الكيمياء الحيوية غير العضوية: الحماس تجاه التَّلاعُب بالفلزات
كارا إل برين
جامعة روتشستر
عزيزتي أنجيلا
أثِقُ أنكِ قد تأقلمتِ مرَّة أخرى مع الحياة بعد عودتك إلى جامعة كاليفورنيا، بسان دييجو، بعد فترة إقامتك في النرويج. أنا مسرورة جدًّا أن أبهيك قد علِمَ أنك ستسافرين عبْر أوسلو أثناء زيارتي لمساعدي هناك ورتَّب لنا لقاء. لقد كانت النرويج جميلة بالتأكيد، وأتطلع لزيارتها مرةً أخرى مُستقبلًا. عندما كنتُ طالبة أفكِّر في العمل بوَصْفي كيميائية في المُجتمع الأكاديمي، لم أتصوَّر قطُّ أن من مُميِّزات اختياري لهذا المَجال ما أتاحَهُ لي من فُرَصٍ عديدة للسَّفَر. فما بين الذهاب إلى المؤتمرات وزيارة المعاونين، تمنَحُكِ هذه المِهنة فُرصة غير مُتوقَّعة لرؤية العالَم.
لقد كان وقْتُنا معًا قصيرًا؛ ومِن ثَمَّ لم تُتَحْ لنا فُرصة للحديث كما نشاء؛ لذا، وكما وعدتُ، ها أنا أُتابع الحديث معكِ الآن لأخبِرَك أكثرَ عن مجال الكيمياء الحيوية غير العضوية، وأنواع الأشياء التي يدرُسها العلماء العاملون في هذا المجال. الكيمياء الحيوية غير العضوية، ببساطة، هي دراسة كيمياء العناصر في الأنظمة البيولوجية. يشتمل هذا المجال على دراسة العناصر الفلزية واللافلزية في الأحياء، وإن كان مُعظم التركيز مُنصبًّا على الفلزات؛ لأنها في الحقيقة تُشكِّل الجزء الأكبر من الجدول الدوري؛ ومن ثَمَّ سوف أستخدِم في الغالِب مُصطلح «فلزات» في مُناقشتي للمجال. أتفهَّم أنكِ، مثل كثيرٍ من الطلاب الجامعيين، لم تدرُسي بعدُ الكيمياء الحيوية غير العضوية ولم تَسمَعي سوى القليل عنها. لقد ذَكرْتِ أنك قد تعلَّمتِ في الكيمياء التمهيدية أنَّ الحديد يلعَب دَورًا حيويًّا في حمْل الأكسجين في دمك. وربما سمِعْتِ، خارج نطاق الدراسة، قِصَصًا إخبارية عن مخاطر صبغات الرصاص السامَّة والجدَل حول الزِّئبق في اللِّقاحات، ممَّا يرسُم صورةً أكثر خُبثًا لأدوار الفلزات في الأحياء. فقط لو كُنتِ اعتبَرْتِ الأدوار الإيجابية جديرةً بالاهتمام أيضًا! رغم ذلك، فكلُّ هذه الأمثلة تُوضِّح الأوجه المُختلِفة للكيمياء الحيوية غير العضوية، وإن كان هُناك ما هو أكثر من ذلك بكثير.
في ضوء اتِّساع هذا المجال، أجِد نفسي مُضطرَّةً لاختيار بِضعةِ مجالات فقط لأُخبِرَك أكثر عنها؛ فلو كتبْتُ عن كلِّ شيءٍ في المجال، لصار ذلك موسوعةً وليس خطابًا! أولًا، أعتقِدُ أني سأكتُب عن ثلاثة موضوعات من شأنها أن تَمنَحكِ بعض المعلومات العامَّة عن المجال: (١) نظرة عامَّة على أسباب وكيفية استخدام الأنظمة البيولوجية للمعادن. (٢) أمثلة للأدوار التي تَضطلع بها البروتينات المُحتوية على الفلزَّات (البروتينات الفلزية) في المُحيط الحيوي. (٣) طرُق للكشف عن الفلزات في الأنظمة البيولوجية ودراستها. بالإضافة إلى ذلك، أردتُ أن أُخبرك عن بعض المجالات التي ذكرتِ أنك قد سَمعتِ القليل عنها في مُقرَّراتٍ أخرى وأثناء تصفُّح الإنترنت، مثل (١) دَور الأيونات الفلزية في مرَض ألزهايمر. (٢) الأدوية القائمة على الفلزات. من المُفترَض أن هذا سوف يُعطيك مُقدِّمة واسِعة عن أنواع الجُزيئات التي نَدرُسها والتقنيات التي نستخدمها، إلى جانب بعض الأمثلة المُحدَّدة — المُتعلِّقة بصحة الإنسان — لدراساتٍ عن كلٍّ من الفلزات الموجودة طبيعيًّا والفلزات المُدخَلة في الأنظمة البيولوجية.
(١) حَيَوات غير عضوية!
حسنًا، أتمنَّى أن أكون قد أوضحتُ فِكرة أن غير العضوي لا يَعني غير حي؛ ومن ثَمَّ سيكون السؤال القادم الذي يتبادَرُ إلى ذِهن أي كيميائي هو، «لماذا» تُشكِّل عناصرُ عديدة جدًّا، من ضِمنها الفلزات، ضرورةً أساسية للحياة. تتنوَّع الجُزيئات الحيوية في بِنياتها ووظائفها، والتنوُّع الكيميائي ضرورة أساسية للحياة. وفي ضوء ذلك، يكون من السهل أن تُدرِكي لماذا تقوم الحياة على الكربون، في ظلِّ ما له من كيمياء شديدة التنوُّع، كونه قادرًا على تكوين روابط مع غيره من العناصر في شكل خَطِّي (كما في الأسيتلين)، أو شكلٍ ثلاثي مُستوٍ (كما في الإيثلين)، أو رُباعي الأوجه (كما في الهيدروكربونات)، وتكوين مُركَّبات مع مُعظَم العناصر الأخرى في الجدول الدوري، وتكوين جُزيئات صغيرة ثابتة، وحلقات، وبوليمرات ذات وزنٍ جُزيئي عالٍ. لا يُوجَد عنصر آخَر يمتلك كل هذه السِّمات. ورغم تَعدُّد قُدرات ووظائف الكربون، يُوجَد عددٌ من الأشياء لا تستطيع الجُزيئات العضوية القيام بها بسهولة، على الأقلِّ دون بعض المساعدة، في حِين يسهُل على الجُزيئات غير العضوية القيام بها. أول هذه الأشياء أنَّ الكربون لا يستطيع الارتباط بأكثرَ من أربعِ مجموعات مختلفة، بينما الأيونات الفلزية قد ترتبِط بما لا يَقلُّ عن مجموعة واحدة وحتى ٨ أو ١٠ مجموعات (غالبًا ما تُسمَّى ربيطات). بالإضافة إلى ذلك، يُكوِّن الكربون روابط قوية مُوجَّهة، وبينما تُعدُّ هذه الخاصية مُفيدة للثَّبات، فإنها تجعل تكوين الرابطة وكسرها أمرًا صعبًا. في المُقابل، تستطيع الأيونات الفلزية تكوين روابط ضعيفة نسبيًّا ولكنها ثابتة مع العديد من الربيطات، ممَّا قد يُتيح حدوث تبادُلٍ سهل. ثَمَّةَ طريقة أخرى تُظهِر بها الجُزيئات غير العضوية نشاطًا تَفاعُليًّا مُختلفًا عن الجُزيئات العضوية تتمثَّل في قُدرة العديد من الأيونات الفلزية على استقبال ومَنْح إلكترون في المرة الواحدة بسهولة، وأحيانًا أكثر من إلكترون على نحوٍ مُتتابِع، وتستطيع البقاء ثابتة (غير تفاعُلية نِسبيًّا). وهذا النوع من النشاط أساسي في عملياتٍ مثل التمثيل الضوئي والتنفُّس، التي تلعَب فيها الأيونات الفلزية أدوارًا جَوهرية (وإن كان يُوجَد أيضًا بعض الجُزيئات العضوية التي تعمل كمانِحات ومُستقبِلات للإلكترون). وهذه القُدرة التي تتَّسِم بها بعض الأيونات الفلزية على تغيير حالة الأكسدة بسهولة بِوِحدتَين أو أكثر تجعلها مُكوِّنات قيِّمة للجُزيئات الحيوية التي تُحفِّز التحوُّلات العديدة الإلكترون. وأخيرًا، تستطيع الأيونات الفلزية تحقيق كثافة شُحنة عالية، أي تستطيع أن تحمِل شحنة مُوجبة في حجمٍ صغيرٍ نسبيًّا، ممَّا يجعل الأيونات الفلزية أحماض لويس جيدة، أو مُستقبِلات جيدة لأزواج الإلكترونات، ممَّا يُتيح لها تنشيطَ جُزيئاتٍ أُخرى حسْب الحاجة لإجراء تفاعُلات.
كمثال للخواصِّ المُتميِّزة للفلزات، تأمَّلي وظيفة هيموجلوبين البروتين حامل الأكسجين، الذي يمتلك ذرَّةَ حديدٍ تربِط إما خمس (في الشكل المنزوع الأكسجين) أو ستَّ مجموعات (في الشكل المؤكسَج)؛ فهو قادر على ربط غاز الأكسجين على نحوٍ عكسي، رابِطًا إياه بسرعة في الأنسجة الغنية بالأكسجين فيما يُطلِقه في الأنسجة الفقيرة في الأكسجين، وهو ما يُعدُّ أمرًا لافتًا للنظر؛ لأن الأكسجين عاملُ أكسدة قوي ولا يَتفاعَل عكسيًّا مع الجُزيئات العضوية في العموم (في الحقيقة، نحن نُشير إلى هذا التَّفاعُل بالاحتراق). عندما يرتبِط الأكسجين، يُغيِّر حديد الهيموجلوبين حالته المُؤكسدة النشطة من +٢ إلى +٣، ثُمَّ يعود إلى +٢ عند إطلاق الأكسجين. وتُعدُّ خواصُّ الأيون الفلزي مُهِمَّةً لوظائف الهيموجلوبين.
(٢) فلزات، فلزات، فلزات، على طول الطريق
في ضوء الأنشطة التفاعلية التي تُظهرها الفلزات، لا نجد غرابة في أن المحفِّزات البيولوجية العديدة، المعروفة بالإنزيمات، تستفيد من الأيونات الفلزية (يُشار إليها كعوامل فلزية مساعدة). يمكن أن تكون الإنزيمات أحماضًا نووية، لكن الغالبية العظمى منها عبارة عن بروتينات. ولسوف أشير إلى الإنزيمات البروتينية في هذه الرسالة. تُعزِّز الإنزيمات معدلات التفاعل عن طريق خفْض حواجز الطاقة بين المتفاعلات والنواتج، والواقع أن القدرة على تحفيز التفاعلات تُعتبَر ضرورةً لكل أشكال الحياة. فلا بُدَّ أن تُحفِّز الكائنات الحية تفاعلات لتكسير المواد الغذائية، وبناء الجُزيئات الضخمة، وضخِّ الأيونات عبْر الأغشية، وإصلاح الجينات التالِفة، أو المرور بعملية التمثيل الضوئي. ومن خلال قُدراتها على ربط وتحرير الربيطات، والانخراط في انتقالاتٍ إلكترونية، وتعمل كأحماض لويس، تلعَب الأيونات الفلزية أدوارًا رئيسيةً في كل هذه العمليات. والواقع أن ما بين ٣٠–٥٠٪ من البروتينات تقريبًا تربِط العوامل المُساعِدة الفلزية.
(٣) هل تَرَين ما أراه؟
تعتمِد المعلومات التي تستطيعِين الحصول عليها من التحليل الطيفي بالتأكيد على الطريقة التي تَستخدمينها؛ فرُبَّما تَكونين قادرَةً على تحديد التركيب الجُزَيئي، أو تَماثُل موقع الفلز، أو التحرُّكات الجُزيئية، أو طاقات اهتزاز الروابط، أو الطاقات المَدارية، أو المسافات بين أنوية مُعينة، أو طاقات التفاعلات بين الإلكترونات، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. إن الطرق الطيفية تُشكِّل صندوقَ أدوات قويًّا! ثمَّةَ شيءٌ مُهِمٌّ عليكِ أن تَعِيه جيدًا، وهو أنَّ ما تَرَيْنَهُ يعتمد، كما هو الحال مع كلِّ القياسات، على كيفية رُؤيتك لشيءٍ ما. تَأمَّلي تلك القصة الخُرافية حول مجموعة من الأشخاص يتفحَّصون فِيلًا باللَّمس فقط؛ حيث يلمس كلٌّ منهم جُزءًا مُختلفًا من الفيل (الخرطوم، والناب، والساق)، ومن ثَمَّ يتوصَّل كلٌّ منهم إلى استنتاجٍ مُختلف تمامًا حول سِمات الحيوان. بالمِثل، ربما يَمنحك استخدام طريقةٍ طيفية واحدة إجابةً ظاهرية مُختلفة عن طريقةٍ أخرى، وهذا هو السبب الذي يدفع عُلماء الكيمياء الحيوية غير العضوية في الغالب لاستخدام طُرق عديدة مُختلفة. ومع ذلك، في بعض الحالات، يكون لدينا بِضع طُرقٍ فقط نستطيع أن نَستخدمها؛ فالفلزات ذات «الأغلِفة المُغلقة» (أي كلُّ مدارات التكافُؤ مُمتلِئة) من الصعب استكشافها باستخدام التحليل الطيفي. ولسُوء الحظ، يشمل هذا عددًا من الفلزات المُهمَّة بيولوجيًّا، مثل الكالسيوم، والماغنسيوم، والزنك. ويَجري الآن تطوير طُرقٍ جديدة، سأُعلِّق عليها بعد قليل، للمساعدة في دراسة هذه الفلزات.
كانت تَجارِب الكيمياء الحيوية غير العضوية، على مدى مُعظم تاريخها، تُجرى على عَيِّناتٍ مُنتَقاة من جُزَيءٍ حيوي فلزي مُركَّز في محلولٍ مائي مُنظِّم (رغم أن بعض التجارب قد أُجرِيَت على عيِّناتٍ مُجمَّدة أو مواد صُلبة). بالإضافة إلى ذلك، يتمُّ اختيار تركيز الجُزيء الحيوي والوسط الذي يحتويه المُستَخدَمَين في تجربةٍ ما، عامَّة، طبقًا لمُتطلَّبات التجربة وليس وفقًا لماهية بيئة مَوقع الجُزيء. وهذا ليس بالمنهج المَنطقي؛ لأنَّ الجُزيئات الحيوية الكبيرة مُعقَّدة تمامًا بطبيعتها، ومن أجل الحصول على معلومات تفصيلية عن بِنيتها ووظيفتها، يكون من المُفيد، بل من الضروري، ألا يكون لديكِ موادُّ أخرى موجودة قد تتداخَل مع إجراء القياسات أو تفسير البيانات أو كليهما. وأيًّا كان الحال، فنادِرًا ما نَعرِف البيئة الحقيقية التي يتعرَّض لها الجُزيء الحيوي عندما يقوم بوظيفته داخل الخلية، إن عرفناها من الأساس، وإن كُنَّا نعرِف أن البيئة الخلوية مُختلفة تمام الاختلاف عن محلولٍ مائي مُنظِّم بسيط. فالجُزء الداخلي من الخلية «يتَّسِم بالفوضى» على نحوٍ بالغ؛ إذ يكتظُّ بمَقصورات وعُضيَّات عديدة، ومجموعة كاملة من الجُزيئات الكبيرة ومواد أيْضيَّة من بينها أنواعٌ ربما تكون تفاعُلية (مثل المواد المُؤكسِدة أو المُختزلة)، والتي ربما تُربِك بِنية الجُزيئات الحيوية ونشاطها (مثل الرُّبيطات والأغشية). وقد فكَّر علماء الكيمياء الحيوية غير العضوية أكثر ممَّا اعتادوا بشأن الكيمياء غير العضوية داخل الخلية، والتي تشمل خواص الجزيئات الحيوية الفلزية وسلوكها في مُحيطٍ خلوي، بالإضافة إلى السؤال الخاص بكيفية ضبط الخلايا لمُستويات الأيونات الفلزية داخلها. ولعلَّ ممَّا يجعل السؤال الثاني مُهمًّا في سياق الكيمياء غير العضوية والطب حقيقة أنه يُوجَدُ مدًى محدود للتركيز «الصحي»، يُشير الانخفاض عنه إلى وجود نقص، فيما يعني الارتفاع فوقَهُ وجودَ سُميَّة، لكل الأيونات الفلزية على كلٍّ من المُستويات الخلوية والعضوية.
تتطلَّب دراسة الأيونات الفلزية والجُزيئات الحيوية الفلزية داخل الخلايا وضْع طُرق تسمح بالكشف النوعي، الحسَّاس والسريع داخل المحيط الخلوي المُعقَّد. وقد ركَّزَتْ بعض الدراسات في هذا المجال على إجابة السؤال السَّهل المُخادع: «ما هو تركيز الفلز في الخلية؟» مُستعينةً في ذلك بتقنيات الكيمياء غير العضوية التقليدية المُطبَّقة بذكاء على المُحيط الخلوي. وتُشير الشواهد إلى أن مُستويات الأيونات الفلزية الحُرَّة (أي غير مُرتبطة بِجُزيئاتٍ أخرى) قليلة جدًّا، ممَّا يُلمِح إلى تحكُّمٍ شديد في مُستويات الأيونات الفلزية في الخلية. وقد ساعد الرَّبط مع خِبرة العلماء البيولوجيين في توجيه السؤال الاستيضاحي التالي: «كيف تتحكَّم الخلية في مستويات الأيونات الفلزية؟» من خلال تجميع طُرق من مجالات عِلم الوراثة، والكيمياء غير العضوية، وعِلم الأحياء البنيوي، أُحرِز تقدُّمٌ عظيم في فَهم كيفية استهلاك الخلايا للأيونات الفلزية وإفرازها وكيفية تحقيق الخلايا تَحكُّمًا شديدًا في مُستويات الأيونات الفلزية. ولعلَّ من الاكتشافات التي تم التوصُّل إليها في هذا الصَّدد أنَّ الخلايا تستخدم بروتيناتٍ تُسمَّى الوصيفات الفلزية (أوشابرونات) لربط الفلزات ونقْلِها داخل الخلية. كذلك اكتُشِف أن البروتينات تعمل كمُستشعِرات للأيون الفلزي في الخلية، من خلال ربْط أيون فلزي مُعيَّن والمرور بتغيُّر في الشكل يُحفِّز عملياتٍ أخرى في الخلية مُتصلة بالتحكُّم في مُستويات هذا الأيون الفلزي. وقد أُجري هذا العمل على أيونات فلزات مثل الزنك، والمنجنيز، والحديد، والنحاس، وأيضًا على مجموعات الهيم المحتوية على الحديد.
ثَمَّة نهجٌ مُختلف، ولكنه ذو صِلة، لدراسة الكيمياء غير العضوية في الخلية يتضمَّن تطوير مجسَّاتٍ كيميائية نافذة للخلايا للأيونات الفلزية. ولهذا الأسلوب أهمية خاصة للأيونات الفلزية «الساكنة طيفيًّا». ويُطلق على هذه الجُزيئات أيضًا مُستشعِرات؛ لأنها تُعطي إشارةً لوجود أيون فلزي للباحث العملي. ويُمثِّل تَصميم مُستشعِرات الأيون الفلزي تَحدِّيًا مُهمًّا لعلماء الكيمياء غير العضوية لكثرة مُتطلَّباتها. ولسوف أستخدِم استشعار الزنك كمثال؛ نَظرًا لِما جذَبَهُ من انتباهٍ مُؤخَّرًا. لا بُدَّ أولًا أن يُظهِر المُستشعِر تغيرًا جوهريًّا في التألُّق الضوئي عند ربط الزنك، ويُفضل أن يكون هذا التغيُّر مصحوبًا بزيادةٍ في وجود الأيون (إذ يَصعُب تفسير فقدان الإشارة أو غيابها). ويُعدُّ التألُّق هو الإشارة المُفضلة؛ نظرًا لإمكانية كشفها حتى على مستوى الجُزيئات المُنفردة وفي وجود بِنًى وجُزيئاتٍ أُخرى داخل الخلية. ولا بُدَّ أن يكون لدى المُستشعِر انتقائية للزنك عن جميع الأيونات الفلزية والمكونات الأخرى داخل الخلية، بما فيها تلك التي تُوجَدُ بتركيزاتٍ أعلى من الزنك. كذلك يجِب أن تكون قابِلية المُستشعِر للزنك عالية بما يكفي لربطِهِ عند تركيزات مُنخفضة، ولكن دون أن تكون مُرتفعة بما يتعذَّر معه إطلاق الزنك عند استشعار وجود نقصٍ كبيرٍ في تركيز الزنك. سوف تُتيح قوَّة الربط المُثلى هذه قياس التغيُّرات في تركيز الزنك مع الوقت (أي التدفُّق)؛ ولكي يكون المُستشعِر قادرًا على التحكُّم في التدفُّق، يجِب أيضًا أن يربط الزنك بطريقةٍ سريعة وقابلة للعكس. ولاستخدامه في الأنسجة الحيوية، يُفضَّل أن تكون لديه القُدرة على إحداث فلورة بواسطة ضوء تألقي ذي طاقة مُنخفِضة (بحيث يكون مَرئيًّا للأشعة تحت الحمراء القربية)، وينبغي أن يكون قابلًا للذوبان في الماء وثابتًا مع الوقت. والوضْع المثالي أن يكون غير سامٍّ، وهو ما يَسمَح له بأن يُستخدَم في الكائنات الحيَّة ورُبما للتطبيقات الطبية.
(٤) لقدْ خطرتِ الفلزات بذهني
الآن وقد أعطيتُكِ نظرةً عامَّة مُستفيضة عن أنواع الجُزيئات المدروسة والتقنيات المُستخدَمة في مجال الكيمياء الحيوية غير العضوية الرحيب، أودُّ أن أُخبركِ أكثرَ قليلًا عن بعض مجالات الدراسة في هذا المجال. أعلم تمامًا مدى تنوُّع اهتماماتك، ولكنك ذكَرْتِ أن تطبيق الكيمياء لدراسة المُشكلات الطبية الحيوية مجالٌ جاذِب لك. لذا سوف أُركز على هذا المجال في أمثلتي التي تتعلَّق بدور الأيونات الفلزية في مرض ألزهايمر، واستخدام الفلزات كمواد صيدلانية.
كان لإدراك الأدوار الأساسية التي تلعبها الفلزات في الجهاز العصبي المركزي أثره في ظهور مجال «الكيمياء العصبية الفلزية»، الذي أشرتُ إليه سريعًا عندما كتبتُ لك عن استشعار الزنك في أنسجة الدماغ. ومثل كل جوانب الكيمياء الحيوية غير العضوية، يُعدُّ هذا المجال في حدِّ ذاته مجالًا مُتَّسِعًا للغاية، ويشتمل على دراسات، مثل تطويرِ مجسَّاتٍ لفلزاتٍ ذاتِ صِلة بالاضطرابات العصبية، وتوصيف تركيب قناة أيونية، وتحليل البروتينات الداخلة في نقْل وتوصيل الإشارات بواسطة الكالسيوم في الجهاز العصبي، وفحص تأثيرات الرَّصاص على الدماغ على المُستوى الجُزيئي.
(٥) عقاقير من «ذهب»
تقع دراسات أدوار الأيونات الفلزية في مرَض ألزهايمر ضِمن مجال «الفلزات في الطب». وبالإضافة لتحليل الكيفية التي تلعَب بها الأيونات الفلزية الموجودة طبيعيًّا داخل كائنٍ حيٍّ دورًا في الصحة والمرَض، يشتمِل هذا المجال أيضًا على دراسة تأثيرات الفلزات المدخلة إلى الجسم، سَواء دُون قصد (مثل الزئبق في سوشي التونة التي تتناولها)، أو عن قَصْد في شكل عقاقير تحتوي على فلزات. أعتقد أني سأكتب قليلًا حول المُستحضَرات الصيدلانية الفلزية، التي تُعدُّ مجالًا ذا تاريخٍ طويل ومُبشِّر باستمرار.
إنَّ مُركبات البلاتين والذهب التي كتبتُ عنها هنا ما هي إلا أمثلة قليلة للعقاقير غير العضوية. ثمَّةَ عقاقير أخرى تُستخدَم حاليًّا، تشمل مُعقدات الجادولينيوم والتكنيشيوم التي تعمل كعوامل تبايُن للتصوير الطبي، والبلومايسين المُحتوي على الحديد، وهو عامل مُضاد للسرطان، وأملاح الليثيوم المُستخدَمة لعلاج الاضطراب الثنائي القطب، وأملاح الكالسيوم والماغنسيوم المُستخدمة كمُضادَّات للحموضة. وتشمل التطوُّرات الحديثة إدخال الفلزات في الطب والكيمياء النانوية (أو كيمياء الجُزيئات الفائقة) التي تقَع تحت مِظلة «طب النانو». وممَّا يحظى بأهمية خاصة استخدام الجُسيمات النانوية غير العضوية كعوامل لتوصيل الدواء وكعوامل تصوير. يجِب أن تسألي الأستاذ كوهين في جامعة كاليفورنيا في سان دييجو أكثر عن هذه الأمور؛ لأنه خبير في هذا المجال.
إن استخدام الفلزات في الطب مجالٌ جاذِب لمن تَستهويهم فكرة تطوير عقاقير سوف يكون من شأنها تخفيف الأعراض وعلاج المرض، أي فكرة إحداث تأثير إيجابي ومُباشر على حياة الناس. من المُهمِّ أن تَضعي في اعتباركِ أن الطريق لتطوير عقَّار جديد طويل، ومُعبَّد بالصدفة كما يتبيَّن من قصة السيسبلاتين. ولكن أي دراسات تُعزِّز فَهْمَنا لكيفية تفاعل الفلزات مع الجُزيئات الحيوية، وكيفية تعامُل الخلايا والأنسجة مع كلٍّ من الأيونات الفلزية الطبيعية والمُدخلة، وكيفية مُساهمة الفلزات الموجودة طبيعيًّا في سلامة وظائف الخلية؛ سوف تُعزِّز قاعدة معرفتنا الأساسية التي هي ضرورية ليس فقط لتطوير العقاقير، ولكن أيضًا لفَهم كيفية ظهور الأمراض وتطوُّرها. وفي النهاية، فإنَّ أي مجالٍ بَحثي يَستهويكِ هو مجال سوف تتفوقين فيه، وسوف يكون وسيلةً يُمكنك بها التأثير في عالمنا؛ فمن المُثير والمُلهِم حقًّا أن تَسلُكي مسارًا مهنيًّا تُحقِّقين من خلاله إسهامًا علميًّا بأوسع مَعانيه ومن ثَمَّ للإنسانية. وهذا يَسري على أيِّ مجالٍ تُقرِّرين دخوله. آمُل أن تَعتبري الكيمياء الحيوية غير العضوية مجالًا مُتخصِّصًا في الكيمياء لأنه في رأيي، الذي لا أُنكِر أنه مُنحاز، يُتيح فُرَصًا عظيمة ويُقدِّم مجموعةً مُثيرة من المُشكلات للدراسة وطُرقًا للتطبيق. أتمنَّى لكِ الأفضل في مساركِ المِهني المستقبلي، وأتوقَّع أن أراكِ ثانيةً، ربما في مؤتمر، ربما في مكانٍ بعيدٍ مُثير.
كارا
قراءات إضافية
-
Bertini, I.; Gray, H. B.; Stiefel, E. I.; Valentine, J. S. Biological Inorganic Chemistry: Structure and Reactivity, University Science Books, Sausalito, CA, 2007.
-
Bioinorganic Chemistry: Biocatalysis and Biotransformation. Current Opinion in Chemical Biology 2007, 7(2), 113–240.
-
Bioinorganic Chemistry Special Feature. Proceedings of the National Academy of Sciences of the United States of America 2003, 100(7), 3562–622.
-
Metals: Impacts on Health and the Environment. Science 2003, 300, 925–47.
-
Metals in Chemical Biology. Nature Chemical Biology 2008, 4(3), 143–57; 168–75; 185–93.