موقف حرج
حدث ذات صباح أن كنتُ جالسًا على إفريز المقهى المعتاد بجوار صديقي حسن «بك» … وهو ليس من أصحاب الألقاب ولا حملة الرُّتب، ولكن هكذا نُناديه لأن حب المظهر شيء في دمه، والرغبة في «التظاهر» طبع فيه.
مرَّ بي في ذلك اليوم مُصادفة، فأجلسته وأكرمته، ولم أكن رأيته منذ شهور … وأمرت له بفنجان من القهوة … وأخذنا في الحديث … وإذا شخص يدنو مني مبتسمًا مترددًا، فالتفتُّ إليه وبادرته: من حضرتك؟
– أنا اسمي … مُرقص.
– طلباتك؟
فمال على أُذني هامسًا:
هل تقبل أن تكسب خمسين قرشًا في اليوم، وأنت جالس في مكانك هذا، بدون أن تصنع شيئًا؟
– بالطبع … لا مُوجِب للرفض.
قلتها على البديهة، كأنها من وحي الشعراء.
فبادر الرجل يقول: إذن اتفقنا … وهذه دفعة على الحساب …
وأَخرج بالفعل ورقة مالية من فئة الخمسين قرشًا، دسَّها في كفي، فوضعتها على الفور في جيبي، وأنا أقول: اتفقنا.
وانصرفت عنه إلى استئناف الحديث الذي انقطع بيني وبين حسن «بك»، ولكن الرجل حدَّجني بنظرة شديدة، وقال: ألا تسألني عن أصل الموضوع؟!
– أي موضوع؟
– لماذا إذن أُعطيك هذه النقود؟
– وهل أنا أعرف؟ … كل معلوماتي في الأمر، أنه قد تم بيننا اتفاق … ألم يحصل بيننا الآن اتفاق؟ … ألم يقع عرض وقبول؟ … أما من جهتي فقد قَبِلت وانتهى الأمر … بهذه المناسبة أُحب أن أستفسر منك لماذا تعطيني هذا المبلغ؟
– أخيرًا … اسمع يا سيدي … المسألة بسيطة … أنت تجلس هنا دائمًا تُراقب المارة في غير شيء، فلن يُكلفك جهدًا أن تُراقب سيدة يقال إنها تتردد على هذه العمارة … فتعرف لنا في أي ساعة بالضبط تدخل، وفي أي ساعة تخرج؟
– وما شأنك بهذه السيدة؟
– لا شأن لي بها على الإطلاق، ولم أرها قط.
– عجبًا! … وما الداعي إذن لأن تجعلني «شرلوك هولمز» في مسألة لا تعنيك ولا تعنيني؟!
فتنحنح الرجل ثم قال: فلنتكلم بصراحة … لا أحسن من الصدق والصراحة … أنا في الحقيقة المُكلف بهذه المراقبة في نظير مبلغ جنيه، ولكني مشغول بعمل آخر، وليس لديَّ الوقت الذي يمكِّنني من أداء هذه المهمة … ففكرت في أن أستأجرك من الباطن، ونتقاسم المبلغ.
– عظيم يا مرقص أفندي … أنت في الحقيقة هو الذي لا يصنع شيئًا ويتقاضى خمسين قرشًا.
– وأنت أيضًا لا تصنع شيئًا.
– كيف تقول ذلك يا مرقص أفندي؟ … فأنا الذي سأقوم بكل المهمة.
– بالاختصار تريد أن أنزل لك عن جزء من حصتي؟ … فليكن ما تريد … أنا لا أُحب أن أُغضبك … إليك عشرة قروش أخرى.
– خمسة وعشرين من فضلك!
– تريد أن تأخذ ثلاثة أرباع الجنيه، وأنا الربع؟!
– هكذا العدل.
فنفخ الرجل غيظًا … ولكن لم يجد من القبول بُدًّا … فأخرج من جيبه فرق المبلغ، ونقدني إياه دون أن ينبس بحرفٍ … فوضعت النقود في جيبي ووعدته خيرًا، وانصرفت عنه إلى محادثة جليسي … ولكن الرجل لم ينصرف، ودنا مني يقول: حضرتك لم تسألني عن السيدة.
– أي سيدة؟
– التي ستُراقبها … كيف ستقوم بمراقبتها وأنت لم تعرف مني أوصافها؟
حقيقة … غاب عن فطنتي ذلك … اذكر لي أوصافها.
– خير من هذا أن أُريك صورتها، لتنطبع ملامحها في رأسك جيدًا … إليك الصورة … انظر …
وأخرج من محفظة جيبه صورة فوتوغرافية لامرأة مليحة أطلعني عليها بحذرٍ وهي في يده … فقلت له: هل تسمح لي أن أحتفظ بالصورة؟
– ليس هذا من المستحسن، لأني وعدت أن أحرص عليها ولا أُسلمها لأحدٍ.
– ومن الذي أعطاك إياها؟
– لا يا سيدي، هذه أسرار خاصة، لا يجوز لنا الخوض فيها … هذا لا يعنينا … فلنعمل في حدود التكليف، ولا دخل لنا في الباقي.
– أهو زوجها؟
– لا أظن.
– لعله خليلها؟
– ربما.
– خليلها يشك في سيرها ويغار على سلوكها؟!
– فراستك في محلِّها … على كل حالٍ هذا باب أنصحك ألا تفتحه أو تفتش خلفه … أسرار العائلات وخفايا البيوت يجب أن تكون عندنا في الحِفظ والصون.
– مفهوم، مفهوم.
– والآن … أنا معتمد عليك.
– اطمئن فقط لا أُخفي عنك أن ذاكرتي ضعيفة ولا يعتمد عليها، فمن مصلحة العمل أن تترك لي الصورة، ولو ليوم واحد، أرجع إليها وأُطابق حتى لا يحدث لبس أو غلط … إن السيدات المارات كثيرات … ومن الصعب على مثلي أن يفرز هذه من تلك … ففكر الرجل لحظة، وهرش رأسه قليلًا، ثم مدَّ لي يده بالصورة وهو يقول: «لا بأس … أبقِها معك اليوم»، وأوصاني بالمحافظة عليها لحين ردها إليه في الغد.
وانصرف مرقص أفندي مشيعًا بعبارات التجلة والاحترام، وما كاد يختفي عن بصري، حتى ملت على جليسي حسن بك وقصصت عليه القصة من أولها إلى آخرها — مع حذف مسألة الخمسة والسبعين قرشًا بالطبع — وختمت الكلام بقولي: أنت تعرف أن غفلتي أكبر من فطنتي، وأن سهوي أكثر من صحوي، أما أنت فكثير الفطنة، شديد اليقظة، فما رأيك لو قمت عني بهذه المهمة … وألقيت بالك إلى كل سيدة تدخل العمارة أو تخرج منها، وتُطابق أوصافها على الصورة التي سأُطلعك عليها الآن؟ … على أني قبل كل شيء أحب أن أُصارحك بأن هذا عمل بأجرٍ.
فضحك حسن بك، وقال: لا عليك … إنني سأقوم به لوجه الله.
– لا يا سيدي الفاضل … الشغل شغل … لا يوجد شيء اسمه لوجه الله … وهل تظن وجه الله يُرى بلا ثمن؟ … هذا التعبير خطأ في خطأ … ولست أدري من ابتدعه … إن وجه الله لا يشاهد بالمجان، بل بمصروفات … وإليك البيان: لا بد من دفع صدقة وزكاة، ونذور، وفداء، وكفارة، ونفقات حج، وتكاليف زيارة، وإغاثة ملهوف، والتضحية في العيد بخروف … إلى آخر تلك المبالغ التي لو جمعتها لكان الحاصل رقمًا لا يُستهان به … فدع فكرة التبرع وتناول أجر عملك طبقًا للأصول المعمول بها في جميع الأحوال.
– أمرك … انقدني الأجر إذن.
– سأدفع لك ثمن فنجان القهوة … أتقبل؟
– قَبِلت.
قالها راضيًا مغتبطًا، ومدَّ يده ليتناول من يدي الصورة … فقلت له: مهلًا … يجب أن تردَّها إليَّ قبل قيامك … فقد وعدت أن أردَّها إلى الرجل غدًا.
فقال بابتسامة بريئة: طبعًا … وما الداعي لاحتفاظي بها طويلًا؟
فوضعتها في كفِّه … فرفعها إلى عينيه باسمًا بغير اكتراث … ولكن لم يكد بصره يقع عليها حتى امتقع لونه، وارتجفت يداه، وارتعشت شفتاه … وهالني أمره، فقلت له: حسن بك … ما لك؟
فلم يجِب … وخُيِّل إليَّ أن أُذنه لم تعُد تسمع … وجمدت عيناه على الصورة، وتصبَّب العرق من جبينه … فهززته بيدي قائلًا: ما لك يا حسن بك؟ … هل … هل تعرفها؟
فقال بصوتٍ ميت ينشر من قبر: كيف لا أعرفها وهي … زوجتي؟!
وانتفض الرجل انتفاضة خِلت روحه قد خرجت معها، ووثب من مقعده، وانطلق في الشارع يعدو كالمجنون … ولم يلبث أن غاب عن نظري الشارد، وفكري الذاهل … وكدتُ أصيح في أثره: الصورة … الصورة …
ولكني تذكرت فجأة كارثته … وأدركت أنها له … وأنه أحق أهل الأرض بحملها والاحتفاظ بها … فملكت نفسي … وثاب إليَّ رشدي قليلًا قليلًا فلعنت يومي … ولعنت مرقص أفندي … ولعنت الخمسة والسبعين قرشًا التي خسرت من أجلها صديقي، وخسر الصديق زوجته، وخسرتْ الزوجة خليلها … ولو كنت أعلم أن المهمة ستؤدي إلى هذه الفواجع كلها، لطالبت مرقص أفندي بما لا يقل عن خمسة جنيهات.