لا كرامة لنبي في وطنه
كانوا في القرية يطلقون عليه اسم «زنجر» … ولست أدري أكان لهذا الاسم صلة بمنظره؟ … لقد كان أسود اللون، قبيح الصورة، مخروم الأُذن … يرتدي معطفًا عسكريًّا، نحاسي الأزرار، من بقايا الحرب العالمية الأولى، قد رث عليه وبلي وضاعت أزراره إلا واحدًا ربطه بخيطٍ من تيل، وهو يحمل في يده هراوة كانت فرعًا من شجرة السنط التي تُظِلُّ «الكباس» القبلي … يرفعها ويجري بها وراء الساخرين به والضاحكين منه … وما أكثرهم! … ما من أحد كان يأخذه على سبيل الجد … وما كان هو يحفل بآراء الناس فيه … كان يكفيه دائمًا رأيه هو في نفسه … كان له إخوة يصغرونه سنًّا تزوجوا واستقروا وأنتجوا ذُرية تسعى معهم إلى الغيطان وتعود منها بعد الغروب مُمسكة بزمام البهائم المحمَّلة بعليقها من الحشائش وأعواد الذُّرة. أما هو فكانت فكرة الزواج تثير بالنسبة إليه ضحك القرية وهذرها وعبثها … من هي تلك التي ترضى أن تتزوج من «زنجر»؟
وكان هذا هو السؤال الذي اعتدتُ أن أُلقيه عليه، منذ أعوام طويلة، كلما ذهبت إلى الريف: هل تزوجت يا زنجر؟!
– أبدًا.
كان يقولها في شيء من المرارة والثورة … فكنت أُلاحقه: وما السبب؟
– ما فيش فلوس!
هذا كان تعليله الوحيد … ورأيت أخيرًا أن أُبطل هذه الحجة، فعرضت عليه أن أقوم عنه بكل نفقات عُرسه من مهر وفرح وثياب … إلخ، لو ظفر هو بالعروس … فسُرَّ لذلك وحمد وشكر، ولكن الأيام مرَّت ولا نتيجة لهذا ولا أثر … ولم أعلم ما حدث … ولكني صرت بعد ذلك كلما مشيت بين الحقول وإلى جانبي «زنجر» أتأمل من أجله كل فلاحة تميس بقدها تحت ثقل الجرة، كما يميس العود تحت ثقل السنبلة … فأسائلها: يا بنت … أتتزوجين الولد «زنجر»؟
فما أسمع إلا دقة على صدرها وصيحة: يا خيبتي!
وتشتد في السير مجفلة هاربة حتى تختفي … وإذا «زنجر» بجواري يشيعها وهو مجروح ساخط مغتاظ: داهية لا ترجعِك … وأنا كنت أرضى؟!
ثم يأخذ في إقناعي بأن كل هؤلاء الفتيات دون ما يستحق، ودون ما يريد، ويأخذ بعد ذلك في حمد الله إذ ضرب على أبصارهن فهذا الرفض منهن نعمة! … ولكني لا أقتنع، وأظل أطرح السؤال على طوائف مختلفة من بنات القرية … وأهبط في سُلم الجمال درجات، وأُطأطئ الرأس نيابة عنه وأقبل تضحيات، حتى وصلنا إلى درك لا نزول بعده … فكل مشوهات القرية، من الخنفاء والعرجاء والحدباء، عرضتُ أمره عليهن … فما سمعت قط غير تلك الصيحة المنكرة من الأفواه، وذلك الدق المستنكر على الصدور … وتلك العبارة الواحدة من كل الشفاه: ضاقت علينا الدنيا … ما بقي غير «زنجر»؟!
•••
وصدقت وآمنت أخيرًا بصعوبة زواجه … فهذا رجل تنشأ في القرية أضحوكة، وشَبَّت فتيات القرية لا يبصرن منه ولا يعرفن عنه إلا أنه رمز السخرية، ومناط العبث ومثار الهذر … لقد كان في مجرد تقدُّمه إلى أسرة من القرية سوء أدب منه في نظرها، وتعَدٍّ منه على كرامتها، وخدش لسمعتها … إذا استقل شأنها فخصَّها دون أهل البلد بهذه المهانة وقلة التقدير … هكذا كانت الأسرة تدفعه عنها كما تدفع الفضيحة … وبلغ الحال من السوء أن أصبح «زنجر» شخصية تغيظ بها البنت المذنبة إذا أردت لها تأديبًا … ولم يشذ عن استخدام هذه «الأداة» التأديبية أحد حتى أنا … فقد انتهى بي الأمر أن آمنت بما يؤمن به الجميع في القرية … وصرت إذا أردت أن أشتم بنتًا مهملة من بنات الخدمة في البيت أو الحقل أكتفي بقولي: والله يا بنت لأزوِّجكِ من «زنجر»!
فتطفر دموع الخوف والضراعة من عينيها في الحال … وأُدرك أني قد رفعت عليها بهذه الجملة سوطًا يقيم عوجها ويصلح فاسدها …
كل هذا و«زنجر» في ملكوت من نفسه، وعالم من رأيه، وحصن من «حالة معنوية» عجيبة … مرتفع فوق لجج الاستهزاء العام، لا تعصف برأسه أنواء، ولا يصل إلى عينيه رذاذ ولا ماء … لطالما ساءلت نفسي في أمره: أهو جمود؟ … أهي بلادة شعور؟ … أم هي صلابة شخصية وقوة إيمان؟!
أردت أن أتندر به ذات يوم، فقلت له: ومن التي ترضى أن تتخذها زوجة لك من بين بنات القرية؟
فقال بلا ترددٍ: البنت «سلطانة».
يا للعجب! … «سلطانة» هذه هي أجمل بنات القرية طرًّا … هي الزرقاء العينين، العسجدية الشعر … التي يخشى التقدُّم إليها أجمل فتيان القرية وأقواهم. هي التي يتنافس فيها المتنافسون، ويتزاحم المتزاحمون، من بين من فرزت مؤهلاته وبرزت صفاته … فما تمالكت أن صحت به: طيب اسكت … اسكت.
مرَّت الأيام … وعُدت مرة أخرى إلى الريف بعد غيبة عنه طويلة … فراعني ما أجد، وأذهلني ما أرى …
زنجر قد تزوج …
تزوج بمن؟ …
بفتاة أجمل من سلطانة!
وعَلِم «زنجر» بحضوري، فجاءني وكأنه يقول: «هذه المرة تستطيع أن تسألني السؤال المعهود» … ولكني كنت علمت الجواب من قبل … فاكتفيت بأن أقرأ على وجهه سطور انتصاره … بل لقد قرأت ذلك على وجوه أهل القرية أجمعين … لم يعد زنجر في نظرهم ذلك «الأضحوكة» … إن الاسم لم يزل لاصقًا به … ولكن قد غسل عنه كل معنى من معاني الهزء والسخرية.
كيف حدثت المعجزة؟ … لم يخبرني هو … ولكن الذي قصَّ عليَّ شيخ وقور من شيوخ القرية، قال: حدث منذ ثلاثة أشهر أن حضرت إلى القرية «ترحيلة» «لنقاوة» الدودة من زراعة القطن، وكان يعمل فيها بنات كثيرات من قُرى بعيدة، فيهن جميلات وفيهن رشيقات … وكان زنجر هو «الخولي» عليهن، فإذا هو يلمح من بينهن فتاة هي أسطعهن جمالًا وأوفرهن سحرًا وأكثرهن فتنة … بل هي حُسن لم نرَ له مثيلًا في قريتنا … فلزمها في العمل، وتودَّد إليها … وخفَّف عنها … وكان لا يأمرها إلا بمعروفٍ ولا يعاملها إلا برفقٍ … ولا يحادثها إلا بلطفٍ … وتفتحت نفسه لها بيضاء جميلة كما تتفتح زهرة القطن. وكانت الفتاة طيبة القلب، فأبصرته «بعين» قلبها، ولم تبصره بعين أُذنها … رأت «الإنسان» ولم ترَ فيه «الأضحوكة» … فهي من قرية بعيدة لا تعلم عنه شيئًا … فلم يقم بينه وبينها سدٌّ قديم من تلك الشخصية المبنية بلبنات الضحكات، في بلده، على مدى الأعوام … لقد بادلته لطفًا بلطفٍ، وعندما قال لها مازحًا ذات يوم: «تتزوجينني؟» لم يرعه إلا قولها: «نعم» … فقال لها: صحيح؟
فقالت:
صحيح!
– تحلفي على المصحف؟
– أحلف.
وأقسمت إنها جادة، وإنها لا تطمع في زوج خير منه، فطار زنجر فرحًا إلى أهله يزفُّ إليهم الخبر … ولم يُصدق أهله هذا الكلام إلا بعد أن سمعوا قبول الفتاة بآذانهم … فارتفعت «الزغاريد» في القرية … ودفع «زنجر» المهر لأم العروس، فأبوها قد تُوُفي وتزوجت أمها بغيره … وجاءها بحلقٍ و«غوايش» فضة وخلخال ومرتبة ولحاف ومسندين ومخدتين، وحلة وطشت وفناجين قهوة، وبراد شاي وصينية وأربع ملاعق وأربعة أطباق … إلخ، إلخ. ثم أعدَّت العدة ليوم الفرح فأحضروا الجمل، وطفق زنجر مع إخوته يُزيِّنونه بسعف النخيل والبوص والجريد والشال الأحمر … وأتمُّوا صُنع الهودج الذي سيُحضِرون فيه العروس الفاتنة من بلدها … كل ذلك بين غناء أهل زنجر وغبطتهم بفوز هذا المظلوم … وبين نظرات الدهشة والحسرة والندم من بنات القرية اللاتي سخرن من زنجر، فأظفره الله بمن لا يصلن إلى كعبها ملاحة وطهارة ودماثة.
أصغيتُ إلى كل هذا … وعَلِمت سر «المعجزة» … لقد جاءه الخير والتقدير وردُّ الاعتبار من قرية أخرى بعيدة … هكذا أنصفه الله … بالطريقة التي أنصف بها من رضي عنهم من الرسل والأنبياء.