حصلت جوديث كلينمان على الدكتوراه في الكيمياء من جامعة بنسلفانيا في عام ١٩٦٦.
كانت زميلة أبحاث ما بَعدَ الدكتوراه في معهد وايزمان للعلوم في إسرائيل في الفترة
من عام ١٩٦٦ إلى عام ١٩٦٧. وفي عام ١٩٦٨، عادت كلينمان إلى فيلاديلفيا لتقضي ١٠
سنوات في معهد أبحاث السرطان في فيلادلفيا، أولًا كباحث ما بعد الدكتوراه وفيما
بعدُ كعضو هيئة بحثية. في عام ١٩٧٨، انتقلت إلى جامعة كاليفورنيا في بيركلي حيث
تشغَل حاليًّا منصِب أستاذ الكيمياء والبيولوجيا الجُزيئية والخلوية.
عزيزتي أنجيلا
منذُ بِضعة أسابيع، أعددتُ وأختي غداءً لمجموعةٍ من النِّسوة كُنَّا قد تخرَّجنا معهن
من المدرسة الثانوية منذ ٥٠ عامًا (!). تجمَّعنا من كلِّ أرجاء الولايات المتحدة؛
كاليفورنيا، واشنطن العاصمة، نيويورك، نيوجيرسي وبنسلفانيا؛ لتبادُل الآراء ولمُجرَّد
الاستمتاع برفقة بعضنا بعضًا. كنتُ العالِمة الوحيدة في المجموعة؛ وهو مَوقِف أنا على
يقينٍ من أنه سوف يُصبِح مُختلفًا في عام ٢٠٥٦. شيء واحد شعرْنا به جميعًا هو شُعورنا
بالارتياح بصُحبة بعضنا بعضًا، ذهب التوتُّر والمنافسة التي كانت بيننا منذ أعوام
كثيرة. لقد أصبَحْنا ما نحن عليه …
عندما تبدأ رحلتكِ في الحياة، ربما تجِدين نفسكِ أمام عددٍ ضخمٍ من القرارات. أمَلي
أن تجدي عددًا من المُعلِّمين المُتحمِّسين والواسِعي المعرفة الذين يَزيدونكِ بلحظةِ
«وجدتُها!» التي يُصبِح فيها مسار مُستقبلك المِهني واضحًا. حدَث هذا معي عندما كنتُ
في
المدرسة الثانوية عندما أقنعَني مُعلِّم كيمياء مُتميِّز بالتحويل من تَخصُّص الأدب
الفرنسي إلى تخصُّص الكيمياء. نقطة تحوُّل ثانية حدثت في جامعة بنسلفانيا عندما كنتُ
طالبةً جامعيةً كانت لديَّ الفُرصة لأعمل أخصائية بأحد المُختبرات بمُؤسَّسة جونسون،
وهي مركز ذو شُهرة عالمية لأبحاث الكيمياء الحيوية والفيزياء الحيوية. هذه الخبرة
أشعلتْ لديَّ رغبةً طويلةَ الأمَدِ في أن أفهم الأحياء استنادًا إلى مبادئ الكيمياء.
في
النهاية، كنتُ محظوظةً بأن حصلتُ على وظيفةٍ بعد الدكتوراه مع إروين روز (الحائز على
جائزة نوبل في الكيمياء عام ٢٠٠٤) في معهد أبحاث السرطان. وكانت هذه تُعدُّ انطلاقة
رحلتي نحو «كيف تُفكِّر بطريقة الإنزيم».
(١) الإنزيمات: عوامل حفَّازة لتحويل الجُزيئات بمقاييس
زمنية سريعة على نحوٍ يُثير الدهشة
الإنزيمات موجودة في كلِّ مكان، وتعمل بلا توقُّفٍ على مدار الساعة داخل جميع
الخلايا الحية. وإذا التقطتِ عُبوةَ مُنظِّفات، فالأرجح أنكِ ستجِدين إنزيمًا قد
أُضيف ليُساعد في تحليل بُقَع الشحم على فُستانك الأبيض المُفضَّل. إذا كنتِ
تلبَسين عدسات لاصقة، كما أفعل، فرُبَّما يحتوي محلول التنظيف على إنزيمٍ يعمل على
التحليل المائي للبروتين المُترسِّب. والإنزيمات التجارية أخذتْ طريقها إلى المواد
الخام لتُساعد حيوانات المزرعة في هضم طعامها. يبدو أنَّ الاستخدامات المُحتمَلة
للإنزيمات لا نهاية لها، ولا يُقيِّدُها سوى مدى اتِّساع حيلة عالِم الأبحاث
ومِقدار فضول وتحمُّس رائد الأعمال. مثلما أوضح العامِلون في مجال الصناعات
الدوائية لعقودٍ كثيرة، غالبًا ما تكون الإنزيمات هي الهدف الأول في تصميم
دواء.
الملمح الأكثر تأثيرًا للإنزيمات أنها عواملُ حفَّازة انتقائية للغاية؛ إذ تسمَح
بحدوث تفاعُلات في بِضعة ملِّي ثوانٍ قد تستغرِق في المُعتاد سنين عند غيابها.
الحدُّ الأقصى لمدى تعجيل الإنزيم لتفاعُلٍ مُعيَّن يُقدَّر بنحو
١٠٢٠، وهي نفس القيمة الأسية لعدد النجوم القابِلة
للرَّصد في الكون! أثارتِ الطريقة التي تستطيع بها الإنزيمات تحقيق هذه المُعدَّلات
السريعة في تحفيز التفاعُلات اهتمامَ الباحثين لأكثر من نِصف قرن. الهدَف هو أن
نُصبِح قادرين على فَهم ملامح قُدرة الإنزيمات على لَعِب دَور العامل الحفَّاز بحيث
نتمكَّن من تصميم عاملٍ حفَّاز مُعتمِد على البروتين من الأساس. رغم المجهود
الكبير، لا يزال هذا الهدف يُراوِغ الباحثين.
لِنُلقِ نظرةً على أحد الإنزيمات من منظورَين؛ أحدُهما منظور كُلِّي والآخر منظور
مُقرب للموقع النَّشِط. رغم اكتشاف النشاط الحفزي البيولوجي لدى بوليمرات الأحماض
النووية، فإن مُعظم الإنزيمات هي بوليمرات بروتينية لأحماضٍ أمينية ترتبِط معًا
لتكوِّن جُزيئات كبيرة جدًّا بأوزانٍ جُزيئية في نطاقٍ يتراوَح بين ١٠٠٠٠–١٠٠٠٠٠
دالتون. ورغم وجود تركيبات مُتمايِزة داخل البروتين، فإن التركيب الكلِّي ربما يبدو
عشوائيًّا للغاية، ويكون أشبهَ بِكُرة. ما تُشاهدينه في شكل ٦-١أ يُوصف في حقيقة الأمر بأنه بروتين «كروي». تركيب يُطلَب منه هذا الكم الهائل من
العمل يُمكن أن يبدو غير مُنتظِم لهذه الدرجة، وهو أمرٌ يُثير الدهشة. ربما
يَدفعُنا هذا إلى الاعتقاد (الصحيح) بأن الشكل غير المُنتظِم قد يلعبُ دورًا في
الوظيفة.
وعلى عكس تَمدُّد البروتين بأكمله، فإن منطقة الموقع النَّشِط التي تربِط المادة
الأساس وتُحفِّز تحويلها إلى ناتجٍ تُمثِّل جُزءًا صغيرًا جدًّا من البروتين الكلي
(شكل ٦-١ب). انصبَّ كثيرٌ من الجهود التي بُذلت أثناء القرن
العشرين على تَمكيننا من وضْع تصوُّرٍ ثلاثي الأبعاد للبروتينات؛ ومن ثَمَّ تمكيننا
من التعرُّف على البقايا التي تتفاعل مع المادة الأساس الرابطة في الموقع النَّشِط.
هذه الأنشطة قادتْ إلى التعرُّف على أدوارٍ إضافية لعواملَ مساعدةٍ صغيرة عضوية
وغير عضوية تكون بمنزلة المُكوِّن الرئيسي لحبَّةِ فيتامين واحدة تتناولها كلَّ
يوم. هذه العوامل المساعدة تتَّحِد عند الموقع النَّشِط للإنزيم أو بالقُرب منه،
وهذا الإنزيم يعمل جنبًا إلى جنبٍ مع سلاسلَ جانبيةٍ بروتينية عديدة على تفعيل
عملية التحفيز. في الحقيقة، يُمكِننا حاليًّا، بِفضل هذه الدراسات، أن نكتُب
مُخطَّطَ تفاعُلٍ يصِف مسار تكوين وكسْر الرَّوابط داخلَ عددٍ كبير من فئات
الإنزيمات. مع ذلك، يجب أن تُلاحِظي أن هذا المستوى من الفَهم مُختلِف تمامًا عن
قُدرتنا على أن نفهَم ونُحدِّد الأصول الدقيقة لتسارُع المُعدَّل الحفزي.
شكل ٦-١: (أ) تمثيل شريطي لإنزيم ديهيدروجينيز (النازع للهيدروجين) كحول
ثيرموفايل (أليف الحرارة)، يُصوِّر ترتيب أربع وحدات فرعية والحجم
الكُلِّي للجُزيء بالنسبة إلى ذرَّات الزنك المُرتبِطة المُبيَّنة
في صورة كُرات صُلبة. (ب) موقع الزنك الحفزي لإنزيم ديهيدروجينيز
كحول ثيرموفايل ذرَّة الزنك الحفزية تُوجَد في تنسيقٍ مُشوَّه
رُباعي الأوجه بواسطة ذرَّات غير مُتجانِسة لسلسلة جانبية من بقايا
Cys38،
His61،
Cys148.
ثلاثي فلوروإيثانول هو نظير مُستقر (غير مُتفاعِل) للمادة الأساس
الإنزيمية. (المصدر: ملخَّص بحثي بعنوان: «التركيب البلوري وتبادل
ذرتَي الهيدروجين والديوتريوم على الأميد في المركبات الثنائية
لنازعة هيدروجين الكحول (الكحول ديهيدروجينيز) المأخوذة من العصوية
الدهنية الأليفة الحرارة: آراءٌ حول الثبات الحراري وارتباط
العوامل المترافقة»، بقلم كلٍّ من سي سيكاريلي؛ زي-إكس ليانج؛ إم
ستيكلر؛ جي برينا؛ بي إم جولدستاين؛ جيه بي كلينمان؛ بي جيه
بانسون. الكيمياء الحيوية ٢٠٠٤، ٤٣، ٥٢٦٦.)
شكل ٦-٢: تركيب الموقع النشط لإنزيم «إينوليز» يُبيِّن المادة الأساس
المُرتبِطة وجميع التجاذبات بين المادة الأساس والبقايا في الموقع
النشط للبروتين. (المصدر: «آليات التفاعل الإنزيمي» بقلم كلٍّ من
فري، بي إيه؛ وهجمان، إيه دي، أوكسفورد يونيفرستي برس، أكسفورد،
المملكة المتحدة، ٢٠٠٧.)
أحد الملامِح التي اتَّضَحت بدرجةٍ كبيرة من فحص تركيب إنزيم في وجود المادة
الأساس (أو مادة مُشابِهة للمادة الأساس لا يُمكنها أن تتفاعل) يتمثَّل في هذا
العدد الضخم من التفاعُلات التي يُمكن أن تحدُث بين البروتين واللجين المُرتبِط
(شكل ٦-٢). في بعض الأحيان، تكشف تركيبات الأشعَّة السينية عن
وجود ما يصِل إلى ٢٠ تفاعُلًا مُتمايزًا ومُحدَّدَ الاتجاه، ربما تشتمِل على روابط
هيدروجينية وجسور ملحيَّة وتفاعُلات التراصِّ المُشتمِلة على الرابطة باي وغير ذلك.
في هذا السِّياق، لنتأمَّل فرضيةَ كيفيَّة عمل الإنزيمات التي نُشِرَت بواسطة لينوس
باولنج الحائز على جائزة نوبل. افترض باولنج أن تفاعُلات الموقع النَّشِط الأقوى
بين إنزيم والمُعقَّد النشط للمادة الأساس، مُقارنة بالمادة الأساس نفسها، يُمكن أن
تكون مصدرَ الحفز الإنزيمي. وكما يُوضح شكل ٦-٣، يعمل الارتباط
التفضيلي المُحكم لمُعقَّدٍ نشِط على خفْضِ ارتفاع حاجِز التفاعُل الذي يَفصِل
المادة المُتفاعِلة عن الناتج. وبما أنَّ ارتِفاع حاجز التفاعُل يُحدِّد المُعدَّل
الذي يَتمُّ به التفاعل، أدخل هذا المفهوم وسيلةً بسيطة لشرح التَّسارُعات الضخمة
للمُعدَّل التي تُسبِّبها الإنزيمات.
شكل ٦-٣: تمثيل بياني لمسار التفاعُل يُبيِّن انخفاض الحاجز بالنسبة إلى خطوة
التحوُّل الكيميائي (المحدِّدة ‡)
للتفاعُل اللاإنزيمي
‡(N)
مُقابل التفاعُل الإنزيمي
‡(E).
مارستْ فرضية باولنج تأثيرَها لعقودٍ عديدة، مُكوِّنةً أساسًا لدراساتٍ نظرية
وعملية للإنزيمات. في الحقيقة، إذا التقطتِ كتابكِ الجامعيَّ في الكيمياء الحيوية،
ستجدين أن فرضية باولنج جرى وصفُها في الفصل الذي يناقِش وظائفَ الإنزيمات. ومع
ذلك، فقد بدأ علماء كثيرون يتشكَّكون في هذه الصورة المُبسَّطة خلال العَقد الماضي.
تُوجَد صُور كثيرة للمواقع النشِطة للإنزيمات مُتاحة من تركيباتٍ مُودَعة في بنوك
بيانات تركيب البروتين. عندما نفحص هذه الصُّوَر الساكِنة بعناية، نبدأ في التساؤل
إن كانت التغيُّرات في الشُّحنة وأطوال الروابط التي تحدُث في المادة الأساس بينما
تجتاز تحوُّلها إلى ناتجٍ يُمكِن أن تكون أصل الربط التفاضُلي بين المادة الأساس
ومُعقَّدها النَّشِط لتصِل إلى ١٠٢٠ ضعفًا. تجريبيًّا،
باستخدام التركيبات الثلاثية الأبعاد المعروفة للبروتينات، جنبًا إلى جنبٍ مع أدوات
البيولوجيا الجُزيئية، تمكَّن باحثون من تعديل السلسلة الجانبية لسلسلةٍ جانبية
لحامضٍ أميني مُنفرد بعيدًا عن موقع الإنزيم النشط. عند قياسِ قُدرةِ مثل هذا
البروتين المُعدَّل من أجل تحفيز تفاعُله، يُمكن أن تحدُث تخفيضات درامية جدًّا في
مُعدَّل الحفز، بالرغم من الحقيقة القائلة بأن التَّركيب الكامل للبروتين ربما
يظهَر دون أدنى تغيير. تجارِبُ من هذا النوع تدلُّ على أنَّ تغيُّرات ثانوية في
تسلسُل البروتين الذي لا يُعدِّل التركيب الثلاثي الأبعاد للبروتين، يُمكن أن يلعب
دورًا حيويًّا في عملية الحَفْز. حقيقة، هذه الخاصيَّة للإنزيمات ربما جرى
استنباطُها من أمثلةٍ عديدة لأمراضٍ مُشفَّرة وراثيًّا، عندما يرسُم الباحثون
خريطةً لطفرات نُقطية ناشئة تلقائيًّا على تركيبٍ ثلاثي الأبعاد لمِثل هذه
الإنزيمات، غالبًا ما تحدُث التغيُّرات في أنحاء المكان وبعيدًا جدًّا من الموقِع
النَّشِط. وفي حين أن بعض هذه التغيُّرات يُمكن أن تُغيِّر ثبات البروتين، فإنَّ
تغيُّرات أخرى تؤثِّر على ما يبدو تأثيرًا مُباشرًا على كيمياء الجانب
النَّشِط.
أحد الجوانب المُهمة لفرضية باولنج، أنها فُسِّرت تاريخيًّا (حرفيًّا جدًّا) في
سياق نماذج ساكنة لجوانب الإنزيم النَّشِطة المُشتقَّة من عِلم بلُّورات الأشعة
السينية، لكن جُزيئات البروتين الكبيرة ليستْ ساكِنة على الإطلاق في المحلول وبدلًا
من ذلك فإنها تؤدي مجموعةً كبيرة من الحركات التي تحدُث خلال فيمتو ثوانٍ إلى
ثوانٍ. نُشير إلى هذه الحركات باسم «ديناميكية البروتين» ويَعتقِد الباحثون حاليًّا
أن الفَهم الكامل للحفز الإنزيمي يجِب أن يشمل الديناميكية داخل العمود الفقري
للبروتين والسلاسل الجانبية. يُوجَد عدَدٌ من الأدوات الطَّيفية التي يُمكن
استخدامها في قِياس الحركات الديناميكية داخل البروتين والتي تشمل مِطيافية الفلورة
والأشعة تحت الحمراء والرَّنين النووي المغناطيسي. إنَّني على يقينٍ من أنكِ
تعلَّمتِ بعض هذه الطُّرق في الدروس التمهيدية، ربما دون أن تُدركي أنها يُمكن أن
تُطبَّق على جُزيئاتٍ لها حجم البروتينات. كذلك ابتكر الكيميائيون النظريُّون
طُرقًا حسابيةً لفحص الحركات داخل البروتينات، والتي يُشار إليها بمُحاكاة
الديناميكية الجُزيئية، رغم أن النِّطاق الزَّمني لهذه الحسابات كان مُحدَّدًا
بالنانو ثانية في الأساس، فإنه يُمكن الآن بسْط الطُّرق بحيث تُصبِح أنظمةً أطولَ
زمنًا وأكثرَ مُلاءمة على المستوى الحفزي.
بعدَ سنواتٍ كثيرة جدًّا من العمل، ثَمَّة أدوات كثيرة متاحة الآن، سواء من أجْل
قياس ومُحاكاة ديناميكية البروتينات وأيضًا من أجْل توصيف المُعدَّلات والآليات
لتفاعُلات مُحفَّزة إنزيميًّا. ولكن لا يَزالُ يَغِيب عَنَّا جُزء ضروري من
اللُّغز: «مجموعة القواعد» التي سوف تَسمح لنا بربْط هرَمِيَّةِ الحركات التي تحدُث
خِلال بروتين بفعاليته الحَفزية. هذا التَّحدِّي يبقى في مُقدِّمة الموضوعات
الجديرة بالبحث في البيولوجيا الكيميائية، خاصَّةً، بهدفِ تَشكيل عاملٍ حفَّازٍ
إنزيميٍّ جديدٍ من الأساس. فيما يلي اقتباس من زاك ناجل أحد طُلَّاب الدراسات
العُليا في مُختبري: «بينما أتقَنَتِ الحضارة في السابق أدواتِ تصميم وتشييد مبنى
المُقاطعة الملكية وجِسر البوابة الذهبية، ما زِلنا نَعجز عن تحقيق النجاح في هندسة
بُروتين جديد يكون قابلًا لأن يُنتِج تَسارُعات المُعدَّل الضخم للبروتينات
الأصلية.» مع مُساهمات من جيل الباحثين القادِم مثل زاك وأنتَ، ربما يتحقَّق هذا
الهدف الأخير في النهاية.
(٢) تنفُّس هذا الأكسجين اللَّذيذ
لستُ مُتأكِّدة من لياقتي كعدَّاءة؛ اعتدتُ العَدْوَ عندما كنتُ أصغَرَ سِنًّا.
هدَفي الآن أن أُمارِس رياضة المَشْي لمسافةٍ طويلة عندما يُتاحُ لي الوقت في
الصباح. نتيجةً لذلك، أقضي وقتًا أقلَّ في استنشاق الأكسجين بِشدَّةٍ وبسرعة،
ووقتًا أكبرَ في تأمُّل جمال التِّلالِ بجانب مَنزلي. بالطبع، أحد الشواغِل الكبيرة
هذه الأيام هو تغيُّر المناخ وتأثيرنا على البيئة. شيءٌ واحدٌ قلَّما يُفكِّر الناس
فيه هو أن البشر (بالإضافة إلى الكائنات العديدة الخلايا) يعملون كآلاتِ احتراقٍ
صغيرة، لأكسدة المواد الغذائية الكربونية المُختزلة إلى ثاني أكسيد الكربون
والماء.
لم تكُن الحياة على كوكب الأرض دائمًا على هذا النحو؛ حيث كان الغلاف الجوِّي
مُكوَّنًا من غازاتٍ مثل الميثان والهيدروجين وثاني أكسيد الكربون. أحد أهمِّ
الأحداث البارِزة التي حدثتْ في تاريخ الأرض ظهورُ وتطوُّر كائنات تخليق ضوئي قادرة
على استخدام طاقة الشمس في أكسدة الماء إلى جُزيء الأكسجين بينما تأسِر الإلكترونات
المُحرَّرة لتَختزِل ثاني أُكسيد الكربون إلى جُزيئات توافُقيَّة حيوية. على مدى
عدَّة ملياراتٍ من السنين، هذه الكائنات المُخلَّقة ضوئيًّا عاشتْ جنبًا إلى جنبٍ
مع كائناتٍ لا هوائية وحيدة الخلية التي ازدهرتْ في غياب الأكسجين. المُدَّة
الزمنية للكائنات الهوائية على الأرض في الواقِع قصيرة جدًّا (نسبيًّا)، بما
يتوافَقُ مع بداية انفجار أكسدة كبير بدأ منذ نحو ٥٠٠ مليون سنة. كان ذلك الحدث هو
المتسبب في زيادة مستوى الأكسجين في البيئة إلى نسبته الحالية التي تبلغ ٢٠٪، وسمح
بتطوُّر كائنات مُعقَّدة عديدة الخلية.
لماذا يُمثِّل الأكسجين هذا المُكوِّن المُهمَّ في تطوُّر أشكال الحياة
المُعقَّدة؟ خصيصة أساسية من خصائص الأكسجين تتمثَّل في الطاقة الضخمة التي تنطلِق
عند اختزال أربعة إلكترونات أكسجين إلى الماء، و. ومع ذلك، تستطيع الكائنات الهوائية العَيش جيدًا في جوٍّ يحتوي
على أكسجين. هذا يرجِع إلى أن الحالة المِغزليَّة السائدة للأكسجين هي حالة أرضية
ثلاثية، بينما مُعظَم الجُزيئات العضوية لها حالة أرضية أُحادية؛ أي إنَّ
تفاعُلاتها المُباشرة تكون عملية ممنوعة مِغزليًّا. أما إذا كان الشكل السائد
لجُزيء الأكسجين في الغلاف الجوي في حالةٍ أرضية أُحادية، فإنَّ جُزيء الأكسجين
سيخضع لتفاعُلات انفجارية مع أشكال الحياة القائمة على الكربون. يتبيَّن أنَّ خاصية
تعريف حالة الأكسجين الثلاثية الأرضية هي خموله الحَرَكي مُقترِنًا بالطاقة الضخمة
المُحرَّرة عند اختزاله إلى الماء.
كيف تعلَّمَتِ الأنظمةُ البيولوجية هذا السلوكَ الثُّنائي التفرُّع للأكسجين؟
مرَّةً أخرى، تلعَب الإنزيمات دَور المُنقِذ، بقُدرتِها على الإدارة المُتزامِنة
للتفاعُليَّة البطيئة لجُزيء الأكسجين وانفجارِه الديناميكي الحراري المُحتمَل.
مِفتاح نجاح هذه الإنزيمات هو حفْزُها لإضافةٍ تدريجيةٍ محكومة للإلكترونات إلى
جُزيء الأكسجين، طبقًا إلى دَورة شكل ٦-٤. من وجهة نظر
حَفْزية، يَخلُق المسار في شكل ٦-٤ وَسائطَ مُشتقَّة من جُزيء
الأكسجين وتملك نفس الحالة المِغزلِيَّة كالمادَّة الأساس التي تؤدي الأكسدة بما
يَسمَحُ للتفاعُل أن يحدُث على نطاقاتٍ زمنية مُتوافِقة مع الحياة. لكي نُجري هذا
النوع من الاختزال التدريجي، غالبًا ما تُشكِّل الإنزيمات أزواجًا مع أنواعٍ خاصة
من عوامل مُساعِدة غير عضوية و/أو عضوية صغيرة.
لو استغرقْتِ دقيقة، يا أنجيلا، في فحص الوسائط المُختزلة جُزئيًّا (شكل ٦-٤) التي تقَع بين جُزيء الأكسجين والماء، فربما سيُثير دهشتَك
رؤيةُ صنوفٍ تُعتبَر عادة سامَّة للخلية خاصةً أيون الأكسيد الفائق () وشق الهيدروكسيل (). إذا تَعيَّن على إنزيمٍ ما توليدُ هذه الصنوف لكي يَستخدِم
مُحتوى الطاقة المُخزَّن داخل جُزيء الأكسجين، فكيف يتمكَّن من تفادي ضَرَرٍ بالغ
يلحَق به أو بالمُكوِّنات الأُخرى للخلية؟ إحدى الخُطط هي أن يستفيد من أيون فلز
يُمكن أن ينقُل إلكترونات إلى جُزيء الأكسجين ويربط/يُقيِّد كذلك وسيط جُزيء
الأكسجين المُختزَل الناتج. هذا موضوع عام جدًّا ضِمن الإنزيمات الفلزية المُحتوية
على أيون فلزي واحد، وأيونات فلزية عديدة أو أيون فلز مُتراكِب مع عاملٍ عضوي
مساعد.
شكل ٦-٤: دورة تفاعُلية لجُزيء الأكسجين تُبيِّن الوسائط المُشتقَّة من
إضافةٍ تدريجية لإلكترونات وبروتونات مع جهود الاختزال والأكسدة
لهذه الخطوات. جهد سالِب يعني أنها مُتَّجِهة لأعلى، وجُهد مُوجَب
يعني أنها مُتَّجِهة لأسفل. (المصدر: كلينمان (٢٠٠٧).)
أحد أكثر إنزيمات الفِئة الأخيرة خضوعًا للدراسة المكثفة هو السيتوكروم
P450، وهو إنزيم
مُهمٌّ في تخليص الجسم من الأدوية والمُركَّبات الغريبة (يُشار إليها باسم
الدُّخلاء الحيويين) من الجسم. يحتوي السيتوكروم
P450s على مُعقَّد
هيم-حديد يُشبِه العامِلَ المساعد في الهيموجلوبين الذي ينقُل الأكسجين في الدم
(شكل ٦-٥). ثمة فارقٌ مُهمٌّ بين السيتوكروم
P450 والهيموجلوبين
هو طبيعة سلسلة الحامض الأميني الجانبية التي تُثبِّتُ العامل المساعد في موقع
الإنزيم النشط: السيستين في السيتوكروم
P450 مُقابِل الهستدين
في الهيموجلوبين. هذا التغيُّر البسيط نسبيًّا يجعل من المُمكن لكلٍّ من الحديد
والهيم في السيتوكروم P450
منْح ما مجمُوعُه ثلاثة إلكترونات إلى جُزيء الأكسجين (مع إلكترون رابع يأتي من
مصدرٍ خارجي). بهذه الطريقة، عرف السيتوكروم
P450 كيفية إعطاء
الإلكترونات الأربعة المطلوبة عادةً من أجل الاختزال الكامل لجُزيء الأكسجين إلى
ماء ليُولِّد، عوضًا عن ذلك، أصنافًا عالية النشاط ولكن معزولة لدَيها القُدرة على
أكسدة مُعظَم المُركَّبات الهيدروكربونية.
شكل ٦-٥: صورة ثُنائية الأبعاد لرباعي البيرول عند الموقع النشط للبروتين
ناقل الأكسجين، وهو الهيموجلوبين. يُوجَد ست روابط مع الحديد: أربع
منها مصدرها رُباعي البيرول، واثنتان من اللجين الإضافي، واحدة
أعلى مُستوى الورقة والأخرى أسفلها. (المصدر: كتاب «مبادئ لينينجر
في الكيمياء الحيوية» بقلم نيلسون دي إل وكوكس إم إم، الطبعة
الخامسة.)
شكل ٦-٦: تفاعُل يتمُّ باستخدام إنزيم جلوكوز أوكسيديز كعاملٍ حفَّاز
يتحوَّل فيه الجلوكوز إلى جلوكونو لاكتون ويتحوَّل جُزيء الأكسجين
إلى بيروكسيد الهيدروجين.
في المُقابل، يظهَر أنَّ استخدام جُزيء الأكسجين يُصبِح مُلِحًّا عندما يفتقِد
الإنزيم أيَّ وسيلةٍ من أجل التثبيت الآمِن للوسائط المُختزلة التي تنشأ من جُزيء
الأكسجين. الجلوكوز أوكسيديز، إنزيم خضع للدراسة المُكثفة ويَستخدِم عاملًا عضويًّا
مساعدًا (فلافين) ليُحفِّز أكسدة الجلوكوز إلى جلوكونو لاكتون إضافةً إلى اختزال
جُزيء الأكسجين إلى بيروكسيد الهيدروجين. يُقدِّم هذا الإنزيم رؤيةً كاشفة عن هذه
المشكلة المؤرِّقة (شكل ٦-٦). إنزيم الجلوكوز أوكسيديز له
الكثير من التطبيقات العملية. كمثالٍ لذلك يُستخدَم هذا الإنزيم كمُستشعِرٍ حيوي
يضبِط مُستويات الجلوكوز في الدم، ممَّا يجعله هدفًا جذَّابًا للدراسة المُكثَّفة.
أثناء تفاعُله الحَفْزي، يَستقبِل فلافين الجلوكوز أوكسيديز أولًا إلكترونين من
مادة الجلوكوز وبعد ذلك يُسلِّمهُما واحدًا واحدًا إلى جُزيء الأكسجين من أجل تكوين
وسيط أيون الأكسيد الفائق. ويُعدُّ الأكسيد الفائق من العوامل المُختزَلة القوية
بالفعل، ولدَيه مَيل عالٍ للتَّخلِّي عن إلكترونه. من بين الطُّرق التي يُمكِن أن
يَستخدمها الإنزيم لتسهيل تفاعُله أن يعمل على تثبيت وسيط الأكسيد الفائق. مع ذلك،
ربما يؤدي هذا إلى تراكُم وسيط مُدمِّر مُحتمَل عند موقع الإنزيم. عندما دُرِسَت
خواصُّ تفاعُل جُزيء الأكسجين مع إنزيم الجلوكوز أوكسيديز، وُجِدَ أن سلسلةً جانبية
مُنفردة ومُوجَبة الشحنة من حامض أميني بالقُرب من العامل المساعد فلافين لعِبَتْ
دورًا أساسيًّا في عملية الحفْز. الأكثر أهميةً من ذلك أن الإنزيم عرَف كيف يَستخدم
هذه الشحنة النقطية ليرفَع مُعدَّل تكوُّن الأكسيد الفائق دون تعديل ثَباته. المنْح
السريع للإلكترون الثاني من أجل إنتاج بيروكسيد الهيدروجين يضمَن أن يكون عُمر
الإنزيم المُرتبِط مع البيروكسيد قصيرًا جدًّا. هذا المسار يُمكن شرْحُه ببساطة
باستخدام رسم بياني للطاقة الحُرَّة (شكل ٦-٧) الذي يشرح
التأثير الخاص للجلوكوز أوكسيديز على الحاجز الحركي لتفاعُلية جُزيء
الأكسجين.
شكل ٦-٧: تمثيل بياني للطاقة الحُرَّة يُبين كيف يُمكن لإنزيمٍ ما أن يخفض
حاجز اختزال الأكسجين بدون تغيير طاقة وسيط الأكسجين المُختزل.
الحالة الانتقالية اللاإنزيمية هي
‡(N)،
بينما حالة الانتقال الإنزيمي هي
‡(E).
(٣) وداعًا إلى أن نلتقي
حسنًا، أنجيلا، أتمنَّى أن أكون قد أقنعتُكِ أن الإنزيمات هي بعض الجُزيئات
الأكثر إذهالًا على ظهْر الكوكب. فهي لم تتطوَّر فحسب إلى عواملَ حفَّازة قوية على
نحوٍ مُدهش بمُعدَّلات تفاعُل عالية يمكن أن تصِل إلى
١٠٢٠ أضعاف مُعدَّلات تفاعل مُشابه في محلول، ولكن
تمكَّنتْ أيضًا من توفير الأساس الضروري لوجود حياة مُعقَّدة في بيئةٍ غازية
أكسجينية سامَّة مُحتمَلة. المُستقبَل يحمِل الكثير من التشويق، مع إمكانية تصميم
عوامل حفَّازة إنزيمية جديدة، وابتكار موادَّ جديدة تكون هجينًا من جُزيئات
بيولوجية ومُخلَّقة، واستغلال إنزيمات من أجل تقليل انبعاثات الكربون، ومساعدتنا في
مُواجَهة مشكلة الاحتباس الحراري المُتصاعِد. أتمنَّى أن أكون قد نجحتُ في إثارة
اهتمامك. إذا أخذتِ رحلة قصيرة إلى كاليفورنيا الشمالية يُمكنكِ زيارتنا، وسوف
أصحَبُك في جولةٍ في المُختبَر، كما سأُعرِّفك بطلَّاب الدراسات العُليا وزُملاء ما
بعد الدكتوراه الذين يعملون جاهِدين لجعْلِ هذا المستقبل يَصير واقعًا
ملموسًا.
خالص التقدير جوديث
قراءات إضافية
Klinman, J. P. How do enzymes activate oxygen without
inactivating themselves? Accounts of
Chemical Research 2007, 40, 325–333.
Nagel, Z.; Klinman, J. P. Tunneling and dynamics in
enzymatic hydride transfer. Chemical
Reviews 2006, 106,
3095–3118.