استشعار الأكسجين
ماري-ألدا جيلز-جونزاليس
المركز الطبي التابع لجامعة جنوب غرب تكساس في دالاس
وُلدت د. جيلز جونزاليس في مدينة جيريمي في هاييتي. حصلت على درجة بكالوريوس علوم في الكيمياء الحيوية من جامعة ولاية نيويورك في ستوني بروك ودرجة الدكتوراه في الكيمياء الحيوية تحت إشراف د. جوبند خورانا في معهد ماساتشوستش للتكنولوجيا. منذ إتمامِها دراسات ما بعد الدكتوراه مع د. ماكس بيروتس في مُختبر البيولوجيا الجُزيئية التابع لمجلس البحوث الطبية في إنجلترا في ١٩٩٥، أخذت تدير مُختبراتها الخاصة أولًا في جامعة ولاية أوهايو وحاليًّا في المركز الطبي التابع لجامعة جنوب غرب تكساس؛ حيث تدرُس مع زملائها مُستشعِرات الأكسجين البيولوجية.
عزيزتي أنجيلا
إذن أنت لا ترتدين الجوارب غير المتوافِقة أو أربطة الأحذية المفكوكة. تُمشِّطين شعرك، وتبدين جذَّابة في مظهرك بل وحتى تضعين شيئًا من المكياج! وتملكين من التهوُّر ما يجعلك تطمَحين لأن تكوني كيميائية. حسنًا! يبدو أنكِ لستِ ممَّن يضعون حياتهم المهنية في مُقدِّمة أولوياتهم. ليس لديَّ ما أقوله لهؤلاء الذين يُحاولون تجنيدي لمساعدتهم في رسْم خريطةٍ لكل تفصيلة من تفاصيل حياتهم. يصعُب على المرء أن يُصبح «قدوة» (كم أكرَه هذه الكلمة!) عندما تكون حياة العلماء على هذا القدْر البالغ من السرنديبية. أظنُّ أنك ستُصبحين عالمة؛ عالمة شابَّة مُبتدئة. إذا كان الحال كذلك، لا أستطيع أن أدفعك بعيدًا عن هذا المسار، بالرغم من أنه ليس بالتأكيد لضِعاف القلوب، أبطالي العلميُّون هم جاليلو جاليلي وراشيل كارسون؛ هذا النوع من العلماء الذين فضَّلوا المُلاحظة على فنِّ الكلام في زمانهم ودفعوا من أجل هذا ثمنًا باهظًا. من هُم علماؤك المُفضَّلون؟ أحد أصدقائي، وقد أصبح مشهورًا ومُتقاعدًا في الوقت الحالي، يُخبرني أنَّ أباه الكاهن أقام صلاة خاصَّة لرُوحه قبل السماح له أن يبدأ مشوار الدراسات العُليا. ربما كان أبوه على حق. صديقي هذا مُحنَّك؛ إذ خاض الكثير جدًّا من المعارك العلمية. رغم جوائزه وألقابه الكثيرة، كنتُ على ثقةٍ من أنني أستطيع استثارة غضبهِ بالإتيان على ذِكر عالِم أو أكثر. كان يستفيض في الجدل.
كنتُ أتمنَّى أن أقول إن مظهركِ وخلفيتكِ الاجتماعية لن يكونا على قدْرٍ من الأهمية في مجالٍ جافٍّ وموضوعي مثل الكيمياء. فكيف لا يكونان كذلك؟ العلم مشروع مُجتمعي. إذا كانت أبحاث الكيمياء في الولايات المتحدة يُهيمِن عليها حاليًّا مجموعة سُكانية لا تُشبهكِ بأي حالٍ من الأحوال، فيجِب أن تعتبري هذا دليلًا على خَللٍ ما وإشارةً إلى أنَّ هناك حاجةً ماسة لأشخاصٍ مثلك. هنا تكمُن ميزتك في واقع الأمر. وحيث إنه لم يُخبركِ أحد بالطريقة التي ينبغي أن تسير بها الأمور، ربما تكونين بحاجةٍ فحسب إلى إيجاد طريقةٍ جديدة. أعترِف أنني لستُ مُبرَّأةً تمامًا من مصلحة شخصية في تشجيعك على هذه الخطوة المبدئية. طموحاتي العلمية أكبر بكثيرٍ من اكتساب شُهرة شخصية. أحلُم بأن يأتي الوقتُ الذي يُعترَف فيه، مثلًا، بأن الأمريكيين من أصلٍ أفريقي مُتميزون ومُتفرِّدون بنفس درجة تميُّز وتفرُّد موسيقى الجاز. فكِّري في صوت جوني هارتمان وساكسفون جون كولتزان وهُما يؤدِّيان أغنية «لاش لايف» التي ألَّفها بيلي سترايهورن، وذلك بصُحبة ماكوي تاينر على البيانو، وجيمي جاريسون على البيس جيتار، وإليفن جونز على الطبول. أغمِضي عينَيك واحفَظي هذه الفكرة عن ظهر قلب.
(١) إعادة تعقُّب جُذوري
يتعيَّن عليكِ بذْل قُصارى جُهدكِ في دراساتكِ للكيمياء العضوية بجانب الكيمياء الفيزيائية والرياضيات. ينبغي على المرءِ أن يُتقِن هذه المواد من أجل فهْم عِلم الأحياء بأيِّ طريقةٍ تتجاوَز الطُّرق الوصفية أو السطحية. كما ينبغي على المرء أن يَحترِم عِلم الأحياء كذلك، إذا كانت الكائنات الحية هي ما يسعى المرءُ لفَهمِه. الأفكار الخيالية الجامحة التي لا تستنِد إلى أساسٍ فيما يتعلَّق بكيمياء الكائنات الحية المُفترضة، يُمكن أن تُضفي غموضًا بالتأكيد بدلًا من توضيح المسارات نحوَ حلِّ مُشكلات الكيمياء الحيوية.
(٢) مُستشعِرات الأكسجين
فكِّري مثلًا كيف تستشعِر الكائنات الحية الأكسجين الجُزيئي. أعترِف بأن هذه القضية تستولي على اهتمامي شخصيًّا. ربما تتساءلين: «لماذا لا بدَّ أن تَستشعِر الكائنات الحية الأكسجين؟» في الواقِع هذا السؤال يأخذُنا إلى لبِّ القضية. فالغلاف الجوي للأرض يحتوي حاليًّا على ٢٠٪ من الأكسجين (أغلب النسبة المُتبقِّية هي النيتروجين). كان الحال دائمًا على ذلك النحو. جميع الأكسجين الموجود في الغلاف الجوي نتَجَ عن أفعال الكائنات الحيَّة. بدأ هذا الغاز في التراكُم منذ نحو ٢٫٥ مليار سنة، عندما تعلَّمَتِ البكتيريا الزرقاء أن تشطُر الماء إلى هيدروجين وأكسجين، كطريقةٍ للحصول على المزيدِ من طاقة الشمس. بالعودة إلى الوَراء، لم تكن الكائنات الحية قد تعلَّمَتْ بعدُ الطريقةَ التي تتعامَلُ بها مع الأكسجين بأمان، ونظرًا لأنه غاز مُؤكسِد وكاوٍ، فإنه يُمثِّل سُمًّا لمُعظَم الكائنات الحية. ما هي الطريقة التي يُمكن أن تكون قد لجأت إليها الكائنات الدقيقة الأخرى؟ يُمكن للمرء أن يَفترِض أن مُعظمَها قاوَمَ بِشدَّةٍ مُتَّخِذًا حِيَلًا دفاعية وتوصَّلَ أكثرُها قُدرةً على الابتكار إلى طُرُقٍ لاستشعار الأكسجين من أجل تجنُّبِه. واليوم، لا نزال نجِد كائناتٍ دقيقةً قديمة مثل بكتيريا الميثان ثيرموأوتوتروفيكام وأيروفيرام بيرنكس (نوع من الأحياء المُحِبَّة للظروف القاسية) لا يزالان يَستخدمان مُستشعِرات الأكسجين من أجل تجنُّبه. هذه المُستشعِرات تربِط الأكسجين بالهيم، وهو جُزيء بالتأكيد قد ورَدَ ذِكره في الدروس المُتعلِّقة بالهيموجلوبين. في الواقِع، المُستشعرات مثل تلك الموجودة في أيروفيرام بيرنكس هي أسلاف بروتين الهيم للميوجلوبين والهيموجلوبين اللذين نَعرِفهما حاليًّا واللذين يُؤدِّيان وظيفة نقْل الأكسجين. بعبارةٍ أخرى، بدأتِ الكائنات الحيَّة في استشعار الأكسجين لأنه كان سُمًّا بالنسبة إليها؛ ومن ثَمَّ كانت بحاجةٍ إلى تجنُّبه. وبالرغم من أن الأكسجين لا يزال يُمثِّل سُمًّا، فعلى حدِّ قول براكلسوس: «الجرعة المُناسِبة تُميِّز السُّمَّ عن الترياق.» أمَّا نحن البشر والكائنات الحية الأخرى فلم نرفَع الجرعة المَسموح بها فحسْب من هذا السُّم، ولكنَّنا أيضًا تعلَّمْنا الاعتماد عليها من أجل حرْق الطعام واستخلاص الطاقة منها.
بقدْر ما نَعلم، مُعظم البكتيريا الحية التي تَستشعِر الأكسجين حاليًّا تفعَل ذلك من أجل الحصول على معلوماتٍ عن موقعها، وليس بهدَف تجنُّب الأكسجين. فكِّري مثلًا في برطمان من الماء النَّقي به فُقَّاعات هوائية في درجة حرارة الغرفة (٢٣ درجة مئوية) والضغط الجوي العادي. بعدما يصِل هذا الماء إلى درجة الاتِّزان التامِّ بفِعل الهواء، فإن هذا الماء سيحتوي على ٢٥٠ ميكرومترًا من الأكسجين. وهذا التركيز للأكسجين يُمكن أن يُتوقَّع من أيِّ شيءٍ يصِل إلى حالة الاتِّزان التامِّ بفِعل الهواء؛ لكن القِلَّة القليلة من الخلايا الحية هي التي تُحقِّق هذا الاتزان. في أجسامنا، الطبقة السطحية لخلايا الرئتين هي الوحيدة التي تستفيد من مزايا هذا التركيز العالي من الأكسجين. في عددٍ من طبقات الخلايا التي تقَعُ أسفلَ هذه الطبقة، يَنخفِض الأكسجين انخفاضًا ملحوظًا لتَصِل إلى مستوًى بسيطٍ من التَّشبُّع بالهواء. ويحدُث شيء ربما يكون أكثرَ جذريَّةً بالنسبة إلى الكائنات الدقيقة مثل البكتيريا. في الطبيعة، تعيش البكتيريا في أغلب الأحيان في أغشيةٍ حيوية عبارة عن طبقاتٍ رقيقة من إفرازات البكتيريا من الجُزيئات الكبيرة (التي في أغلبها سُكَّريات مُتعدِّدة) على مواد الأساس الصُّلبة. وبالنسبة إلى بكتيريا الزائفة الزنجارية أو البكتيريا العنقودية الكُروية الذَّهبية، هذه الطبقات لا يتجاوز سُمكها ٠٫٢ ملِّيمتر، وينخفِض تركيز الأكسجين من ٢٥٠ ميكرومترًا إلى ٠ ميكرومتر تقريبًا في نِطاقِ سُمكٍ ضئيلٍ لا يتجاوَز ٠٫٠٥ ملِّيمتر. هذا الانخفاض الحادُّ جدًّا في الأكسجين يَحدُث لأن البكتيريا الحية تستهلِك بنشاطٍ هذا الغاز. وبصرْف النظر عن الكيفية التي ينشأ بها عوَز الأكسجين هذا، فإن البكتيريا الموجودة في طبقاتٍ مُختلفة من هذا الغِشاء الحيوي الذي يبلُغ سُمكُه ٠٫٠٥ ملِّيمتر تعيش في بيئاتٍ تختلف اختلافًا هائلًا في تركيزاتها من الأكسجين أكثرَ من الاختلاف بين مُستوى سطح البحر وأعلى قِمَّة جبل إفرست بالنسبة إلى رئة إنسان (مثل نحو ٢٥٦ ميكرومترًا مُقابل ٨٥ ميكرومترًا من الأكسجين).
(٣) مُستشعِر FixL
برغم أنه من الواضح حاليًّا أن البكتيريا المُسبِّبة للأمراض تكتسِب درجةً عالية من المناعة ضِدَّ المُضادَّات الحيوية إبَّان عيشها في الأغشية الحيوية، وبرغم أن مُستشعِرات الأكسجين الخاصة بها ستكون مُهمَّةً دون شكٍّ بالنسبة إلى مجال الطب، فإن العمل الذي تدفعه الرغبة في فَهْم المُستشعِرات بدلًا من الرغبة في إنتاج عقاقير جديدة هو ما قاد مُصادفةً إلى فَهْمٍ أفضلَ لهذه المُستشعِرات. في الواقع، العمل الأساسي المُتعلِّق بمُستشعِرات الأكسجين البكتيرية لم يُجرَ على البكتيريا المُسبِّبة للأمراض، ولكنه جرى على أنواعٍ من بكتيريا الريزوبيا النافعة. تعيش الريزوبيا بطريقةٍ تكافُلية مع البقوليات في عُقَدٍ جذرية حيث تعمل على تثبيت غاز النيتروجين من الغلاف الجوي من أجل تكوين أملاح نيتروجينية يستفيد منها النبات كسماد. ويمكن أن تُنفِّذ هذه البكتيريا كيمياء تثبيت النيتروجين هذه في ظلِّ غيابٍ تامٍّ للأكسجين. فهي تَستخدم مُستشعِرات الأكسجين من أجل معرفة هل كانت موجودة داخل عُقدة جِذرية أزال النباتُ الأكسجينَ منها، لكنْ زوَّدها بالكثير من الأدينوسين الثلاثي الفوسفات.
(٤) اتِّصال كلِّي
حظًّا سعيدًا في دراساتك.
ماري ألدا
شُكر وتقدير
قراءات إضافية
-
Gilles-Gonzalez, M. A.; Gonzalez, G. A surfeit of heme-based sensors. In The Smallest Biomolecules: Diatomics and Their Interactions with Heme Proteins, Ghosh, A. (ed.), Elsevier, Amsterdam, 2008.
-
Lane, N. Oxygen: The Molecule That Made the World, Oxford University Press, Oxford, UK, 2002.