalind Franklin & DNA, Norton, New York, 1975.
-
Yarus, M. Life from an RNA World, Harvard University Press, Cambridge, MA, 2010.