مقدمة
بعض القصص التي يضمُّها هذا الكتاب قد بُني على حوادث وقعت بالفعل في مجتمعنا، كما أن بعضها بُني على ما يحدث في الحياة الإنسانية. وهناك فرق بين تصوير المجتمع وتصوير الحياة، فمصور المجتمع لا بد أن يتقيَّد بما رأى وشاهد وعرف، إذا أراد أن يكون صادقًا، فلا ينبغي له التعرض لبيئة أو طبقة لا يعرفها.
ملاحظة الواقع شرط من شروط التصوير الاجتماعي … أما تصوير الحياة فأمر آخر؛ لأن الحياة أشمل من الواقع … فالحياة الإنسانية يدخل في نطاقها الواقع وغير الواقع؛ لأن حياة الإنسان — على خلاف حياة النبات والحيوان — لا تقف عند حد الوجود المادي … بل هي تشمل الوجود في مختلف نواحيه، المنظورة وغير المنظورة، المادية والروحية.
ولعلَّ سمو قصة «هاملت» لشكسبير راجع إلى إحاطتها الكاملة بالحياة البشرية، في غرائزها ومشاعرها وخيالاتها وأشباحها وتفكيرها، فيما هو كائن على الأرض وما هو غير كائن إلا فيما بعد الموت.
حياة الإنسان هي أعجب ما في الخليقة لأنها أوسع ما في الخليقة.
والقصة القصيرة، باعتبارها لونًا من ألوان الفن، يجب أن تتناول ذلك كله فيما تتناول من شئون الإنسان في مجتمعه وحياته … ومهمتها في ذلك عسيرة … لأنها فن اقتضاب وتركيز، شأنها في ذلك شأن المسرحية والقصيدة.
وهذا التركيز هو الذي قد يجعل منها فن المستقبل — في رأي بعض أهل الأدب العالمي اليوم — ذلك أن أدب المستقبل لن يحتمل الإسهاب … وقارئ اليوم والغد يكاد تكفيه اللمحة الخاطفة لإدراك الصورة الكاملة، وتكاد تُغنيه الإشارة عن الإطناب في العبارة.
فالقارئ الحديث الذي يعيش في عصر الطائرات النفاثات لن يطيق طويلًا الاسترخاء في مطالعة مئات الصفحات ليحيط بصورة من الصور أو شخصية من الشخصيات … كما أن وجود الراديو والتليفزيون لن يتيح وقتًا لقارئ ينفقه في مطالعة كتاب طويل إلى جوار المدفأة، كما يقول الأوروبيون … فإن ركن المدفأة الذي ترعرعتْ في كنفه القصص الطويلة لأمثال بلزاك، وفلوبير، ودستوفسكي، وتولستوي، وسكوت، وديكنز، وغيرهم، هذا الركن لم يعد يحتله الكتاب وحده الآن كما كان في الماضي … بل يشاركه فيه اليوم صناديق الفن الصوتي والمرئي وبرامج مختلفة من مسموع ومنظور.
أترى مجد القصة الطويلة قد انقضى بانقضاء القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؟
مهما يكن من أمر، فإن طابع المسرحية والقصة القصيرة — بما فيه من ضغط وتركيز وإيجاز وتلميح — هو الأدنى إلى طابع العصر الحديث في مستقبله القريب.
ومن يدري؟ فقد تدور الأيام دورتها وتصبح البلاغة في عُرف العالم القادم، كما كانت في عُرف الأدب العربي الغابر، هي بلاغة الإيجاز، يفرضها على العالم اليوم عصر السرعة … كما فرضها قديمًا عند العرب الرحل سرعة تنقُّلهم بين واحات الصحراء.
السرعة في كل زمان ومكان تُنمي في الإنسان سرعة الإدراك وسرعة التلقي والاستيعاب، فيتخذ الفن تبعًا لذلك من القوالب ما يتفق مع روح العصر والحياة.