طريد الفردوس
– سنذهب إلى الفردوس.
– بعد عُمر طويل … إن شاء الله!
– الآن.
قالها صاحبي المرِح، وهو يدخل بي ذلك المساء حانة من حانات القاهرة، كُتِب على بابها بلون أخضر «بار الفردوس».
وأجلسني من الفور وجلس إلى مائدة، يبدو أنها محجوزة له، موقوفة عليه … وأدار بصره في المكان وحيَّا بنظرة صاحب البار وإخوانه، وبابتسامة حور الحان ووِلدانه … وصفق طالبًا الشراب وهو يتلو: قال الله تعالى: وما الدنيا إلا متاع …
– أكمل الآية من فضلك.
– لم يتسع فؤادي لأكثر من هذه الجملة.
وأقْبَل الساقي بالأقداح، وأراد صاحبي أن يقدم إليَّ قدحًا، فقلت له: ذنوبي قد فاضت بها كأسي فلا حاجة بي أن أزيد عليها قدح خمر … إذا أردت أن تكرمني فاطلب لي عشاء!
فأذعن لرغبتي … وطلب لي الطعام، فطفقت ألتهم، وجعل هو يرشف من كأسه … ويقول: يعجبني أن يعرف الإنسان أن له ذنوبًا … إذا عرفنا ذنوبنا عرفنا حدودنا … وإذا عرفنا حدودنا لزمناها وأبينا أن نتعداها … وها أنت ذا قد رفضت أن تتعدى حدودك! … سأقص عليك قصة ثِق أنها ليست من وحي شرابي، لقد وقعتْ بالفعل وفي هذا المكان بالذات … وإذا لم تصدقني فسل كل هؤلاء الحاضرين … ولكنك تعرف أني لم أكذب عليك يومًا.
فلم يستطع فمي المملوء بالطعام أن يجيب … فاكتفيت بهز رأسي علامة المصادقة … فمضى الصديق يروي قصته: لست أذكر هل سبق لي أن حدَّثتك عن ذلك الشيخ الصالح الذي يتبرك به أهل بلدنا في الريف الشيخ عليش … رجل وُلد بعينين في رأسه، ولكنه لم يرَ بهما غير السماء … ويبدو لنا أنه منذ نزل من بطن أمه، وضعوه في إناء من زجاج وختموا عليه، حتى لا ينفُذ إليه هواء البشر، ولا تنسل إليه جرثومة من جراثيم الشر … رجل لا يعرف ما هو الذنب، ولا السيئة ولا الزلة ولا المعصية … ما كنَّا نبصره إلا ساجدًا أو هائمًا في ملكوت الله، لا يفطن إلى نفسه ولا إلى من حوله … ولا يُفرق بين الناس والهوام … لم يؤذِ إنسانًا ولا بعوضة، ولا يملك من دنياه غير مسبحة من حصى، وغير موسى يحلق بها شعر رأسه، وغير عمامته العتيقة، وأطماره المهملة، ولحيته المرسلة … هكذا عاش، يأكل من عُشب الأرض أحيانًا كأنه دابة، ويقضم ما يُلقى في حجره أحيانًا من كسرات المحسنين على غفلة منه أو سهوة، فهو لا يسأل أحدًا شيئًا … ولا يطلب إلى الدنيا متاعًا … إلى أن مات الشيخ ذات يوم ولم يبلغ الأربعين … وكنت بالمصادفة في الريف، أبصرته بعيني مع غيري من الناس، وهو مُلقى في مكانه، مُسجى على الغبراء، وقد طُرحت عنه عمامته فبدا رأسه الحليق كالصخرة اللامعة الملساء، وسقطت إلى جانبه المسبحة، وظهرت من حزامه يد الموسى … وسكنت حركة لحيته التي ما كانت تهتز إلا لذكر الله … وهبطت على الناس رحمة به، فأجمعوا على أن يبنوا عليه ضريحًا … وما تركتُ الريف حتى كان الضريح قائمًا على جثمان الشيخ عليش، وقد ساهمت بنصيبي في إقامته، وقلبي جياش بالتأثر، ونفسي فياضة بالخشوع … وعُدت إلى القاهرة، وعاد إليَّ ضعفي، قاتله الله … وجذبتني قدماي إلى مكاني المألوف من هذه الحانة … فما نحن إلا بشر، لم يُكتَب لنا السمو على أنفسنا غير لحظات … ومرَّت أيام … وإذا بي أسمع جلبة من مكاني هذا، فاستدرتُ فأبصرتُ على هذه المائدة من خلفي شيخًا رثَّ الهيئة قد أحاط به خدم المحل، يحاورونه ويحرجونه ويُفهمونه أن الموضع ليس موضعه، وأن من الخير له أن ينصرف بالحسنى، فتتبعتُ المحاورة، ثم سددت إلى الشيخ البصر … ويا لهول ما رأيت! … كلا … إنه ليس الوهم ولا السُّكْر ولا الجنون … بل هو الشيخ عليش بشخصه ولحمه ودمه وعمامته وأسماله ومسبحته وموساه … وفركتُ عيني وطلبت فنجانًا من قهوة ثقيلة أستعين بها على اليقظة … ثم سألت صاحب الحانة أن يمتحن عقلي … وطلبت إلى غانية من حِسان المكان أن تفحص صحوي، فنظرا إليَّ بريبة أول الأمر، ولكنهما خضعا لإصراري، ولم أتركهما حتى أقرَّا واعترفا أني ثائب إلى رشدي، مالك لصوابي … فتقدمتُ إلى الشيخ، ونحيتُ عنه الخدم، وقلت له بصوت متهدج: ما اسمك أيها الشيخ؟
فما راعني إلا قوله، بجدٍّ وصراحة وثباتٍ: عليش!
وكان الصوت صوته، والنبرة نبرته، فكدتُ أُجَن، ومضيت أستفسر منه: الشيخ عليش من بلدة …
فذكر لي اسم البلدة والقرية من ذلك الريف بما لم يدع في نفسي ذرة من شك.
– ساكن الضريح الذي ساهمت في …
– نعم.
– وكيف تركت ضريحك وجئت ها هنا؟ … لقد أبصرتك بعيني رأسي وأنت ميت.
– نعم … لقد مت حقًّا … وأردت أن أدخل الفردوس ولكنهم طردوني!
– الفردوس؟! … أيمكن أن يغلط الإنسان إلى هذا الحد؟ … ألا تستطيع أيها الشيخ الورِع أن تُفرق بين الفردوس الذي في السماء، و«بار» الفردوس الذي في شارع عماد الدين؟!
– لا … لم يحصل مني غلط! … لقد صعدتُ فعلًا إلى السماء، وطرقت باب الجنة، فمنعني حارسها من الدخول، وأعلن إليَّ أني لست من أهلها، ونصح لي أن أطرق باب النار، فصدعت بالأمر دهشًا حزينًا وطرقت باب النار، فمنعني حارسها أيضًا من الدخول، وأعلن إليَّ أني لست كذلك من أهلها … فحِرتُ في أمري، وصحتُ شاكيًا … سائلًا الهداية، طالبًا البت في مصيري، وأخيرًا قالوا لي: ليس في السماء موضع أُوضع فيه … لأن الدنيا معركة بين الخير والشر، ومبارزة بين الفضيلة والرذيلة تقوم في نفس الإنسان، فإذا انتصر الخير دخل الإنسان مملكة الخير وهي الفردوس، وإذا انتصر الشر دخل مملكة الشر وهي الجحيم … أما أنا فلم تقم في نفسي معركة، ولم يحدث انتصار، ولم أواجه الشر لأغالبه … فأنا في نظرهم كالفارِّ من الميدان، أو الهارب من الامتحان، فكيف يجوز لهم أن يثيبوني أو يعاقبوني، وأنا لم أُعرِّض نفسي لأحداث الحياة، حتى يظهر معدنها الخيِّر من معدنها الشرير؟ … إني في نظرهم غشاش مخادع، لجأ إلى أيسر السُّبل لينال الجائزة دون أن يواجه الخطر! … وانتهى أمرهم إلى إعلان هذا القرار في أمري: وهو إلغاء حياتي الأولى واعتبارها كأن لم تكن، وطردي من السماء، لأعيش مرة أخرى على الأرض، بنفس جسمي وروحي وكياني الأول، على أن أتقدم للامتحان العسير وأواجه الشر وأنازل الرذيلة ليعرفوا بعد ذلك من أمري ما ظهر وما استتر … وألقوا بي إلى الدنيا من جديد بعين ثيابي وهيئتي، فوقعت على القاهرة، وأنا لم أزل فريسة حزني ويأسي من ضياع جنتي، أُرَدِّد كالمجنون من غير وعي: «الفردوس … الفردوس!» فدفعني أحد المارة إلى هذا المكان قائلًا لي: «ها هو ذا الفردوس!» فدخلت، وإذا بي أجد فيه أيضًا من يطردني منه … حتى أنقذتني أنت أيها الرجل الطيب.
عجبتُ لقصة الشيخ، وأخذتني به شفقة … وقلت له: لا عليك أيها الشيخ المبروك … ما حدث لك لا يحدث لأي إنسان … إنما هي كرامة من كرامات أولياء الله؛ أن يسمح لبشر أن يعيش مرتين في هذه الدنيا.
ثم أنهضته برفقٍ وأجلسته باحترامٍ إلى مائدتي، وقلت له: والآن، ماذا تنوي أن تصنع في حياتك الجديدة؟
– أواجه الشر … إذا أردت أن تخدمني أيها الرجل الطيب فدلني أين أجد الشر.
فضحكتُ قليلًا، وقلت: هذا شيء بسيط … وإن كنت شخصيًّا لست بالدليل البارع في هذا السبيل … ولكني أستطيع على كل حالٍ أن أُعرفك بالشر في أهْوَن مظاهره.
وصفقت للساقي فحضر … فقلت له: زجاجة شمبانيا لفضيلة الشيخ!
فحملق «الجرسون» في وجهي ثم تنبَّه وأسرع يُلبي الأمر ولم يلبث أن عاد بالزجاجة غارقة في إناء الثلج، وفَضَّ خاتمها الفضي، فانطلقتْ السدادة كأنها مدفع … نبَّه إلينا حِسان الحانة … فصوَّبن إلينا نظرات دهشة مذهولة، أتبعنها ببسمات ثم ضحكات … خافتة مكتومة لهذا المنظر الفريد في الدهر.
– في صحتك!
ورفعت كأسي وأشرت إليه أن يرفع كأسه … فرفعها بيدٍ مرتجفة ورشف منها بحذرٍ كأنما يرشف سُمًّا … ولم يدر بخلدي قط أني جرعته حقًّا سُمًّا سيسري في حياته الجديدة، ويفعل بها الأفاعيل … ولم أفطن للأمر إلا بعد أن جرع الشيخ كأسه الثالثة … وثمل وانقلب يغني بالتواشيح الدينية والمدائح النبوية، ثم يُسبِّح بأسماء الله على مسبحته بصوت السكارى … وهذا كل ما يعرف طبعًا من غناء دفعته إليه النشوة … فبذلتُ جهدًا في إسكاته، خشية الفضيحة … وصيانة لمقام الدين ونحن في هذا المجال … فاقتنع الشيخ، وترك الغناء بهذه الأشياء المقدسة … وتلفَّت ذات اليمين وذات اليسار فلمح غانية ظريفة فتنحنح وقال: أعطِني هذه الحورية!
فأومأتُ إليها، فأقبلت وجلست وأوصيتها بمداعبة الشيخ، فداعبَته ولاعبَته حتى ذهبت ببقية لُبِّه … وخطرَ له وهو في أوج انشراحه وترنُّحه أن يسألني عن اسمي، فراوغته، فقال: ولماذا أسألك؟ … أوَتظنني أجهلك؟
– أتعرفني؟
طبعًا … أنت رضوان … الذي أدخلني هذا الفردوس بحوره العين …!
وقهقه ضاحكًا، ومال على الغانية يضمها … وانتصف الليل ثم دقت الساعة الواحدة، وأقفرت الحانة، وأراد صاحبها أن يغلقها … وهنا راحت السكرة وجاءت الفكرة … ماذا أنا صانع بهذا الشيخ صاحب الكرامات؟ … وأين يكون مقره ومقامه؟ … ليس من المعقول أن أسحبه معي أو أذهب به إلى منزلي … وليس من المعقول أيضًا أن أرده إلى ريفه وأعيده إلى ضريحه! … ما الحل؟ … أين يبيت ليله؟
وتأمَّلت الأمر مليًّا … ثم قلت في نفسي: «ولماذا أتعب نفسي به؟ … ما شأني بهذا الشيخ وليِّ الله؟ … هل عيَّنني أحد ولي أمره؟ … وهل قذفوا به من السماء لأحمله أنا على ظهري؟»
وهداني الله إلى وسيلة … أن أنقد الغانية مبلغًا لتخرجني من المأزق، وتُبقيه معها ريثما أنصرف بسلام … ولها بعد ذلك أن تئويه أو تلقيه.
وتم لي ما دبرت، وأنقذتني الغانية الكريمة، وانصرفتُ إلى بيتي، وانقطعتُ عن هذه الحانة أسبوعًا، خشية أن أُصادف الشيخ، فيتعلق بي ويرغمني على مصاحبته ومسامرته وتحمُّل تبعته وشأنه وهمه ومستقبله.
ومضى الأسبوع فلم أجازف بالذهاب … وآثرت الاتصال بصاحب الحانة بالتليفون … فما كاد يسمع صوتي حتى صاح بي قائلًا: ما هذه المصيبة التي نزلت علينا؟!
– أي مصيبة؟
– صاحبك الشيخ … إنه لا يريد أن يترك المحل لا ليلًا ولا نهارًا … وكلما ناقشناه صاح فينا: لن أذهب أبدًا … المؤمن لا يُطرد من الفردوس مرتين!
– وماذا صنعتم به؟
– لا شيء … صنعنا له صندوقًا لمسح الأحذية، وحلقنا له ذقنه، وألبسناه جلبابًا … وألحقناه بخدمة المحل، ينظفه بالنهار، ويُلمع أحذية الزبائن بالليل!
– فكرة نيِّرة جدًّا.
قُلتها بكل إخلاص، وكل إعجاب … ولكن هذا لم يمنعني من تعمُّد الانقطاع عن الحانة زمنًا آخر، حتى يلتصق الشيخ عليش بصفته الجديدة تمام الالتصاق، وينسى الليلة المعهودة تمام النسيان، فلا يلحقني من لُقياه متاعب.
•••
ومرَّت أعوام ثلاثة … دون أن أضع قدمي في تلك الحانة … لا تعمدًا، بل طاعة لأمر القدر … أو قُل أمر الحكومة، فقد دسَّ لي الحاسدون النمَّامون لدى رئيسي الجديد «الغشيم» اللئيم، واتهموني ظلمًا بأني قليل العمل، كثير الكسل، مدمن على السُّكْر والعربدة وارتياد الحانات … فما راعني ذات صباح إلا أمر من الوزارة بنقلي إلى أقاصي الصعيد … فمكثت هناك إلى أن أَذِن الله والمساعي المثمرة بعودتي.
فما إن استقر بي الحال في عملي الجديد بالمصلحة، حتى شعرت بالحنين إلى حياتي الماضية … ونشطت ذات مساء أقصد هذه الحانة، وكنت قد نسيت الشيخ عليش وما جرى له بالتمام … فدخلت وأجَلْتُ النظر في المكان، فلم أجد شيئًا على حاله القديم … كل شيء قد تغير: مائدتي المختارة، والغانيات والساقون و«البارمان»، وحتى مدير المحل … لم يبقَ شيء كما كان سوى اسم الحانة، فهو هو دائمًا لم يتغير: «بار الفردوس»!
وقفت لحظة حائرًا لا أدري أين أجلس … حتى لمحت غانية من بنات الهوى، قد اعتلت البار … وهي بمفردها تُدخن، والدخان مُغيم حول وجهها الأبيض المستدير كأنه السحاب حول قمر … فاتجهتُ إليها، ووقفت بجوارها وطلبت لها كأسًا ولي أخرى، وأخذت أُغازلها بكلمات محفوظة مما يناسب المقام … إلى أن قطع الحديث ماسح أحذية، يهمس قربي: «تمسح يا بك»! … فارتجفتُ ونظرت إليه، وتذكرت فجأة الشيخ عليش … وقلت في نفسي: ماذا أنا فاعل لو ظهر الشيخ بصندوقه، وماذا أنا قائل لو جذب حذائي ليمسحه؟ … أأدفعه إليه، أم آباه عليه … ترفقًا به واحترامًا له؟!
ورفعت الغانية قدحها إلى شفتيها، وهي تنظر إلى باب الحانة قائلة لي بقلقٍ: لن أقف طويلًا معك … إني أخاف أن يحضر فيراني … إنه شديد الغيرة!
– عمن تتكلمين؟
– علوي … علوي بك!
– علوي بك! … من هذا؟
فظهر على وجهها الاستغراب، والتفتت تُحدق في وجهي وهي تقول: عجبًا! … ألم تسمع بهذا الاسم؟ … كل شارع عماد الدين يعرف من هو علوي! … يظهر أنها أول مرة تدخل فيها البارات والكباريهات.
– حقًّا … منذ أكثر من ثلاثة أعوام!
– لقد اقترب موعد مجيئه … أنصحك أن تبتعد عني بمجرد إشارتي لك بالابتعاد … وإلا فأنا لست مسئولة عن منخارك أو أُذنيك إذا أطاح بها حد الموسى!
– يا مغيث!
قُلتها هامسًا مرتعدًا … وأنا أنظر إلى الباب … ثم خطر لي أن أبتعد بكأسي عن المرأة منذ الساعة، دون انتظار للمقدر، والله يُغنينا عن قُربها المحفوف بالمخاطر … ولكني خشيتُ أن أبدو على هذا الجُبن أمام امرأة، لعلها ما قصدتْ إلا العبث بي والمُزاح معي … وتجلدت قليلًا، واستأنفت الحديث والمغازلة … وإذا هي فجأة تلتفت إلى الباب، كالقطة التي أحسَّت بغريزتها حركة … ثم أدارت لي ظهرها، ونأت عني بقدحها … فأدركت أن صاحبها قد حضر … ولقد شعرت بالفعل كأن الحانة كلها قد مسَّتها شرارة كهرباء … فقد ساد بغتة صمت لدخول ذلك الرجل، شمل الحاضرين من زبائن وساقين إلى مدير المحل الجالس فوق المنصة … فرفعت عيني بحذرٍ وأدبٍ أفحص ذلك الذي يسمونه «علوي» … فرأيت رجلًا أنيق الملبس، خفيف الشارب، لامع الشعر، يتضوع منه عِطر الكلونيا الثمين … وخاطب الرجل بلهجة الأمر «البارمان» فخُيِّل إليَّ أني أعرف هذا الصوت، واحتلت لأنظر إلى وجهه مليًّا … فإذا الدهش يعقد لساني: لم يكن علوي بك هذا غير الشيخ عليش في قالب جديد!
ولم أدرِ ماذا أصنع عندئذٍ … هل أحادثه؟ … هل أنسحب من المكان دون أن أُشعره بوجودي؟ … وتساءلت: أترضيه مقابلتي اليوم أم تزعجه؟ … ليس لي أن أبدأ على أي حال بشيء … ولكن الظروف سرعان ما تدخلت … فقد أراد هو أن يُخرج من جيبه الخلفي علبة السجاير … فصدمتني يده على غير انتباه منه … فالتفت نحوي … وتقابلت عينانا فحملق في وجهي لحظة، كمن يُراجع ذاكرته … ثم ما لبث أن انفرجت شفتاه عن صيحة أذهلت الحاضرين: رضوان!
ثم فتح ذراعيه، وعانقني عناقًا طويلًا … فرحًا كالطفل مبتهجًا كمن لقي لقية … وهو يردد: «رضوان … صديقي رضوان!» … وقبل أن أفتح فمي بحرفٍ، جذبني من يدي وقادني إلى مائدة في طرف الحانة كأنما يريد أن ينفرد ويستأثر بفرحة العثور عليَّ … وصفق ينادي «الجرسون»: زجاجة شمبانيا!
– هكذا سريعًا؟!
– دعني أرُد إليك بعض دَيْنِك! أين كنت طول هذا الزمن؟ … لقد بحثت عنك في كل مكان … ولكنك اختفيت فجأة … ها أنا ذا أعثر عليك الآن فاتركني أرد إليك الحسنة بعشرة أمثالها!
– لست أدري هل تعتبر فعلتي حسنة؟!
قلتها كالمخاطب لنفسي، وأنا أجيل بصري المشدوه في كل جزء من أجزاء هذا الكائن الذي كان يُسمَّى فيما مضى «الشيخ عليش» … كلا، إن التغيُّر الذي طرأ عليه لا يمكن أن يُسمَّى تغيُّرًا ولا تطورًا ولا انقلابًا … إنه شيء لم يوجد له بعدُ اسم … الوجه وجهه والصوت صوته، ولكن اللهجة التي بها يتحدث، والطريقة التي بها يشرب، والأسلوب الذي به يسمر، والعقل الذي به يفكر، والنفس التي بها يشعر … كل هذه أشياء أراها لأول مرة … على أن عيني الفاحصة دلَّتني على شيء عنده سبق أن رأيته … طرف الموسى البارز هذه المرة من جيب الصدر، خلف منديله الحريري المتهدل … ولم يدعني أستغرق في دهشتي وتأملي … فقد رفع كأسه قائلًا: في صحة رضوان!
فرفعت قدحي!
– في صحة علوي!
وشرب كأسه كلها في جرعة واحدة … ثم التفت إليَّ قائلًا: أرى أن عطشك الحقيقي هو إلى معرفة شيء عن صديقك الجديد «علوي»!
– طبعًا!
فأشار إلى ماسح الأحذية الذي يجوس بصندوقه خلال المكان وقال: لقد بدأ هكذا.
ثم أخذ صوته يخفت كلما أوغل في الحديث، كأنما يُدلي باعتراف أو يسعى إلى مخاطبة النفس … ثلاثة أشهر أو أربعة حمل فيها صندوق الأحذية وتعلَّم خلالها النشل والمقامرة والمغامرة وخدمة الغواني … إلى أن تجمَّع في يده مبلغ من المال … فطرح صندوقه وجلبابه، واشترى بذلة نظيفة وصار أفنديًا … ولكن صلته بالغانيات وحاجتهن إلى الحماية جعلتا منه في نظرهن رجلًا لا غِنى لهن عنه … ولقد تبيَّن له بعد قليل أن هذا عمل مريح … فقد كثر عدد المحتاجات إلى يده وحمايته … وشاع عنه ذلك في هذه البيئات، وشاهد الناس من خوارق براعته في استخدام الموسى ما جعلهم يحسبون لغضبه حسابًا … وامتد نفوذه إلى أكثر البارات والحانات، بمن فيها من نساء وزبائن وساقين … فهو الآن يرتاد أغلب أماكن اللهو، ويطلب ما يريد، دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض أو المطالبة … بل هو الذي يتقاضى من أصحابها الإتاوات والمرتبات لضمان الهدوء في هذه المحال … وهو أحيانًا يشتط في الطلب، ويركب إلى التهديد وإحداث الشغب فيذعن من يذعن، ويلجأ البعض إلى بيع حاناتهم هربًا منه وضيقًا … كما حدث للمالك السابق لبار «الفردوس» … هذا هو علوي … وهذه حياته … رواها بلهجة سريعة مقتضبة.
ثم التفت إليَّ قائلًا: والآن ما رأيك؟
فألجمتني الحيرة ماذا أقول؟ … وكيف أمسه بنقدٍ وهو شارب، والموسى في جيبه … ولكني أجبته برفقٍ: لقد كنت هبطت الأرض لتواجه الشر فيما أذكر وتنازل الرذيلة.
– ماذا تقول؟
– ألا تذكر أنهم أنزلوك إلى الأرض من جديد لتُنازل الشر؟
– من الغريب أنني نسيت ذلك … لقد استغرقتني حياتي وجرفتني، فلم أفطن إلى ما جئت له.
أَلم تصادف الشر؟ … أَلم ترَ الرذيلة؟
– أين؟
قالها كالتائه أو المحدق في الظلام … فألقيت نظرة إلى الزجاجات الثلاث التي أفرغها في جوفه، منذ جلوسنا … ثم تأملت حاله، فلم أجد للشراب أثرًا في صوابه … هو إذن صادق في إحساسه … لقد جرفه التيار إلى حد ألهاه حتى عن سؤال نفسه «في أي طريق يسير؟»… يا لها من هزيمة! … إنه لم يثبت للنزال، لقد تلاشى الشيخ عليش، وتلاشت عمامته ومسبحته بلمسة خفيفة من ظل الرذيلة … لقد رفع في الميدان الراية البيضاء دون وعي منه، قبل أن يفطن حتى إلى وجود عدو ومعركة!
وأطرق الرجل طويلًا … ثم قال بذلك الصوت الخافت الصاعد من أعماق نفسه: في يدي المال والسطوة والمتعة … ولكني مخلوق شقي!
– أَبدأ ضميرك يُعذبك؟
– ضميري؟! أعرف الآن ما هو … أتستطيع أن تجيد الإصغاء إليَّ … لأخبرك؟
– نعم … أخبرني بكل شيء … إني أحس كأني مسئول … فقاطعني بتصفيقة قوية ينادي بها الساقي وهو يصيح: زجاجة أخرى!
ولكن مدير المحل أومأ إلى «الجرسون» أن يتغاضى ويتصامم، وصفق علوي مرة ثانية وثالثة … فلم يجد مُلبيًا لندائه، فأطلق صيحة مدوية ضجَّ بها المكان، فحضر إليه مدير المحل يقول: علوي بك … ألا تكفي ثلاث زجاجات من الشمبانيا الفاخرة؟ … هذا كثير!
– الكثير أُذناك اللتان لا تسمعان طلبي … سأريك أن واحدة منهما تكفيك لسماعي!
وفي مثل لمح البصر، استلَّ موساه من جيب صدره … وقذف مدير المحل … وكنت لحسن الطالع قد فطنتُ لقصد صاحبي، فدفعت بكل قواي مدير المحل بعيدًا عن مرمى النصل، فنجا واستقرت الموسى في خشبة المنصة! … وهاجت الحانة وماجت، ولكن ما من أحدٍ تحرك من مكانه، فقد كانت لعلوي هيبة … فتسمَّر الحاضرون في مكانهم رهبة أو وهمًا … وقام هو يمشي على مهلٍ بجلالٍ إلى المنصة، فنزع عنها نصله البراق وطواه ودسه خلف منديله، وأراد أن يعود إلى مجلسه من الخوان، ولكني أمسكتُ بذراعه وسألته بلطفٍ أن يخرج معي من الحانة، لنستأنف حديثنا في هواء الطريق الطلق؛ فأذعن مرغمًا لرجائي وخرج معي … وهو يهمس بغضبٍ مكتومٍ: لا يستطيع أحد أن يخرجني قهرًا من هذا «الفردوس»!
– قهرًا لا … لقد خرجت بإرادتك!
قلتها له بلهجة التزلف والمداراة خشية من بوادره، وتهدئة لثائره، ثم سألته ونحن في الشارع سائران أن يمضي في حديثه، وأن يخبرني بما كان يزمع إخباري به … فنظر في ساعة ذهبية بمعصمه، وقال: لا أستطيع الآن … غدًا إذا شئت … وموعدنا في عين هذا المكان.
– عين هذا البار؟! … أوهذا ممكن بعد الذي حصل؟
– ماذا؟ … هذا يحصل كل يوم!
•••
لم أتمكَّن من مقابلته في الموعد المحدد … فقد دُعيتُ إلى عُرس أحد أقربائي في الريف … فسافرت ولبثت هناك بضعة أيام، رأيت فيها العجب: ضريح الشيخ عليش أصبح كعبة يحج إليها مئات الناس من القرى المجاورة، يحملون إليه الشموع أيام الأسواق ويوفون بالنذور … وينوِّهون بكراماته العديدة في إبراء الأمراض وقضاء الحاجات.
ولقد أبصرت امرأة ترفع طفلها العليل بيديها ليلمس شباك الضريح، ويتلقَّى من مسِّ حديده البركة، وهي تصيح من أعماق قلبها: يا شيخ عليش! … يا ولي الله يا ساكن الفردوس!
نظرة … مدد … نظرة … مدد!
ولقد سمعت رجلًا يهزُّ باب الضريح صائحًا: يا شيخ عليش! … يا حليق الرأس … خد بيدي، واشفِ وجع رأسي!
أبصرت ذلك وسمعته كثيرًا من أفواه كثيرة … وقلت في نفسي: من ذا يستطيع أن يقول في هذه الجموع المؤمنة الآملة أن الشيخ عليش لا يوجد إلا في بار «الفردوس» بشارع عماد الدين، وأن من يدعونه وليَّ الله حليق الرأس ليس سوى «بلطجي» يحلق الآن الأنوف والآذان بموساه من رءوس الناس!
لو قلت لهم هذا القول لرجموني بالحجارة، وصاحوا بي: اقتلوا الكافر! … أهلكوا الكافر!
على أن العجيب في الأمر أن كثيرًا من هؤلاء المرضى الذين يزورون الضريح يُشفَون حقًّا … ولقد أكد لي ذلك بعض من يُوثَق بقولهم من جلة أقربائي في الريف.
ولقد فكرت في ذلك قليلًا، فزال عني العجب: يا لهؤلاء الناس! … إنهم هم الذين يشفون أنفسهم بأنفسهم وهم لا يعلمون … إن الناس لا تريد أبدًا أن تُصدق القوة الخفية الكامنة في أعماقهم … ولا بد أن يخترع لهم وهمهم قوة خارجية ينسبون إليها ما يأتون هم من معجزات.
وتخيلت حال الشيخ عليش — أو علوي بك — لو أخبرته بأمر هذه الكرامات التي تفيض على الجموع من نوافذ ضريحه … بينما هو غارق في خمور البارات والحانات … ولكني رأيت أن أمسك عن إِخْباره وأن ألزم الصمت المطبق، رحمة بجيوب العباد … فإنه لو عَلِم، لحضر إلى الريف واستغل هذا المنجم الذي لا ينضب وحسبي ما اقترفته من إثم ما زال يؤرق ضميري، إذ دفعته إلى طريق الموبقة أول ليلة … فلا ينبغي أن أدفعه إلى طريق إثم جديد … فليبقَ اسمه منبع رحمة للناس وليذهب جسمه إلى الجحيم.
عُدت إلى القاهرة … وذهبت في المساء إلى حانة «الفردوس» فتلقاني مدير المحل بالترحيب، وشكر لي موقفي وتدخلي في تلك الليلة التي هاج فيها علوي وقذفه بالموسى … وقال لي إنه كان ينوي أن يخبر البوليس، وأن يجازف ويتعرض لانتقام علوي … فهو يعلم أنه لن يتركه في هدوء إذا هو بلَّغ عنه … فهو له أعوان … وأنه سيتعقبه بالويل ولو بعد أعوام من سجنه … لو سُجن … ولكنه آثر ضبط النفس، والتغاضي عن الحادث … لأنه يعرف علوي منذ زمن، ويعلم أنه سريع الغضب سريع الصفاء … والخير في استئناف الصِّلات الودية مع مثله … غير أنه يلاحظ عليه في الأسابيع الأخيرة تغيُّرًا غريبًا … وليس هو وحده الذي رأى ذلك منه … غانيات الحانة على الخصوص وهن أدق إحساسًا بما يشغل نفسه في هذه الأيام … ولقد سألته: أَحادثَ علوي أحدًا بعد تلك الليلة؟ … فأخبرني وهو دهش أن علوي لم يحضر إلى الحانة منذ خروجه معي تلك الليلة!
وعبثًا حاولت بعد ذلك العثور على علوي … بحثت عنه في جميع البارات والكباريهات.
وأخيرًا قال لي أحد خدم «البار» إنه لمح ذات مرة شخصًا يشبهه جالسًا أمام مقهى وصفه لي في حي السيدة زينب.
فذهبت إلى ذلك المقهى … فإذا بي أجد علوي قاعدًا بمفرده، يتأمل شيئًا لا أتبيَّنه فدنوت منه، ولكنه لم يفطن إليَّ حتى وضعت يدي على كتفه … فأفاق في شبه رعدة ونظر إليَّ وقال: أنت؟ ماذا أتى بك إلى هنا؟
– وأنت … ما الذي أتى بك إلى هنا؟
– اجلس.
قالها وهو يهيئ لي كرسيًّا بجواره، ونادى «الجرسون» وطلب لي فنجانًا من القهوة … وأطرق طويلًا، ثم رفع رأسه وقال بصوتٍ كالهمس: يجب أن أخبرك.
– بكل ما يقوم في نفسك!
– نعم … لن أخفي عنك شيئًا مما في نفسي … إني أحب … وعندما ألفظ أنا هذه الكلمة، فاعلم أن أمرًا عظيمًا قد وقع … فأنا من أكثر الناس صلة ومعرفة بالنساء، ومن أكثر الرجال متعة وامتلاكًا للحِسان والغانيات والجميلات … ولكن الذي حدث لي قَلَبَ كياني وأنبت في قلبي مشاعر أحسها لأول مرة … هي فتاة لو رأيتها لعجبت كيف أن مثلها يمكن أن يوحي بالحب … على الأخص إلى رجل مثلي … نحيلة ضئيلة يضرب لونها إلى الصفرة، لا تضع الطلاء، ولا تعرف الإغراء ولا تلبس غير البسيط الضروري من الثياب … هي معلمة في مدرسة ابتدائية للبنات في هذا الحي … تسألني: كيف عرفتها؟ … أقول لك المصادفة … كانت في دار من دور السينما مع بعض تلميذاتها، يشاهدن رواية ملونة بالرسوم المتحركة … فلما انتهت الحفلة وخرجت بأطفالها تَعرَّضَ لها شاب ثقيل بمغازلة سمجة، فلم تعرف كيف تحمي نفسها منه، فتدخلتُ وأنقذتها، وأوصلتها إلى مدرستها مصونة موقرة مع تلميذاتها … فشكرت لي ذلك بصوتٍ لن أنساه! … صوت أَثَّرَ في نفسي كما تُؤثر أحيانًا قطرات الندى في قطعة الصخر … صوت لم أسمع من قبل نبرة حنانه ورقته ووداعته حتى ولا بين ملائكة السماء! منذ تلك اللحظة شعرت أني محتاج إلى هذا الصوت، كما تحتاج الصحراء إلى ماء المطر … فكنت أجيء في كل يوم أترقب موعد خروجها ودخولها المدرسة … لأقابلها وأُقرئها السلام، زاعمًا لها أني من سكان الحي، وأنصرف عنها وقد ملأ صوتها قلبي … فأعيش على هذا الغذاء ساعات حتى أحس الحاجة إلى صوتها من جديدٍ … هذا كل عملي الآن … إنها كل شغلي الشاغل … بل هي النور الذي أضاء جوانب نفسي، وجعلني أتحسَّس دهاليزها المعتمة وأعرف ما فيها من خير وشر، وفضيلة ورذيلة، وكنوز وثعابين آه … ليس الفردوس هناك في السماء … وليس هنا في شارع عماد الدين! إنه هنا في القلب! وربما كان فيه الجحيم أيضًا! لقد عشتُ أيامًا على أمل الزواج منها … لأني بغير هذا المصباح لا أرى شيئًا، ولا أُميز شيئًا … ولا أُفرق حتى بين الحسنة والسيئة، ولكن دون هذا الأمل هوة أوسع من فوهة جهنم! لقد تمكَّنت من إطالة حديثي معها … فعلمت أنها مخطوبة لابن عم لها مُدرس هو الآخر في مدرسة ثانوية … ولقد تبيَّنتُ من حديثها وتفكيرها أضواء من الحياة النظيفة والعواطف النبيلة والأهداف السامية … كل همها في الدنيا إخراج نماذج من البشرية الراقية. وهي تتحدث عن خطيبها كمعاون لها في مهمتها الإنسانية … لقد كنت أحس الضآلة والحقارة وأنا بجوارها أستمع إليها، كأني ذبابة قذرة دانية من شراب مطهر أو دمقس مقدس! ماذا ينبغي أن أفعل بعد ذلك؟ أمامي طريقان … إما الهجوم والعمل على الظفر بها بأي ثمن، وقد أنجح … فهي لا ترتاب في أمري، وتجهل كل شيء عني، وقد لمحت من حديثها بعض الاطمئنان إليَّ والثقة بي، وليس من العسير أن أُنمي ذلك فيها إلى حد العطف والميل وربما … الحب، … وإما أن أنقذها مني، وأتركها لطريقها المستقيم، وخطيبها المهذب، وحياتها النظيفة وهدفها السليم … إذا دخلتُ حياتها فقد حطمتها وهدمتها … فما أنا لها إلا نقمة! وما ذنب هذه الطاهرة الماضي، الباسمة المستقبل، أن تكتشف ذات صباح وهي بين أترابها وزميلاتها وتلميذاتها ورئيساتها أنها ما تزوجت غير «بلطجي»! صناعته الكسب من إتاوات الغانيات والكباريهات! وإذا تركتها … ولم تدخل هي حياتي فقد حطَّمتني وهدمتني … ماذا أصنع؟ إني لفي حيرة … وإني لأرتمي كل يوم في هذا المقهى، بعد مقابلتها، لأفتح في نفسي ميدان صراع: هل أُقدِم؟ هل أُحجم؟
وأطرق غارقًا في صمتٍ طويلٍ … ولم أشأ أنا قطع هذا الصمت … فسكت، وجعلت أداعب بأصابعي أُذن فنجان القهوة … إلى أن رفع رأسه مُرددًا: هل أُقدِم؟ … هل أُحجم؟
فاكتفيت بأن قلت له: تلك هي المعركة الكبرى بين الخير والشر! وعليك الآن أن تخوضها!
•••
مرَّت الأيام بعد ذلك دون أن أرى علوي، فقد اختفى من كل مكان … وإذا بي أتلقَّى خطابًا من أقاصي الصعيد، بإمضاء «الشيخ عليوة» يخبرني فيه أنه افتتح كُتَّابًا من الكتاتيب في تلك المنطقة النائية التي كان يَرِد ذكرها على لساني في أحاديثي مع «علوي» في ليالي السمر بالبار … وأنه قد انقطع لتربية النشء من أبناء الفلاحين، وتبصيرهم بالفرق بين الخير والشر والفضيلة والرذيلة … وأن الموسى عادت إلى حلق شعر رأسه زُهدًا … والعمامة والمسبحة ظهرتا لخدمة التقوى البصيرة، والورع الحقيقي مع العمل المفيد والكدح المُجدي، وأن المصباح الذي أضاء قلبه يجب أن يظل مرتفعًا عن الدنس … ولقد تركه لمصيره الطاهر مُعاهدًا نفسه أن يحذو حذوه، وأن ينهج سيرته … وأنه يكفيه منه شعاع ينير له على البعد كالنجم السحيق …
وكانت تلك نهاية المعركة.
•••
وختم صاحبي المرح قصته قائلًا: والآن ها أنت ذا قد سمعت قصة ذلك الرجل الذي كان يُسمَّى الشيخ عليش، وعلوي بك، والشيخ عليوة … فما حُكمك عليه؟
فقلت له وأنا أرشف قهوتي بعد العشاء الشهي الذي قدمه إليَّ: فلنترك الحكم عليه لملائكة السماء … فإنه سيصعد إليهم هذه المرة بملفٍّ زاخر، سيقتضيهم فرزًا دقيقًا وحسابًا طويلًا … قبل أن يصدروا حكمهم بقبوله النهائي أو طرده الدائم من الفردوس!