الشيخ البلبيسي
لم أره قطُّ رؤية العين … ولكني سمعت به ممن رأوه وعرفوه … فقد كان لذلك الرجل صيت في الأقاليم منذ أكثر من ثُلث قرن … كان رجلًا فارع الطول، فيما يقال، ضخم الجِرم، ذا هيئة تفرض على الناس التبجيل والاحترام … وكان شديد العناية بثيابه، لا يرتدي منها إلا ما غلا في الثمن وزاد في المهابة … كان عظيم الهامة، أشيب اللحية، طويل المسبحة، كبير العمامة.
•••
روى لي محدِّثي عنه قائلًا: عرفت الشيخ «البلبيسي» لأول مرة في دار الباشا المدير … دخلت عليهم في تلك «المنظرة» التي كان يجتمع فيها من حين إلى حين جلة علماء المديرية وأكابر أعيانها، فأبصرتُ «الشيخ» بطلعته الجليلة في صدر المجلس، فما شككت في أنه أعظمهم فضلًا وأرفعهم قدرًا … فلما قدمني إليه المدير، لم أنتظر حتى أعي اسمه، وانكببت، لهيبته، على يده أُقبِّلها … فسحبها مني برفقٍ وأفسح لي مكانًا إلى جواره، وهو يقول بصوته الوقور: أستغفر الله يا بني، أستغفر الله! … على مَنْ أخذت العلم في الأزهر الشريف؟!
فعَلَتْ وجهي حُمرة الخجل وقلت: لم أدرس العلم … ولكني رجل مُزارع من ذوي الأملاك … فربت عليَّ بكفِّه قائلًا: وأنعم بالزراعة والزراع! … من يزرع خيرًا يحصد خيرًا، ومن يزرع …
وسعل سُعالًا خافتًا غريبًا كأنه عواء — جَهد في كتمه بكُمِّه — ومضى يقول متلطفًا: كيف اتفق أنني لم أرك هنا من قبل؟
فقلت وأنا أُلقي نظرة على الباشا المدير المتشاغل عنَّا بضيوفه وهم يتحدثون، فيما بينهم هامسين، حتى لا يزعجونا، فيما اعتقدت، بأصواتهم: إني قليل المجيء إلى البندر … ولا أُغادر أرضي وعزبتي إلا إذا دعتني إلى ذلك المصالح أو الضرورات.
فقال الشيخ، وهو يعد بأصابعه المرتجفة حبَّات مسبحته: حسنًا فعلت يا بني … لقد قالوا في الأمثال: الأرض التي لا ترى قدم صاحبها لا تفلح …
وسعل ذلك السعال الغريب المكتوم، وقد وضحتْ معالمه المشابهة لعواء الكلب … فأخذتني رعدة … وأحسَّ ذلك مني … فمال على أُذني هامسًا: هل أزعجك سُعالي؟ … لا تخشَ شيئًا … هذا أمر يأتي أحيانًا ويمرُّ مرَّ الكرام.
فقلت له باطمئنان: بل لا تنزعج فضيلتك … إنما هو برد عارض من برد هذه الأيام.
فقال لي بنبرة وقورة هامسًا: لا … يا بني … هذا ليس ببردٍ … إني ما تعودت الكذب … إنما هو مرض آخر.
– ليس خطيرًا على كل حالٍ.
– أرجو أن يبرئني الله منه.
وسعل … أو على الأصح عوى كالكلب … وهو يسد فمه بكُمِّه حتى لا يبلغ الصوت أسماع الحاضرين … وألقى عليهم نظرات قلقة مضطربة … وهمس في أُذني: لعلَّ سُعالي لم يصل إليهم … أما أنت فمثل ابني… ولعلَّك تكتم عني … إنها بلية، ابتلاني بها الله … وهو لا يبلو إلا عباده الصالحين … أسأله تعالى أن يُنهي هذه الأزمة على خير حتى أنصرف عن هذا المجلس.
فأخذتني به شفقة … ورأيته يلمُّ أطراف عباءته، ليُسرع بالنهوض، ولكن السعال أو العواء أدركه … فلبث في مكانه يحشو فمه بكُمِّه … حتى هدأ قليلًا … فقلت له: أمَا علاج لهذا؟
– العلاج بيد الله … وأخشى أن يكون قد فات أوانه … كل ما أرجوه ألَّا يكون دائي خطرًا على الناس … كفى ما حدث لذلك الخادم المسكين.
– ماذا حدث له؟
قُلتها مُرتاعًا … فقال بصوتٍ مرتجفٍ مُتعب جاف: اشتدت عليَّ الأزمة يومًا … وقيل إني كنت أسعل سُعالًا كعواء ذلك الكلب «المسعور» الذي عضني … فلما أراد خادمي إسعافي ومعونتي هبرته بأسناني وعضضته عضة أدت إلى وفاته … رحمه الله رحمة واسعة! … ورحمني أنا أيضًا وغفر لي.
وقطع سُعاله حديثه … وجعل يمزق كمَّه بأسنانه، حتى لا يخرج الصوت من فمه واضحًا … وجعلتُ أنا أحاول التزحزح من مكاني مبتعدًا عنه من الخوف … ولكن احترامي له وعطفي عليه وحرصي على شعوره وخشيتي من لفت الأنظار إليه … كل هذا سمَّرني في مقعدي … فتجلَّدت وقلت له بصوتٍ متهدجٍ: إنها ولا شك أزمة خفيفة ستمرُّ.
ولم أتم، فقد جحظت عيناه … وتغيَّر وجهه … وأرغى وأزبد … وكشر عن أنيابه، وانقلب — في لحظة — ذلك الشيخ الوقور، إلى كلب خطر عقور … وترك كُمَّه وفغر فاه بعواءٍ سافرٍ مرعب … ومدَّ يديه نحوي كأنهما مخالب … وهَمَّ بالهجوم عليَّ … وهنا لم أدرِ من الفزع إلا وأنا أثب نحو الباب وثبة، صدمتني بعارضته الخشبية صدمة، ما برح أثرها باقيًا في جبيني … وما كدتُ أجد نفسي في فناء الدار … حتى صِحتُ من حلاوة الروح بالخدم والحجَّاب: الحمد لله! … هرِبت بجلدي … لكن المصيبة هي مصيبة الباشا المدير وضيوفه لقد أكلهم فضيلة الشيخ ونهشهم وانتهى الأمر!
وأردتُ أن أدفع بالحُجَّاب إلى داخل «المنظرة» لينقذوا من يمكن إنقاذه … وإذا بي أرى الباشا المدير وضيوفه، يتوسَّطهم «الشيخ» الجليل، خارجين من الباب يتمايلون، والضحك يكاد يُقطعهم تقطيعًا.
•••
فلما انكشفت لي الحقيقة وأبديت احتجاجي … قال لي المدير باسمًا: ألا تعرف الشيخ «البلبيسي» ونوادره ودُعاباته؟! … هذا هو الشيخ البلبيسي … هل تعرفه الآن؟
فأشرت إلى الصدمة في جبهتي، وقلت مبتسمًا: معرفة تركت فيَّ أثرًا!
فتقدَّم نحوي «الشيخ» كما يتقدم الممثِّل بعد أن مسح عن وجهه طلاء التمثيل، وقال: الحمد لله على السلامة! … إن شاء الله قريبًا …
فقاطعته صائحًا: مستحيل … لا يُلدَغ — بل قل … لا يُعَض — مؤمن … فبادر هو يكمل العبارة: من كلب مرتين … هذا صحيح … ولكن من قال لك إني سأكون كلبًا في المرة القادمة؟
– إذا قابلتني في المرة القادمة فكن كما شئت وشاءت لك براعتك.
•••
ولم أقابله بعدها أبدًا … إلى أن مات وذهبت أيامه … ولم يعُد لهذه المجالس «والمنادر» وجود … وانقرض هذا النوع من الناس … وانقرض معه نوع من المواهب الطبيعية يتفجر من السليقة الإنسانية، كان لازمًا لإدخال الأُنس على مجالس ذلك العهد.
إن لكل عصر رجال أُنسه … ولكن عصر «المنادر» كان له رجال قلَّما يجود بمثلهم الزمان.
لا آسف على شيء أسفي على أني لم أقابل «الشيخ البلبيسي» مرة أخرى … وإن كنت على ثقة من أنه كان سيترك فيَّ مرة أخرى أثرًا لا يُمحى.