الفصل الثاني

استخدام الكمبيوتر: أسلوبٌ بديل في الكيمياء والأحياء

ديفيد إيه كيس
جامعة روتجرز

نشأ ديفيد كيس في أوهايو وأتم دراسته الجامعية في جامعة ولاية ميشيجن. حصل على دكتوراه الفلسفة في الفيزياء الكيميائية من جامعة هارفارد وشغل مناصب في هيئة التدريس في جامعة كاليفورنيا في دافيس ومعهد سكربيس للأبحاث، وجامعة روتجرز. يتمحور عمله حول محاكاة الديناميكا الجزيئية للبروتينات والأحماض النووية والكربوهيدرات وهو رئيس فريق تطوير التعليمات البرمجية لمجموعة برامج المحاكاة الحاسوبية «إيمبر» (انظر الموقع الإلكتروني http://ambermd.org/). تشمل اهتماماته البحثية الحالية تفسير نتائج الرنين المغناطيسي النووي على الجزيئات الحيوية، وتركيب الإنزيمات الفلزية وآلياتها، وتطوير نماذج المذيبات الكامنة لعمليات المحاكاة الكيميائية الحيوية. يتوافر مزيدٌ من التفاصيل على الموقع الإلكتروني http://casegroup.rutgers.edu.

عزيزتي أنجيلا

يؤسفني أنني لم تسنح لي فرصة الالتقاء بكِ بصفة شخصية، فقد اعتدتُ العيشَ في سان دييجو ولم أنتقل إلى نيوجيرسي إلا الخريف الماضي. ولكن قبل أن أبدأ حديثنا الجاد، دعيني أقول إنني مهتم بنهمك تجاه العلوم بصفة عامة وسأحاول الإجابة عن سؤالك بخصوص إن كانت النظرية والحوسبة أمرًا يجب أن تهتمي به. قد يكون عالَم الكيمياء النظرية والحاسوبية مختلفًا كثيرًا عن المختبرات التقليدية التي يربطها معظم الناس بالكيمياء. أعملُ في بيئة شبه مكتبية تتضمَّن شاشة كمبيوتر ومكتبًا فوضويًّا مبعثرًا ومجموعة من الكتب. أردت مثل عدد من زملائي أن أكون «باحثًا نظريًّا»، ويرجع ذلك في جزءٍ منه إلى أنني أستمتع بالعمل من خلال الكمبيوتر وفي جزءٍ آخر إلى أنني لم أكن أجيد العملَ مطلقًا في المختبرات الحقيقية. ما زلت أذكر بقوة نشوب حريق في مختبر الكيمياء العضوية تعالت ألسنته من منضدة المختبر إلى السقف (لحسن حظي، كان معي حينها زميلٌ يتسم برباطة جأش قوية مكَّنته من السيطرة على الحريق وإخماده).

ولكنَّ الأمر لا يتعلق فقط بالهروب إلى ما توفره بيئة المكتب من أمان نسبي. توفِّر الكيمياء النظرية، في أحسن حالاتها، نسقًا موحَّدًا للتفكير في الجزيئات وتفاعلاتها، وآلية للتقييم الصارم للتجارب. كما أنَّ إمكانية تصميم نموذج لأحداث كيميائية عند مستوًى ميكروسكوبي (ذرِّي) يُعد اختبارًا أساسيًّا ﻟ «الفهم الحقيقي» ومن الممكن أن يكون مسعًى فكريًّا عمليًّا ومُرْضيًا للغاية.

(١) لمحة تاريخية

في هذه النقطة، أودُّ أن أعرِّف بعض المصطلحات. الكيمياء النظرية والحاسوبية هي في الواقع فرعٌ من فروع الكيمياء الفيزيائية، وقد يكون من الصعب تقدير مدى جاذبيتها وجدواها حتى تسنح لكِ فرصة لدراسة الموضوع خلال عامك الدراسي. أذكر في سنوات دراستي الجامعية (في جامعة ولاية ميشيجن — منذ زمن طويل!) أنني كنت مندهشًا من الديناميكا الحرارية، ثم فُتِنتُ وأُلهمتُ بميكانيكا الكَمِّ والتحليل الطيفي. ربما تجدين العكس هو الصحيح، أو ربما لا تنجذبين كثيرًا تجاه أيٍّ من ذلك. ولكن، عليك التحلي بسعة الأفق؛ لأن معظم أجزاء الكيمياء لن تفهميها من المرة الأولى.

عندما كنت طالبًا جامعيًّا (نعم، كان لدينا أجهزة كمبيوتر ولكن كانت المساطر الحاسبة لا تزال مُستخدَمة)، كان مصطلح «الكيمياء النظرية» يعني «التركيب الإلكتروني للذرات والجزيئات». أنتِ تعرفين كثيرًا عن الشِّق الذري في هذا: حتى طلبة الكيمياء في المدارس الثانوية يعرفون المدارات s وp وd، وكيف أنَّ امتلاء أغلفة الإلكترونات يساعد في شرح آلية عمل الجدول الدوري. وتوفِّر ميكانيكا الكَمِّ (كما طُوِّرت من حوالي ١٩١٥ إلى ١٩٣٥) إطار عمل رياضي حقيقي يمكن من خلاله شرح أشكال المدارات في الذرات وطرق تكوين الروابط الكيميائية لإنشاء الجزيئات، والتنبؤ بها. وكما سترين خلال محاضراتك في العام القادم، يمكن حساب خصائص بعض الأنظمة البسيطة مثل ذرة الهيدروجين والمتذبذب التوافقي (نموذج بسيط لجزيءٍ ثنائي الذرة) حسابًا دقيقًا. وبالنسبة إلى الأنظمة الأكثر تعقيدًا (والمهمة)، فإننا نعرف المعادلات التي يجب حلها، ولكنها تقودنا إلى حلول تقريبية فحسب. ومع ذلك، فإنَّ وجود مثل هذه المعادلات فكرةٌ جيدة. في عام ١٩٢٩، أشار بول إيه إم ديراك، وهو أحد مخترعي ميكانيكا الكَمِّ، قائلًا: «وبذلك، فقد أصبحت قوانين الفيزياء الأساسية اللازمة للنظرية الرياضية … للكيمياء بأكملها معروفة تمامًا، وتكمن الصعوبة الوحيدة في أنَّ التطبيق الفعلي لهذه القوانين يقود إلى معادلاتٍ معقدة للغاية يستعصي حلُّها.» يُعرَّف تطبيق ميكانيكا الكَمِّ على التركيب الإلكتروني للجزيئات حاليًّا باسم «كيمياء الكَمِّ»، ولقد طُوِّرت بالفعل بعض طرق التقريب الفعَّالة لهذه المعادلات المعقَّدة. تنطوي كلُّ الطرق المفيدة على قدر كبير من العمليات الحسابية، والعلماءُ العاملون في هذا المجال تكون لديهم بالضرورة دراية كبيرة بالتحليل العددي والحوسبة العلمية الفعَّالة و«العالية الأداء». وفي الواقع، فإنَّ هذه العمليات الحسابية — في أدق تفاصيلها — هي فرعٌ من الرياضيات التطبيقية، ولكن التطبيقات العملية للاستخدام الحقيقي على الكيميائيين يعد روتينًا معروفًا أيضًا، على الأقل فيما يخص الجزء العلوي من الجدول الدوري.

تساعدنا كيمياء الكم كثيرًا في فهم آلية عمل الجزيئات ولكنها من الناحية العملية (وعلى النقيض مما ذكره مبدأ ديراك أعلاه) تتعامل فقط مع جزيء واحد أو عدد قليل من الجزيئات في آنٍ واحد، وقابلة للتطبيق بوجهٍ عام على أوضاع الحالة الغازية حيث قد تصطدم الجزيئات بعضها ببعض. معظم ظواهر الكيمياء، وجميع ظواهر الكيمياء الحيوية، تحدث في الطور المكثف (للمواد الصُّلبة أو السائلة) حيث تكون الجزيئات متقاربة بعضها من بعض وتتدافع باستمرار بعضها نحو بعض بسبب ما يحدث من ارتطاماتٍ وتصادمات بفِعل الحرارة. ويمكن أن نستخدم ميكانيكا الكَمِّ لتساعدنا في فهم ما يحدث عندما يقترب جزيئان أو ثلاثة أو أربعة بعضها من بعض، ولكن ثمة بعض المفاهيم الإضافية التي ينبغي التفكير فيها فيما يخص المواد الصُّلبة والسائلة؛ فقطرة الماء المتناهية الصغر تحتوي على ملياراتٍ من جزيئات الماء. وهنا ندخل مجالَي «المحاكاة» و«الميكانيكا الإحصائية» اللذين سأتناولهما بالشرح فيما بعد.

عندما نفكر في سوائل مثل الماء من الناحية الميكروسكوبية، فإنَّ مفهوم درجة الحرارة يصبح مهمًّا للغاية. فالطاقة الحرارية عند درجات الحرارة العادية هي التي تحافظ على جزيئات الماء في وضع حركة وتحول دون تحوُّلها إلى تركيب منتظم مثل الثلج. لوصف هذه الحالة في محاكاة حاسوبية، نُدخل آلافًا من جزيئات الماء المحيطة ببروتين في محاكاتنا، متتبعين حركاتها الحرارية وتفاعلاتها مع البروتين، باذلين أقصى ما في وسعنا لمحاكاة ما يحدث «في الواقع». ومن الأمور التي تمثِّل لغزًا كبيرًا وتحديًا بالنسبة إلى هذه الأنواع من المحاكاة إيجاد المتوسط الصحيح عبر كل هذه الإعدادات الميكروسكوبية للحصول على كميات الطاقة التي يمكن مقارنتها بالقياسات الديناميكية الحرارية. وتتيح الميكانيكا الإحصائية، وهي أحد فروع الكيمياء الفيزيائية، طريقة تفصيلية لكيفية القيام بذلك. ولكن من الصعب حساب كل المتوسطات المطلوبة، وتشيع الحسابات الواسعة النطاق كثيرًا في مجالنا. لعلك سمعتِ عن مشروع folding@home، إنَّه مشروعٌ يستعين بعشرات الآلاف من أجهزة الكمبيوتر من كل أنحاء العالم للتعاون في تصميم نماذج محاكاة لطي البروتين وغيرها من نماذج المحاكاة الكيميائية الحيوية.

(٢) المحاكاة الحاسوبية للسوائل

يتضمن الكثيرُ من الأحداث المهمة في الكيمياء الحيوية تفاعل البروتينات مع جزيئاتٍ أخرى؛ نظرًا لأن البروتينات تعمل كإنزيماتٍ (حفَّازاتٍ) لمعظم عمليات الأيض. وفيما يخص الكثير من هذه التفاعلات، لدينا معرفة كافية بالتركيبات والقوى المتضمَّنة عند المستوى الذري اللازم لتنفيذ محاكاة حاسوبية حقيقية، ويكون ذلك في الأساس من خلال تصميم حلول عددية للمعادلات الكلاسيكية للحركة تحت تأثير القوى التي تحاكي التفاعلات الجزيئية التفصيلية. وقد قادتنا التطورات الحديثة في إدراكنا لطبيعة التفاعلات الكيميائية في الأطوار المكثفة، مع تحسُّن القدرة على تنفيذ محاكاة حاسوبية حقيقية للجزيئات الكبيرة، إلى رؤى نظرية جديدة لمجموعة متنوعة من الأحداث الكيميائية الحيوية. واقترنت هذه الرؤى بتحسيناتٍ مقابلة في أساليب التجارب في الكشف عن وسائط التفاعل وكذلك في استخدام التكنولوجيا الحيوية الجديدة، مثل التطفير الموجَّه في الموقع، للتعامل مع البروتينات بطريق جديدة وفعَّالة.

لإعطائك لمحةً حول ما يحدث، سأخبرك قليلًا عن بعض المبادئ المتضمَّنة في المحاكاة الحاسوبية للبروتينات، مع عرض مثال مستقًى من ميوجلوبين البروتين المخزِّن للأكسجين. يتعلق المثال بالمعدل الذي يمكن به للجين صغير مثل الأكسجين أن ينتشر عبر البروتين ويكوِّن رابطة كيميائية مع ذرة حديد في مجموعة الهيم الضميمة. وتعد عمليات المحاكاة الكيميائية الحيوية هذه بمنزلة امتداد للطرق التي استُخدِمَت للسوائل البسيطة منذ أن أصبحت الحسابات الآلية متاحة بصفة عامة، وأصبح هناك كتب عديدة تقدم وصفًا جيدًا للأساليب والنتائج في هذا المجال.

في محاكاة الديناميكا الجزيئية، تكون المعادلات الكلاسيكية للحركة (التي وضعها نيوتن) للنظام موضع الاهتمام (مثل البوليمير الحيوي في محلول)، متكاملة عدديًّا. ومن خلال حل هذه المعادلات، يتم الحصول على المواقع الذرية والسرعات كدالة في الزمن ( تُمثِّل كتلة الجسيم وموقعه، و هي سطح الطاقة الكامنة، التي تعتمد على مواقع الجسيمات في النظام). ويسمح السجل الزمني أو مسار الذرات بحساب العديد من السمات المهمة فيما يتعلق بالتركيب والطاقة. يمكن تقسيم الخطوات الأساسية في الحل العددي للمعادلات الكلاسيكية للحركة إلى جزأين: تقدير الطاقات والقوى، وانتشار المواقع الذرية والسرعات. تتضمن دوال طاقة الجهد التجريبية للجزيئات الحيوية مصطلحات طاقة تُمثِّل الروابط الكيميائية (bonds)، والزوايا (angles)، والالتواءات (torsions) بالإضافة إلى الدوران حول الروابط والتفاعلات «غير المترابطة» (nonbonded pairs) بين الذرات البعيدة بعضها عن بعض في التركيب الكيميائي. ونظرًا لأن هذا النموذج الرياضي يشبه نموذجًا فيزيائيًّا تكون فيه الكرات (التي تُمثِّل الذرات) متصلة بخيوط مرنة (زنبركات)، فإنه غالبًا ما يُسمَّى جهد «الميكانيكا الجزيئية». وتكون الصيغة العامة لدالة الجهد أو الطاقة هذه كما يلي:
(2-1)
تُحدَّد الطاقة الأساسية للجزيئات عن طريق حركة النوى والإلكترونات التي يجب أن توصف بالميكانيكا الكمية. والحدود في المعادلة 2-1 عبارة عن نموذج تجريبي يعتمد على دوال بسيطة تعمل على تقريب التأثيرات المتوسطة لحركة الإلكترونات. ويشرح شكل ٢-١، الذي يعرض جزيء الفورماميد وتفاعله مع الماء، طبيعة بعض هذه التفاعلات. فتُرى الذرات المتجاورة كأنها مرتبطة بأسلاك زنبركية (الحد الأول للمعادلة 2-1)، مع مسافة اتزان، . والذرات المرتبطة بذرة مشتركة مثل H1–C–N ترتبط زوايا روابطها بأسلاك زنبركية مشابهة (الحد الثاني في المعادلة 2-1). وتوفر الحدود غير المتوافقة قوة مقيِّدة للحفاظ على رباعيات الذرات مثل H1, C, O, N أو C, N, H2, H3 في مستوًى واحد؛ وفي حال الاتزان، تقع جميع الذرات الست لجزيء الفورماميد في مستوى الشكل. وتصف حدود الالتواء في المعادلة 2-1 شرطًا يقيِّد الدوران حول روابط مثل رابطة C–N المركزية. وأخيرًا، تؤثر الحدود غير المترابطة على كل أزواج الذرات التي تربط الذرات في الجزيئات المختلفة، أو الذرات المنفصلة بأكثر من رابطتين في نفس الجزيء. توفر قيم معامل حجم للذرات، يضمن أن أي ذرتين لا يمكن أن تقترب إحداهما من الأخرى أكثر من اللازم، بينما تتفاعل الشحنات الجزئية بعضها مع بعض من خلال قانون كولوم (الحد الأخير للمعادلة 2-1). الشحنات الجزئية هي نموذج بسيط للتأثيرات الإلكتروستاتيكية (الكهربية الساكنة) في الكيمياء؛ فعلى سبيل المثال، يُمثَّل العزم الثنائي الأقطاب الجزيئي للماء هنا كشحنة سالبة جزئية مرتبطة مع ذرة الأكسجين وكشحنة موجبة جزئية لكل ذرة هيدروجين. وفي التكوين الموضح في شكل ٢-١ يوجد تفاعل جاذب بين الفورماميد والماء، ينشأ عن التفاعل الإلكتروستاتيكي الملائم بين الشحنة السالبة الجزئية على أكسجين الماء وشحنة موجبة جزئية على H3. وعند وجود العديد من جزيئات الماء، فإن وصفًا بسيطًا كهذا يوفر في الواقع نموذجًا جيدًا لخصائص الفورماميد في محلول مائي مخفَّف.
fig6
شكل ٢-١: تفاعل الفورماميد مع الماء.

بالنسبة إلى الحسابات الخاصة بالجزيئات الحيوية في الماء، عادةً ما يتكوَّن نظام المحاكاة من جزيء وحيد مذاب (مثل البروتين) وعدة آلاف من جزيئات المذيب بجواره. واتضح أنه لا يمكن الاكتفاء عمومًا بوضع مدارات قليلة من جزيئات الماء حول المذاب؛ وذلك لأن التوتر السطحي للسطح الفاصل الناتج لتلاقي الماء والفراغ يمكن أن يؤثر بدرجة ملحوظة على خواص النظام. وبدلًا من ذلك، يمكن تعديل هذه الشروط تحديدًا لمحاكاة تأثيرات المذيب المتبقي غير المتضمَّن صراحة، أو يمكن استخدام شروط محددة «دورية» يُضاعَف فيها النظام في ثلاثة أبعاد بحيث لا توجد أسطح فاصلة لتلاقي الماء والفراغ. ونظرًا لطبيعة التفاعلات الإلكتروستاتيكية على المدى الطويل، من الصعب وضع شروط محددة غير ضارة. ولا تزال مسألة تحديد الطريقة المثلى لإجراء عمليات المحاكاة المتعلقة بالتذاوب موضوع بحث مطروح.

وهكذا تكون الطاقة الداخلية دالة معقدة للتكوين الخاص بنظام عديد الذرات، يوفر فيه الانحدار (الميل)، بالنسبة إلى الأوضاع الديكارتية لكل ذرة، مجموعة القوة للحلول العددية لمعادلات نيوتن. أُجريت محاكاة الديناميكا الجزيئية الأولى للبروتينات في أواخر السبعينيات وشهدت الأيام الأولى تركيزًا على قياسات حركية سريعة (في مدى البيكوثانية والنانوثانية) يمكن مقارنتها مباشرةً بعمليات المحاكاة. وسرعان ما أدركت، على الرغم من ذلك، أنه بالإضافة إلى هذا السلوك المعتمد على الزمن، فإن الخصائص الإحصائية للتكوينات المستعرَضة حتى أثناء عمليات المحاكاة الوجيزة يمكن إيعازها إلى كميات حرارية ديناميكية (حركية) غير معتمدة على الزمن، كما سأناقش لاحقًا.

(٣) تقديرات مخططات الطاقة الحرة

تتضمن محاكاة الديناميكا الجزيئية تقديرات عددية لمسارات منفردة؛ أي حلولًا لمعادلات نيوتن عن الحركة وفقًا لشروط أولية معينة. في الكيمياء، بدأت هذه التقنية بدراسة تصادمات الحالة الغازية المنفردة؛ حيث يُستخدَم عدد كبير من المسارات لحساب متوسط الطاقة بوضوح بناءً على الشروط الأولية. ولكن بالنسبة إلى الجزيئات الضخمة أو محاكاة السوائل، فإن تردد التصادمات الذرية يصبح كبيرًا للغاية حتى إن عمليات المحاكاة غالبًا ما تبدو متكررة، مثل أن يَختبر مسارٌ واحد فضاءَ الطور بنفس توزيع الطاقة في عمليات المحاكاة المتعددة التي تتضمن نقاط بدء مختارة عشوائيًّا. وهذا يعني إمكانية استخدام محاكاة ديناميكية لاكتشاف فضاء الطور وإنشاء ارتباطاتٍ بعلم الديناميكا الحرارية وعلم الحركة الكلاسيكيَّين.

أتفهَّم أنكِ لم تدرسي علم الكيمياء الفيزيائية رسميًّا بعد؛ ومن ثمَّ، قد يبدو بعض هذه المفاهيم غريبًا لكِ. ولكني أود أن أوضح نوعًا من الحسابات الشائعة التي نُجريها، وفيها بعض من المفاهيم والعمليات الرياضية، لإعطائك لمحةً عما تعنيه «النظرية الكيميائية» على المستوى الذري. وإذا كان يستهويكِ التفكير في كيفية فهم ثوابت التوازن ومعدل التفاعل في أنظمة معقدة مثل السوائل على المستوى الجزيئي، فربما تجدين ضالتك إذن في الكيمياء النظرية. وعلى الجانب الآخر، إذا كان هذا كله يبدو تجريديًّا ورياضيًّا للغاية …

إن الأفكار الأساسية لهذا الربط بين الديناميكا والديناميكا الحرارية بسيطة للغاية. ولنفكر في مخطط طاقة وضع كالموضح تخطيطيًّا في الجزء الأيسر العلوي من شكل ٢-٢. إذا رُسم خط فاصل بين المنطقتين A وB، فإن ثابت التوازن لتحويل A بينيًّا إلى B يُحسَب ببساطة كجزء من الزمن الذي تستغرقه المحاكاة في المنطقة B مقسومًا على جزء الزمن المستغرق في المنطقة A، وفرق الطاقة الحرة بين هاتين الحالتين ( ) يتناسب مع لوغاريتم ثابت التوازن:
(2-2)
حيث هو ثابت بولتزمان، وT هي درجة الحرارة المطلقة. وما دام الحاجز بين المنطقتين كبيرًا بالنسبة إلى ، فإن المحاكاة سوف تستغرق زمنًا أقل بالقرب من الحاجز، ولن يتأثر فرق الطاقة الحرة المحسوب بالموقع الحقيقي للخط القاسم. وكمثال، ربما ترغبين في الاطلاع على عملية حسابية سابقة على ذلك ومؤثرة أجراها بيل جورجنسن وزملاؤه (انظري Jorgensen ١٩٨١ ضمن قسم «قراءات إضافية»)، الذي درس تأثير جوش على التصاوغ التحويلي للبيوتان في مذيبات مختلفة. وكانت محاكاتهم طويلة بما يكفي للسماح للنظام بعبور الحاجز بين المنطقتين عدة مرات بحيث يمكن تقدير الاحتمالية الإحصائية للوجود في إحدى المنطقتين أو الأخرى بدقة. وبالنسبة إلى الحواجز العليا، التي ربما لا تحدث فيها تلك الانتقالات تلقائيًّا على مقياس وقت ملائم للمحاكاة، يمكن استخدام بعض الأساليب لتسريع الانتقالات، كما سنناقش أدناه.
fig7
شكل ٢-٢: مخطط تمثيلي ذو تشكيلين لطاقة الوضع لنظام ديناميكي (أعلي اليسار). المبدأ العام لتقسيم الفضاء إلى وحداتٍ صغيرة للحصول على . سلسلة من طاقات وضع مظلية على شكل قطع مكافئ (اليمين)؛ يمكن استخدام U1U5 (في عملياتٍ حسابية منفصلة) لفرض أخذ عيناتٍ من جميع المناطق ذات الصلة في إحداثي التفاعل .
موضَّح في الجزء الأيسر السفلي من شكل ٢-٢ امتداد مباشر لتلك الفكرة؛ حيث يُستخدَم جزء الزمن المستغرق في كل منطقة صغيرة في إحداثي التفاعل استخدامًا لإنشاء مخطط احتمالية، ، ومنه جهد القوة المتوسطة W:
(2-3)

من المعروف عمومًا أن مدة المحاكاة يجب أن تكون أطول للحصول على نتائج متقاربة إحصائيًّا لجهد القوة المتوسطة عنها لفرق الطاقة الحرة؛ بما أن أزمنة البقاء الكسرية تُجمَع لكل فاصل زمني وجيز. وتكون مناطق الفضاء ذات الاحتمالات النسبية الصغيرة عُرضةً لأن تكون ذات جهود عسيرة التحديد للقوة المتوسطة.

تتمثل إحدى طرق التغلب على قيود أخذ العينات في مناطق الطاقة الحرة العالية في تعديل طاقة وضع النظام بإضافة جهد «مظلي» أو انحيازي يقلل طاقة الوضع للمناطق غير المواتية من الفراغ التشكيلي. لنفترض أن طاقة وضع النظام الصحيحة هي U ونفكر في إضافة جهد انحيازي . من الناحية العملية، غالبًا ما يكون قطعًا مكافئًا حول نقطة معينة، (انظري الجانب الأيمن من شكل ٢-٢)، ورُسِمَ مخطط كامل عبر عدة عمليات حسابية («نوافذ») بقيم مختلفة من . واتضح أن جهد القوة المتوسطة «الحقيقي» يمكن إعادة تكوينه بسهولة من الجهد الانحيازي؛ ويعد هذا النوع من المعالجة غير الفيزيائية للطاقة أداةً شائعة وفعالة في عمليات محاكاة الجزيئات الحيوية.

(٤) العلاقة بالتغيرات التشكيلية في البروتينات

يمكن استخدام مخططات الطاقة الحرة هذه مع أفكار من نظرية الحالة الانتقالية لفهم مجموعة متنوعة من الأحداث الحركية (معدلات التفاعلات) في الكيمياء الحيوية، على كل من المستويين الكيفي والكمي. وطبقًا لنموذج الحالة الانتقالية TST، فإن تقدير المعدل الذي تعبر عنده الأنظمة الحاجز بين المناطق يعتمد بصفة أساسية على ارتفاع الحاجز ويمكن حسابه كالتالي:
(2-4)
هنا، ثابت معدل التفاعل هو حاصل ضرب متوسط سرعة عبور سطح الحالة الانتقالية، ، في احتمالية الوجود على ذلك السطح. ولا تعتمد هذه الكمية الأخيرة على احتمالية الوجود عند الحالة الانتقالية (بالقرب من قمة الحاجز الذي يفصل المتفاعلات عن النواتج) فحسب، وإنما تعتمد أيضًا على «عرض» منطقة المتفاعل: بالنسبة إلى المناطق الأكثر عرضًا، المتمم في مقام المعادلة 2-4 سيكون أكبر وثابت المعدل سيكون أصغر. ويمكن حساب السرعات المتوسطة من نظريات عديدة أو من محاكاة ديناميكية مباشرةً. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن إجراء تصحيحات مستقاة من المحاكاة الديناميكية على تقدير نظرية الحالة الانتقالية المعطاة في المعادلة 2-4، ولكن هذه الاعتبارات لن أتطرق إليها في هذه الرسالة.

(٥) ارتباط اللجين بالميوجلوبين

من أبسط وأفضل ما دُرس من أحداث ارتباط اللجين، ذلك الحدث الخاص بجزيئات ثنائية الذرة صغيرة مثل جزيء الأكسجين وارتباطه بالبروتينَين المخزنَين والناقلَين للأكسجين: الميوجلوبين والهيموجلوبين. وأسباب بساطته واضحة: للجين درجات داخلية قليلة من الحرية، وتتضمن الكيمياء التكوين العكسي لرابطة بذرة حديد في مجموعة البورفيرينات الصميمة. وعلاوة على ذلك، يمكن دراسة عملية ارتباط اللجين بتحليل زمني غير متوافق عن طريق استخدام نبضات ليزر قصيرة للتكسير الضوئي للحالات المرتبطة متبوعًا بمسابير رامان الضوئية أو الرنينية لقياس الزمن المستغرق في عملية إعادة الارتباط. قدم هذا النوع من التجارب أدلة على طبيعة عملية إعادة الارتباط بدءًا من نظام ما دون البيكو ثانية وحتى الثانية وما بعد ذلك.

ولكن، أسفل هذه البساطة الظاهرية، توجد مجموعة ثرية من التفاصيل المعقدة حول الأحداث الميكروسكوبية المتضمنة. استخدمت بعض الدراسات الأولى لتحديد المركبات الوسيطة درجات حرارة منخفضة للإبطاء من عملية إعادة الارتباط بما يكفي لتتبُّع حركيتها بعد نبضات الليزر المقيسة بالميكروثانية. عند درجات الحرارة المنخفضة للغاية (٢٠–١٤٠ كلفن)، يكون زمن إعادة الارتباط غير مطرد، بما يقارب أحد قوانين القوة. ويمكن تمثيل هذا بافتراض توزيع طاقات التنشيط الناشئة عن تشكيلات مختلفة ميكروسكوبيًّا من البروتين، تنفصل عند درجات الحرارة هذه. وعند درجات الحرارة العالية، يصبح التحول بين هذه الحالات الصغيرة سريعًا ظاهريًّا بالنسبة إلى عملية إعادة الارتباط، حتى إن إعادة الارتباط المطرد تُلاحظ مجددًا، ولكن مع وجود أدلة على وسيطات حركية عديدة. في هذا النموذج، بالنسبة إلى درجات الحرارة الأعلى من ١٤٠ كلفن تقريبًا (التي يكون عندها التحول البيني بين «الحالات الصغيرة» للبروتين سريعًا نسبيًّا)، يمكن تمثيل زمن إعادة الارتباط بواسطة مخطط حركي يتضمن وسيطة واحدة أو أكثر بين الحالة المرتبطة وتلك التي انفصل فيها اللجين بعيدًا عن البروتين. تُوصِّل إلى نفس النموذج العام، مع معاملات حركية مشابهة، من قياسات درجة الحرارة العادية.

لا يكشف التركيب البلوري للميوجلوبين باستخدام الأشعة السينية (انظري شكل ٢-٣) أي مسار يمكن بواسطته أن تتحرك لجينات مثل الأكسجين بين موضع ارتباط الهيم والجزء الخارجي من البروتين؛ ولذلك، لا بد من حدوث تغيرات تركيبية أثناء دخول اللجينات وخروجها. تُظهر الحسابات التجريبية لدالة الطاقة أن البروتين القوي تكون له حواجز على غرار ١٠٠ كيلوكالوري/مول؛ وتلك الحواجز العالية من شأنها أن تجعل الانتقالات طويلة بشكل لا نهائي على مقياس الزمن الحيوي. يتراوح أقصر مسار للجين من مجموعة الهيم إلى الخارج بين His E7 وVal E11؛ ومن ثَمَّ من المهم دراسة طاقة تخفيف الحواجز لتحديد كيفية انفصال اللجين بطاقة تنشيط معقولة. وتسمح عمليات التدوير ثنائية السطح الموضعية للسلاسل الجانبية الأساسية بفتح المجموعة على حساب جهد طفيف في البروتين بفِعل عمليات التدوير القوية للسلاسل الجانبية His E7 وVal E11 وThr E10.
fig8
شكل ٢-٣: تركيب الميوجلوبين باستخدام الأشعة السينية (الجانب الأيسر). تظهر الأجزاء الحلزونية كأشرطة، ومجموعة الهيم بوصفها كرات وعصيًّا (الجانب الأوسط الأيسر). تقع مجموعة ارتباط الأكسجين فوق مركز مجموعة الهيم مباشرةً. وتظهر يمينًا شريحة عبر البروتين، موازية لذرة الحديد عند مركز مجموعة الهيم. توجد ذرة الحديد عند نقطة الأصل الخاصة بالنظام الإحداثي، ويقع المستوى الموضح عند . يوضح السهم مسار انتقال جزيء الأكسجين من داخل البروتين (عند ذيل السهم) إلى المحلول (عند رأس السهم). تظهر منطقة الحالة الانتقالية كتقاطعات بين كلٍّ من E7 وE11.
أجريت حسابات الحالة الانتقالية بأسلوب أخذ العينات الشامل لتقدير طاقة هذه العملية. وبدأت هذه الدراسة بتحديد إحداثي التفاعل على أنه المسافة العمودية من مركز لجين ثنائي الأكسجين إلى المستوى المحدَّد بثلاث ذرات من البروتين؛ ولاكتشاف المسار الموضح في شكل ٢-٣، اختيرت هذه الذرات بحيث كان المستوى الفاصل بين «الداخل» و«الخارج» عموديًّا على مستوى الشكل ويمر خلال السلاسل الجانبية لكل من Val E11 وHis E7. وقدَّرت عمليات المحاكاة بعد ذلك توزيع التوازن بإضافة سلسلة من الجهود الشاملة لتوجيه عمليات المحاكاة نحو مناطق الطاقة العالية؛ أي تجاه المسار الضيق للحيلولة دون انفصال اللجين من مجموعة الهيم. وبما أن توزيعات الجهود الشاملة العديدة تتداخل، فمن الممكن ربطها معًا لتكوين دالة مستمرة. ووُجدَ أن قيمة حاجز الطاقة الحرة للانفصال تبلغ تقريبًا ٦٫٥ كيلوكالوري/مول، وهو ما يضاهي ثابت معدل مقداره ٤ × ١٠٧/ثانية، الذي يكون ضمن عامل ٤ للقيم التجريبية المحدَّدة بواسطة قياسات درجة الحرارة العادية الموضَّحة أعلاه.

عند تحديد موضع الحاجز في مخطط الطاقة الحرة للتفاعل، يمكن معاينة المسارات ببدء نظام البروتين واللجين عند قمة الحاجز وبالدمج العددي لمعادلات نيوتن للحركة في زمن متقدم أو متأخر. ويوفر هذا وصفًا ميكروسكوبيًّا مفصلًا للعوامل التي تبطئ معدل الانفصال من حد علوي مُتحكم فيه عن طريق الانتشار إلى القيم الملاحظة تجريبيًّا. ويمكن أيضًا تنفيذ عمليات المحاكاة كدالة درجة حرارة ومقارنة النتائج بالتجربة.

أُجري البحث الأصلي منذ ٢٠ عامًا، ولكن اتضح أنه مسألة «متجددة الطرح»، وموضوع تم تناوله مرارًا وتكرارًا؛ يوجد ملخص جيد في مقال The Proceeding of the National Academy of Sciences of the Untied State of America 2008 الوراد ضمن قسم «قراءات إضافية». ثمة طرق أخرى عديدة لدخول البروتين والخروج منه، ويمكن لجزيئات صغيرة مثل الأكسجين الانتشار إلى أماكن عديدة والاستفادة من المسارات المتعددة. كما يوجد الكثير من الطرق الحسابية لانتقاد هذه المسألة والطعن فيها، وهو ما يعد جزءًا من الأسباب التي جعلت الكثيرين يرون هذا المجال على أنه مجال بحثي مُرضٍ: الأشياء في تغير مستمر، حتى لو كان المرء يفكر في أهم الجوانب الأساسية لتركيب البروتين ووظيفته.

(٦) ماذا بعد؟

حسنًا، أسهبت في الحديث وتحدثت بصورة فنية متخصصة بما يكفي. إذا كان ما شرحته يثير اهتمامك، وإذا كنت تستمتعين بالرياضيات والتعامل مع الكمبيوتر، فعليكِ التجربة. يمكنكِ إنجاز العديد من الأشياء باستخدام الكمبيوتر، حتى لو كنتِ بمفردك، ولا تحتاجين إلى مختبر «تقليدي». وأقترح أن تبدئي ببرنامج تصوير مثل Visual Molecular Dynamics (VMD) (http://www.ks.uiuc.edu/Research/vmd/) أو Chimera (http://www.cgl.ucsf.edu/chimera/). يمكنكِ تنزيلهما على كمبيوتر شخصي أو كمبيوتر يعمل بنظام التشغيل Mac، وكلٌّ منهما يتضمن برامج تعليمية متميزة تضعك على بداية الطريق. ولمعرفة المزيد، ابحثي عن فرص بحثية للطلاب، ليس فقط في المجموعات النظرية الموجودة في قسمك، ولكن في المختبرات التجريبية كذلك. تُستخدم الأساليب الموضحة هنا على نطاق واسع، ولا تقتصر فقط على النظريين. ستتعلمين الكثير، حتى إذا لم تتخصصي في هذا المجال.
مع خالص تحياتي
ديف كيس

قراءات إضافية

  • Case, D. A.; Karplus, M. Dynamics of ligand binding to heme proteins. Journal of Molecular Biology 1979, 132, 343–368.
  • Harvey, S.; McCammon, J. A. Dynamics of Proteins and Nucleic Acids, Cambridge University Press, Cambridge, 1987.
  • Jorgensen, W. L.; Binning, R. C. Jr; Bigot, B. Structures and properties of organic liquids: n-butane and 1,2-dichloroethane and their conformational equilibria. Journal of the American Chemical Society 1981, 103, 4393–4399.
  • Ruscio, J. Z.; Kumar, D.; Shukla, M.; Prisant, M. G.; Murali, T. M.; Onufriev, A. V. Atomic level computational identification of ligand migration pathways between solvent and binding site in myoglobin. Proceedings of the National Academy of Sciences of the United States of America 2008, 105, 9204–9209.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤