عزم السفر
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.
في هذه الكلمات الحكيمة تمثَّل شعور الكثيرين من أصدقائي منذ أعلنت عزمي على الرحلة إلى الحجاز حاجًّا حتى ودَّعوني مسافرًا، وفيها كان يتمثل شعوري لو أن أحدًا حدَّثني عن هذه الرحلة قبل خمس سنوات من قيامي بها، فلما كانت سنة ١٩٣١ وبدأت أكتب «حياة محمد» شعرت بعد التقدم فيها بالرغبة الملحة في الذهاب إلى الحجاز، ولما سَيَّرَتْ شركة مصر للملاحة البحرية باخرتها الأولى «زمزم» إلى الأماكن الإسلامية المقدسة في سنة ١٩٣٤، علمت أن في نيَّتها تسيير هذه الباخرة في أكتوبر من تلك السنة كيما تطوِّع لمن شاء قضاء العمرة في شهر رجب، إذ ذاك لم أتردد وصممتُ على انتهاز الفرصة لتنفيذ ما اعتزمته، لكن قلَّة الإقبال على هذه الزيارة الرجبية لم تسمح بتسيير الباخرة فلم تتم الرحلة، وأسفتُ لفوات الفرصة، وبقيتُ على عزمي أن أزور الحجاز وبلاد العرب وأن أقوم فيهما بكل ما أستطيع من الدراسات.
ولئن أسفت على فوات هذه الرحلة لقد أسفت كذلك لإضاعة فرصة عرضت من قبل، ولم يدُر بخاطري يوم أضعتها أني سوف آسف عليها، تلك فرصة السفر إلى الحجاز مستهل الشتاء من عام ١٩٣٠، حين دعت الحكومة السعودية الصحافة المصرية إلى الحجاز لحضور حفلة التتويج للملك ابن السعود، فقد دُعيت إلى هذه الحفلة، وكنت أوَدُّ إجابة الدعوة لولا إقبال مصر يوم ذاك على المفاوضة لعقد الاتفاق بينها وبين إنكلترا، ولمَّا تكن كتابة سيرة النبي العربي قد تمكنت من نفسي لتربط بيني وبين بلاد العرب بصلة تجعلني حريصًا على أن أتعجل زيارتها؛ لذلك لم يكن ما يحفزني إلى المفاضلة بين المقام بمصر ومغادرتها في وقت كانت أحوال مصر تدعوني للقيام بواجبي القومي كاملًا؛ من ثم رجوت صديقي وزميلي الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، فسافر إلى الحجاز ممثلًا جريدة السياسة بالنيابة عني، ولو كُشف لي يومئذٍ من الغيب ما يسَّرَتْني الأقدار له لما عدل بي عن السفر إلى موطن النبي العربي أيُّ اعتبار، ولكن «ما تدري نفس ماذا تكسب غدًا».
أقمت على عزمي أن أزور الحجاز وبلاد العرب، وآثرت أن يكون ذلك أشهر الحج؛ لأؤدي فرضه وأدرك إدراكًا ذاتيًّا كل حكمته، ووطد عزمي ما عرفت في فرائض الإسلام الأربع الأولى من حكمة بالغة يدرك سمو جلالها وجليل نفعها كل من يؤديها بنفسه أو يعيش بين أهله وإخوانه الذين يؤدونها، ألا يجمل بي أن أقف بنفسي بين الحجيج بمكة ومنى وعرفات، ومع الذين يزورون قبر النبي بالمدينة؟ لأؤدي فريضة الحج فأستبين حكمته، ولأقف على ما يدركه المسلمون اليوم من هذه الحكمة، ولأرى كيف يؤدون هذا الفرض؟
أمَا فُرِض الحج ليشهد الناس منافع لهم، وليذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام؛ ولتتيسر لهم بالاجتماع لأداء الفريضة فرصة التعارف والتفاهم؟ فليكن الوقوف على مبلغ تقديرهم لهذه الحكمة بعض ما أشهده في الحج من منافع.
وبدأ التفكير في السفر للحج يُساور نفسي ويشغل حيزًا من ذهني، ولم أطالع بهذا التفكير بادئ الرأي أحدًا؛ إذ كانت شوائب التردد ما تزال تشوبه، فقد انتشرت أمام ذهني في الأيام الأولى منه صورة غير مشجعة لما قد يقوم في سبيل هذا السفر من عقبات، فما عسى أن تكون الحياة في بلاد العرب لرجل تقتضيه عادات الحياة ما لا يتيسر هناك؟ وما عساي أفعل إذا مرضت؟ ولي ابن عم مات على عرفات ودُفن بمكة من عامين لعله لو أسعف بالعلاج والطب لما تيتَّم أبناؤه، وإذا استطاع الإنسان التغلب على مخاوف المرض وحاجات الحياة في غير أشهر الحج، فكيف يغالبها حين يختلط حابل المسلمين بنابلهم بمكة، وحين تكون الأماكن المقدسة معرضة للأمراض الوافدة إليها من الهند ومن جاوة ومن مختلف أقطار الأرض؟ هذا إلى ما تقضي به نظم مصر الصحية من احتياط بالوقاية الطبية قبل السفر، وحَجر صحي في العودة.
والإحرام: التجرُّد من الملابس كلها، والاكتفاء بمئزرين غير مَخيطين يلتف الإنسان بهما، ويبقى عاريَ الرأس ليله ونهاره أيامًا عدَّة، كيف يحتمل الإنسان ذلك كله في الحجاز؟! وهو — فيما يصفه الواصفون — بلادُ بادية، لا تعرف من صور الحضارة ما تطمئن إليه نفس أحد ممن أصبح جوار الطبيب والصيدلية بعض ضرورات حياته.
ولئن نسيت هذه الاعتبارات وجعلت لي فيمن سبقني إلى الحج أسوة، أأنسى هذا الاضطراب الدولي القائم بسبب الحرب الناشبة بين إيطاليا والحبشة؟ لقد ألَّبت إنكلترا الدول المشتركة في عصبة الأمم على عاهل «رومية»، وحشدت في البحر الأبيض المتوسط وعلى حدود مصر من القوات ما ينذر بالحرب بين عشية وضحاها؛ حرب يكون البحر الأحمر وطريق الحجاز فيه بعض ميادينها، فإذا أنا سافرت ثم وقعت الحرب فكيف لي أن أعود إلى وطني وأهلي وأبنائي؟
مر ذلك كله في خاطري فزاد في ترددي، ولقد حاولت الاطمئنان إلى رأي فيه بسؤال أصحابي الذين زاروا الحجاز عن نوع العيش هناك، وبسؤال المشتغلين مثلي بالسياسة عما يتوقَّعونه من أثر الخلاف بين إيطاليا وإنكلترا، على أنني لم أتجاوز السؤال إلى ما قد يفهم منه عزمي على السفر، فلو أنهم فهموا مني ذلك العزم لأقدمت وسافرت غير عابئ بالنتائج، ذلك مزاجي، ولعله مزاج من يغلب عليهم الحياء في اتصالهم بالناس، يجازفون مخافة أن يقال: خافوا! ولم أتلقَّ من أصحابي بادئ الرأي جوابًا أطمئن إليه، فبينا كان قوم يهوِّنون عليَّ أمر العيش بالحجاز كان آخرون يصفون لي من عسره وشدته ما يطير معه اللُّب شَعاعًا، ولقد أوجب بعض الأطباء أن يأخذ المسافر معه من صناديق المياه المعدنية ما يكفيه اتقاء تلوث مياه الحجاز، ورأى آخرون أن يحمل المسافر معه كل ما يحتاج إليه من طعام وشراب.
لم يكن الأمر على هذا التصوير سفرًا إلى بلاد قريبة يذهب الإنسان إليها، ويقضي مناسكه بها ويعود منها في أسبوعين أو نحوهما، فالعدة للطواف حول الأرض أو السفر إلى القُطب لا تزيد على ما يذكرون، أية عزيمة لا تتضعضع إزاء هذه المخاوف ولا تردُّ صاحبها عن عزمه؟!
صحيح أن أكثر الذين زاروا الحجاز وحجوا البيت وزاروا المدينة هوَّنوا عليَّ الأمر وجعلوه في صورة من اليسر لا يبقى معها موضع للتردد، بل أضاف بعضهم أن هذه الرحلة جميلة محببة تثير في نفس المثقف من الإحساس والصور الشعرية والفنية السامية ما لا تثيره الرحلات إلى المصايف، أو بلاد الآثار في مصر والغرب، لكن كلام هؤلاء المشجعين لم يمحُ من نفسي أثر كلام المحذرين، فقد تصورتهم متأثرين بعاطفتهم الدينية أكثر منهم بالواقع، وأنهم يخشون إن ذكروا المشقة، أو ذكروا نقص أسباب الراحة والصحة بالحجاز، أن ينقص أجرهم عن حجهم وعمرتهم، ولولا أن منهم علماء ومثقفين لما بلغت أخبارهم من نفسي أن تغالب أخبار المحذرين، وأن تجعلني أديم التفكير في أمر السفر.
وكان الخوف من الحرب وخطر الطريق أبلغ في نفسي أثرًا، ولم يقنعني من سألتهم رأيهم في الأمر بما يزيل هذا الأثر من نفسي، فبينما كان بعضهم ينفي احتمال الحرب بين إنكلترا وإيطاليا قبل أن تتضعضع قوات إيطاليا في الحبشة، كان آخرون يؤكدون اقتراب الحرب ويكادون يضربون لوقوعها موعدًا، وكان من بين الذين استشرت من اعتزم الحج منذ العام الماضي، فلما استنجزتهم عزمهم اعتذروا بما طرأ من أحوال قد تجرُّ إلى حرب تشترك مصر فيها، وتكون الأراضي المصرية أو المياه المصرية ميدانها، ويتعرض أبناء مصر وتتعرض ثروتها من جرائها لما تجرُّه الحرب وراءها من الدمار والهلاك؛ ولهذا الاحتمال ثارت مصر تطلب إلى إنكلترا أن تعقد معها معاهدة مودَّة وتحالف كانا قد انتهيا من قبل إلى نصوصها، وأجابت إنكلترا بعد لأيٍ أنها على استعداد للمحادثة من جديد على ضوء ما سمته الأحوال المتغيرة للشئون الحربية الحديثة، وقبلت مصر عرض إنكلترا، وجعلت تعد العدة للمحادثات فالمفاوضات، وبهذه المفاوضات اعتذر بعض الذين نذروا السفر إلى الحجاز من قبل، وحاولوا أن يُلقوا في رُوعي أن السفر في مثل هذه الأحوال يعتبر تنحيًا عن أداء ما للوطن من حق على أبنائه، وربما كان موقف مصر من هذه المفاوضات أدعى إلى إرجائي السفر من موقفها سنة ١٩٣٠، حين اعتذرت عن تلبية الدعوة إلى حفلات التتويج لابن السعود.
فكرت في هذه الأمور مليًّا، على أن استشارتي أصحابي جعلت غير واحد منهم يسألني: أمسافرٌ أنت حقًّا لتؤدي فريضة الحج؟ وكان جوابي منذ أُلقي هذا السؤال عليَّ لأول مرة: إن شاء الله، ومع أن مشيئة الله يتعلق بها إرجاء السفر كما يتعلق بها السفر، فقد كنت أحس كلما قلت هذه الكلمة كأن دافعًا أقوى من تفكيري يدفعني إلى عدم الإرجاء، وإن أمسكني ما قدمت من الاعتراضات في دائرة ترددي، وتركت الأمر معلقًا بمشيئة الله وإن لم يمنعني ذلك عن ذكره وتفصيل الحديث فيه كأنه أمر لا محالة واقع.
ومن عجب أني رأيت بعض أصدقائي يزداد حرصًا على صدي عن السفر كلما رآني أشد إقبالًا عليه، وكان بعضهم يلتمس من أسباب الإرجاء ما يراه مقنعًا، قال أحدهم: إن تيسير المواصلات لأداء فريضة الحج يطَّرِد سراعًا، فخير لمثلك أن يرجئ أداءها حتى تكون غير مرهقةٍ إياه، أما إن كان مقصدك في السفر استيفاء البحث في سيرة محمد وعصره، فالخير أن تذهب في غير أشهر الحج، فالبحث التاريخي والعلمي بحاجة إلى الهدوء والطمأنينة ليؤتي ثمره، ومكة في غير أشهر الحج هادئة، يعاون سكونها على البحث من غير عناء بحثًا أَعْوَد بالفائدة وأدنى إلى الدقة العلمية، فلا تغامر الآن حتى تطمئن إلى سلامة البحر الأحمر، وحتى تنتهي مصر من مفاوضتها إلى موقف حاسم في أمر الاتفاق مع إنكلترا.
على أنني لم أعدم تشجيع قوم استهانوا بمشقة السفر وبخطر الحرب، وأكبروا عزمي واستحثوني على تنفيذه، قال أحدهم: إنك سترى في الأماكن الإسلامية المقدسة تاريخًا يمكن التثبت منه والقطع بصحة وقائعه؛ وذلك على خلاف تاريخ المسيحية في فلسطين، حيث تحجب الأساطير كل ما يمكن أن نسميه تاريخًا بالمعنى العلمي، وقال آخر: إذا كانت المفاوضات المصرية الإنكليزية هي التي تدعوك إلى البقاء، فأنا الكفيل بأن تسافر وتؤدي فريضة الحج وتحقق ما تشاء تحقيقه ولمَّا تقطع المفاوضات مرحلتها الأولى، وقال ثالت: هب الحرب شبت وتعرضت الملاحة في البحر الأحمر للخطر، ففي مقدورك أن تعود بالسيارة من طريق سيناء، ولن تضنَّ مصلحة الحدود المصرية عليك بالمعونة كي تعود، ولو أن ذلك حدث لكان لك فيه من الحظ أن ترى من الأماكن المقدسة المتصلة بسيرة النبي العربي ما لا تتيسر لك رؤيته إذا عدت بالبحر والبحر آمن.
وأفضيتُ إلى زوجي بذات نفسي، فكانت أكبر مشجع لي على السفر، قالت: إنك تفكر في الحج وفي السفر إلى الحجاز منذ عام أو أكثر من عام، فسافر على بركة الله وتوكل عليه ما دمت قد عزمت، وسترى في الحجاز لونًا جديدًا من الحياة يريح مرآه الأعصاب وتطمئن له النفس، وقد شغلت نفسك حتى انتهاء مقامنا في الصيف بالشام بالدرس والبحث، فروِّح عن نفسك بهذا السفر منهما.
كان حديث زوجي وتشجيع أصدقائي حريَّين بالقضاء على كل أثر للتردد في نفسي، لكني ظللت أفكر في العقبات وتذليلها، جاهدًا لتغليب جانب العزم على جانب الإرجاء، وإنني ذات ليلة لَشَغِلٌ بالأمر أقلبه على وجوهه وأستخير الله فيه، إذ سمعت حديثًا كأنه الإلهام قضى على ترددي قضاءً مبرمًا؛ فقد عدت إلى داري بعد انقضاء عملي الصحفي منتصف الليل، وجلست إلى جانب أداة «الراديو»، وجعلت أدير شارته على محطات مختلفة حتى كانت عند «بودابست» عاصمة المجر، و«بودابست» تعزف في مثل هذه الساعة من الليل ألحانًا موسيقية تطرب لها النفس، فما كان أشد عجبي حين سمعت الإذاعة فيها غير موسيقية! وحين سمعتها محاضرة باللغة الإنكليزية، وكانت أول عبارة تنفست عنها الإذاعة قول المحاضر: «وسط هذه الجموع الحاشدة حول الكعبة جعلت أسمع: الله أكبر، الله أكبر: فلما انتهيت من الطواف ذهبتُ أسعى بين ربْوَتَي الصفا والمروة …» وانطلق المحاضر يتكلم عن الحج وشعائره ومناسكه وما كان له في نفسه من أثر عميق.
لم يخامرني ريب من أول وهلة في أن المحاضر هو صاحبي الأستاذ المجري «جون جرمانوس» الذي أسلم وتسمى باسم عبد الكريم؛ والذي جاء إلى مصر منذ عام فزارني غير مرة، ثم ذهب من مصر إلى الحجاز فقضى بها أشهر الحج وعاد فلقيني وقصَّ عليَّ شيئًا مما مر به أثناء رحلته، فلما أتم إذاعته من «بودابست» أقفلت أداة «الراديو» وقد علاني الوجوم، وقلت في نفسي: أوَيكون هذا الأستاذ الأوروبي الحديث العهد بالإسلام أصدق عزمًا مني في زيارة الأماكن الإسلامية المقدسة؟! وهل تراه يطيق من مشقة الحج ما لا أطيق؟ وشعرت بما في ترددي من تجديفٍ يجب أن يتنزه عنه إيماني بالله وثقتي بنفسي، إذ ذاك نضَوْت عني كل ما عَلِق من قبل بإرادتي، ولم أَرْتَبْ لحظة في أن الله قد عزم لي بهذا الحديث من «بودابست» بعد أن استخرته مخلصًا واستعنته صادقًا.
فلما اطمأن عزمي وقرَّت إرادتي عدت ألوم نفسي على ما كان من مخاوفها، وكيف أخاف اليوم وعهدي بنفسي أعظم ثقة بالله من أن أحجم دون ما أعتقده الحق أو الخير، أو أرجع عن أمرٍ تعلقت به نيتي، وما البحر الأحمر واحتمال مخاوف الحرب فيه إذا قيس إلى سنة ١٩١٤؟! لقد كنت إذ ذاك محاميًا بالمنصورة، وكنت قد عقدت العزم مع صديق لي أن نقضيَ بعض الصيف بلبنان، وحددنا اليوم الثاني من شهر أغسطس موعدًا لسفرنا على إحدى البواخر التي تبرح بورسعيد إلى بيروت؟ وبينما كنا نستقل القطار صبيحة ذلك اليوم من المنصورة إلى مرفأ سفرنا طالعتنا الصحف بأن الحرب شبت بين النمسا والصِّرب وروسيا وفرنسا بعد أن عجزت السياسة عن تسوية حادث «سيراچيڨو» بما يصون السلم ويحقن الدماء.
وقدرت وصاحبي امتداد الحرب إلى عرض البحر الأبيض، ودار بخاطرنا أن نقضي أسابيع رياضتنا في بورسعيد، لكني ما لبثت حين داعبنا هذا الخاطر أن دفعته بأن في مقدورنا أن نركب الصحراء في عودتنا من لبنان إذا خِيف البحر وتعذر ركوبه، وركوب الصحراء يومئذٍ كان معناه امتطاء ظهور الإبل، فلم تكن سكة الحديد قد مُدَّت لفلسطين، ولم يكن السفر بالسيارات مألوفًا، وسافرنا إلى لبنان، فإذا تركيا تحشد جنودها، وإذا الأنباء تَتْرى بعد أيام بأن البواخر الذاهبة إلى مصر اضطربت مواعيد سفرها، مع ذلك لم تتغير ابتسامتي للحياة، وبقيت وصاحبي حتى أقلتنا باخرة جُمع عليها المصطافون من مصر جميعًا فحشروا فوقها زُمَرًا.
ها هي ذي أكثر من عشرين سنة انقضت منذ هذا الحادث وما أزال سعيدًا بذكراه، راضيًا عن إقدامي، فكيف أخشى اليوم احتمال حرب في البحر الأحمر لا يزيد على أنه احتمال قريب أو بعيد، ولم أكن أخشى يوم ذاك أن تمتد إلى البحر الأبيض حرب شبَّ بالفعل أُوارها، أوَبلغ من تقدم السن بي أن أضعف عزمي؟ أم أن الأولاد مجْبنةٌ لي اليوم ولم تكن لي مجبنة يومئذٍ؟ أم أن إغراء الشباب بالمغامرة الرخيصة ليس في شيء من حكمة الكهولة وأناتها في تدبرها الأمور وتقديرها؟ ليرجع ترددي من خوف الحرب في البحر الأحمر إلى أي من هذه الأسباب أو إليها جميعًا، فأنا ملومٌ فيه، فما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله، وكل نفس ذائقة الموت كتابًا مؤجَّلًا.
ولقد رأيت الموت بعينيَّ غير مرة، وها أنا ذا مع ذلك أضرب في الحياة وما أزال أجاهدها؛ سقطتُ من أعلى دارنا بالريف في سنة ١٩٠١، فلولا قدرٌ عفا عني لكنت اليوم في جوار الله، ومرضت في سنة ١٩٢٤ مرضًا خيف منه على حياتي، وصدمتني سيارة في سنة ١٩٢٨ صدمة قَضَى مثلها على حياة كثيرين غيري، وانقلبت بي السيارة في سنة ١٩٣٢ فلم يؤذني انقلابها، وتصادمتُ ومعي أولادي في سنة ١٩٣٥ تصادمًا أزعجنا ولم ينلنا بأذى، ودون هذا وما إليه ما يودي بالحياة إذا حُمَّ الأجل، وكم مات أقوياء أصحاء فجأة بلا مرض ولا حادث، فليكن بعض إيماننا بالله أن نقبل على أداء واجبنا في الحياة مطمئنين غير هيَّابين ولا وجلين؛ فإن بلغنا من أدائه ما نرجو فذلك فضل الله وحسن تيسيره، وذلك هو الفوز العظيم، وإن اخترمتنا المنون أثناء قيامنا به مخلصين، فذلك مجدنا في الحياة ورجاؤنا في الله، وأي مجد في الحياة كأداء ما نؤمن بأنه الواجب؟ وأي رجاء في الله أكبر من الاستشهاد في سبيل الواجب؟
وخجلت وأنا أحاسب نفسي حين ذكرت ما تخيلت من مشقة الحياة بالحجاز، فما المشقة؟ ثم ما قيمة عَيشٍ لا مشقة فيه؟! وأين المتاع بالحياة وجمالها إذا نحن قضيناها على نسقٍ مطَّرد يشابه فيه كل يوم ما قبله، لا يهزنا فيها جديد ولا تفجؤنا فيها فجاءة سارة أو مُمِضَّة؟! وكيف نروض أنفسنا على ما قد يمر بنا في الحياة من شدة، وكيف نعرف الصبر في البأساء وفي الضراء وحين البأس إذا أفزعنا شبح المشقة وانخلعت قلوبنا هلعًا لتصورها؟ أوَلسنا نُقْبِل عن طواعية واختيار على فنون من الرياضة فيها من الجهد والمشقة ما لا يقاس إليه كل ما في بلاد العرب مما نتصوره من جهد ومشقة؟ أولا يتسلق جماعة منا جبال الألب بسويسرا معرِّضين أنفسهم لقسوة الزمهرير في قُنَنها ولأخطار السقوط أثناء تسلقهم إياها؟ بل إننا لنحمل أنفسنا أحيانًا على ألوان من الرياضة أشد إجهادًا للقوى وأشد تعريضًا للخطر من تسلق الألب، ومتاعنا بهذه الألوان من الرياضة خير ما يلذنا من أيام حياتنا، حتى لنجد في ذكره من العذوبة ما يجعل العود إليه حلوًا سائغًا.
وإني لأذكر من مخاطرات الصبا ومن جولاته بأوروبا وغير أوروبا أيامًا قضيتها في مثل نسك الزاهد وخشونة صومعته، فأجد لهذه الذكرى لذة ونشوة لا يشبهها في شيء ذكر أيام الدعة والنعيم، وأستعيد بها صورة مشاهد في الطبيعة مما خلق الله أو نظم الإنسان قلَّ لمن لم يعرف الخشونة أن يشهد مثلها، فما لي لا أغتبط لما عسى أن يكون بالحجاز من مشقة أُثاب عنها بما أستمتع به بعدها من جمال ذكرياتها العِذاب؟ وهل الحياة بنعيمها وبؤسها إلا ذكرى؟ وما لي لا أسارع إلى طلب هذه المشقة أستعيد بها ما عرفت في ماضي حياتي من شئون العيش، وقد كان التقشف خير أستاذ يدرك مريدوه مغزى هذه الكلمة القوية العميقة: «اخشَوشنُوا فإن النِّعم لا تدوم.»
نضَوْت إذن ترددي، ولم أَرْتَبْ لحظة في أن الله عزم لي بحديث «بودابست» وعمدت منذ الغداة أستشير السابقين في الحج من أهلي وأصحابي في أهبة سفري، وهوَّن بعضهم الأمر، وهوَّله آخرون، هونه الشيوخ والذين ينعمون بالضرَّاء ابتغاء مغفرة الله لمن حج بيته، وهوله من ليسوا أقل إيمانًا وإن كانوا أشد على طمأنينتهم وصحتهم حرصًا، كان من رأي هؤلاء أن المياه في موسم الحج مخوفة، وأخوفها ماء مِنًى، وأن الاحتياط لقسوة البرد أثناء الإحرام يقضي بلباس خاص مع مِئْزَرَيْه، وسألت بعض الأطباء رأيهم في ماء الحجاز ووسيلة اتقاء تلوثه، وهوَّن بعض الأطباء الأمر وهوله آخرون، وكان ما يلائم جو الحجاز وتقاليد العيش فيه من أمر الملبس موضع خلاف كذلك، وقدم لي صديق من الأطباء جعبة من الدواء لإسعاف المسافر، وأكملتها بما يتفق وحالي الخاصة، وانتهى بي التفكير في الاحتياط الطبي إلى الاكتفاء بهذه الجعبة تاركًا ما سواها مما نصح به الأطباء إلى موجبات الحاجة أثناء السفر، ولعله السأم لاضطراب رأي الأطباء هو الذي حملني على هذا الاكتفاء، أما اللباس فأخذت من ألوانه كل ما نصح الناصحون به، وقد شغَل ما يقتضيه الإحرام وحده من عِيَاب المتاع حيزًا عظيمًا.
لست أذكر أني ساورتني مثل هذه الحيرة في أهبة السفر إلا صَدْر الشباب حين كنت مسافرًا في سنة ١٩٠٩ لإتمام دراسة الحقوق بأوروبا، فقد صحبت منها يوم ذاك ما عرفت من بعد أني في غير حاجة إليه، فأما في هذه الفترة التي انقضت بين سفري الأول إلى أوروبا وسفري الأول إلى الحجاز، والتي تزيد على ربع قرن من الدهر، فقد كنت أتخفف من الأهبة أثناء أسفاري ما استطعت، وما أسفتُ يومًا على هذا التخفف، سافرت مرات إلى أوروبا، وسافرت إلى لبنان والشام، وسافرت إلى السودان، ولم أكن في أسفاري هذه جميعًا أحمل من الثقل إلا ما أشعر بمسيس الحاجة إليه، ثقة مني بأني واجد ما ينقصني حيث أنزل، وكيف لا أجده وأهله يعيشون ويجدون حاجاتهم فيه؟ وكان حتمًا عليَّ أن أصنع هذا الصنيع في السفر إلى الحجاز، وأن أذكر أني واجدٌ في كل بلد ما تقضي به حاجات العيش فيه، لكني نسيت هذا الأمر، وما أنسانيه إلا كثرة ما سمعت ممن استشرتهم، ولعلي إنما طاوعتني نفسي إلى سماع الكثير مما قالوا لقلة من يسافرون لأداء فريضة الحج من الطبقات المستنيرة من المسلمين، ولكثرة ما يقال عن الحجاز والحالة الصحية فيه، وأغلب ظني أنني لو قمتُ بهذه الرحلة في غير موسم الحج لجريت على عادتي، ولتخففت من أهبة سفري ما استطعت.
ونزلت على حكم الإجراءات الرسمية التي تجب على من يفرض الحج، فقدَّمت بذلك طلبًا إلى الحكومة ودفعت نفقات السفر، وأسلمت نفسي للتطعيم ضد الجدري والحَقن ضد الكوليرا والتيفود، وحددت موعد سفري على الباخرة «كوثر» التي تبرح السويس يوم الثلاثاء ٢٥ من فبراير سنة ١٩٣٦، من يومئذٍ اتجه تفكيري إلى الحجاز وإلى الحج ومناسكه، وجعلت أصور لنفسي ما أنا ملاقيه في ترحالي وما سأشهده بالبلد الحرام والبلاد المقدسة، أما أصحابي الذين حاولوا من قبل أن يصرفوني عن سفري، فقد جعلوا يسألونني عن شعوري إزاء هذه الرحلة وإزاء فريضة الحج، مشفوعًا سؤالهم بأصدق الرجاء أن أتم الفريضة والرحلة وأن أعود إليهم بخير ما يرجونه لي من صحة وعافية.
وهرع آخرون من أصدقائي ومعارفي يهنئونني بما عزمت، ويؤكدون لي أنه آية فضل الله عليَّ ورضاه عني، وشكرت لهم تأكيدهم مغتبطًا به ثقة مني بإخلاصه وصدق النية فيه، وكيف ترقى إلى إخلاصه شبهة وأصحابه من أشد المسلمين تمسكًا بدينهم واطمئنانًا إليه، وأكثرهم ضليعون في علومه واقفون منه على ما لا يتسنى لغيرهم الوقوف عليه بعد إذ قضوا السنين الطوال في دراسته وتمحيصه والتدقيق في متونه وشروحه؟ وغاية ما رجوت أن يجيب الله دعاءهم فيقبل مني حجِّي وعمرتي، وييسر لي ما قصدت إليه من سفري.
اتجه تفكيري إلى الحجاز وإلى الحج ومناسكه، وجعلت أصوِّر لنفسي ما أنا ملاقيه في هذه المناسك وما أنا مشاهده في البلد الحرام، وسرعان أن ملأ هذا التفكير نفسي هيبةً ورهبة؛ فقد عُدت بذاكرتي إلى حجَّة الوداع، وتخيلت أمامي النبي العربي يؤديها على رأس مائة ألف أو يزيدون، فطأطأتُ رأسي لهذا المشهد إكبارًا وإجلالًا، ما أعظم الفرق بين ما كان يومئذٍ وما نحن عليه اليوم! كان المسلمون يتحرقون شوقًا إلى أداء الفريضة وهم لا يعلمون متى كُتب لهم أن يؤدُّوها مع رسول الله، فلما أذن مؤذنه في الناس بالحج أقبلوا إليه من كل فج وهرعوا من كل حَدَب يَنْسِلون، وأقاموا بالخيام التي ضُربت حول المدينة ينتظرون يوم الرحيل وقلوبهم فياضة بالبِشْر، وكلهم الغبطة والمسرة، واستفزهم المنادي، فقام جمعهم وراء الرسول الكريم إلى ذي الحليفة بظاهر المدينة، وقد امتلأت من خشية الله قلوبهم، وقد فاضت من هيبته عبراتهم، وكلهم إلى بيت الله هوًى، وفي سبيل دينه الحق اندفاعٌ ومحبة.
ونزلوا ذا الحليفة وباتوا ليلتهم بها، ثم أصبحوا فتطهروا وأحرموا وأعلنوا إلى الله أنهم نسُوا الدنيا في سبيله، وأنهم نَوَوا الحج إلى بيته يبتغون وجهه، وسوَّى الإحرام بينهم جميعًا، فلم يبق منهم غنيٌّ وفقير، ولا قويٌّ وضعيف، ولم يبق منهم من يفكر إلا في رضا بائه جلَّ شأنه تَعْنُو له الجباهُ، ولعظمته يَخِرُّ مَن في السموات ومَن في الأرض إلى الأذقان سجَّدًا، وانطلقوا من ذي الحليفة في طريق مكة يفكر كل منهم فيما قدم من عمل صالح، وينادون جميعًا بصوت رجل واحد ملبين: «لبَّيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»، وتجاوبت الأودية بصدى هذا النداء فحملته إلى بقاع البادية وإلى فسحة الصحراء، ونزل الجميع حين جنَّ الليل؛ فلما تَبَسَّم الفجر عن تباشير الصباح صلَّوا ولبَّوا ثم انتشروا وساروا يحدوهم الإيمان، ويدفعهم إلى بيت الله شوقٌ ومحبة، وظلوا في طريقهم إلى مكة اثني عشر يومًا، إذا جنَّهم الليل نزلوا، فإذا أضاء لهم الصبح قاموا متوجهين بقلوبهم إلى الله مصلين مُلبين، ناسين عرض الدنيا، مؤمنين بأن لا فضل لأحدهم على صاحبه إلا بالتقوى، فلما بلغوا مكة دخلوا المسجد الحرام يؤمُّهم محمد، وطافوا سبعًا بالبيت العتيق، ثم سعَوا سبعًا بين الصفا والمروة، طافوا جميعًا معًا، وسعوا جميعًا معًا، وهم جميعًا في إمامة محمد تسري إليهم من قدس روحه نفحات روحية، لم يعرفوا، ولم يعرف أحد قبلهم، ما يشابهها سموًّا وقوة.
وآن لهم أن يرتقُوا إلى عرفات ليتموا حجهم، فاتبعوا النبي إلى منى يوم التَّروية ثم ارتقَوا الجبل معه، وأقاموا فوق عرفات في مساواة الإحرام يهلِّلون ويكبرون ويلبون حتى مالت الشمس إلى المغيب، إذ ذاك استمعوا إلى خطاب النبي، ثم أفاضوا إلى المشعر الحرام فذكروا الله عنده، وهبطوا مِنًى فأتموا بها المناسك، وعادوا وقد طهر الحج قلوبهم إلى حياة جديدة بقلوب أكثر طهرًا، ونفوس أجابت داعي الحق، وعاهدت الله أن تُجِيبه كلما دعاها.
ارتسم أمامي هذا المشهد الذي يملأ النفس رهبةً والقلب إيمانًا، ورأيت نفسي مُقبلًا على مثله في ألوف اجتمعوا من أقاصي الأرض، لا من جزيرة العرب وحدها، للفريضة التي اجتمع إليها الأوَّلون الذين اتبعوا محمدًا من نيف وأربعين وثلاثمائة وألف سنة خلت، فازدادت نفسي لليوم القريب الذي أقف فيه هذا الموقف مهابة وإكبارًا، قلت لنفسي: «ها أنا ذا بعد أيام سأركب البحر قاصدًا بيت الله حاجًّا، فإذا بلغت رابغًا، ميقات الإحرام، أحرمتُ، وأحرم المسافرون للحج كما أحرم النبي وأصحابه، ونادى ركب الباخرة جميعًا: لبيك اللهم لبيك، وامتلأت النفوس جميعًا هيبة والقلوب إيمانًا، ربِّ أيَّةُ شعلة من نورك الذي أضاءت له السموات والأرض ستشتمل هذه الباخرة في اندفاعها تمخُر العُباب إلى بيتك المحرم يلبي ركبها كلهم دعاءك، وتتجه قلوبهم كلها إليك صادقة القصد عامرة بالإيمان.
لن تكون هذه الباخرة في تلك الساعات القدسيَّة مطية أجسام تجري فوق الماء، بل قبسًا من ضياء الهدى ونور الحق أفَضْتَه على عبادك فعادوا به إليك مهللين مكبرين مستجيبين إلى ندائك القدسي الأطهر، باعك كلٌّ منهم نفسه مجاهدًا في سبيلك، ونسي كلٌّ منهم هذه الحياة الدنيا فانيًا في جلال جنابك، لك الجلال جل شأنك، وبك العون على الجهاد في سبيلك، وسأكون أنا واحدًا من هؤلاء الفانين فيك، الصادقين في توجههم إليك، كلنا عبادك، وكلنا نلتمس غفرانك وعفوك، فاعف عنا واغفر لنا وارحمنا، اغفر لنا ولوالدينا ولمن دخل بيتنا مؤمنًا وللمؤمنين والمؤمنات، واهدنا اللَّهم صراطك المستقيم، «صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضَّالين».»
امتلأت نفسي بهذا المشهد، كله الجلال والرهبة، وبلغت منها مهابته أن لم يبق فيها موضع لشيء سواه، وأجبت الذين سألوني عن شعوري نحو رحلتي — وبينهم جماعة من غير المسلمين — عمَّا يخالج نفسي مما أرى أمامي، فرأيتهم تمتلئ قلوبهم منه هيبة وله إكبارًا وإجلالًا، وأي مشهد أدعى إلى المهابة الصادقة من هذه الصيحة المؤمنة المنبعثة من أعماق القلوب، تنفرج عنها شفاه عشرات الألوف من الواقفين بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة، يُلَبون داعي الله، متجردين من كل زخرف الحياة، عراة الرءوس، مُتَّشحين بمآزر الإحرام، معلنين التوبة عما مضى من هَنَات الحياة وخطاياها، منيبين إلى الله ليطهِّر نفوسهم كي تعود إلى الحياة في مثل براءة الطفولة؛ لتكون من بعد مثال النزاهة والفضيلة والجهاد الحق في سبيل الله جهادًا يهوِّن من كل صعب، ويهون الموت بل يحلو في سبيله.
وتعاقبت الأيام؛ ينسخ الليل النهار، ويمحو النهار آية الليل، فلما كنا من موعد السفر على يومين جاء أهلي من الريف يهدون إلينا تحية الوداع، وكلهم مطمئنو النفوس، كبيرو الرجاء في الله، وكلهم يطلبون إليَّ ما طلبه قبلهم كثيرون غيرهم، أن أقرأ لهم الفاتحة عند بيت الله وعند قبر رسوله ﷺ، وأن أدعو لهم الدعوات الصالحات، فلما كان الصباح الباكر من يوم الثلاثاء ٢٥ فبراير ١٩٣٦ ذهبنا إلى محطة «كوبري الليمون» لنستقل قطار «الديزل» الذي يشق الصحراء إلى السويس، ولقِيَنا الموَدِّعون بالمحطة يرجون لنا حجًّا مبرورًا وذنبًا مغفورًا وسفرًا موفقًا وعودًا حميدًا، وانطلق القطار يشق الصحراء براكبيه الذين اختاروا آخر باخرة من بواخر الحج، وبلغنا السويس، وأخذنا أوراق سفرنا، وأقلتنا السيارات إلى بور توفيق وإلى مرسى الباخرة «كوثر»، وعلونا الباخرة ولما يكن الزوال قد آذَن، وجعلت أطوف في أرجائها ألتمس من أعرف من المسافرين معي عليها، وألقيتُ نظري على مياه البحر الأحمر في خليج السويس، فذهب خيالي مع الأمواج يتقلب بعضها فوق بعض، فخلتها آتية من جدة تحيينا وتعلن إلينا أنها في انتظار تحركنا إلى مرفأ البيت الحرام، وبقي خيالي مع موج البحر حتى ناداني من أصحابي جماعة جلست وإياهم، وجعلنا نتحدث في انتظار طعام الغداء، وفي انتظار سير الباخرة إلى الأرض الإسلامية المقدسة.
يا عجبًا! أيُّ خاطر هذا الذي يجول الساعة بنفسي وأنا أسطر مشاهدي؟! إن هذه البواخر تقوم بحجاج المسلمين من السويس إلى جدة لتصل بين مرفأ سيناء حيث كلم الله موسى، وبين مَرفأ مكة حيث نزل الوحي على محمد، والذين يؤمنون برسالة محمد يؤمنون بإبراهيم وموسى وعيسى والنبيين من قبل، لا يُفرِّقون بين أحدٍ منهم، وهم لله مسلمون، تبارك الله ذو الجلال! إن كل ما في الحياة ليوحي اتصال الوجود كله في الزمان والمكان في وحدة هي الحُجَّة البالغة على وحدة بارئ الوجود — جلَّ شأنه، وسنرى من مظاهر الوحدة الروحية في سفرنا هذا، وفي مهبط الوحي على محمد ما يزيد المسلمين إيمانًا وتثبيتًا.
فلأنتظر مطمئنًّا، فعما قليل تجري بنا الباخرة باسم الله مجريها ومرسيها، إن ربي على كل شيء قدير.