الجزيئات الضخمة تنقذ الموقف
سيث إم كوهين
جامعة كاليفورنيا، سان دييجو
سيث إم كوهين أستاذ مساعد في جامعة كاليفورنيا، سان دييجو. حصل على درجة البكالوريوس في الكيمياء والليسانس في العلوم السياسية من جامعة ستانفورد. نال كوهين درجة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا، بيركلي، تحت إشراف الأستاذ كينث إن رايموند؛ حيث درس أنظمة الربيطات المُتعلِّقة بانتقال الحديد البكتيري وعوامل تبايُن تصوير الرنين المغناطيسي. كان كوهين زميل أبحاث ما بعْدَ الدكتوراه بالمعاهد القومية للصحة في معمل البروفيسور ستيفن جيه ليبرد (بمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا)؛ حيث أجرى دراساتٍ حول تفاعُل عوامل النَّسْخ مع الحمض النووي المُدمَّر بفعل السيسبلاتين. يسعى معمل كوهين بجامعة كاليفورنيا، سان دييجو، لدراسة تصميم مُثبِّطات البروتين المُتمعدِن وتخليق الهياكل المَعدِنية العضوية المُوظَّفة.
عزيزتي أنجيلا
كيف يمضي عامكِ الثاني بالجامعة؟ إذا كنتِ تُبدِين من الإصرار والحماس حيال مُقرَّرات هذا العام مثلما أبديتِه حيال مُقرَّر الكيمياء في عامك الأول، فإنني على يقينٍ من أنك تُبْلين بلاءً حسنًا! يُمثِّل عامُكِ الجامعي الثاني فرصةً جيدة لتكوينِ رؤيةٍ أوضحَ عمَّا إذا كنتِ تُريدين التَّخصُّص بالكيمياء أم لا. سوف تَحظيْنَ في الواقع بنظرةٍ مُتعمِّقة في أحدِ المُقرَّرات «الكلاسيكية»، ألا وهو الكيمياء العضوية، الذي سوف يشحَذُ شَغفَك بالعلوم الكيميائية. يستطيع الكثير من الطُّلَّاب بعدَ الرُّبع الأول من دراستهم للكيمياء العضوية أن يُقرِّروا ما إذا كانوا يَعشقون الكيمياء أم يكرهونها. أرجو أن تتمتَّعي أنتِ أيضًا بمِثل هذه التجربة الحاسمة، وأن تكون النتيجة لصالح الكيمياء بالطبع!
مِمَّا يستحقُّ التفكير أيضًا بينما تُمضين عامك الدراسي الثاني هو فرْع الطُّلَّاب المُنتسبين للجمعية الكيميائية الأمريكية. لدَينا مجموعة نشِطة حقًّا من الطلَّاب المنتسبين لهذه الجمعية التي تستضيف طائفة مُتنوعة من الأنشطة الطلابية المُرتبطة بالكيمياء، وتتراوح هذه الفعاليات من أُمسِيات العشاء التي تتضمن لقاءاتٍ مع أعضاء هيئة التدريس وصولًا إلى جَولاتٍ بمُختبرات شركات الصناعات الدوائية المحلية. فضلًا عن ذلك، تُشارك هذه المجموعة في الأسبوع الوطني للكيمياء الذي تُنظِّمُه الجمعية الكيميائية الأمريكية في بالبوا بارك، وذلك بإقامة كشك دِعائي وإجراء عروضٍ عملية للجمهور. دائمًا ما يُقدِّم فرع الطُّلَّاب المُنتسبين للجمعية الكيميائية الأمريكية بجامعة كاليفورنيا، سان دييجو، عرضًا رائعًا خلال هذه الفعاليات العامة. من الأمور اللطيفة أيضًا بشأن مجموعة الطُّلَّاب المُنتسِبين للجمعية الكيميائية الأمريكية هو أنها تُقدِّم برنامج زمالة للأبحاث الصيفية، قد تكونين مُؤهَّلة لنَيلها؛ حيث قد تمنحُكِ بعض الدعم المالي للعمل في أحد المُختبرات البحثية هذا الصيف (رُبَّما يكون مُختبَر كوهين مثلًا، ها أنا أُلمِّح). على أيِّ حال، هذه مسألة تستحق النظر.
لكن دَعيني أُخبِركِ بالقليل عن أحدِ مجالات البحث الكيميائي الذي أتناوَلُه بالدراسة، ألا وهو كيمياء الجُزيئات الضخمة. سيكون حديثي إليكِ عن هذا الموضوع مُقسَّمًا إلى أجزاء؛ حيث أتناوَلُ أوَّلًا لمحةً من تاريخ كيمياء الجُزيئات الضخمة، ثم أصِف قليلًا من المجالات البحثية المُثيرة التي نَشهدُها حاليًّا، ثُم أكتُب أخيرًا المزيد عن اهتماماتي المُحدَّدة في هذا الميدان، آمِلًا أن يمنحكِ هذا الحديث رؤيةً جيدة عن الموضوع وأن يقودكِ إلى مزيد من الاطَّلاع على هذا الجانب من الكيمياء (وقد قدمتُ القليل من المَراجِع في النهاية كمادةٍ لقراءاتٍ إضافية).
(١) كيمياء ما وراء الجُزيئات
لقد وُصِفَت كيمياء الجُزيئات الضخمة بأنها «كيمياء ما وراء الجزيئات». وبالرغم من كونها عبارة فضفاضة للغاية، فإنها تُوجِز بالفعل بصورةٍ عامَّةٍ المفهومَ الأساسي، ألا وهو دراسة كيفية تفاعُل الجُزيئات وارتباطها ببعضها الآخر لإنتاجِ تراكيبَ أشدَّ تعقيدًا ذات وظائف أكثر تطوُّرًا. يُعدُّ أول «كيميائي في مجال الجُزيئات الضخمة» هو الطبيعة الأم التي أوجدتْ أعظمَ الإنجازات في كيمياء الجُزيئات الضخمة. من الأمثلة الجيدة في الطبيعة لكيمياء الجُزيئات الضخمة هي الفيروسات. لعلَّكِ تعرِفين الفيروسات لقُدرتها على التسبُّب في الأمراض، كنزلاتِ البرد، لكنكِ لو أمعنتِ النظر في فيروسٍ ما فسترين واحدًا من أشدِّ أمثلة كيمياء الجُزيئات الضخمة إبهارًا.
مُقارَنةً بما سبق، تبدو جهود البشر في استغلال كيمياء الجُزيئات الضخمة في غاية التواضُع، غير أنَّنا نُحرِز تحسُّنًا مُستمرًّا على هذا الصعيد. فضلًا عن ذلك، فإن حقيقة أنَّ هذا المجال لم يصِل بعدُ إلى مرحلة النُّضج الكامل إنما تعني أنَّ شباب العلماء مِثلكِ على استعدادٍ لإحراز أعظم الاكتشافات في السنوات القادمة! انطلقتْ بعضٌ من أولَى الجهود في مجال كيمياء الجُزيئات الضَّخمة بمفهومٍ ليس شديدَ الاختلاف عن مفهوم الفيروس: كانت الفِكرة هي مُجرَّد تصميمِ جُزيءٍ يُمكن أن يُغلِّف جُزيئًا آخَرَ أصغرَ (تمامًا مثلما للفيروس قفيصة لتغليف المادَّة الوراثية). غالبًا ما يُشار إلى هذا المفهوم بكونه كيمياء «الضيف-المُضيف»؛ حيث يرتبِط الجُزيء المُضيف بالجُزيء الضيف ويغلِّفه. ثَمَّة الكثير من التشبيهات البسيطة والمُناسِبة لوَصْف هذا النوع من الترتيب فوق الجُزيئي، لكن قد يكون حانَ الوقت لعرْض مُقارنةٍ ربما كُنتِ تتوقَّعينها: «الجُزيء الضَّخم» كجُزيء «دمث الخلق»، يُمكن للجُزيء الضَّخم أن يُمسِك بالضيف و«يحميه» من مُحيطه. سوف نعود إلى هذا التَّشبيه البسيط لاحقًا، نظرًا لكونه وَثيقَ الصِّلة حقًّا بواحِدٍ من الأنواع الأُولى للأنظِمة فَوق الجُزيئية.
تضمَّنَ بعضٌ من أوَّلِ أنظمة الضيف-المُضيف فوق الجُزيئية عمليةَ تغليفِ الأيونات المَعدِنية (الذرَّات المَعدِنية المشحونة) داخل الجُزيئات العضوية الدائرية (الدوائر الضخمة). في هذه الجُزيئات الضخمة، يَستقرُّ الأيون المعدِني في وسط الدائرة الضخمة، وتثبت في مكانها بفضل التفاعُلات الضعيفة بين الأيونات المعدنية والذرَّات المُتغايرة (تُشير الذرَّات المُتغايرة إلى الذرَّات غير الكربونية وغير الهيدروجينية في الدائرة الضخمة). في هذه الحالة، يُمكن وصفُ هذه التفاعلات الضعيفة، بعبارةٍ بالغةِ البساطة، بأنها قوة جاذبة للشحنات المُعاكسة. عادةً ما تكون الفلزات الأيونية ذات شحنةٍ مُوجبة بينما تحمِل الذرَّات المُتغايرة شُحنة سالبة (أو شُحنة سالبة جُزئيًّا)، وهو ما يُسفِر عن قوة جاذبة (أي أن الشحنات المُعاكسة تنجذِب لبعضها الآخر، القوى الكولومية). وهكذا، يُمكن تكوين جُزيئاتٍ ضخمة بالغة الاستقرار.
إن مثل هذه النماذج الأولى من كيمياء الجُزيئات الضخمة — الإيثرات التاجية ومُركَّبات الكريبتاند ومركَّبات الكرسيراند — لا تمثِّل إلا غَيضًا من فَيضٍ حين يتعلَّق الحديث بماضي كيمياء الجُزيئات الضخمة وحاضرها، غير أنَّ هذه النماذج الثلاثة تقدِّم أساسًا كافيًا لاستيعاب المفهوم العام لكيمياء الجُزيئات الضخمة والتفاعُلات فوق الجُزيئية وكيفية استخدام كيمياء الجُزيئات الضخمة في الكشف عن حقائقَ علمية جديدة. علاوة على ذلك، تشترِك هذه النماذج الثلاثة في مَلمحٍ آخَرَ بالغِ الأهمية، ألا وهو أن بيدرسن ولين وكرام قد تقاسَموا جائزة نوبل في الكيمياء عام ١٩٨٧ لعملهم على هذه الجُزيئات. بعبارة أخص؛ لقد منحت لجنة نوبل الجائزة لهؤلاء العلماء الثلاثة «لتكوينهم واستخدامهم لجُزيئات ذات تفاعُلات مُرتبطة بالتراكيب تتميز بالانتقائية العالية».
(٢) الجُزيئات الضخمة: الجيل القادم
والآنَ فلعلَّكِ تتساءلين قائلة: ما الذي يَجري في كيمياء الجُزيئات الضخمة حديثًا؟ إن الجواب عن هذا التساؤل مُذهل ومُعقَّد في آنٍ واحدٍ ويعتمِد على ما تُصنِّفه بالضبط باعتباره كيمياء الجُزيئات الضخمة؛ ففي عالَم البحث الكيميائي الحديث، تتلاشى الخطوط الفاصِلة بين مُختلِف المباحث، ممَّا يعني أن الدراسات المَعنية بكيمياء الجُزيئات الضخمة قد تتقاطَع مع مباحثَ غاية في التنوُّع مثل عِلم النانو وكيمياء المواد وعلم الأحياء الكيميائي وغيرها، حتى إن مُحاولة رسم خطوط قاطعة بين هذه المباحث أضحتْ تتناقَص جَدواها كل يوم. بالرغم من ذلك كله، ففي وُسعِنا إلقاءُ نظرةٍ على بِضعة أمثلةٍ حديثة لكيمياء الجُزيئات الضخمة توضِّح لنا كيفية تقدُّم هذا الميدان والاتجاهات الجديدة المُثيرة التي قد يتَّخِذها.
مِن الاتجاهات التي سلكتْها كيمياء الجُزيئات الضخمة خلال العقود العديدة الماضية هو تصميم جُزيئات «حاوية» أكثر تعقيدًا من ذي قبل ودراستها. بالنسبة إلى الأشكال الأولى من هذه الجُزيئات، كتلك التي وصفتْها سابقًا؛ فلم تكن مُناسبة إلا لتطويق الضُّيوف بالغي الضآلة، مثل الأيونات المعدِنية أو الجُزيئات العضوية الصغيرة، أو، في بعض الحالات، الأنيونات الصغيرة (وهي أيونات سالِبة الشُّحنة مثل الكلوريد)، وهو ما سمح بنقلِ هؤلاء الضيوف الصغار أو تخزينهم لكنه حال دُون استخدام المُضيفين كحاويةٍ لإجراء التفاعُلات الكيميائية. في بعضٍ من الأمثلة التي سوف أوضِّحها لاحقًا، نشأتْ جُزيئات مُضيفة مُتطوِّرة قادرة على تغليف ضُيوف مُتعدِّدين يَتميَّزون بالتعقيد وهو ما يسمح بدوره لهؤلاء الضيوف بالتفاعُل مع بعضهم الآخر داخل البيئة الفريدة التي يوفِّرها المُضيف. أُطلِق على بعضٍ من الجزيئات المُضيفة مصطلح «قوارير نانوية» أو «مفاعلات نانوية»، وهي جُزيئات ضخمة يُمكن أن تستقرَّ بداخلها جُزيئاتٌ أخرى بحيث تخضع للتفاعُلات الكيميائية داخل المُضيف. غالبًا ما يختلِف ناتج تفاعُلات الجُزيئات الضيفة داخل واحدٍ من هؤلاء المُضيفين عن الناتج الحاصل إذا تفاعلت الجُزيئات الضيفة مع بعضها الآخر خارج (أو في غياب) الجُزيء المضيف. كما سوف تُطالِعين أثناء دراستك، فإن الكيميائيين يدفعون بكيمياء الجُزيئات الضخمة لتقترِب من القفيصة الفيروسية في نطاقها وتعقيدها. بإمكاننا الآن صُنع ودراسة جُزيئاتٍ قادرة على خلق بيئاتٍ كيميائية جديدة تمامًا ربما نكتشف بداخلها تفاعلاتٍ كيميائية جديدة يومًا ما!
يُعزَى كثير من الفروق بين مُختلف الجُزيئات المضيفة، أو القوارير النانوية، إلى القوى الضعيفة المُختلفة بين الجُزيئات والمُستخدمة في جمعهم معًا. يَستعين كثير من أوسع القوارير النانوية دراسةً بالترابُط الهيدروجيني أو ترابُط الأيون المعدِني لتجميع ذاتها. سوف أخبركِ ببضعة أمثلةٍ تشمل نَوعي التفاعُلات كليهما، وهو ما من شأنه أن يمنحكِ صورةً عامةً لهذه القوارير النانوية.
لقد توسَّع الباحثون في دراسة القوارير النانوية القائمة على الترابُط الهيدروجيني خلال العقود العديدة السابقة. لعلَّكِ تتذكَّرين أن الترابُط الهيدروجيني هو تفاعل كهروستاتيكي ضعيفٌ يَجري بين ذرة هيدروجين، والتي تكتسب شُحنة موجبة جُزئية عند ارتباطها بذرة مُتغايرة (كالأكسجين أو النيتروجين مثلًا)، وذرَّة مُتغايرة ثانية تحمل شحنة سالبة جُزئية (تذكَّري أن الشحنات المُضادة تتجاذَب لبعضها الآخر). على الرغم من ضَعفه عند حدوثه على مستوى فُرادى الجُزيئات، فإن الترابُط الهيدروجيني قد يؤدي إلى تفاعُلٍ تراكُمي ضخم بين الجُزيئات، وذلك حين يجتمع في أعدادٍ كبيرة أو يُنظَّم بعناية. من الأمثلة اليومية على هذا ما نجِده عند المُقارنة بين نقطة غليان الماء بنقطة غليان الهيدروكربونات، كالبروبان. على الرغم من أن الوزن الجُزيئي للبروبان يفوق الوزن الجُزيئي للماء بمقدار مرتين ونصف، فإن نقطة غليانه تقع عند −٤٢ درجة مئوية، وهو ما يقلُّ كثيرًا عن نقطة غليان الماء. يرجِع ذلك، بصفة رئيسية، إلى الترابط الهيدروجيني القوي الواقع بين جُزيئات الماء، وهو ما يجعل الماء مائعًا مُستقرًّا على نحوٍ استثنائي بالرغم من ضآلة حجمهِ البالغة.
لقد استخدم الباحثون الترتيب المُنسَّق للعديد من الروابط الهيدروجينية في سبيل إنتاج طائفة مُتنوعة من الحاويات التي تُظهِر مجموعةً واسِعةً من السِّمات الكيميائية المُذهلة. لقد عَمَد الكثير من المَجموعات حول العالم إلى دراسة هذه الجُزيئات الضخمة؛ لذا فسوف أكتفي بتسليط الضوء على جهدٍ واحدٍ من جيراننا في سان دييجو، ألا وهو البروفيسور جولياس ريبيك من معهد كريبس للأبحاث، الواقع على طريق جينيس قريبًا منَّا، والذي يُعدُّ واحدًا من العلماء البارزين على مستوى العالم في مجال القوارير النانوية ذاتية التجميع. تَركَّز الجُهد البحثي للبروفيسور ريبيك على الجُزيئات التي تتجمَّع معًا عن طريق الترابط الهيدروجيني، هذا فضلًا عمَّا قدَّمَه من إسهامات هامَّة مُتنوعة في ميدان كيمياء الجُزيئات الضخمة، غير أن من أشدِّ هذه الإسهامات ذُيوعًا هو «كرة التنس» الجُزيئية التي صمَّمها.
فضلًا عن الجُزيئات المُضيفة المُتصلة بروابط هيدروجينية، مثل كُرات الأكياس وكُرات التنس والكُرات اللَّيِّنة المذكورة سلفًا، جرى استعمال الأيونات المعدِنية على نطاقٍ واسعٍ لربط كبسولات القوارير النانوية معًا. إن الأيونات المعدنية في كثيرٍ من الأنظمة الأحدث عهدًا تُعدُّ جزءًا رئيسيًّا من الجُزيء المُضيف، خلافًا لأولى أنظمة الجُزيئات الضخمة؛ حيث تُمثِّل الأيونات المعدِنية الأنواع الضَّيفة (كالإيثرات التاجيَّة والكريبتاندات). من الجدير بالذكر أن الكثيرين قد أسهموا في ميدان الكبسولات فوق الجُزيئية التي تُوجِّهها الفلزات، وكان من بينهم مُشرف رسالة الدكتوراه الخاصة بي، البروفيسور كينيث إن رايموند. حين بدأت رسالة الدكتوراه الخاصَّة بي بجامعة كاليفورنيا في بركلي عام ١٩٩٤، كان البروفيسور رايموند قد استهلَّ لتوِّه نشاطه في هذا الميدان. لم أعكُف شخصيًّا على دراسة هذا الموضوع أثناء عملي للحصول على درجة الدكتوراه، لكنَّني كنتُ شاهدًا على تطوُّره وتَناميه داخل مُختبَر البروفيسور رايموند، وقد منحني ذلك منظورًا مُتميِّزًا عن الموضوع.
لقد أسهَمَ عددٌ من الباحثين، كما أشرتُ سلفًا، في مبحث الكبسولات التي تُوجِّهها الفلزات، وفي حال رغبتِ في الحصول على مزيدٍ من المعلومات حوله، فإنَّ بإمكانك الاطلاع على بعضٍ من الورقات البحثية التي نشرَها البروفيسور رايموند. ثمَّةَ جُهد بحثي آخَر لعلَّكِ تَرغبين في مُطالعته، وهو الذي بذَلَه البروفيسور ماكوتو فيوجيتا من جامعة طوكيو اليابانية. كان البروفيسور فيوجيتا من الرُّوَّاد الأوائل في هذا المجال وصنعَ بعضًا من أضخمِ الكبسولات الجُزيئية التي وُصِفَت على الإطلاق وأروعِها وأشدِّها تعقيدًا. وصفَتْ مجموعته البحثية مُؤخَّرًا كبسولاتٍ ضخمة كروية أشار إليها البروفيسور باسم «القطيرات النانوية». تُعدُّ هذه القطيرات النانوية كبسولاتٍ مُتجمِّعة على الفلزات يُمكن تصميمها على نحوٍ يُتيح خلْقَ بيئةٍ اصطناعية بدواخلها شبيهة بالسوائل. وهكذا، يبرُز جهد البروفيسور فيوجيتا كمثالٍ رائع آخر يُثبت كيف أنَّ الكيمياء آخِذةٌ في اللحاق بركْب الأحياء.
(٣) من الجُزيئات إلى الهياكل المعدِنية العضوية
حسنًا، وصولًا إلى هذه النقطة، فقد أعطيتُكِ نبذةً مُتواضعةً عن تاريخ كيمياء الجُزيئات الضخمة وبعضٍ من تجسُّداتها. قبل أن يتسلَّلَ إليكِ المَلَل، دعيني أخيرًا أناقِشُ بعضًا من نماذج كيمياء الجُزيئات الضخمة التي نتعامَلُ معها في مجموعتي البحثية، آمِلًا في أن يشحَذَ هذا النقاش خيالكِ قليلًا.
جميع ما ذكرتُه لكِ حتى الآن عن كيمياء الجُزيئات الضخمة يتضمَّن جُزيئاتٍ ضخمةً مُنعزلة ومُنفصلة تضمُّ فيما بينها علاقة الضيف-المُضيف. لتفهُّم العملية البحثية التي يشهدها مُختبري، علينا التفكير من منظورِ بنى جُزيئية أوسع نطاقًا؛ أي أنَّنا لن نكتفي بتحويل الجُزيء المُضيف إلى جُزيء كبسولي واحد، بل سنجعله سلسلة من الجُزيئات الكبسولية المُتجمِّعة معًا داخل شبيكة مُتَّصِلة. عند توصيل ما يكفي من هذه الكبسولات معًا، نحصل على مادةٍ صُلبة مكوَّنة من عدَّة تجاويف مُستقلة ومُتطابقة. هذا هو المَيدان الذي أعمل في نِطاقه؛ مَيدان الهياكل المعدنية العضوية.
لعلَّك تسألين نفسك: لماذا تُدرَّس الهياكل المعدِنية العضوية؟ ما هي فائدتها؟ حسنًا، دعيني أخبِركِ أنه كما هو الحال في العديد من مجالات العلم، ولا سيما المجالات الحديثة الناشئة، مثل كيمياء الجُزيئات الضخمة والهياكل المعدِنية العضوية، الإجابة هي أنَّنا لا نعرِف بعدُ. غير أن الهياكل المعدِنية العضوية لها خصائص كيميائية مُثيرة للاهتمام تُتيح إجراء بعض الأبحاث الرائعة، بل إنها أيضًا يكاد يكون لها تطبيقات مُهمَّة في عالَم الواقع. في السنوات الأخيرة، كان الاهتمام الرئيسي بالهياكل المعدِنية العضوية ينصبُّ على مجال تخزين الغازات. ولماذا تخزين الغاز؟ لأن كلَّ هذه المساحة الفارغة تُسهِم على نحوٍ ممتاز في تخزين كميات كبيرة من الغازات، مثل الهيدروجين، والميثان، وثاني أكسيد الكربون (حسب نوع الهيكل المُستخدَم). إن غازاتٍ مثل الهيدروجين والميثان مُهمَّة كوقود (فكِّري في خلايا وقود الهيدروجين، والسيارات التي تعمل بالميثان). أما ثاني أكسيد الكربون فهو أحد الغازات الدفيئة المُهمَّة للغاية ويجب إزالته من الجو، وتخزينه أو إيقاف حركته بطريقةٍ ما؛ لذا فيما يتعلَّق بهذه التقنيات، تُعدُّ مشكلة تخزين الغازات المذكورة آنِفًا مُشكلةً علمية مُهمَّة.
(٤) «الزخرفة الداخلية» باستخدام الهياكل المعدنية العضوية
الهياكل المعدنية العضوية هي موادُّ شديدة المَسامية ذات مساحات سطح كبيرة قد تكون مُثيرة للاهتمام فيما يتعلَّق بتخزين الغازات. ما الذي نفعله في مَعملي إذن؟ حسنًا، لقد أجرَينا أبحاثًا على العديد من الموضوعات، ولكن مُؤخَّرًا جدًّا، ركَّزنا على شيءٍ نُسمِّيه تعديل ما بعد التخليق للهياكل المَعدِنية العضوية. لعلَّك تتساءلين: «وما هذا الشيء؟!» حسنًا، سوف أُخبركِ، إنه أمر بسيط حقًّا.
عن طريق إجراء تعديلات ما بعد التخليق للهياكل المعدِنية العضوية، فإنَّنا نُصبِح «المُصمِّمين الداخليِّين» لتلك المواد. لذا، فلنعُدْ مرة أخرى إلى تشبيه المبنى الفارغ، لدَينا هيكل المبنى، ولنضع بداخِله بعضَ الطوابق والجُدران، وبينها أبواب ونوافِذ تصِل بين الحجرات، لكن المبنى لا يزال فارغًا في أغلبه. لذا فإننا نتدخَّل، بوصفِنا مُصمِّمين داخليِّين، ونُعلِّق بعض اللَّوحات، ونضع بعض قِطَع الأثاث، ونضع مكتبًا، أي أنَّنا نجعل دواخل المبنى فعَّالة وظيفيًّا. إننا نأخُذ مبنًى مُشيَّدًا بالكامل، أي أنه عبارة عن مجموعةٍ من الغُرَف الخالية، ونُضيف بعض المكونات لكلِّ غرفة لنجعل الغُرف مُفيدة لغايةٍ ما. وفي عملية تعديل ما بعد التخليق للهياكل المعدنية العضوية نفعل الشيءَ نفسه؛ إننا نصنع هيكلًا معدنيًّا عضويًّا، وبِمجرَّد أن يتشكَّل هذا الهيكل، يكون بمثابة مجموعة من الغُرف الخالية المُتَّصل بعضُها ببعض، ومن ثَمَّ نُضيف كاشفًا كيميائيًّا يَنساب عبْر الهيكل المعدِني العُضوي (تذكَّري أنَّ له بِنْية مفتوحة للغاية) ويُعدل كل غرفة، وأثناء ذلك يجعل جميع الغُرف أكثر «فعالية» ممَّا كانت عليه من قبل! إننا نستخدِم مُصطلح تعديل ما بعد التخليق للإشارة إلى حقيقة أنَّنا نجعل الهيكل المعدني العضوي فعَّالًا وظيفيًّا بعد أن يكتمِل تجميعه فعليًّا. يبدو هذا مَنطقِيًّا في التشبيه الذي استخدمناه؛ فهل كُنتِ لتُعلِّقي لوحةً على جِدارٍ أوَّلًا ثُمَّ تُثبِّتي الجِدار في المبنى؟ لو أنكِ حاولتِ ذلك فِعليًّا، فيُمكن للَّوحة أن تسقُط، وتنكسِر، وما إلى ذلك؛ لذا فإنك تُشيِّدين الجدار أولًا، ثم تقومين بأعمال التَّزيين. ونحنُ نفعل الشيء نفسه في تعديلِ ما بعد التخليق: نحن نُشيِّد «جُدران» الهيكل المعدني العضوي أولًا، ومن ثَمَّ نُعلق مجموعاتنا الوظيفية الأكثر حساسية بعد التخليق (أي «بعد» الانتهاء من تجميع الهيكل المَعدِني العضوي).
وعلى أي حالٍ يا أنجيلا، فالأرجح أن هذا هو كلُّ ما تُريدين قراءته عن كيمياء الجُزيئات الضخمة في الوقت الحالي. وأرجو أن تكوني قد وَجدتِ رسالتي مُثيرة لاهتمامك ولم تجديها مُمِلَّة إلى حدِّ النوم أثناء قراءتها. وإذا كانت لديك أي أسئلة أو اهتمام بمجموعتي البحثية، يُمكنك المرور على مكتبي في باسيفيك هول. وأتمنَّى أن تنتهي إلى قرار إجراء بعض الأبحاث الجامعية، إن لم يكن في مُختبري، ففي مُختبرٍ آخر؛ فثَمَّة الكثير من الفُرص البحثية الكُبرى هنا في جامعة كاليفورنيا في سان دييجو. وفي غضون ذلك، أتمنَّى أن يكون عامك الجامعي الثاني رائعًا وأن تُواصلي الأداء الجيد في دروس الكيمياء!
سيث كوهين
قراءات إضافية
-
Cram, D. J. The design of molecular hosts, guests, and their complexes (Nobel lecture). Angewandte Chemie International Edition in English 1988, 27, 1009–1020.
-
Eddaoudi, M.; Moler, D. B.; Li, H.; Chen, B.; Reineke, T. M.; O’Keeffe, M.; Yaghi, O. M. Modular chemistry: Secondary building units as a basis for the design of highly porous and robust metal–organic carboxylate frameworks. Accounts of Chemical Research 2001, 34, 319–330.
-
Fiedler, D.; Leung, D. H.; Bergman, R. G.; Raymond, K. N. Selective molecular recognition, C–H bond activation, and catalysis in nanoscale reaction vessels. Accounts of Chemical Research 2005, 38, 351–360.
-
Rebek, J. Jr. Reversible encapsulation and its consequences in solution. Accounts of Chemical Research 1999, 32, 278–286.