التخدير: لا تنسَي الكيمياء التي تعلمتِها
جوناثان إل سسلر
جامعة تكساس في أوستن
دانيال آي سسلر
مستشفى كليفلاند كلينك
البروفيسور جوناثان إل سسلر حصل على درجة البكالوريوس في الكيمياء عام ١٩٧٧ من جامعة كاليفورنيا، ببيركلي. وحصل على درجة الدكتوراه في الكيمياء العضوية من جامعة ستانفورد عام ١٩٨٢ بالتعاون مع البروفيسور جيمس بي كولمان. وكان زميل ما بعد الدكتوراه في برنامج زمالة مؤسسة العلوم الوطنية والمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، ومؤسسة العلوم الوطنية ومنظمة حلف شمال الأطلنطي، أولًا مع البروفيسور جان-ماري لين في ستراسبورج بفرنسا وبعد ذلك مع البروفيسور إيواو تابوش في كيوتو، اليابان. وفي سبتمبر ١٩٨٤، شغل وظيفة أستاذ مساعد للكيمياء في جامعة تكساس في أوستن؛ حيث يشغل حاليًّا كرسي رولاند كيه بيتيت. وضع البروفيسور سسلر، أو شارك في وضع، ما يزيد عن ٥٠٠ بحث وألَّف كتابَين (مع د. ستيفن جيه ويجهورن والدكتورين فيليب إيه جايل ووون-سيوب تشو، على التوالي). وهو أيضًا صاحب أكثر من ٧٥ براءة اختراع صادرة من الولايات المتحدة. وقد شارك في تأسيس شركتين، فارماسايكليكس المحدودة، وآنيونيكس المحدودة، وتنظيم مؤتمرات دولية عديدة عن البورفيرينات والكيمياء فوق الجزيئية وكيمياء الجزيئات الحلقية الكبيرة. وبالإضافة إلى الإنجليزية، يتحدث الفرنسية، والإسبانية، والألمانية والعبرية، ويمكن أن يفهم اليابانية والإيطالية، ويدرس الكورية.
درس دانيال آي سسلر بكلية الطب في جامعة كولومبيا، وأتم برنامجَي إقامة في طب الأطفال والتخدير في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس. وهو الآن أستاذ كرسي في قسم بحث النتائج في مستشفى كليفلاند كلينك. وتشمل جمعية بحث النتائج التي أسسها د. سسلر ١٠٠ باحث في ١٠ دول. وهي تنسق حاليًّا أكثر من ١٠٠ دراسة تشمل ١٢ تجربة نتائج كبيرة متعددة المراكز. وقد نشر د. سسلر كتابًا عن الخفض العلاجي لدرجة حرارة الجسم، وأكثر من ٤٢٥ ورقة بحثية كاملة. ودرَّب ٧٠ زميلًا بحثيًّا، أربعة منهم ترأَّسوا أقسام تخدير. ومن ضمن الجوائز التي حصل عليها: زمالة فولبرايت وجائزة التميز في البحث من الجمعية الأمريكية للتخدير في ٢٠٠٢.
مرحبًا أنجيلا
أنا عائد لتوِّي من زيارة لأخي، دانيال آي سسلر. وهو أستاذ كرسي تخدير في قسم بحث النتائج في مستشفى كليفلاند كلينك في أوهايو. أنتِ لا تتذكرينه، لكنه يتذكركِ؛ فمن عدة سنين مضت عندما كان عمركِ ٧ سنوات، ربما تتذكرين أنكِ نُقلتِ على عجلٍ إلى جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس للخضوع لعملية عاجلة لاستئصال الزائدة الدودية. إذا كنت تتذكرين ذلك، فربما تتذكرين الرعاية الكبيرة التي أدت إلى شفائك، وبالنظر إلى الأمر، فربما تعتقدين أن الجراحة مخيفة ولكنها روتينية في الأساس. لكن في واقع الأمر، لقد كنتِ على وشك الموت.
كان أخي طبيب تخدير مقيمًا في تلك الجامعة في ذاك الوقت، وهو يتذكر حالتكِ لأنك واجهتِ مضاعفات نادرة وخطيرة. إنكِ معنا اليوم لأنه بسرعة ودقة شخَّص حالتك وقدَّم العلاج المناسب. وبما أنكِ تدرسين الآن الكيمياء العضوية وتبدئين في التفكير في خياراتك المهنية، فأنا متأكد أنكِ ستجدين من الشائق التفكير في كيف أن هذا التشخيص — وفي الحقيقة، جانب كبير جدًّا من علم التخدير الحديث — يعتمد على فهمٍ تفصيلي للكيمياء، وتقدير ذلك. يوجد أيضًا، مع ذلك، جوانب عديدة من التخدير بعيدة تمامًا عن الفهم الجيد. وهناك فرص للبحث المستقبلي. آمل أن تضعيها في الاعتبار بينما تسعَين لتطوير مهاراتك بوصفك كيميائية. والآن، دعينا نناقش ما حدث أثناء تخديرك، وهو يُعَد مثالًا رائعًا لتلخيص التقدم الذي وصل إليه هذا المجال الساحر. وسوف يسمح ذلك أيضًا لأخي بتوضيح كيف أن الفضل يرجع إلى الكيمياء في أنكِ ما زلت على قيد الحياة حتى الآن.
عندما أتيتِ للخضوع للجراحة، لم تكوني تعرفين أنك كنت على وشك الدخول في أقل ما يمكن وصفه بأنه مغامرة كيميائية كبيرة. يمكن القول إن جسم الإنسان هو أكثر نظام كيميائي معروف لدينا تعقيدًا. إن كل العقاقير تقريبًا، وفيها عقاقير التخدير، تعمل عن طريق تعديل كيمياء أجسامنا. في حالات كثيرة، الآليات الأساسية لذلك تكون مفهومة جيدًا وتشمل تنشيطًا أو تثبيطًا محددًا لعملية بيولوجية رئيسية؛ لكن في حالات كثيرة أخرى، لا يكون الأمر كذلك. إن أحد أعظم التحديات في تطوير العقاقير، والتي يمكن للكيميائيين أن يكون لهم تأثير فيها، هو فهم كيف تعمل العقاقير المعروفة؛ الأمر الذي يمكن بدوره أن يضع الأساس لتصميم عقاقير أفضل. (في بقية هذا الرسالة، سنستخدم التعريف التقليدي للعقَّار والمتمثل في كونه أي مادة عندما تُحقن في فأر تجارب، تنتج ورقة علمية!) إن أحد التوجهات المهمة في هذا الشأن يتضمن فهم كيف ترتبط تغييرات محددة في التركيب بمعاملات أساسية مثل الفاعلية، والسُّمِّية ومعدلات التصفية، وهكذا؛ لأن هذا يوفر غالبًا أساسًا لتحسين فئة معينة من العوامل للاستخدام الإكلينيكي. وهذا المبدأ مُمثل بنحو جيد في التخدير الذي تلقيتِه وأنتِ في السابعة من عمرك.
يمكن تقسيم التخدير بصورةٍ عامة إلى تخدير موضعي وتخدير عام، وفئة التخدير العام يمكن تقسيمها إلى تخدير وريدي واستنشاقي. ومكونات التخدير العام هي «التنويم» (فقد الوعي) وتسكين الألم (فقدان الإحساس بالألم) والتحكم في المنعكسات مثل نبض القلب وضغط الدم وارتخاء العضلات (وذلك لمنع المريض من الاستيقاظ والذهاب إلى المنزل في وسط الجراحة). لقد أُعطيتِ عقَّارًا من كل فئة من التخدير، كلٌّ لغرض محدد. وهذه الرعاية والتخطيط أمران أساسيان في أي علاج طبي حديث ومفتاحان لجعل أي جراحة ناجحة. ومع ذلك، فإن اختيار وإعطاء التخدير أمر صعب للغاية. إن الناس في الغالب يقلقون من الجراحة؛ لكن الأخطار المرتبطة بالتخدير تزيد غالبًا عن تلك المتعلقة بالجراحة. وهذا صحيح بنحوٍ خاص فيما يُسمَّى بالجراحات البسيطة. وكما ستوضح قصتكِ، لا يوجد ما يُسمَّى بالتخدير البسيط.
(١) التخدير الموضعي
للحفاظ على القابلية للذوبان، ولأنه يوفر الشكل البروتوني النشط، يُعطى الليدوكايين في شكل ملح الهيدروكلوريد منه. من المثير للاهتمام أن الكوكايين عندما يُستخدم كمخدر موضعي، فإنه يُعطى أيضًا في شكل ملح الهيدروكلوريد منه. إن هذا الشكل هو الذي ينتج التخدير الموضعي ويمنع الإحساس بالألم، كما هي الحال مع الليدوكايين. وبما أنه ملح، فإن هذا الشكل من الكوكايين يكون له قابلية كبيرة للذوبان في الماء. وهذه النوعية من المركبات، التي يصفها الكيمائيون بأنها «محبة للماء» (أيْ «قابلة للذوبان في الماء») أو «كارهة للدهون» (أيْ غير قابلة للذوبان في الدهون)، لا تَعبر ما يُسمَّى بالحاجز الدموي الدماغي بسهولة. (جدير بالذكر هنا أن «كره الماء» مصطلح تُوصف به المركبات القابلة للذوبان في المواد العضوية وليس في الماء. وهو يُستخدم كمرادف لمصطلح «حب الدهون»؛ أي، القابلية للذوبان في الدهون. أما مصطلح «كره الدهون»، المرادف على نحوٍ عام لمصطلح «حب الماء»، فتُوصف به المركبات القابلة للذوبان في الماء.) إن هذا الحاجز يتكون من طبقة من خلايا بها دهون لها موصلات محكمة تحمي الدماغ بمنع الدخول السريع لمواد قابلة للذوبان في الماء. على العكس، يمكن لجزيئات صغيرة محبة للدهون (أي، قابلة للذوبان في المواد العضوية) أن تعبر الحاجز الكاره للماء المنشأ من قبل هذه المجموعة من الخلايا بسهولة.
إن التوازن بين كُره الماء وكره الدهون مسألة مهمة في عملية تطوير العقاقير. وهو مهم على نحوٍ خاص في تطوير واستخدام عقاقير التخدير. وفي حالة عقاقير التخدير الموضعي، حُب الماء الزائد يسرع بداية عملية منع الألم لأن العقَّار يتحرك بسرعة عبر السائل الخارج الخلوي، الذي يكون معظمه ماءً. لكن فترة سريان المفعول تكون قصيرة نسبيًّا؛ لأن العقَّار يرتبط على نحوٍ ضعيف بالأنسجة العصبية المحبة للدهون. وفي حالتكِ، اختار دان عقَّار الليدوكايين المحب للماء نسبيًّا (مثل ملح الهيدروكلوريد خاصته) لأن مفعوله يسري بسرعة ويستمر لفترة قصيرة، وهو الأمر الذي كنتِ تحتاجينه.
إن التوازن بين كُره الماء وحب الماء يحدد أيضًا الخواص الإكلينيكية للمسكنات الأفيونية، وهي المركبات التي تقلل الألم بدون تقليل الوعي «كثيرًا». إن عشرات المواد الأفيونية تُستخدم روتينيًّا في العلاج الإكلينيكي، ومن أسباب توافر الكثير منها هو أنها تمتلك أزمنة بداية سريان مفعول وفترات سريان مفعول مختلفة، وهذا يسمح للأطباء باختيار الأفضل منها لكل حالة. إن معظم العقاقير الأفيونية تتفاعل مع نوع واحد من المستقبِلات، مستقبِل µ الأفيوني وهو، مثل معظم المكونات الخلوية، محب للدهون؛ ومن ثَمَّ فإن المحدد الأساسي لزمن بداية سريان المفعول هو حب الدهون، تمامًا كما هي الحال مع عقاقير التخدير الموضعي والعقاقير المضادة للاتهاب غير الاستيرويدية.
(٢) أجهزة المتابعة
إن الهيموجلوبين (الذي يُعَد حامل الأكسجين في الدم الشرياني) يكون عامةً مشبعًا بالكامل تقريبًا عندما يتنفس الناس الأصحاء هواءً تحت ظروف عادية من الحرارة والضغط (أي، قرب مستوى سطح البحر). إن التشبع المنخفض يشير إلى أن هناك مشكلة كبيرة. ولسوء الحظ، مقياس التأكسد النبضي ليس مقياسًا يمكن الاعتماد عليه بالكامل فيما يتعلق بعملية التنفس؛ فعلى سبيل المثال، يمكن أن يكون لدى المريض ضغط جزئي زائد من ثاني أكسيد الكربون في الدم الشرياني وما زال يمتلك تشبعًا أكسجينيًّا كاملًا، خاصةً عندما يحصل على أكسجين إضافي. كما لا يستطيع هذا المقياس أيضًا إعطاء مؤشر عن وجود تسمم بأول أكسيد الكربون. (تجدر الإشارة إلى أن ضحايا استنشاق الدخان يحصلون غالبًا على تركيزات عالية من أول أكسيد الكربون والتي يمكن أن تكون مميتة لأن أول أكسيد الكربون يرتبط تقريبًا على نحوٍ لا يمكن عكسه مع الهيموجلوبين، مانعًا الأكسجين من الارتباط به. ومع ذلك، أول أكسيد الكربون موجود في نَفَس المرضى الأصحاء لأنه يتكون بكميات صغيرة من التكسير (الأيض الهدمي) الطبيعي للهيم، وهي مجموعة ضميمة لبورفيرين الحديد في الهيموجلوبين. ويمكن أن يتكون أول أكسيد الكربون أثناء التخدير من التكسير غير المرغوب لبعض عقاقير التخدير الاستنشاقية في عملية احتجاز ثاني أكسيد الكربون التي سنناقشها هنا باستفاضة. ورغم خطورة هذه المضاعفة الأخيرة، فيمكن تجنبها من خلال الاختبار المناسب لعقَّار التخدير، ومعدلات التدفق، والأكثر أهمية عدم ترك جهاز امتصاص ثاني أكسيد الكربون حتى يجف.) ويرجع هذا إلى أن شكلَي الهيموجلوبين المرتبَطين مع أول أكسيد الكربون والأكسجين الجزيئي يتميزان بلون أحمر فاتح متماثل. وغنيٌّ عن البيان أن هذه أمور يجب أن يضعها أطباء التخدير في الاعتبار!
عند إجراء التخدير، ليس من المهم متابعة مستوى ثاني أكسيد الكربون فقط، ولكن التخلص منه أيضًا. وذلك لأن الزفير الخارج من المريض، والذي يحتوي عقَّار التخدير المعطى وثاني أكسيد الكربون وهكذا، يعاد تدويره (مع إضافة أكسجين عند الضرورة) عبر دائرة مغلقة أو شبه مغلقة. يتم ذلك في الغالب لأسباب تتعلق بالتكلفة؛ إذ بينما توجد عقاقير تخدير قليلة مثل أكسيد النيتروز (الذي سنناقشه بعد قليل) رخيصة، فإن معظم عقاقير التخدير الاستنشاقية الفعالة غالية الثمن. وهي أيضًا غازات «دفيئة». وأخيرًا، طاقم العاملين بغرفة العمليات لا يريدون تنفس تركيزات منخفضة من مخلفات عقاقير التخدير أثناء العمل طوال اليوم.
أطباء التخدير يدركون أن التفاعلات الحمضية-القاعدية البسيطة طاردة للحرارة بشدة. ومن ثَمَّ فإن نظام التخدير الذي يعمل على نحوٍ جيد يكون دافئًا عند لمسه.
يُستخدم نظام غسل ثاني أكسيد كربون مماثل في الغواصات لأنها سوف ينفد منها الأكسجين بسرعة إذا كان من الضروري أن نتخلص من الهواء فقط للتخلص من ثاني أكسيد الكربون. علاوة على ذلك، إن إطلاق كميات كبيرة من الغاز باستمرار يمكن أن يكشف عن مكان الغواصة! في الغواصات وأثناء التخدير، من المهم أن نتأكد من عدم تجاوز سعة أجهزة غسل ثاني أكسيد الكربون. وللمساعدة في تجنب هذا الحدث المهدِّد للحياة، يضاف مؤشر حمضي قاعدي إلى القاع يعطي إنذارًا مرئيًّا عندما تكون سعة الأجهزة على وشك التجاوز. (وهذا يُجدي لأن ثاني أكسيد الكربون، كما تلاحظ في المعادلة، هو الشكل اللامائي من حمض الكربونيك؛ وهكذا، عندما يتم تخطي سعة جهاز الغسل، يقل الأس الهيدروجيني.)
(٣) الغازات
الثيوبنتال هو أحد مشتقات حمض الباربيتيورك، الذي هو عبارة عن فئة كبيرة من المركبات التي تحتوي على لب بيريميدين (كما هو موجود في الأحماض النووية مثل السايتوسين، والثيميدين واليوراسيل). وقد اكتُشف هذا الحمض بواسطة الكيميائي الألماني أدولف فون باير في ٤ ديسمبر من عام ١٨٦٤ — عيد القديسة باربرا ومن هنا، جاء اسم العقَّار — وحُضر باتحاد اليوريا مع حمض المالونيك (انظري المخطط ٤-١). وعلى الرغم من أن حمض الباربيتيورك نفسه ليس نشطًا فسيولوجيًّا، فهذا لا ينطبق على كثير من مشتقاته (التي تحضيرها عامةً سهل). إن الفينوباربيتال، عل سبيل المثال، له خواص مسكنة ومهدئة. ومع ذلك، حل محله على نحوٍ كبير عقاقير أكثر أمانًا من نوع البنزوديازيبين (على سبيل المثال، الفاليوم). وفي الوقت نفسه، يُؤخذ ثيوبنتال الصوديوم، وهو العقَّار الذي أخذتِه، بجرعات منخفضة كمصلٍ يُعرف باسم مصل الحقيقة. والنظرية تقول إنه في الجرعة الصحيحة، سوف يثبط أجزاء الدماغ التي توفر تحكمًا عالي المستوى مع الاحتفاظ بالوعي والذاكرة. وعلى الرغم من انتشار استخدامه في أفلام التجسس، إلا أنه لا يوجد أي دليل على الإطلاق على أنه يعمل بنحو أفضل من تناول كأسين من مشروب المارتيني!
نظرًا لأن الهالوثان كان يجب أن يُعطى لاستمرار تخديركِ، ربما تسألين لماذا لم يبدأ دان به. لماذا أزعج نفسه بوضع قسطرة وريدية وأعطى من خلالها عقَّار الثيوبنتال؟ أولًا: إن معظم عقاقير التخدير الاستنشاقية، شاملة الهالوثان، لها رائحة كريهة. وهي من ثَمَّ تكون مزعجة للمرضى الذين لم يكونوا قد فقدوا الوعي بحصولهم على عقَّار تخدير وريدي. ثانيًا: إن عقَّار التخدير الاستنشاقي يستغرق ما يصل إلى ١٥ دقيقة لإحداث فقدان عميق بما فيه الكفاية للوعي عند أخذه بمفرده؛ وهذا وقت انتظار طويل جدًّا في غرف العمليات الحديثة، والتي يجري فيها العمل بوتيرة سريعة. التوجه القياسي إذن هو أن نبدأ بحقن عقَّار تخدير وريدي ثم نتحول إلى آخر استنشاقي.
لا تؤثر القابلية للذوبان في الزيت فقط على الفاعلية؛ فكما هي الحال مع العديد من العقاقير الأخرى، يحدد حب الدهون سرعة تأثير وفترة سريان مفعول عقاقير التخدير الاستنشاقية. فكلما زادت قابلية ذوبان الغاز في الزيت، تزداد سرعة التأثير وفترة سريان المفعول. والسبب هو أن عقاقير التخدير القابلة للذوبان في الدهون تُمتَص على نحوٍ أفضل فيها. لا تسبب الغازات أي تأثير فسيولوجي في الدهون ولكن تعمل الدهون كمخزن للعقاقير، التي تتزن بعد ذلك مع بقية الجسم بعد توقف إعطاء عقَّار التخدير، مما يمنع التركيز في الدماغ من النقصان بالسرعة المعتادة. وتكون كمية عقَّار التخدير الباقية في الجسم، على نحوٍ غير مدهش، أكبر مع عقاقير القابلة للذوبان في الدهون؛ إذن تكون فترة سريان مفعولها أطول.
الأثير، كعقَّار تخدير، كان له عيبان خطيران. العيب الأول هو أنه كان قابلًا للذوبان بشدة في الدهون حتى إن إحداث التخدير الجراحي كان يأخذ نصف ساعة على الأقل، والإفاقة كانت تأخذ ساعات طويلة، اعتمادًا على مدة الجراحة. بالطبع، كان لا يزال الأثير أفضل كثيرًا من البديل المتمثل في عدم وجود أي تخدير على الإطلاق! ولكن كان العيب الأكثر خطورة أنه كان سريع الاشتعال بشدة، وقابليته للاشتعال تتعزز بحقيقة أنه كان يُخلط بالأكسجين لأن المرضى الخاضعين للتخدير يتنفسون بصعوبة. فأصغر شرارة يمكن أن تُشعل الأثير؛ والانفجار الناتج كان مميتًا دائمًا للمريض، وغالبًا للآخرين داخل غرفة العمليات. ومن ثَمَّ توجد لافتات على كل غرف العمليات تقول إن عقاقير التخدير القابلة للاشتعال ممنوعة؛ وبالمثل، لا يزال الغطاء الرأسي الذي يفصل بين الجانب الخاضع للجراحة للمريض والجانب المخدر منه يُسمَّى «حاجز الأثير» حتى اليوم، على الرغم من عدم استخدام أيٍّ منها على مدى العقود الستة الأخيرة على الأقل! لأنه جرى تصميمه في الأصل للحفاظ على خليط الأثير والأكسجين بعيدًا عن الجراحين الذين يمكن أن يتسببوا في حدوث شرارة بأدواتهم. (أطباء التخدير، خاصةً عندما يحاولون إغاظة الجراحين، يشيرون إلى حاجز الأثير باسم «الحاجز الدموي الدماغي»!)
يُحدد أمان العقَّار ﺑ «المؤشر العلاجي» خاصته، والذي هو النسبة بين الجرعة السامة والجرعة التي تسبب التأثير العلاجي. بالنسبة إلى عقاقير مثل المضادات الحيوية، تكون النسبة بالآلاف، مما يعني أنها آمنة للغاية. وهذا يعني أنك يمكنك أخذ أكثر من ١٠٠ مرة من الجرعة الموصى بها لمعظم المضادات الحيوية دون أن تتعرض لأي تأثير ضار. وعقاقير السرطان، على الجانب الآخر، لها عامةً مؤشر علاجي يبلغ نحو ٣. وهذه العقاقير معروف عنها آثارها الجانبية التي تهدد الحياة وتجعل المرضى يشعرون بالمرض الشديد. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن المؤشر العلاجي لعقاقير التخدير الاستنشاقية الفعالة يكون حتى أقل من ذلك الخاص بعقاقير السرطان: فقط حوالي ١٫٥! بالإضافة إلى ذلك، تختلف الجرعة العلاجية بدرجة ملحوظة بين الأفراد وتتغير حتى لمريض ما مع الوقت. وهذا يجعل عقاقير التخدير الاستنشاقية العقاقير الأكثر خطورة في الممارسة الإكلينيكية الحالية؛ ومن ثَمَّ فإن استخدامها مقصور على أطباء التخدير ذوي التدريب العالي الذين يمكثون مع المرضى خلال كل دقيقة من عملية التخدير حتى يستطيعوا بانتظام ضبط الجرعة لتناسب حالة المريض وتقدم الجراحة.
إن هذه المبخرات ليست مصنوعة من النحاس كنوع من الزينة: التبخير عملية ماصة للحرارة، تسبب تبريد السائل؛ ومن ثَمَّ تقلل التبخير الإضافي. والنحاس موصل جيد جدًّا للحرارة؛ ومن ثَمَّ فهو قادر على عمل توازن بين حرارته والبيئة المحيطة؛ هذا يكون هامًّا للإبقاء على عملية التبخير عند المستوى المتوقع. ويعمل النظام بتمرير كمية صغيرة من الغاز الحامل، مثل الأكسجين، خلال الحاوية؛ حيث يمر فوق عقَّار تخدير سائل ويصبح مشبعًا بالكامل ببخار التخدير؛ وهذه الكمية الصغيرة من عقَّار التخدير المشبع (التي تكون بتركيز يكون مميتًا لحظيًّا) تُخفف بعد ذلك بكمية أكبر من الغاز ليعطي الخليط النهائي عند التركيز المرغوب. وكما قد تتصورين، احتاج دان لمعرفة قوانين الغازات المثالية خاصته!
دعينا ننظر إلى الحسابات التي قام بها دان. معظم المرضى يحتاجون إلى ضغط جزئي من الهالوثان يقترب من ١٪. إن الضغط البخاري للهالوثان عند درجة حرارة غرفة العمليات العادية البالغة ٢٠ درجة مئوية هو ٢٤٣ ملِّيمترًا زئبقيًّا. أيضًا، دعينا نفترض أنه وضع ١٠٠ ملِّيلتر/دقيقة من الغاز الحامل عبر الحاوية النحاسية. سيكون هذا الغاز مشبعًا ولهذا يكون له ضغط جزئي ٢٤٣ ملِّيمترًا زئبقيًّا. إن جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس قريبة من مستوى سطح البحر حيث الضغط الجوي يكون عامةً ٧٦٠ ملِّيمترًا زئبقيًّا. هذا يعني، في حالتكِ، أن تركيز الهالوثان الخارج من الحاوية النحاسية كان يبلغ تقريبًا ٣٢٪ (أي، ٢٤٣ / ٧٦٠ )؛ لذا، ليحصل دان على تركيز ١٪ المطلوب، مزج الغاز الخارج من الحاوية بنحو ٤٫٥٥ لتر/دقيقة من غاز حامل خالٍ من عقَّار التخدير. وحسب دان معامل التخفيف هذا، بملاحظة أن معدل تدفق الغاز المشبع الخارج من الحاوية النحاسية كان تقريبًا ١٤٧ ملِّيلترًا/دقيقة. وجد دان، كما يمكن أن تلاحظي بسهولة، أن معدل التدفق لا يمكن أن يكون هو المعدل الأصلي البالغ ١٠٠ ملِّيلتر/دقيقة لأن جزيئات غاز «زائدة» جرى «التقاطها» نتيجة عملية التشبع. ثم قليل من العمليات الجبرية البسيطة أوضحت أن هذه الزيادة في الحجم (لكل وحدة زمنية) هي ٤٧ ملِّيلترًا/دقيقة لأن ٤٧ / ١٤٧ × ١٠٠ = ٣٢٪. وليحصل على تدفق كلي ١٪، يجب تخفيف هذه اﻟ ١٤٧ ملِّيلترًا/دقيقة ﺑ ٤٫٥٥ لترات/دقيقة بحيث إن ٤٧ ملِّيلترًا/دقيقة الخارجة من الحاوية من الهالوثان تكون محتواة في تدفق كلي ٤٫٧ لترات/دقيقة (أي، ٤٧ / ٤٧٠٠ × ١٠٠ = ١٪).
إن الضغط البخاري للآيزوفلوران هو أساسًا مساوٍ لذلك الخاص بالهالوثان. لكن الإنفلوران له ضغط بخاري يبلغ ١٧٢ ملِّيمترًا زئبقيًّا في درجة حرارة الغرفة. وفي هذه الحالة، إن تدفقًا غازيًّا قدره ١٠٠ ملِّيمتر/دقيقة خلال حاوية نحاسية محتوية على إنفلوران سائل كان يجب أن يُخفف ﺑ ٣ لترات/دقيقة من الغاز الحامل لنحصل على التركيز المقدر للمريض البالغ ١٪، كما قد تفعلين بنفسك إن أردتِ حساب ذلك الأمر.
(٤) التعقيدات
لاحظ دان بعد ٢٠ دقيقة أن تركيز ثاني أكسيد الكربون في زفيرك قد زاد قليلًا عن القيمة الأساسية الطبيعية خاصته التي تقرب من ٤٠ ملِّيمترًا زئبقيًّا؛ فخلال حوالي ٥ دقائق، زاد إلى ٤٥ ملِّيمترًا زئبقيًّا، لكنه زاد بعد ذلك إلى ٥٥ ملِّيمترًا زئبقيًّا في غضون بضع دقائق أخرى فقط … وكان مستمرًّا في الصعود. وبما أن الجسم يتحكم بشدة عادةً في الضغط الجزئي لثاني أكسيد الكربون بالدم، فإن هذه الزيادة كانت شيئًا مقلقًا. وكان على دان أن يعرف ما المشكلة وكان يجب أن يفعل هذا بسرعة شديدة. ليس من فراغ أن يصف أطباء التخدير عملهم، كما يفعل أيضًا الطيارون، بأنه عبارة عن ساعات من الملل تتخللها لحظات من الذعر!
العملية التي بواسطتها يحدد الأطباء السبب الأكثر احتمالًا لأي علامة مرضية أو عرَض مرضي ما تُسمى «التشخيص التفريقي» وهو المقابل الطبي لقانون ساتون. (ويلي ساتون كان سارق بنوك معروفًا فشلت محاولات القبض عليه لعدة عقود. وعندما قُبِض عليه أخيرًا، سئل عن سبب سرقته للبنوك. أصبح جوابه الشهير: «هذا هو المكان الذي يوجد فيه المال» يُعرف باسم قانون ساتون. في السياق الطبي، هذا يعني أن الأشياء الشائعة شائعة وأن تشخيص المرض الغريب يتطلب قدرًا كبيرًا من الأدلة. في هذا الإطار، يُقال للمتدربين من الأطباء: «عندما تسمع صوت حوافر، لا تفكر في الحُمر الوحشية.» بمعنًى آخر، فكِّر في الأسباب الشائعة للمرض، وليس في النادر منها.) توجد أسباب عديدة لزيادة تركيز ثاني أكسيد الكربون الخارج، وفكر دان في كل واحد منها بالترتيب، بادئًا بالأكثر احتمالًا. في أغلب الأحيان، يتعطل أحد الصمامَين الدقيقَين اللذين ينقلان غازات الزفير إلى جهاز امتصاص ثاني أكسيد الكربون. هذا يمكن أن يحدث عندما تجعل الرطوبة الحاجز يعلق في الوضع المفتوح. مع ذلك أشار فحص الصمامين (اللذين كان لكلٍّ منهما غطاء شفاف مخصص لهذا الغرض) إلى أن كليهما كان يعمل بصورة طبيعية.
السبب التالي الأكثر احتمالًا للزيادة في الضغط الجزئي لثاني أكسيد الكربون الخارج هو تلف جهاز امتصاص ثاني أكسيد الكربون. يتضح هذا من خلال تغيُّرٍ لوني، كما أشرنا عاليه. التلف يسبب أيضًا انخفاض درجة حرارة جهاز الامتصاص إلى درجة الحرارة المحيطة؛ إذ لا تحدث تفاعلات كيميائية (طاردة للحرارة) أخرى. لكن ظل لون جهاز الامتصاص طبيعيًّا إلى حد كبير في حالتكِ. لكن جهاز الامتصاص كان ساخنًا جدًّا عند لمسه!
إن كون جهاز الامتصاص ساخنًا جدًّا هكذا أمر غير عادي، ومقلق؛ لأنه دل على أن جسمكِ كان يُنتج كميات ضخمة من ثاني أكسيد الكربون، وهذا يعني أنكِ كنتِ في حالة فرط أيض شديد. نظر دان بعد ذلك بسرعة في العلامات الأخرى لفرط الأيض، ولاحظ أن معدل ضربات قلبكِ ومعدل تنفسكِ كانا سريعين بطريقة غير طبيعية، وأن درجة حرارة جسمكِ كانت تزداد بسرعة. وفي النهاية، حصل على عينة من دمكِ الوريدي، التي أكدت التركيبة الكلاسيكية للضغط الجزئي العالي لثاني أكسيد الكربون والأس الهيدروجيني المنخفض على نحوٍ غير متوقع. (ولأن «غاز الدم» هذا هو اختبار تشخيصي هام، فإن غرف الجراحة بها آلات تستطيع قياس الأس الهيدروجيني للدم، وثاني أكسيد الكربون وتركيزات الأكسجين في دقيقة فقط أو دقيقتين بعد انتهاء سحب عينة الدم.) إن الضغط الجزئي لثاني أكسيد الكربون لدمكِ الوريدي كان ٩١ ملِّيمترًا زئبقيًّا، والذي هو أكثر مرتين عن المعدل الطبيعي، وكان الأس الهيدروجيني للدم ٦٫٩ — وهي قيمة تكون عادةً مميتة — بغض النظر عن السبب. وهكذا، أصبح التشخيص واضحًا: «فرط الحرارة الخبيث».
فرط الحرارة الخبيث مرض نادر؛ إنه نادر جدًّا، في الحقيقة، لدرجة أن معظم أطباء التخدير يرون حالة واحدة منه فقط في فترة ممارستهم المهنية. إنه مرض وراثي، تتسبب فيه عقاقير التخدير الاستنشاقية ويسبب فرط أيض في العضلات الهيكلية. عندما تُكتشف بسرعة أزمات فرط الحرارة الخبيث وتُعالج بطريقة مناسبة، يكون احتمال الوفاة أقل من ٥٪، وعندما يتأخر التشخيص أو يكون العلاج غير مناسب، يصل احتمال الوفاة إلى ١٠٠٪. أنتِ على قيد الحياة الآن لأن دان اكتشف هذا المرض النادر وقدَّم العلاج المناسب في الحال.
توجد ثلاثة علاجات أساسية لمرض فرط الحرارة الخبيث؛ أولًا: وقف العقَّار المسبب له (الهالوثان، في حالتكِ)، وثانيًا: زيادة التهوية لسحب ثاني أكسيد الكربون الزائد من الرئتين إلى جهاز امتصاص ثاني أكسيد الكربون، وثالثًا، إعطاء عقَّار الدانترولين الذي يعالج فرط الأيض للعضلات الهيكلية. قدَّم لكِ دان العلاجات الثلاثة. وقد كنتِ مريضة بدرجة حرجة وتحتاجين عناية فائقة لحوالي ١٢ ساعة، لكنكِ شُفيتِ بعد ذلك. لحسن الحظ، فرط الحرارة الخبيث يتسبب فيه فقط عقاقير التخدير الاستنشاقية؛ ولذلك، ما دمت لا تتعرضين لهذه الغازات، فإن المرض لن يكون له أي تأثير على حياتكِ. وبما أنه توجد أنواع أخرى من عقاقير التخدير، فيمكن أن تخضعي لجراحة آمنة تمامًا عند الحاجة. ولكن إذا احتجتِ لجراحة، فلا تنسَي أن تخبري طبيب تخديركِ أنكِ معرَّضة للإصابة بفرط الحرارة الخبيث. ودعينا نأمل أنه لم ينسَ الكيمياء التي درستها وتداخلها مع الطب!
جون ودان
شكر وتقدير
هذا الفصل مُهدًى إلى والدنا، د. أندرو إم سسلر، بمناسبة عيد ميلاده الثمانين. إن تفانيه في حياته العلمية معروف ويُنظر إليه بإعجاب شديد وامتنان كبير.
جرى تمويل أنشطة التوعية في أوستن التي أدت لظهور هذا الفصل للنور من قِبل مؤسسة العلوم الوطنية (منحة الكيمياء ٠٧٤٩٥٧١).
قراءات إضافية
-
Morgan, G. E.; Mikhail, M. S.; Murray, M. J.; Larson, C. P. Clinical Anesthesiology, 4th Edition, McGraw-Hill Medical, Philadelphia, PA, 2005.
-
Orser, B. A. Lifting the fog around anesthesia. Scientific American 2007, 54–61.