مدرسة المغفلين
هَبَّ من فراشه بعد منتصف الليل على طَرْق الباب، وقام ليفتح، وهو كالسكران من حلاوة النوم، ومشى في دهليز مسكنه الذي يبيت فيه وحده، مشية غير الواثق من يقظته، ثم فتح بغير تفكير، وإذا شاب يدخل صائحًا: ارحموني … ارحموني.
ويندفع إلى البهو، فيُضيء أنواره كلها، ويختار مقعدًا ضخمًا فخمًا يرتمي فيه، ويُخرج من جيبه ورقة، طفق يقرأ منها بأعلى صوته: ارحموني … ارحموني.
فأقبَل صاحب البيت يجرُّ قدميه، ويسأل متثائبًا: ما هي المسألة؟
– المسألة خطيرة جدًّا، إنه الحب، إنه السهاد، إنه البعاد … طول الليل وأنا أنظم هذه القصيدة، لعلَّها ترق وتحن، لقد قطعتُ لها قلبي، لأضع في كل كلمة قطعة … اجلس واسمع.
فلم يجد صاحب الدار بُدًّا من الإذعان، فالضيف صديق لا يجب إغضابه، وهو في عُرف الذوق واللياقة مُكلَّف بإكرامه وإرضائه، فجلس مُكرهًا، يغالب الكرى ويتجلد، ويُصارع النعاس ويتماسك، ليسمع شعرًا ونظما في الهزيع الأخير من الليل.
ونشر الضيف الورقة في يده وأنشد: ارحموني … ارحموني … طار نومي من عيوني وتنبَّه صاحب البيت وقال وهو يفرك أجفانه الحمراء: عيون مَنْ التي طار نومها؟
– عيوني أنا طبعًا.
– آه … طبعًا … عيونك أنت فقط!
ومضى الضيف في التلاوة، حتى قطع فيها شوطًا، فلم يجد لإنشاده صدى، ولم يسمع على خريدته تعليقًا … فرفع بصره إلى ذلك الذي يُلقي عليه أبياته، وينثر عليه آياته، فوجده يترنَّح ويتمايل … لا من الإعجاب … ولا من الطرب … طبعًا …
فكفَّ عن القراءة، وصاح: أنا آسف، يظهر أنك مُتعب، خير الأمور أن تقوم …
فأيقن النائم بالفرج، ولم ينتظر، ووثب من مقعده، كأنه عبدٌ أُعتِق، أو سجين أُطلِق، ولسانه يلهج بالشكر، ولكن الضيف استأنف: نعم … خير الأمور أن تقوم فتصُب على رأسك كمية من الماء البارد، لتفيق وتنشط وتسمع بقية القصيدة، لأنها طويلة جدًّا.
وهنا لم يطق صاحب البيت صبرًا … ولم يرَ في ذمته للضيافة حقًّا … فانفجر يلعن الحب والمُحبين، والشعر والنثر، وقصائد الغناء والبكاء، وكل ما على الأرض من نساء … وترك المكان … وذهب إلى حجرته، واندسَّ في فراشه ونام.
مرَّت شهور على تلك الليلة، وهو لا يعلم من أمر صديقه المتيَّم شيئًا … ثم ترامت إليه الأخبار بأن ذلك الغرام الذي أُنشدت فيه القصائد بعد منتصف الليل، قد جرَّ صاحبه إلى أحرج المآزق، فالحبيبة معلقة بعنقه كأنها قصيدة من المعلقات! … لا بد من الزواج … تلك صيحتها التي لا تنزل عنها، وبغيتها التي لا مفرَّ منها … ولكن كيف يتزوجها، وقد عرف عنها ما عرف؟ … إنها فتاة لعوب، من أولئك الفتيات المعروفات على شواطئ المرح، المبرزات في ملاهي الغزل … كم داعبت ولاعبت … وفتنت وسحرت … ولو أنطق الله سِلك التليفون لجهر بعدد مغازلاتها … ولو تحدثت رمال البلاج وموائد «الأوبرج» لما اختلفت على مقدار غمزاتها وبسماتها ولفتاتها.
ووقف حبيب الأمس وقفة الذائد عن عنقه، الغيور على اسمه وشرفه … كل شيء إلا الزواج من هذه الفتاة … إن الحب شيء والزوجية شيء آخر … إنه ليس مغفلًا حتى يخلط بين مسائل الغزل ومسائل المستقبل … لا … لن يتزوجها … على الرغم من جمالها الفاتن ومركز أسرتها البارز … أما هي فقالت بلسانها ولسان من توسَّط في الأمر إن لعب الفتاة قبل الزواج لا يدل على شيء، وقد أصبح مألوفًا في عصرنا الحاضر … عصر الحرية والنور … فكثير من الزوجات الناجحات شبعن لعبًا ومغازلة قبل الزفاف … إنها حجة واهية، يجب ألا يتذرَّع بها رجل جاد.
وانتصرت المرأة في النهاية، كما تعودت دائمًا أن تنتصر … ووقع الرجل في «الزوجية» كمن يقع في «حفرة» … لا يدري كيف لان وأذعن، وقال «نعم» … ولا يذكر بالضبط كيف ساخت قدمه … ولكنه أخذ يعلِّل نفسه ويُمنِّيها ويقنعها بقوله: «مع غيري ربما صحَّت المخاوف … ولكن معي أنا، مع مثلي! … وأنا أعرفها أكثر من أمها التي ولدتها، وهي تعرفني وتعرف طباعي العنيفة وشكيمتي القوية وغيرتي الشديدة وعيني الساهرة».
•••
هذا ما كان من أمر الضيف المغرم، أما ما كان من أمر صاحب البيت، فهو لا يعرف الشعر ولا الحب … وكل ما يعرف أن وحدته في بيته قد ثقلت عليه … وأن البيت بلا امرأة، جسد بلا روح … وأن همَّه في منزله أن يخرج من حجرة ليدخل أخرى، ولسان حاله ينطبق على الأغنية الشعبية القديمة:
ولم يكن لديه أم تخطب له … ولم يكن من الضروري عنده أن يتشبَّث بشرط الحلوة الغنية … يكفيه الحل الوسط … إنه رجل مُسالم قنوع … ولكن، من يبحث له؟ … وهنا تذكر سيدة من صديقات الأسرة … امرأة نصف وزوجة رجل محترم، لها علم راسخ بأخبار المجتمع الراقي … خاطبها بالتليفون، وأبان لها عن طلبته … فقالت ضاحكة: «أتقبل نصيحتي؟ … الزواج في عصرنا الحاضر كما يقول المثل السائر: «على عينك يا تاجر» … الطريقة المتَّبعة الآن أن تحضر المجتمعات والحفلات وتختار من تعجبك، وتسأل عنها … وها هي الفرصة سانحة … في الأسبوع المقبل حفلة خيرية في «الأريزونا» ستلقى فيها كل أنيقات القاهرة، من سيدات وفتيات … تعال وانظر … وأخبرني هناك وأنا أدلُّك.»
•••
ووافى موعد الحفلة الخيرية … وكان مساء جميلًا … لمعت فيه عيون النجوم وتألق القمر … فارتدى رداء السهرة، وذهب على بركة الله … ولم يمضِ قليل، حتى غاص في بحر أضواء السماء والكهرباء والنساء، وأوغل في روضة الشجر والبشر … وامتدَّت حوله أيدي الأغصان وأذرع الحِسان … واستقبلته كواعب بائعات الفتنة في صورة بائعات للورد … وأحَطْنَ به من يمين ومن شمال … إنه حصار الجمال … ورد يبيع وردًا … وأزهار تحمل أزهارًا … فأخرج من جيبه النقود من غير وعي، ونثر وبذر، ليحصد البسمات والنظرات … ها هي ذي سوق الملاحة والرشاقة والدلال، ماذا يأخذ منها، وماذا يدع؟ … ومن يحب ومن يكره؟ … ومن ينبذ ومن يختار؟ … فغشي بصره، وزاغ نظره … وارتبك وحار … ثم انتبه على صوت يناديه … فإذا هي السيدة الخبيرة التي سألها هدايته … أقْبَلت عليه وقادته كالربان الماهر، في خضم موائد الأكل ومواكب الحُسن … وهمست في أُذنه: ألم تعجبك واحدة؟
فقال على الفور: أعجبني الكل: أحب هذه ذات الثوب الوردي، وأحب تلك ذات الثوب البرتقالي، وأحب الدانية ذات الثوب البني … وأحب البعيدة ذات الثوب الكحلي … وأحب الضاحكة ذات الثوب البندقي، أحب هذه، وهذه، وهذه، وهذه … أحب الجميع.
– فضحكت وقالت ليس من المعقول أن تتزوج كل الحفلة … يجب أن يقع اختيارك على واحدة بالذات.
– هذه الحفلة «الخيرية» وإن شئتِ فقولي «سوق النخاسة العصرية»، تعجُّ ببضاعة تُبهر العقل … ولم أعد أدري أأنا البائع في هذه السوق أم المشتري؟ … لقد تُهت وضللت … تخيَّري لي أنتِ بصائب حكمتك وواسع خبرتك!
فأشارت إلى مجموعة من النساء متلألئة، تزري بالمجموعة الشمسية، وقالت: ألقِ نظرة على هؤلاء.
– أكُلهن للزواج؟
– بالطبع … كل من ترى هنا … الفتيات يردن أن يتزوجن، والزوجات يردن أن يتطلقن.
فأرسل نظرة شاملة على تلك النحور العارية، والصدور المكشوفة، والبسمات الفاتنة، والنظرات المفتونة، وقال في نفسه: أين ذلك العهد الذي كانت تُسمَّى فيه المرأة «السيدة المصونة والجوهرة المكنونة؟!» … تُرى ماذا يجب أن تُسمَّى اليوم؟
وأخذ يفكر في اسم أو لقب أو وصف يمكن أن ينطبق عليها الآن … ولكن حبل تفكيره انقطع فجأة … فقد لمح عن بُعد صديقه الضيف، صاحب القصيدة، يدخل من الباب، وقد أحاطت به بائعات الورد كالمعتاد … ولمحته في عين الوقت الست الدليلة الهادية، فهمستْ قائلة: صاحبك!
– نعم … إنه يدخل وحده … عجبًا! … أين زوجته إذن؟ … بلغني أنكِ كنتِ إحدى الساعيات في الخير بينهما … وكنتِ ممن توسَّط في أمر ذلك الزواج.
فقالت السيدة بصوت الجد: حقيقة … شوشو صديقتي، وكنت أظنها تمشي بعقلٍ بعد زواجها … ولكن، كلام في سرك … أنا لا أحب أن أكون مسئولة عنها الآن … أنا أفهم أن يكون للزوجة بعض الحق في اللهو … ولكن على شرط أن تكون في منتهى الحذر لا يُلحَظ عليها شيء … وأن تتصرف بغاية الحرص حتى لا يبدو على سلوكها شكٌّ … أما شوشو فلا أدري ماذا جرى اليوم لعقلها … إنها — فضلًا عن عِلْم الجميع بأن لها حتى الآن أربعة عشاق أو خمسة في نفس الوقت — لا تحاول أن تداري أمورها، أو تستر تصرفاتها … تصور أنها في وضح النهار تنزل من سيارتها أمام دهبية معروفة ومعها حقيبة صغيرة تحوي «بيجامتها» الحريرية … وكل هذا تحت سمع السائق وبصره، وتحت نظر من يمرُّ من المعارف والفضوليين الذين قد يعرفون السيارة وصاحبها … لا … شوشو في الحقيقة متهورة اليوم أكثر من اللازم، وإني أرى منها كل ذلك وأقول في نفسي: «ربنا يستر» … فكل الناس يعرف سيرها الآن … أمرها شاع ورائحتها فاحت.
– وزوجها … ألم يشم الرائحة؟
– الظاهر أنه مزكوم، كأكثر الأزواج.
وكان زوج شوشو عندئذٍ قد تخلَّص من بائعات الورد، وسار يفحص بعينيه الجموع، كأنه يبحث عن أحدٍ … حتى أشرف عليهما … فلما صار على خطوات منهما لمحهما هو الآخر فأسرع نحوهما وحيَّاهما … وعاتب صديقه صاحب البيت عتابًا هادئًا يخالطه المزح، لما لقيه في بيته من إهمال، تلك الليلة التي تفجرت فيها شاعريته … على أنه انتقم، كما قال، فلم يدعه إلى حفلة قرانه ولا إلى بيت عروسه … وهنا التفت إلى السيدة قائلًا بلهجة العجلة واللهفة: شوشو … ألم تلمحيها هنا؟ … لقد سألتني أن أسبقها … قائلة إنها ستمرُّ ببعض صديقاتها أولًا … وقد رأيت الذهاب لبعض أعمال أخَّرتني، وجئت حاسبًا أني أجدها … لا شك أن حديث صديقاتها شَغلها عن الوقت … إنه لمن حُسن الحظ أن أُقابلك هنا الليلة … إنها خير مناسبة أُقدِّم لكِ فيها شكري … كاد يمضي نصف عام على زواجي، الذي توسطتِ أنتِ فيه ولو تعلمين كم أنا سعيد! … لقد كنت مغفلًا يوم تردَّدت وتمنَّعت وتخوَّفتُ … ألا تذكرين كم جاهدت أنتِ لإقناعي؟ … الحق كان جانبك … شوشو اليوم ملاك … وإني أضحك من نفسي لرأيي السابق في طيشها … إنكِ ولا شك قد لاحظتِ اليوم كم تغيَّرتْ وعقلت … الحمد لله، مخاوفي كانت في غير محلها … لقد ظلمت المسكينة … وهي في الحقيقة زوجة طيبة مخلصة يندر أن يوجد لها مثيل.
ومضى في هذا الكلام … وصديقه «صاحب البيت» يصغي إليه فاغرًا فاه … لا يصدق ما يسمع … إلى أن تأكد له أن أُذنه لم تخدعه … فهمس قائلًا: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون!
ولم يلبث هذا الزوج أن جذبته من ذراعه يد أحد المعارف … فاستأذن ومضى معه إلى مائدة عامرة بالأصدقاء، وترك صاحبه والسيدة الدليلة الهادية يتبادلان النظرات صامتين بلا تعليقٍ … وأخيرًا نطقت السيدة قائلة: والله شاطرة!
– شاطرة؟! … وهل هذا مصيري أنا أيضًا؟ … وهل نصيحتك لي ستكون من هذا القبيل؟
فضحكت وقالت: لا … لا تخف … ظروفك أنت مختلفة كل الاختلاف ومع ذلك … ما دمت قد رأيت بعينك وسمعت بأُذنك فلا يصح لي أن أغشَّك … هل تريد الصراحة؟ … إذن اسمع رأيي: هذا جيلك الجديد وهذا عصرك … خُذ الأمور كما هي ولا تخدع نفسك، واعلم أن أكثر النساء هنا لكل واحدة منهن على الأقل عشيقان أو ثلاثة … وأن تلك التي يقال إنها نظيفة السمعة ولم يسمع عنها أحد شيئًا، هي التي لها عشيق واحد … فإذا أردت مني أن أُغالطك، أو أن أُشجعك على مغالطة نفسك، فهذا أمر آخر … ولكني أنصحك أن تنظر إلى الواقع اليوم بعين الواقع.
وسكتت لأن الموسيقى الراقصة دوت في المكان … وقام من كل مائدة زوجان … ودقَّ الطبل ورنَّ النحاس وعوى «السكسوفون» … فكان لمزيج أصواتها صدى يشبه صراخ الحيوان الجوعان … ولعبت الأجساد بالأجساد … واحمرَّت العيون، وندت الشفاه، واتسعت الأحداق … واضطربت الأفكار في رأس «طالب الزواج» ماذا يصنع؟ … وماذا يقول؟ … وعلى ماذا يعول؟
وظلَّ في اختلاط فكره وحيرة رأيه ما ظلَّت الرقصة في اختلاطها ولعبها بأفئدة الراقصين والمشاهدين … إلى أن انتهت الرقصة … وصمتت الموسيقى، وصفق الحاضرون … وأقبل البعض على البعض يتحادثون … فالتفتت السيدة الهادية إلى زميلها الخاطب قائلة: لم أتلقَّ جوابك … ماذا قررت؟
فأطرق لحظة، ثم رفع رأسه وقال: أمرنا إلى الله … ابحثي لنا إذن عن واحدة شريفة، عفيفة، سمعتها طيبة، ليس لها غير عشيق واحد!