مراكب الشمس
(١)
رقدتْ زوجة فرعون على فراشها الملكي تستقبل الموت، ولم تكن عيناها المنطفئتان متجهتين إلى زوجها الحزين بجوارها ولا إلى وصيفتها الواجمة … بل إلى حياتها هي … إلى ماضيها … ويا له من ماضٍ فارع على قصره … ويا لها من حياة فاترة فقيرة على الرغم مما يحف بها من أُبهة وثراء … إنها تموت وهي في ربيع العمر … ما أجمل يوم صادفته على الأرض، حتى تستطيع الساعة أن تبكيه بقلبها الذي لم يبقَ أمامه غير بضع نبضات؟ … أما دمع العين فقد جفَّ مع نبع الحياة التي قهرها المرض، ما هو أجمل يوم لها في عمرها الذي لم يتجاوز الرابعة والعشرين؟ … أهو يوم زُفَّت إلى زوجها وأخيها … هذا الفرعون الشاب الواقف عند رأسها؟ … إنه أخوها من أبيها وأمها … معه نشأت منذ الطفولة … وهي تحبه ولا شك، ولكن … لا … إنها تعرف الآن أن هذا ليس هو الحب الذي ينبض له القلب … وهل نبض قلبها مرة؟ … نعم … مرة واحدة … انتفض وأضاء وانطفأ … كاختلاجة الشمعة الأخيرة … تاركًا حياتها بعد ذلك في الظلام، إنها تذكر تلك اللحظة … كان مساءً رقيق النسمات في يومٍ من أيام الربيع الماضي … خرجت إلى النزهة في النيل، وقد أعدت القوارب الملكية، وأحاطت بها الجواري بالدفوف والمزامير وآلات العزف … فأقبل الشعب في جموعه لتحية الملكة الجميلة … وإذا هي تشعر فجأة بعينين تنفذان من بين سواد الشعب كأنهما شهابان ملتهبان، لمعا سريعًا وسقطا في هوة قلبها الفارغ … من صاحب هاتين العينين؟ … ولماذا حدق في وجهها هذا التحديق؟ … ولماذا ارتجفت لنظراته؟ … كل ما تعلم هو أن الحراس أبعدوه عن طريقها، وأنها سارت بعد ذلك على غير هدى … تلك هي الخلجة الأولى والأخيرة لهذا القلب الملكي … أما الآن فماذا ينتظرها؟ … نزهة أخرى في قارب آخر … مركب الشمس! … نعم … إنهم ولا شك قد فرغوا من صنعه لها وإعداده … وعمَّا قليل تُحنَّط ويُلقى جثمانها في تابوت مزخرف ويوضع في قبر سري … أما روحها فيتلقَّاه الكاهن الأكبر، ويحمله إلى مركب الشمس، بين تراتيل الكهنة وصلواتهم … ثم يلفظ كلماته السحرية فيرتفع المركب بالروح إلى الفضاء نحو أبواب السماء الأربعة والعشرين! … هذا ما عرفته يوم مات أبوها الفرعون الكبير، كانت في الرابعة عشرة من عمرها، لا تدرك كثيرًا مما يجري حولها، ولكنها رأت تلك المراسيم … وسألت يومئذٍ كبير الكهان بسذاجة الطفولة بعد أن فرغ من عمله: هل ارتفع المركب بروح أبي إلى الفضاء؟
فقال الكاهن: نعم … وهو الآن يسبح في شعاع الشمس، وتضرب مجاديفه النور المتدفق كالأمواج، على نغم الأغاني والأهازيج.
فقالت الطفلة وهي تنظر إلى مركب الشمس بخشبه المصنوع من شجر الأرز: ولكن المركب في مكانه لم يتحرك!
فأجاب الكاهن: روحه هو الذي تحرك … حاملًا روح أبيكِ.
فسألت الطفلة: وما هو الروح؟
فقال الكاهن: هو أنتِ بغير ردائك الجسدي!
ولم يدع لها فرصة سؤاله بعد ذلك … كأنما هو قد ضاق بالحديث مع الأطفال في هذه الشئون … فانصرف سريعًا … وتركها تسأل نفسها عما لم تفهم … وهيهات أن تفهم! … وها هي ذي … الآن في: وضع أبيها … وبعد بُرهة يأتي نفس هذا الكاهن ويلفظ كلماته السحرية ويعلن أن روحها قد حمله مركب الشمس، سابحًا به في أمواج النور … ولن يجد بعدئذٍ من يُلقي عليه أسئلة … لأن السؤال الأخير الذي لفظته شفتاها وهي تلفظ آخر أنفاس الحياة، وهو ما لن يجيبها عنه أحد، هو: لماذا، ولمن خفق قلبها تلك الخفقة في مساء ذلك اليوم من أيام الربيع؟
(٢)
كان صانع مركب الشمس الذي سيحمل روحها إلى السماء، قد فرغ من عمله، وجاءت جماعة من الكهنة فحملوا المركب إلى حيث تجري عليه الطقوس … وألقى الصانع نظرة أخيرة على مركبه من عينيه النافذتين، ثم مضى إلى حانة نبيذ اعتاد أن يلتقي فيها برفاقه … دخل الحان وارتمى إلى جوار صديقه ناحت التماثيل، دون أن ينبس بحرفٍ … كانا صديقين قديمين … جمع بينهما الصبا … وربط بين قلبيهما حادث لا ينساه المثَّال؛ فقد هبط النيل يومًا ليأتي ببعض الطمي، ففاجأه تمساح كاد يفترسه، لو لم يعاجله صديقه النجار بضربة من سكينة، مُعرضًا حياته للخطر … كان كلٌّ منهما موضع سر الآخر … ويوم أَحَبَّ المثَّال وصيفة الملكة، لم يتردد في إحاطة صديقه بكل التفاصيل … قال له إنه صادفها مرات يوم كان مكلَّفًا بنحت بعض التماثيل لفرعون، وإن الأمر بينهما انتهى بما يشبه الخطبة، لولا مرض الملكة.
أما صانع مركب الشمس فكان في صدره سرٌّ، لم يجرؤ أن يبوح به لصديقه ولا لمخلوق … إلى أن كان ذلك اليوم.
جلس صامتًا، فالتفت إليه صديقه المثَّال، وقد طرح من يده القدح: أراك تبكي!
– أترى في عيني دموعًا؟
– ليس في عينيك.
قالها المثَّال بنبرة من يؤكد أنه أعرف الناس بما في أعماق صديقه … وصمت الاثنان لحظة … وعاد المثَّال إلى قدحه، فجرع منه جرعة … ثم قال لصديقه: إنك تُخفي عني سرًّا.
فأجاب صانع المراكب بغير مقاومة: نعم.
– لماذا؟
– لأنه جنون.
– تكلم! إني صديقك الوحيد.
فأطرق صانع المراكب هنيهة … ونظر إلى وجه صديقه مليًّا … ثم عاد إلى الإطراق. فقال له المثَّال: تُخفي عني؟! أتخاف مني؟
– بل أخاف عليك … أخاف أن تُفجَع.
– لا تخف … تكلم!
فتجلَّد النجار وتحامل وهمس: أحببتها … ولم أزل أحبها … وسأحبها دائمًا.
– من هي؟
– الملكة.
فكاد القدح يسقط من يد المثَّال … ولفظ من شفتين ترتجفان: ماذا تقول؟
– ألم أقل لك إنه جنون.
أطلقها مع ضحكة صغيرة كضحك المخبولين، جعلت صديقه المثَّال ينظر إليه فاحصًا وقد سرت في جسمه رعدة … ولكنه تماسك وسأله: ومتى رأيتها؟
فهمس صانع المراكب، وكأنه يرى ما يقول ماثلًا أمامه: ذات مساء في يوم الربيع.
(٣)
كانوا قد فرغوا من تحنيط الملكة، وأخذوا يلفُّونها في الأربطة البيضاء قبل أن توضع في التابوت … وكانت الوصيفة بين الحاضرين دامعة العينين … فاقترب منها كاهن صغير، وأسرَّ في أُذنها كلامًا، فهزَّت رأسها برفقٍ إشارة الموافقة … وما إن انتهى عملها، حتى انسلَّت خارجة إلى دار خطيبها المثَّال … حيث وجدته منفردًا بصديقه النجار … فما كاد يراها داخلة حتى نهض يستقبلها بقوله: لي عندك رجاء!
هذا الرجاء لم يكن له هو في الحقيقة … إنما هو ثمرة مناقشات وتوسلات دامت أيامًا بينه وبين صديقه … لم يكن للصديق من مطلب في الحياة بعد موت الملكة إلا الحصول على تمثال لها، يعيش إلى جواره، ويبثُّه حبه الخالد … لكن كيف الحصول على تمثالها؟ … إن هذه الملكة الشابة لم يُصنَع لها غير بضعة تماثيل رسمية لا سبيل إلى الوصول إليها … ثم هي فوق ذلك غير مُتقنة التصوير ولا بارعة التعبير … فهذه الملكة المسكينة لم يُمَد لها في العمر حتى يحفل بأمرها الفن … فقد كان أكثر المثَّالين الرسميين مهتمين بتماثيل الملك … وعندما قال المثَّال لصديقه النجار إنه لم يُكلَّف بصنع تمثال واحد للملكة، إنما كان صادقًا … عندئذٍ طلب إليه الصديق أن يصنع لها تمثالًا من أجله … من أجله هو الذي أَحبَّها حية وميتة دون أن يخاطبها أو تخاطبه … دون أن تعرف من هو … دون أن تشعر بحبه … دون أن يصل بينهما غير شعاع من نظرة، فوق هوة كتلك التي تفصل بين أرض ونجم … وحتى النجم قد انطفأ … كل ما يريد من الحياة هو تمثالها … أيضنُّ عليه الصديق بصنعه؟ ولكن كيف يستطيع المثَّال صُنعه وذاكرته لا تعي من الأصل غير أثر باهت المعالم … فهو لم يرَ الملكة إلا في شبه لمحة خاطفة، ولم يتأملها التأمُّل الكافي … وهو الآن لا يذكر من ملامحها شيئًا … لو استطاع أن يشاهد وجهها الآن ولو لحظة لأمكنه صنع التمثال … عندئذٍ صاح به صديقه أن هذا الأمر ليس بعسيرٍ … إن الوصيفة خطيبته … وفي مقدورها أن تُدبِّر له الوسيلة، فيرى وجه الملكة قبل أن يُحكَم عليها غطاء التابوت … ومن يدري؟ … ربما أتاح له الصديق وأراد له القدر أن يصنع في الفن أثرًا عظيمًا … فهو لا يُكلَّف بتمثالٍ رسمي إرضاءً لملك … ولكنه يخلق فنًّا من وحي الشعور … وهكذا تم الإغراء … وتحمَّس الفنان، إرضاء للفن وللصداقة في آنٍ.
– لي عندك رجاء!
قالها المثَّال للوصيفة مُكررًا … ثم شرح لها الموضوع … فأجفلت وارتاعت … ما هذا الجنون؟ … أهناك مخلوق يفكر في رؤية ملكة مقدسة وهي في تابوتها ليصنع لها تمثالًا؟ … هذا بالطبع كل ما فهمته … فالمثَّال لم يجرؤ أن يفضي إليها بحب صديقه للملكة … كل ما قال هو أنه يُقدسها ولم يجد بين تماثيلها ما يستحق الخلود … وأن الفنان قد راقت له فكرة القيام بهذه المهمة، ويرجو من خطيبته أن تعاونه على تحقيق حدث فني جليل …
وانتهى الأمر بالوصيفة أن أذعنت لرجاء خطيبها الفنان وقالت: فلنسرع إذن قبل أن يُغلَق التابوت عند الفجر! … ورسمت الخطة … إنها تعرف سردابًا خفيًّا يصل إلى مكان التابوت وصفته لهما … وأوصتهما أن يجيئا في ثياب الكهنة، عند منتصف الليل … وستكون هي في الانتظار عند باب السرداب … وتركتهما وهي تُحذر حبيبها الفنان باسمة: وحذار أن تُكثر الليلة من الشراب!
(٤)
اتفق الصديقان على اللقاء في الحان المعهود عند هبوط الظلام … وأقبل صانع المراكب فوجد صاحبه الفنان قد سبقه، وملأ جوفه ببضعة أقداح وهو يقول متمايلًا: لا تخشَ شيئًا … إن قليلًا من النبيذ يشحذ ذاكرتي … وأنا أحوج الناس الليلة إلى الذاكرة القوية … فعلى صفحتها ستنطبع صورة النموذج … ذلك الانطباع الذي سيمدني بالوحي.
فنظر إليه صانع المراكب بقلقٍ: ولكنك أسرفت.
فقال الفنان ضاحكًا ضحكة صاخبة: أنا؟ … مطلقًا … إني أعرف معياري … ويجب أن أزيد قليلًا عند القيام بعمل هام … تلك عادتي … وبهذا صنعت من التماثيل أعاجيب!
ورفع قدحه وجعل يجرع حتى سقط القدح من يده … وعندئذٍ لم يتمالك صديقه وأنهضه بعنفٍ وخرج به من الحان … وسار به يسنده حتى لا يسقط، إلى أن بلغا دار الفنان، وكان من المتفق بينهما أن يغيِّرا فيها ثيابهما، ويرتديا ثياب الكهان … لكن المثَّال ما كاد يدخل داره ويلمس جسمه فراشه الناعم حتى ارتمى ارتماءة لا أمل بعدها في يقظة قريبة … وحان الموعد المضروب عند منتصف الليل والصديق يحاول عبثًا أن يُفيق صديقه المخمور … حتى أدركه اليأس، وقال في نفسه: أهي مشيئة الآلهة؟ … أهو سوء حظي؟ … ما العمل الآن؟ … الوصيفة تنتظر … وهذا الحيوان في سُباته؟! … أكل شيء ضاع؟!
وفكَّر مليًّا … ورأى الموقف بوضوحٍ … أما تمثالها فلا أمل فيه الآن … ولكن أيترك الوصيفة في الانتظار طول الليل دون جدوى؟ … أم يذهب إليها ويخبرها بما حدث … ولماذا لا يذهب؟ … بل ولماذا لا يُلقي هو النظرة الأخيرة على حبيبته المُسجاة في تابوتها … تلك النظرة التي ستطبع ولا شك تمثالها في رأسه هو إلى الأبد، أقوى وأصدق من أي تمثال من الحجر!
وارتدى هو ثوب الكاهن … وترك صديقه مرتميًا على فراشه، وغادر الدار إلى مكان السرداب.
وهناك وجد الوصيفة منتظرة في الموضع المتفق عليه … فلما رأته وحده تغيَّر وجهها وبادرت تسأل: جئت بمفردك؟
فأجاب باقتضابٍ: خالف نُصحك وشَرِب.
– وأين هو الآن؟
– مخمور في فراشه.
فتحركت مديرة ظهرها تريد الانصراف لشأنها، وقد فهمت أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد … ولكن صانع المراكب استوقفها: دعيني أنا أنظر إليها!
– أجننت؟
– أتوسل إليكِ!
– وما غرضك أنت من ذلك؟
– نظرة واحدة … أخيرة.
– أفي عقلك مس؟
فأمسك بيدها كما يمسك مخلب الصقر بالحمامة، وقال بصوتٍ آمر حاسم أجش مُخيف: قوديني إليها!
ودفعها أمامه … فلم تجد بُدًّا من الطاعة … فمشت به في المسالك المظلمة الطويلة لهذا السرداب الخفي، إلى أن بلغت نهايته، فطرقت بيدها جانبًا من الجدار، وإذا بحجرٍ كبيرٍ ينفرج عن بابٍ يؤدي إلى قاعة متسعة مُزيَّنة بالنقوش مضاءة بمصابيح مستترة في كوات بالحيطان وخلف الأعمدة … ولم يكن بالقاعة أحد فقد غادرها الكهنة منذ قليل … وكان لها باب كبير مُغلق، وقف عليه الحراس من الخارج … ولم يجد صانع المراكب في القاعة ما يلفت نظره المعتاد على هذه الأمكنة المقدسة، ولم يحاول أن يبحث ببصره هناك إلا عن شيء واحد هو: التابوت … وقد وجده موضوعًا فوق مصطبة من الحجر في صدر المكان، وقد سلط عليه نور خفي، يوحي إلى الناظر أنه منبعث من إشعاع خشبه المطلي بالألوان أو منبثق من ذلك الجسد المسجَّى داخله … ووقف صانع المراكب جامدًا أمام التابوت لحظة … إلى أن ذهب عنه الروع فمدَّ يده إلى غطائه الخشبي، يريد رفعه، فتعلَّقت بذراعه الوصيفة تَحُول بينه وبين ما يريد، فتخلَّص منها وتقدَّم إلى الغطاء بذراعيه القويتين فكشفه، وظهر من تحته جسد الملكة ملفوفًا في الأشرطة البيضاء … فتسمَّر الصانع في مكانه وارتعد … ودقَّ قلبه دقات سريعة … وكان رأس الملكة ككل جثمان مخفيًّا في اللفائف … فتجلَّد ومدَّ أصابعه لينحي الأربطة عن وجهها، فجذبته الوصيفة بعيدًا، وهي تهدر من الغضب هديرًا مكتومًا: كُف عن هذا! … كف عن هذا! … أيها الوحش النابش للقبور! … اخرج وإلا صِحت!
فأسرع ووضع كفَّه على فمها … فقاومته … وأرادت الإفلات والصياح، فقبض على عُنقها … وأذهله الموقف عما فعل … ولم يدرِ هل ضغطَ بقبضته أو لم يضغط … ولم يُقدِّر مدى قوة أصابعه … كل ما وعاه هو أنها سقطت من بين يديه على الأرض … فوقع في الحيرة لحظة … لكنه تذكر ما جاء من أجله … فترك الوصيفة في مكانها مُلقاة، واندفع إلى الملكة المحنطة فحلَّ الأربطة عن رأسها، وانكشف وجهها الجميل الشاحب، وقد زاده صفاء الموت حُسنًا … أين المثَّال الذي يستطيع صبَّ هذا الجمال في حجر؟ … هذا ما دار في ضمير العاشق الذاهل وهو يتأمل هذا الوجه الإلهي! … ولم يكن في تلك اللحظة الفريدة يتأمل بوعي عاقل … فقد كفَّ عقله عن الحكم والتحكُّم … إنما هو شعور يملأ كيانه كالإشعاع المدمر … ولم يستطع أمام هذا الجمال أن يتقدم أو يتأخر … جمد في مكانه، وأيقن أن من المستحيل عليه الانصراف الآن … قوة خفية تربطه إلى هذه الملكة المحنَّطة … لا فرار منها ولا فكاك … إما أن يُدفن معها أو تعيش معه … وهنا لمعت في أعماقه فكرة ولم يتردد عن تنفيذها ولم يحجم، وهل يتردد الإنسان عن انتزاع الروح التي بها يحيا من أي مكان … وتَقدم من ساعته إلى الجثمان المحنَّط فنزع عنه اللفائف ورفعه من التابوت ودثَّره في ردائه واحتضنه بين ذراعيه وأراد أن يمضي به دون وعي من حيث جاء … فعثرت قدمه بالوصيفة الملقاة على الأرض … فثاب قليلًا إلى رشده … ورأى ما هو فيه من حرج … أيذهب بالملكة ويترك التابوت هكذا فارغًا، والوصيفة هكذا ملقاة؟ … إن الدنيا كلها ستقوم وتقعد بعد قليلٍ … وساورته الأفكار المتضاربة … ماذا يفعل؟ … أيمضي؟ … أيرجع؟ … وخطرَ له خاطر … لم يتردد هذه المرة أيضًا في تنفيذه على الفور.
وأسرع إلى الأربطة البيضاء فالتقطها ولفَّ بها جسم الوصيفة ورأسها، ثم أرقدها في التابوت موضع الملكة …
وحمل الملكة على كتفه وخرج بها من السرداب.
(٥)
طلع الفجر … وبدأت مراسيم الاحتفال الديني بحمل التابوت إلى المقبرة الملكية … فاحتشد الكهنة … وحضر فرعون وأسرته وعلت التراتيل … وقُدِّمت القرابين … وألقيت نظرة أخيرة على الجسد الملفوف في الأربطة، لا ترى منه شعرة، وأُحكِم غطاء التابوت، ثم نُقل إلى القبر السري الذي لا يعرف مكانه غير أشخاص معدودين … وفرغ القوم من أمر الجسد، واتجهوا إلى العناية بمصير الروح … فاقترب الكاهن الأكبر من مركب الشمس الذي أُعد للملكة فباشر المهمة المعهودة … وقام بالطقوس المعتادة، ونطق بالكلمات الدينية، والتعاويذ السحرية، ثم نهض يعلن إلى المل: أن مركب الشمس قد تحرك حاملًا روح الملكة المقدس نحو السماء، وأنه يسبح الآن في الفضاء، تحفُّ به أنغام التراتيل والغناء.
(٦)
في تلك اللحظة، كانت الملكة في مركب حقًّا … ولكن ليس مركب الشمس، بل مركب في النيل، يسبح بها إلى الضفة الأخرى … كان جسدها المحنَّط محتفظًا بطراوته ولدانته ونضارته، وأريج العطور من حولها منتشرًا … وكانت موضوعة في مقعد المقدمة وضع الجالس المتكئ … وأمامها جلس سارقها صانع المراكب يضرب بمجدافه صفحة الماء … ويرنو إليها ويقول: تلك هي النزهة التي طالما حلمتُ بها … معكِ! … نعم … أنتِ الآن هنا معي في مركبي! … يا للسعادة! … تُرى ماذا كنت تُفضِّلين؟ … هذه النزهة معي في مركب النيل؟ … أو تلك النزهة الأخرى بمفردك في مركب الشمس؟
(٧)
أفاق المثَّال من سُكره في الصباح، فوجد نفسه بثياب البارحة في فراشه … ففرك جبينه محاولًا التذكر … ولم يلبث أن أدرك ما حدث … فقام وخرج باحثًا عن صديقه وخطيبته، ليُعبِّر لهما عن أسفه … أما الخطيبة فلم يكن من السهل مقابلتها في ذلك اليوم … فقد شاهد القصر هائجًا مائجًا بالكهنة والحراس ومُعدات الاحتفال … وأما الصديق فلم يجده في الحان، ولم يصادفه في أي مكان … وخطر له آخر الأمر أن يبحث عنه في دار له مهجورة، في الضفة الأخرى من النيل كان قد تركها لبُعدها، وجعل منها اليوم شبه مخزن لأخشابه وأدواته ونماذج مراكبه الشمسية … فعَبَر النيل إلى تلك الدار، ولم يكد يقترب منها، حتى سمع شبه همس وهمهمة ومُناجاة … فطرق الباب … فلم يُفتَح سريعًا … فأعاد الطرق، وانتظر وقتًا أكثر قليلًا مما ينبغي في مثل هذه الحال، وإذا الباب يُفتَح بحذرٍ، ويطل منه رأس صديقه، فما إن رآه حتى تغيَّر وجهه … ولكنه يتماسك ويخرج إليه، متحاشيًا دعوته إلى الدخول … وظنَّ المثَّال أن هذا الاستقبال الفاتر أمر طبيعي، بعد أن أضاع على صديقه فرصة البارحة بسكره … فبادر يقول له: إني في شدة الأسف …
فلم يبد على الصديق أنه فهم أو تذكر … فقد قال متسائلًا ببساطة من لا يحمل مرارة ولا عتبًا: لماذا؟
فحملق المثَّال في وجه صديقه، فلم يجد به إلا أثر القلق والارتباك والرغبة في غلق باب الدار والابتعاد بالضيف عن عتبته … فقال له مازحًا: أليس عندك هنا ما يُشرَب؟
فقال صانع المراكب في شبه ارتياحٍ: لا … لا … هذا مكان مهجور كما تعلم … فلنذهب عنه … فلنذهب … لقد جئته اليوم لأحضر بعض الخشب … فلنتقابل في الحان الليلة … إذا شئت … في الحان … في الحان … إلى اللقاء!
(٨)
وفي ذلك اليوم وقع في ساحة المعبد حادث غريب … فقد أقبل رجل من عامة الشعب يجري ويصيح معلنًا أنه شاهد بعينيه في السماء قرصًا طائرًا يشع نورًا قويًّا أخضر اللون، ما يشك في أنه مركب الشمس الذي يحمل روح الملكة الشابة في رحلتها السماوية … واجتمع الناس حوله واشتد اللغط … وتفاقم الجدل … وبلغ الأمر مسامع الملك ورجال الدين … فجاءوا بالرجل واستجوبوه فأصرَّ مؤكدًا: رأيت بعيني!
وجاء فرعون بكبير الكهان، وسأله: أيمكن لمركب الشمس أن يُرى في السماء بالعين؟
فأجاب الكاهن بلهجة قاطعة: مستحيل.
– وما القول فيما يقرره هذا الرجل؟
– إنه كاذب أو مخدوع … ولا يُعقَل أن يظهر في السماء لأعين العامة، المركب الذي يحمل روح تلك الملكة الشابة … ولا تظهر قبل ذلك المراكب التي تحمل روح فرعون الكبير والدكم أو الفراعين العظام من أجدادكم! … هذا رجل كاذب خادع يجب أن يموت!
– ألا يمكن أن يكون هذا المركب الطائر ذو النور الأخضر لأحد الآلهة؟
– لو كان لأحد الآلهة لرأته عيوننا نحن الكهنة لا عين رجل من عامة الشعب!
– ولماذا لا تقول أيها الكاهن الأكبر إن سحرك استطاع آخر الأمر أن يُحدِث هذه الأعجوبة.
– سحري؟!
لفظها كبير الكهنة متمهلًا متأملًا … أيقبل هذا التفسير مع ما فيه من فضل يغري بالزهو أم يرفضه؟ … إذا قبله فقد يُطالب فيما بعدُ بإظهار مراكب الشمس في السماء إظهارًا مرئيًّا للعيون … وهو ما لا قِبَل له به … الأضمن له إذن أن يرفض … وأن يبقى سحره في منطقة الروح وحدها … وعندئذٍ صاح: كلا … كلا … إن هذا ليس سحري … ولكنه سحر المتآمرين على ديننا القديم … هذا الرجل يجب أن يموت!
(٩)
وفي ساحة الموت، وقف الرجل أمام قضاته من الكهنة يردد صائحًا: رأيت بعيني!
فقال له القضاة: أتنكر الروح؟
فقال بإصرارٍ: لا أنكر الروح … ولكني رأيت الواقع!
وإن الإصرار حتى الموت له دائمًا قوة السحر، فهو يخلق أحيانًا الإيمان في النفوس … وكان لموقف هذا الرجل الناهض من بين الشعب ليتحدى القوة الهائلة الممثَّلة في فرعون والكهنة، تأثير في الناس … فقد تهامست جماعة منهم مؤمنة بما يقول: لا شك أنه صادق … إنهم سيقتلونه لأنه رأى ما لم يستطيعوا هم أن يروه!
(١٠)
مضت أيام والمثَّال يبحث دون جدوى عن خطيبته الوصيفة … وسأل عنها في القصر؛ فقيل له: ما من أحد رآها منذ اليوم الذي دُفِنت فيه مولاتها … وليس هذا بغريبٍ في نظرهم من وصيفة أمينة، يأبى عليها الوفاء أن تخدم غير ملكتها، أو تبقى في مكان ضمَّهما معًا ردحًا من الزمن … ولكن أين ذهبت؟ … وهل يَطول اختفاؤها حتى عنه هو؟ … إنه لم يرها منذ الساعة التي تمَّ فيها الاتفاق على اللقاء عند السرداب … ومن أجل صديقه … وهذا الصديق أيضًا ما خطبه؟ … ماذا دهاه؟ … إنه يهرب منه الآن على نحوٍ مريبٍ … وإن مسلكه معه كان حقًّا غريبًا يوم ذهب إليه في داره المهجورة … ما من شك في أنه عَمِل على إبعاده عن تلك الدار … لماذا؟ … نعم … إنه يذكر جيدًا الآن ما سمع قُرب الباب … تلك الهمهمة … تلك المناجاة التي كان يصل همسُها من الداخل … تُرى من كان بالدار وقتئذٍ مع صديقه؟ … أهي امرأة؟ … يا للويل! … من تكون؟ … أتراها هي؟ … أتراها خانته مع الصديق؟ … لم يطق تلك الفكرة! … وعزم على أن يدهم الدار … وقام لساعته وعبَر النيل إلى الضفة الأخرى، ومضى توًّا إلى دار صديقه، وطرق بابها طرقًا شديدًا، فلم يُجِبه أحد … فدفع الباب بعنفٍ فانفتح … ودخل … فلم يجد أحدًا داخل الدار … غير أن عينه لمحت خلف أحد المراكب المسندة إلى الحائط بابًا صغيرًا يؤدي إلى حجرة مفروشة … فدلف إليها وإذ هو يتسمَّر في مكانه، وقد جمد الدم في عروقه … فقد وجد نفسه أمام الملكة الشابة متكئة على فراش وثير … وثاب إلى رشده بعد قليلٍ، وطافت برأسه الخواطر سراعًا … وأدرك ما يمكن أن يكون قد حدث … ولكن السؤال الرهيب هو: من التي حملوها في التابوت إذن، ووضعوها في المقبرة؟
ولم ينتظر جوابًا … وخرج من الدار كالمصعوق.
(١١)
لم يدرِ المثَّال ماذا يفعل إزاء كل هذا؟ … ومشى في الطرقات يُسائل نفسه كالمخبول: من المدفونة في قبرها؟ … أين اختفت خطيبته؟ … وهل بين الأمرين علاقة؟ … أيمكن أن تكون المدفونة هي؟ … يا للهول! … وكيف دُفِنت هكذا؟ … ولماذا؟ … مهما يكن من أمرٍ فلا بد من فتح المقبرة … فالملكة ليست راقدة فيها … يجب أن يذهب إلى فرعون وإلى الكهنة ويصيح: هلموا! … هلموا! … الملكة ليست في المقبرة … ولكنهم سيقبضون عليه، ويقولون له: كيف عرفت؟ … فبماذا يُجيب؟ … أيدلُّهم على دار صديقه ويوقع به قبل أن يتبيَّن حقيقة المدفونة؟ … لا … لا يفعل ذلك … فليقل إنه رأى في الحلم أحد الآلهة يخبره بهذه الحقيقة.
واتجه من الفور إلى كبير الكهان، وأعلن إليه الأمر … فنهض صائحًا: ماذا جرى اليوم؟! … كل الناس يرون الآن الآلهة إلا نحن الكهنة؟!
ثم التفت إلى المثَّال مُهددًا: أتعرف عاقبة هذا الادعاء والكذب؟
فلم يتردَّد المثَّال وقال باطمئنان: الموت … وأنا مستعد له، إذا اتضح كذبي … والأمر بسيط … افتحوا المقبرة تعرفوا الحقيقة.
وقَبِل فرعون والكهنة هذا التحدي … وفُتِحت المقبرة … وكشف غطاء التابوت … وإذا الجميع أمام منظر تقشعر له الأبدان … فقد شاهدوا أسنان امرأة برزت من بين أربطة الوجه … وكأنها كانت تجاهد في تمزيقها حتى ماتت عليها.
وجرِّد الجسد من لفائفه فإذا هو جسد الوصيفة … وبهت الجميع … وصاح فرعون: أين الملكة؟
وأفاق المثَّال من ذهوله وفجيعته وغيظه المكتوم … وأدرك جريمة صديقه فرفع رأسه قائلًا: هناك في الضفة الأخرى … دار صانع مراكب الشمس
(١٢)
في تلك الأثناء كان صانع المراكب قد عاد إلى داره، فوجد الباب مفتوحًا، وعلى العتبة آثار أقدام، فتملَّكه الخوف، وخُيِّل إليه أن أمره قد انكشف، فأسرع وأعدَّ مركبه، وحمل الملكة وأزمع الرحيل والهرب … وكان الليل قد أقبل، فاتخذ منه سترًا ودرعًا … واشتدَّ في التجديف منطلقًا بمركبه نحو الجنوب.
(١٣)
وجاء الحرَّاس والكهنة إلى الدار … وفتشوها فلم يجدوا فيها أثرًا لأحدٍ … فالتفت أحدهم إلى المثَّال وصفعه قائلًا: أيها الكاذب؟ … أين الملكة؟
أنت سارقها وستلقى جزاءك!
– وإذا أحد الصيادين جاء يقول: أبصرت رجلًا يحمل جسد امرأة في قاربٍ، ويُسرع في النيل نحو الجنوب.
فانطلق الحرَّاس والكهنة إلى مراكبهم حاملين المشاعل المضيئة في أثر الملكة المسروقة، وكأنه موكب النور يشعُّ روحها في رحلة السماء … وأبصروا آخر الأمر المركب الهارب، فاشتدوا نحوه … واستدار صانع المراكب ينظر خلفه، فرأى القصاص يدنو منه، وأيقن بالهلاك … فترك المجداف، وركع أمام الملكة الموضوعة أمامه، وقال: آن لنا أن نفترق … شكرًا لكِ أيتها الحبيبة على ما أعطيتني من لحظات سعادة … لن أستبقيكِ طويلًا ها هنا … ولن أحُول بينك وبين سمائكِ الأبدية … أما أنا فإلى الظلماء التي تنتظرني … وداعًا!
ولثم يدها بخشوعٍ … ثم قام منتفضًا وألقى بنفسه في الماء … فالتهمته التماسيح.
(١٤)
أُعيدت الملكة إلى تابوتها … ولكن المثَّال أثار مشكلة حيَّرت الكهنة … فقد قال في جموع الشعب إن الوصيفة قد ارتفعت بروحها فوق مركب الشمس بدلًا من الملكة … فقدموه إلى المحاكمة … وقال له الكاهن الأكبر: أتدري ما هو عقابك؟
فقال المثَّال: أدري ما هو أهم من عقابي؟ تلك الحقيقة التي اعترفتَ بها أنت أيها الكاهن الأكبر … أتنكر أنك قُمتَ بمراسيمك الدينية ونطقتَ بكلماتك السحرية نحو الجسد الذي رقد في التابوت؟ … ثم أعلنت أنه ارتفع على مركب الشمس إلى السماء الأبدية؟ … هذا الجسد كان لمن؟ … ألم يكن للوصيفة؟
فقال الكاهن بحدة: لا يمكن أن يرتفع روح الوصيفة إلى السماء.
فقال المثَّال: إذن سحرك كان باطلًا.
فارتبك الكاهن قليلًا، وأطرق الكهنة من حوله حائرين … ذلك أن الطقوس التي أُجريت إما أن تكون صحيحة وبهذا ترفع روح الوصيفة إلى السماء، وإما أن تكون باطلة لا ترفع أحدًا … والكاهن يصرُّ على أنها صحيحة … وأنها رُفِعت بالفعل، لأنه أعلن ذلك يوم الاحتفال بالدفن.
فكر الكاهن مليًّا، ثم قال: إن السحر صحيح، وقد رفع روح الملكة، وهذا ما أعلنته من قبل، وأعلنه اليوم وأؤكده … لأن روح الوصيفة لا يمكن أن يُرفَع إلى السماء على مراكب الشمس.
فصاح المثَّال: ولِمَ لا؟
فقال الكاهن بعنفٍ: لأنها من الشعب … ومراكب الشمس لا تحمل غير الملوك.
– أوَلا يمكن لأبناء الشعب أن يرتفعوا يومًا على تلك المراكب كالملوك؟
– لا.
فلفظ المثَّال صيحة ثائرة: هذا ظُلم! … هذا ظلم!
فارتفعت أصوات الاستنكار من الكهنة، وتمايلوا يتهامسون ويقررون أن هذا الثائر قد فاه بأمرٍ عظيمٍ؛ لا ينبغي أن يظل بعده في الأحياء …
وحكموا عليه بالموت …
واجتمع الناس في ساحة الموت ينظرون إليه، وهو باسم الثغر، هادئ النفس، فذكَّرهم منظره بمنظر ذلك الرجل الذي أُعدم بالأمس؛ لأنه رأى شيئًا أنكره الباقون …
وقال بعض الناس لبعض ساخرين: إنه يريد لروح الوصيفة خطيبته أن يُحمل على مراكب الشمس التي تحمل الملوك.
وقال البعض: لا تسخروا منه إذا أراد لوصيفته ذلك … فمعنى هذا أنه يريد لنا جميعًا ذلك!
– لنا جميعًا؟!
ونظروا إليه وهو يلفظ آخر أنفاسه، فوجدوا على فمه ابتسامة صافية رضية، وكأنه يُجيبهم مُبشرًا!
– نعم … ولِمَ لا؟!
•••
وهكذا تنتهي هذه القصة التي لم يذكر لنا التاريخ عنها شيئًا … فهو قلَّما يخطُّ بحروفه ونقوشه على الأحجار غير أخبار الملوك … أما موت هذين الشهيدين من شهداء مراكب الشمس فلم يُنقَش خبره على حجرٍ، لكن نبتت بذرته في القرون والأجيال، تُروى بالدم، وتنمو وتمتد لتثمر فصيلة الرجال المطالبين بحق الرأي وحق الشعب.