في غار حراء
الكعبة والحرم أول ما يتجه إليه من يحج مكة وأشد ما يسترعي نظره فيها، فإذا أتم الناس شعائر الحج طوافًا وسعيًا، ظلت الكعبة وظل الحرم مع ذلك مثابتهم ما أقاموا بالبلد الحرام، وإنَّ كثيرين منهم ليتجهون بعد زيارة الحرم إلى زيارة مقابر آل البيت، هذه المقابر التي كانت موضع تقديس ورعاية من حكومة البلاد وأهلها، ومن زائريها، ومن المسلمين في شتَّى بقاع الأرض؛ حتى إذ تولى النجديون أمر الحجاز أنكروا تقديس هذه الأماكن واعتبروه إشراكًا بالله في عبادته، فهدموا ما أقامه السَّلف عليها من قباب ومساجد، وجعلوا على بعضها حُرَّاسًا وأبوابًا تُوصَد، ولم يصرف الحراسُ الناس عن زيارة مقابر آل البيت، ولم تحُل الأبواب بينهم وبين الوقوف بها والدعاء لساكنيها واستغفار الله لهم وقراءة الفاتحة لأرواحهم.
ويتجه بعضهم بنظره إلى حراء وإلى الغار الذي بأعلاه، ولقد قلَّ عدد هؤلاء بعد حُكْم النجديين الحجاز، وبعد أن هدموا القبة التي كانت مقامة فوق هذا الجبل، وجَنَتْ قلة الصاعدين إلى قمة حراء على مقهًى كان قائمًا على مقربة من القمة عند صهريج كان يختزن مياه المطر، كما جنت على الطريق المعبَّد الذي كان يتخذه الصاعدون إلى القمة، أما المقهى فلم يبق له أثر، وأما الطريق ففسد وشقَّ الصعود عليه، بذلك زاد عدد الصاعدين إلى غار حراء قلة، ولم يبق منهم من يكابد مشقة الصعود إلا الذين درسوا تاريخ الرسول وعرفوا نزول الوحي لأول مرة على محمد أثناء تَحَنُّثه بحراء. هؤلاء يحرصون على أن يصعدوا جبل النور، وأن يصلوا إلى الغار الذي اتخذه محمد مقرًّا، والذي جاء إليه جبريل أثناء مقامه به يلقي عليه أول ما جاء به من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وهؤلاء يرون في الجبل وفي الغار فوقه أقدس مكان تجب له الزيارة بعد حج البيت، فهو منزل الرسالة، وهو مهبط النور، وهو مقام الرسول قبل البعث يلتمس الحقيقة حتى أوحاها الله إليه، وهو اليوم كما كان منذ خمسة عشر قرنًا مضت، لم تَعْدُ عليه عادية، ولم يُغَيِّر منه حاكم ولا محكوم، وسيبقى كذلك عَلَمًا على الوحي وعلى الرسالة حتى يوم الدين.
ومذ وقع نظري على حراء حين ذهابي إلى قصر الملك غداة وصولي إلى مكة تعلق به نظري وشُدَّت إليه مشاعري، وتمثل لي حيثما ذكرته بهذه العزلة العجيبة التي تفرد بها عمَّا حوله من الجبال، وبهذه الاستقامة المخروطية في انطلاقه إلى السماء، استقامة تجعله أدنى إلى برج شاده الإنسان منه إلى جبل قائم بين عشرات من الجبال حوله، والحق أن الحادث الفذ الذي جعله القدر نصيب هذا الجبل، حادث نزول المَلَك على محمد بأول الوحي وهو يتحَنَّث بالغار فوقه، جدير بأن يجعل منه عَلمًا في تاريخ الإنسانية يتعلق به ذهن كل إنسان، ويتوجه إليه قلبه أكثر من كل موضع سواه، ويزيد الذهن تعلقًا به والقلب توَجُّهًا إليه أنَّ هذا الحادث لم يكن حادثًا عارضًا من خوارق أعمال القَدَر لم يمهد القدر له، بل كان نتيجة لتمهيد طويل خلال سنوات عدَّة أدَّب محمدًا ربُّه أثناءها وطهَّر نفسه، وأعده لتلقي رسالته وإبلاغها للناس.
على هذا الجبل؛ حراء، كانت خاتمة التمهيد والتهذيب والإعداد قبل الرسالة، إذن لقد شهد حراء هذه الرياضة الروحية العظيمة منذ هدى الله محمدًا إلى الحق حتى أضاء أمامه سبيل هذا الحق بنور الرؤيا الصادقة، وإلى أن أوحى إليه النبوة ليكون من بعدُ بشيرًا ونذيرًا، وليس ثمة موضع نعرفه في العالم شهد هذا كله، فلا جرم — وذلك شأنه — أن يتعلق به الذهن، وأن يتوجه له القلب، وأن تشد إليه المشاعر.
وحسبك أن تقف قبالة حراء وأن تتأمله لتذكر هذا المشهد كله، ولتراه مرتسمًا أمامك وكأنما حدث بمرأًى منك، أو كأنما حدث منذ عهد قريب، فها هو ذا محمد يسير وحيدًا منفردًا حاملًا من الزاد ما لا ينوء رجل بحمله، يخترق طرق مكة من جنوبها الشرقي حيث يقع اليوم شِعْب عليٍّ، وحيث كانت دار خديجة، إلى شمالها الشرقي حيث يقوم هذا الجبل.
وها هو ذا على سفح حراء يصعد إليه، وسيْما التفكير مرتسمة على قسمات محيَّاه، وليس فيما حوله من أسباب الحياة ما يرفه عن تفكيره أو ينبهه إلى جديد في الحياة، ويستمر في تصعيده، وزاده معه، حتى يبلغ قمة الجبل، هنالك يجد ماء المطر القليل قد اختزنته بعض أخاديد شعابه، ويجلس على مقربة من هذا الماء ومن غار قريب منه، هو مأواه أثناء نومه، ويجيل بصره فيما حوله من خلق الله، ثم يرجع البصر ويغمض عينيه الواسعتين الجميلتين إغماضة تأمل وادِّكار لكل ما سمع وما رأى، فإذا جَنَّ الليل وتألقت النجوم وانتشرت في قبة السماء، أجال بصره فيها، وفكر في أمرها وفي خلقها وفي خلق هذا العالم العظيم كله، وقضى أشطر الليل متأملًا يُقلِّب في صحف ذهنه كل ما يقول قومه في العالم وفي خَلْقه، وفي الآلهة والملائكة، وفي هذه الأصنام التي يعبدون، وينسيه التفكير نفسه، وينسيه طعامه ونومه، وينسيه الوقت ومَرَّه، ويذره متعلقًا بما ينشد من حقيقة العالم والوجود والكون، ويستريح في الغار سويعات لا يلبث حين يقظته بعدها أن يعود إلى تفكيره وإلى تأمله وإلى نِشدانه حقيقة العالم والوجود.
لقد كان — إلى أن مال به حبه العزلة إلى التحنث والانقطاع عن الناس — محبوبًا من قومه، مُقدَّرًا بينهم لوفائه وأمانته، وقد كان مضرب المثل بينهم لبِرِّه أبناءه وحبه زوجه وعطفه على الضعيف والمحروم، وكان يشارك قريشًا في أحاديثهم وسمرهم؛ يجلس وإياهم في دار الندوة إلى جوار الكعبة، وينصت إلى حديثهم، ويراهم إذا اختلفوا في أمر ذهبوا إلى هُبَل فضربوا عنده بالقِدَاح ليشير عليهم الصنم بما يجب أن يصنعوه، وكان يرى منهم قومًا عُرِفوا بالحكمة وحُسْن الرأي ينظرون إلى هُبَل وإلى مَن دونه من الأصنام التي يعبدها بنو وطنهم نظرة ريبة في ربوبيتها وفي صحة عبادتها، وكان يسمع الخطباء من هؤلاء الحكماء ينادون في الأسواق التي تنعقد حول مكة إبَّان الحج بأن لله دينًا غير هذا الدين الذي عليه قومه، ويرى قومًا من أهل الكتاب يعيبون العرب لوثنيتهم ويُبَشِّرون بالنصرانية، يريدون بالعرب أن يهتدوا بهداها.
وكان قومه يسمعون لما يسمع، ويتناقلون أخبار الرهبان الذين يلقونهم أثناء رحلتهم إلى الشام في تجارة الصيف، فلا يثنيهم ذلك عن التعلق بما أَلِفوا من تجارة الحياة، ولا يعدل بهم عن دينهم وعن عبادتهم أوثانهم، ولا ينصرف بتفكيرهم إلى شيء غير الدفاع عما لمكة من مكانة دينية قائمة يومئذٍ على الوثنية، وعما تيسره هذه المكانة لها من مزيد في الرخاء وسعة في التجارة، أما هو فقد انصرف منذ عهده الأول عن عبادتها، وتاقت نفسه إلى معرفة الحق، فتعلق به ودأب على البحث عنه والتفكير فيه، وشغله هذا الدأب عن تجارة خديجة فلم يخرج فيها إلى الشام كما فعل قبل أن يتزوجها، بل كفاه منها أن أغناه الله بها، وانصرف يلتمس هذا الحق الذي شُغِلت نفسه بالبحث عنه والتفكير فيه، يريد أن يراه واضحًا صريحًا لا لبس فيه ولا غموض.
اعتزل الناس وأمعن في الانقطاع عنهم، ووجد في حراء خير مرصد روحي يمتحن به أسباب الحقيقة التي تتجلى أمام بصيرته في أناة ودقة، فإذا جاء شهر رمضان من كل عام صعد إليه واستعان بالصوم والزهد في متاع الدنيا على استجلاء الحقيقة في كل ما تقع عليه عينه أو يتعلق به حسه، وفيما يتوسمه من حياة وراء ما يقع عليه الحس أو تدركه العين، وكذلك ظل حتى أماطت له الحقيقة عن لثامها وتبدت أمامه في كل صفائها وتجردها، وصار يراها في يقظته كأنها وضح الصبح، بهذا كله أدَّبه ربه، فلما تم لنفسه صفاؤها، أنزل الله عليه أول الوحي، فارتاع له وخافه، ثم أمره أن ينذر الناس وأن يدعوَهم إلى الحق الذي اهتدى إليه، فَصَدَعَ بأمر ربه ودعا الناس إلى الهدى.
تُرَى هل يأخذ بالنفس في الحياة شيء ما يأخذ بها هذا المرصد الروحي الذي تجلت الحقيقة فيه لمحمد كاملة واضحة صريحة؟! لقد وقفتُ أمام جبالٍ شتَّى أخذ بعضها بمجامع قلبي لجماله، وبهرني بعضها بعظمته، وشُدِهتُ لما احتوى عليه بعضها من عجائب الخلق والحياة، ولقد وقفت ذاهلًا مأخوذًا أمام آثار شادها الإنسان تزري بالزمن وتسخر من الدهر، ووقفت معجبًا أمام مراصد أقامها العلم لتزيد ما في العالم وضوحًا أمام الحس، لكني لم أشعر يومًا بما شعرت به خلال المرات التي وقفتها قبالة حراء أرسم من هذا المرصد الروحي صورة في نفسي، فلا يكاد يعدله شيء مما شاهدت في حياتي من عظمة الطبيعة وجلالها، ومن فن الإنسان وبراعته، مع يقيني ببساطته وبأن الصاعد إليه لن يرى فوقه إلا ما يرى فوق سائر الجبال.
ألحَّت عليَّ الرغبة في ارتقاء هذا الجبل لأقف حيث كان يقف محمد، وأشهد من مظاهر الخلق ما كان يشهد، ولأرى الغار الذي كان يقضي فيه ليله، والذي نزل عليه الروح الأمين بالوحي فيه، وأفضيتُ إلى أصدقائي برغبتي، وأبدى جماعة من أهل مكة الرغبة في مُصاحبتي؛ ليشهدوا معي ما لم يشهدوه من قبلُ على قربهم منه، وكان بعد صلاة العصر من يوم الجمعة موعدنا، فأقلتنا السيارة، حتى إذا كنا قبالة قصر الملك تياسرت بنا ثم انحرفت إلى مضارب جماعة من البدو لا يأبون أن يقدموا القهوة لمن شاء أن يتناولها، وقد جعلهم مقامهم بالحضر يتوقعون ما لا يتوقعه أبناء البادية من اقتضاء ما تنفحهم به مقابل تقديمهم إياها، ومقابل حراستهم السيارة أثناء مقامك بالجبل إذا صحبك سائقها.
ماذا أرى؟ لقد كان حراء ينحدر وأنا أنظر إليه من بعيد في استقامة مخروطية تجعله أدنى إلى برج شاده الإنسان، وها هو ذا الآن وله سفح كسفوح الجبال، وتبدو على السفح آثار طريق لسير الناس فيه، لكن قمته أكثر استقامة من سائر ما حولها من القمم. أتراها أشد عسرًا في الصعود إليها؟ سألت عن ذلك فهوَّن القوم عليَّ الأمر، وذكر من تسلقوا هذا الجبل من قبل أن الله يهيئ للصاعد فيه من أسباب اليسر ما لا يهيئه للصاعد في غيره من الجبال، لكننا أتينا بعد الظهيرة، وهذا السفح الذي يصعد الناس منه تطالعه أشعة شمس المغرب وينحسر الظل لذلك عنه، ولو أننا أتينا مصبحين لكان صعودنا في الظلال أكثر يسرًا، على أن أصحابي ذكروا أن الإنسان يستدير في صعوده إلى الفيء حين يقترب من القمة، وأنه يرى منها عند المغيب وقرابته كل ما حول حراء إلى أبعاد نائية مما يحجبه الضوء الباهر حين الظهيرة.
وسرنا إلى السفح وبدأنا نتسلقه، بدأنا في نشاط رجونا ألا يفتر قبل الغاية، وما له يفتر والجبل أمامنا ليس بالغًا في ارتفاعه ما يخاف الإنسان معه اللغوب؟! وسرنا في الطريق المألوف خلا شابًّا منا آثر أن يختزل هذا الطريق وأن يتسلق الجبل في استقامة تدنيه من غايته، وأنذره أصحابه أنه جاهدٌ نفسه بهذا الصعود العنيف فمُنْقَطَعٌ به دون القمة، ولم يسمع شبابه لإنذارهم، وانطلق انطلاقة السهم، يسبقنا مصعدًا ويقف بين آنٍ وآنٍ فوق صخرة من الصخور يصيح بنا صيحة الفائز المنتصر، وقطعنا في تسلقنا دون ربع الساعة، ثم بدأنا نشعر بالشقة ونقدر طول الطريق الذي حسبناه من قبل قصيًرا، واعتذر لي أصحابي عن سوء حال هذا الطريق وألقوا التبعة في ذلك على حكومة الوهابيين الذين هدموا قبة حراء، فصرفوا الناس عن الصعود للتبرك بها، فأهمل الطريق وساءت حاله، وزاد بنا الشعور بالمشقة، فاتخذنا من فَيء صخرة حمًى نستريح إليه، وعاودنا سيرنا حتى عاودتنا المشقة فاسترحنا كرَّة أخرى، وكلما أخذ منها الجهد ارتفعنا بأبصارنا نَحْزُر ما بقي من الطريق إلى القمة.
واستدرنا في تصعيدنا إلى الفيء، وسرت إلينا نسمات منعشة أشعرتنا بنشاط كان وشيكًا أن يفتر، وجلسنا ننعم بهذا النسيم ونَعُدُّ العدة للوثبة الأخيرة إلى القمة، ما كان أحوجني إلى هذه الجلسة! كانت أنفاسي تضطرب وصدري يعلو ويهبط فيكاد يمزق أضلاعي، والعرق يسيل من كل مسام جسمي ويبلل كل ملابسي، وأمسكت لا أتفوَّه بكلمة، وفتحت خياشيمي أستنشق النسيم بكل قوة ألتمس هدوءًا لصدري واستعادة لسكينة نفسي، وقال أحد أصحابنا من أهل مكة وقد طاب له المكان الظليل: إني ناظركم هنا حتى تعودوا من القمة، فلم يعد في مستطاعي أن أصعد، ولعله أراد أن يمتحن صبري ويبلوَ احتمالي، وكيف لي أن أقف دون غايةٍ قصدتُ إليها ما بلغ الجهد مني، ولست أدري متى يتيسر لي أن أعود إلى مكة؟ ولهذا الجبل وللغار من السحر في قلبي والسلطان على مشاعري ما يهون معه كل جهد وتطيب به كل مشقة! ولم تك إلا دقائق حتى رأيتني أكثر نشاطًا وقد اطمأن صدري، وعادت إلى نظامها أنفاسي، وسَرَتْ إلى فؤادي مع النسيم بهجة لم أشعر من قبل بمثلها، وخلَّفنا صاحبنا وقمت ومعي رجلان يحمل أحدهما الماء المثلوج ويحمل الآخر الشاي الساخن في «ترمُذَين» كانا لمثل هذه الرحلات خير عون.
وانطلقنا مصعدين نتيامن ونتياسر مع الطريق خلال شعاب الجبل، وقد جدَّدت الراحة نشاطنا، وزاد فيه الظل والنسيم، وقوَّاه اقتراب الغاية والثقة بالنجاح في إدراكها، وتلفَّتُّ بعد فَينة، فإذا ورائي عبد أسود ناداه أحد الرجلين اللذين معي: يا فقي! وحسبت أنه يعرفه، ثم علمت أن العبد من التكارنة الذين يقيمون ألوفًا بمكة، وأن هذا اللقب يطلق على كل فرد منهم، وأنهم يلتمسون مثل هذه الفرصة لمعاونة صاعد متعب لعلهم ينالون منه بُلغة يومهم، ولم أكن في حاجة بعد ما نلت من الراحة إلى معونته؛ ولكنني اطمأننت إليه وأنست بوجوده إلى قُدرتي على تحقيق غايتي، وازدادت قدماي قوة في الصعود والتسلق، وزادني أنسًا إليه أنه لزم الصمت ولم يشارك مَن معي في الحديث، فدل بذلك على أنه لا يبتغي غير بذل العون لمن يحتاج إلى عونه.
ودعاني صاحباي إلى الجلوس كيما أستريح، وإني لأحاورهما مترددًا إذ سرى على النسيم إلى سمعنا صوت ذلك الشاب الذي اختزل الطريق إلى القمة يهيب بنا أن هلمُّوا، ورفعت بصري كيما أراه فإذا بالجو ينكشف، وإذا ما حولي أكثر ضياء، وإذا الشاب قد تسنم مكانًا زعم أنه الغاية التي جعلناها مقصدنا، وأزال ما رأيت ترددي، فلم أجلس ولم أعبأ بما عاودني من البُهْر، وتابعت تسلقي وأنا أستدير حول صخرة حينًا وأقف مكدودًا بين صخرتين هنيهة، وطالعتنا الشمس كرَّةً أخرى؛ لكن أشعتها تسربت إلينا من ناحية القمة فكانت بشير الفوز، وزادتْ عزْمَنا مضيًّا، وحِرْصَنا على بلوغ الغاية قوةً، والشاب ما يفتأ يهيب بنا ويثير حميتنا، ونحن نتسلق ثم نقف، ونقف ثم نتسلق، حتى انفرجت الشعاب والصخور أمامنا على سطح مُسْتوٍ اندفعنا إليه مطمئنين إلى أنَّا إذ بلغناه قد صرنا من القمة والغار على بضعة أمتار.
وليس استواء هذا السطح من عمل الطبيعة، وهو لم يكن مستويًا أيام كان محمد يصعد حراء للتحنث فوقه؛ إنما سواه الناس حين كان الألوف من الحجيج يصعدون يبتغون القبة المشيدة على القمة للتبرك بها، سَوَّوْه ونقروا فيه صهريجًا يختزن مياه المطر، وأقاموا عنده مقهي يستريح الناس إليه ويتناولون طعامهم فيه إذ يصعدون لزيارة القبة، فلما هدمها الوهابيون وانقطع الناس عن الصعود أقفر المكان من المقهى، ولم يبق من يعي بأمر الصهريج وما يجيء من الماء إليه، لكن السطح بقي مستويًا كما كان، وبقي الذي يصعدون ابتغاء الغار يقفون عنده، يستريحون إلى فيئه ويستجمون مما أرهقهم من الصعاب مستندين إلى جدرانه، وكذلك فعلنا، فلما اطمأنت أنفاسنا إلى صدورنا دُرْنا في المكان نرى الصهريج وبضع الدرجات التي ينزل الإنسان بها إليه، ونرى استواء الجدران حيث كان المقهى، ونلقى في هذا المكان الموحش، بعد أن خلا من كل مؤنس، آثار أولئك الألوف الذين كانوا يتسلقون إليه ويجلسون في مقهاه منشرحة صدورهم؛ لأنهم يؤدون واجبًا مقدسًا، منفرجة شفاههم عن آي الغبطة يرجون رحمة الله ورضا رسوله عمَّا قدَّموا بين يدي نجواهم من صدقات حين جاءوا بيته ملتمسين مغفرته وعفوه.
وارتقينا من هذا السطح عشرين مترًا أو نحوها، وبلغنا القمة التي كانت تقوم القبة عليها، وهنالك انكشف لنا الوجود المحيط بنا كله، فهذه القمة أعلى حراء، وهي ضيقة لا يزيد مربعها على الثلاثين أو الأربعين مترًا، وهي مكشوفة لا يحيط بها صخر ولا يحجب الناظر منها إلى ما حولها حجاب، وتبدو سلاسل الجبال المحيطة بحراء من جهاته الأربع كأنها كلها دون هذه القمة ارتفاعًا؛ وهي لذلك تتكشف للناظر من القمة عن سفوحها وعن شعابها وعن كل ما عليها وكل ما فيها، وأظلت قبة السماء هذه القمة، فما يغيب عن النظر مما فيها سحابة أو شامة وإن دق حجمها، وهذا موقع فريد قلَّ في غير حراء من الجبال نظيره، فأنت إذ تقف ينكشف لك كل ما حولك، وتبدو لك عظمة الكون في كل جلالها، وتشعر وأنت تشهد من موقفك السماء والجبال، وتشهد مكة ومسجدها الحرام وبيتها العتيق، وتشهد ما وراء ذلك مما لا نهاية له — تشعر أنك تشهد آية الله تجلَّى كمالها في الكون وفي خلقه، وتشهد سُنَّة الله في هذا الكون، سنة لن تجد لها تبديلًا وإن تعاقبت الدهور وخلفت القرون القرون، فإذا طال بك موقفك وطال تأملك فيما حولك تجَسَّمَتْ في نفسك هذه الآية واستولت على كل حسك وشعورك، فَفَنَيْتَ فيها وغاب حسك بنفسك، وكنتَ في تيهاء لا تدري بعدها ما حظك وما نصيبك.
كان ذلك شعوري حين وقفت فوق القمة أُحَدِّق من عليائها فيما حولي، ولقد استعنت بمنظار مكبر أعددته لأستعين به على مثل هذا المشهد، وما عسى أن ينفع المنظار وأنت لا ترى مما يقرِّبه لك من الأبعاد إلا مزيدًا في عظم الخلق وجلاله؟! هذا الخلق الهائل من الجبال المتعاقبة لا ترى خلالها من مظاهر الحياة إلا حياتها هي، حياة صخور عابسة، وكلأ لا يكسر من حِدَّة هذا العبوس ولا يزيد الناظر إليها إلا مهابة ورهبة، وهذا البيت العتيق قائم في أم القرى يحدث عن حياة العالم الروحية منذ أقام إبراهيم قواعده وإسماعيل، وهذه الجماعات من الناس والقوافل من الإبل لا يكاد المنظار يبين عنها لصغر حجمها ودقة شأنها، وهي حول البيت أو بين الجبال تتيه على الجبال وتطوف بالبيت، ناسية أنها قليلة البقاء إلى جانب البيت والجبال، وأنها تتعاقب أجيالها والبيت قائم، وللبيت ربٌّ يحميه، والجبال مطمئنة تزري بالقرون والأجيال.
وسبقني أصحابي إلى الغار وبقيت فوق القمة وحيدًا أجيل الطرف فيما حولي، فأزداد لخلق الله إكبارًا وبالله إيمانًا، وما عساي أستطيع أن أرى من خلق الله في هذه السويعة، وتقلب الوقت وتنقل الشمس وانتشار الليل، كل ذلك يجلو أمام البصر والبصيرة في كل لحظة جديدًا، والبصر والبصيرة يريان الأشياء في ألوان تختلف باختلاف سكينة النفس واضطرابها، وهدوء العصب وهياجه، وبحالنا من الصحة والمرض، والرضا والغضب، والراحة والنَّصَب، ودع عنك ما تحجب الجدران بيننا — نحن سكان المدن — وبين الأبعاد الشاسعة، وكيف ترانا نبلغ أن نرى ما يزعم قوم من أهل مكة أن أقوياء البصر يرونه من هذا المكان الذي أقوم فوقه؟! فهم يذكرون أنهم يرون منه ساحل البحر الأحمر ساعات مغيب الشمس.
وعاد إليَّ بعض أصحابي، فانحدرنا إلى الغار الذي كان ملجأ رسول الله والذي نزل عليه الوحي الأول فيه، وبين الغار والقمة عشرون مترًا أو نحوها، وهي مقدار ما بين السطح الأول والقمة، والوصول إليه يقتضي المرور بين صخرتين تكادان تتلاصقان، فلا يتخطى الإنسان ما بينهما إلا بمشقة وإن كان نحيفًا، فإذا تخطاهما وجد الغار في داخل الجبل محجوبا عن كل ما حوله بالصخور الضخمة، وهو أشد من كل ما في الجبل وحدةً وعزلة، ووجده لا يتسع لأكثر من شخص واحد ينام فيه نومًا خشنًا جافيًا كل الجفاء، دخل الشاب الذي معنا إليه وتمطى فيه، فلم يطق المقام به غير لحظة ارتد بعدها إلينا ووقف معنا يشهد وإيانا في هذا الوسط الموحش ذلك الوَكْر المخوف، يفزع منه من يجهل أن الحياة لا يملكها إلا من سَما فوق الخوف من كل ما في الحياة.
وهو مخوف حقًّا، ولولا ما تنطوي نفوسنا عليه من تقديس إياه لما طاوعتنا إلى البقاء أمامه، ولفررنا مشفقين مما فيه، وأنى لنا أن نعرف ما فيه والصخور الضخمة حوله لا تدع مسربًا للنور إلى أبعد من فوهته، فأما ما وراء الفوهة فظلام لا تهتك العين حجابه، والجبل بشعابه من وراء الصخور أجرد داكن اللون في حمرة قاتمة يزيد المخاوف ولا يهوِّن منها.
وعدنا أدراجنا نقصد القمة وقد امتلأت النفس مهابة ورهبة، ووقفت في منتصف الطريق أستنشق هواء هذه الساعة رق حين دنا المغيب فأسعد النفس، وزادها غبطة بما حولها من جلال وهيبة، وحدثتني نفسي: هنا كان الرسول يقضي شهر رمضان من كل عام، عدة أعوام تباعًا، قبل أن يبعثه الله نبيًّا. في هذه البقعة المنعزلة الموحشة كان يقيم وحيدًا يؤنسه تفكيره وتأمله، يقلب في صحف نفسه هذه الحقيقة السامية التي كان الله يهيئه لها ليبعثه إلى الناس بها، لم يكن في عزلته وفي وحدته وفي انقطاعه يخاف الجبل ولا الغار وما قد يكون فيهما من وحش أو هوام، أية قوة روحية يهبها الله لمن يتخذ هذا المكان القفر له موئلًا! إنها قوة فوق ما أوتي الناس جميعًا وفوق ما في العالم كله، لا يؤتاها إلا الذين اختارهم الله لرسالته ورضي عنهم ورضوا عنه.
وبلغتُ القمة، وتناولت قدحًا من الشاي، وجلست مستندًا إلى بقية جدارٍ لعله أثر من بناء القبة التي هدمها الوهابيون ليحولوا بين الناس وبين التبرك بها، لما يرونه في هذا التبرك من معنى تقديسها، وأقام أصحابي معي هنيهة ثم تركوني وذهب كل في ناحية من شعاب الجبل يستطلع ما قد يحتويه جبل النور من آثار لا يحتويها غيره من الجبال، وتركت لخيالي العنان وأنا في عُزلتي هذه، فتمثل لي الرسول الكريم جالسًا حيث أجلس، مشتملًا في نظره هذا الكون العظيم المحيط به متأملًا، مفكرًا فيما يرى وفي دلالته، تُرى ما بال أهل مكة لا يجيء منهم من يتعبد في حراء طول شهر رمضان كما كان النبي يفعل قبل بعثه؟ أليس لنا معشر المسلمين في رسول الله أسوة حسنة؟! وهل لمكان أن يعين المعتزل على التفكير وعلى التأمل ما يعينه هذا المكان من حراء؟! فهو بعيد عن ضجة الحياة وضوضائها، قريب من الحياة ومن كل ما فيها، فيها يعكف الإنسان على نفسه ما شاء، ويتصل بالكون وبخلق الله ما أراد، ليست هذه القمَّة صومعة تحجبنا عن الحياة وتحجب الحياة عنا، ولسنا فوقها رهن محبس تحيط به الجدران، أو كهف غائر في الصخور؛ إنما هي مرصد يطالع الحياة وتطالعه، تبزغ الشمس عليها ساعة تشرق وتنحدر عنها ساعة تغيب، وتتألق النجوم ويحبو البدر في السماء، وتهوي الشهب وتنتطح السحب، وهي شهيدة على هذه الأحداث كلها، فأين يجد المعتزل مثل هذا المرصد يرى منه ما يشاء من غذاء الروح وأسباب التفكير والتأمل؟!
فإذا هو أقام من كل سنة شهرًا كاملًا صائمًا منقطعًا عن تجارة الحياة إلى التفكير فيما يرى آناء الليل وأطراف النهار، وإلى التأمل في مشاهد هذا الكون المترامي الأرجاء إلى حيث يقصر النظر، وإن بلغ من القوة والدقة نظر زرقاء اليمامة، وإلى حيث تسلم المحسوسات لقوة الإنسان العاقلة أسرارها، فليس من ريب في أن يصل من معرفة هذه الأسرار إلى نتائج باهرة، إنه لن يكون نبيًّا ولن يبعثه الله رسولًا، فمحمد — صلوات الله وسلامه عليه — خاتم الأنبياء والمرسلين، لكنه يصل من طريق العلم بالمشاهدة والملاحظة والترتيب والاستنباط إلى خير ما يصل إليه مشاهد من مرصد يسجل حركات الأفلاك وموج ما في السماء، وإلى خير ما يصل إليه من يسجل نتائج اتصال الإنسان بالكون في أسمى مراتب الاتصال، وهو إلى ذلك وما يزاوله من ألوان الصوم وكبْت هوى النفس وشهوات الجسد يصل بالروح إلى درجات الطهر والتنزه والسلطان على المادة وعالمها دون أن يكون للمادة أي سلطان عليها.
ما للمسلمين من أهل مكة، وما للمسلمين ممن يقصدون إلى مكة للحج أو لعمرة رجب، لا تميل بهم الأسوة إلى معالجة هذه الرياضة العقلية والروحية ولها في تهذيب النفس أكبر الأثر، ولها من النتائج في العلم ما أشرنا إلى شيء منه؟ وأي تهذيب للنفس كاتصال الإنسان بالكون في مثل هذا المنقطع الرفيع فوق حراء اتصالًا يسمو به المرء فوق حاجات الحياة، ويرى أثناءه في شظف العيش وفي الغنى بالنفس عن كل شيء ما يزيده إيمانًا بالله وحده، وبأنه دون سواه تجب له العبادة، باسمه يسبح مَن في الأرض جميعًا ومن في السموات! وهل شيء غير مشاهد الكون تقوم عليه النتائج العلمية؟ إنما تقوم هذه النتائج على ما في السماء والأرض، في الضحى، والليل إذا سجا، والنجم إذا هوى، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والجبال وما أرساها، والهواء في مسراه، والماء في مجراه، والحَبِّ إذا نبت، والصخر إذا تفتت، والضوء إذا تحلل، والمطر إذا ترقرق، والريح إذا اصطفقت، والنفس إذا سكنت لأمر ربها وفكرت، أي شيء غير هذا هو العلم في أحدث صورة أثمرتها حرية الفكر؟! وهل طريقة علمية أدق من هذه الطريقة لمعرفة سنن الكون وما ينطوي عليه؟!
إنما يرغب المسلمون اليوم عن هذه الأسوة الحسنة؛ لأنهم انحرفوا عن أمر الروح الذي يكيف المادة وأذعنوا لسلطان المادة يكيِّفها غيرهم بقوة عقله وروحه، ولأنهم آثروا راحة التقليد على عناء الاجتهاد، ولأنهم نسوا أن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويجب عليه لذلك أن يهب من نفسه لإخوته المؤمنين، فتولت عليهم الأثرة، وصار ما يرضي الأثرة من ابتغاء المال والجاه وما إليهما كل شيء عندهم، وأنَّى لمن هوى إلى هذا الدرك أن يفكر في الحقيقة ينقطع لها ويجعل العلم سبيله إلى إدراكها، وأن يحمل نفسه على نشر نورها يستضيء به الناس جميعًا، وهو لا يريد العلم إلا لنفسه، ولا الحقيقة إلا لنفسه، ولا الحياة إلا لنفسه، ولا المال إلا لنفسه، ولا السلطان إلا لنفسه؟! وأنَّى لمن هوى إلى هذا الحضيض أن يدرك ما في بذل النفس لهدى الغير من سمو يتضاءل أمامه الجاه والمال والسلطان، ويصبح الفقر معه فخرًا، وتصبح الفضيلة معه لباس المتقين؟! والناس متى هَوَوْا في هذا المنحدر فاتهم معنى العبادة على وجهها الحق، ففاتهم أن العمل عبادة، وأن العلم عبادة، وأن هداية الناس عبادة، وأن البذل للمحتاج من مالٍ أو علمٍ أو شفقةٍ وبرٍّ عبادة، وأن الله يقبل عبادة من يؤثر على نفسه راضيًا عنه.
فأمَّا الأثر الذي لا يعرف إلا نفسه ففي حاجة إلى أن يطهر نفسه قبل أن يطمع في مغفرة الله له، وفوت هذا المعنى قد جعل الناس يحسبون أن خير العبادة ما كان في هياكل فخمة العمارة ذات محاريب وأبراج تأخذ روعتها بالنظر، وينسون أن خير العبادة ما توجه الإنسان فيه بكل قلبه إلى الله، ناسيًا نفسه، محبًّا في الله إخوانه، مستعينًا ربه، كانت عبادته في هيكل مشيد، أو كانت في فضاء الله وبين خلقه الذي لم تعد عليه يد الإنسان.
والمسلمون يرغبون اليوم عن هذه الأسوة الحسنة؛ لأنهم لا يطيقونها، فالوحدة للتفكير ابتغاء الحقيقة إنما يطيقها ذوو الأرواح القوية، هؤلاء يتلمسونها تلمسًا ويتخذونها ملجأً من ضعف الجماعة وأفْنها، يرى أحدهم ما تخُبُّ الجماعة فيه وما تضع من ضلال يبعدها عن الطريق السوي، طريق الحق والخير والجمال، فَيَزْوَرُّ عنها، ولا يجد في غير العزلة موئله، وفي غير التفكير أثناء هذه العزلة وسيلة خيرها وصلاحها، ومنهم من يذر بيئته إلى بيئة أخرى ليست منه وليس منها فلا سلطان لها عليه، وقد يفيد من الاتصال بها، وهو أثناء مُقامه بها في عُزلة عمَّا أَلِف، تفتح له الحرية من أبوابها ما كان مقفلًا في جماعته، ومنهم من لا يرى في الجماعة الإنسانية مظهر الحق، ويراه في أطواء النفس ودخيلة القلب، فهو ينقطع عن الناس وينظر في الكون كله ويعود بنظره إلى صورة هذا الكون مرتسمة في أعماق وجوده ترشده إلى الحق وتضيء أمامه بنوره، فأما الأولون الذين يتلمسون الحق عند الناس من غير ذويهم فهم أقوياء، لكنهم عاجزون عن مواجهة الوجود فهم يريدون الحق عند جماعة يحسبونها أرقى من جماعتهم، ويريدون أن يحملوا جماعتهم على تقليد من يحسبونهم أدنى إلى الكمال وأبعد عن الضلالة، وأما الذين يرجعون إلى أنفسهم يتلمسون الحقيقة في أعماقها فأولئك هم الأقوياء حقًّا، وهم الذين يقدرون النفس الإنسانية قدرها الصحيح، والذين يتوجهون إلى القوة العليا التي بَرَأَتْهم وكان الروح من أمرها يرون فيها الحق لا حق إلا هو، ويتأملون في خلق الله سنة الله فيه؛ فإذا اهتدوا اهتدت الإنسانية بهداهم وسعدت برأيهم.
ليس يطمع أحد في أن يؤتيه الله من هذه القوة ما أُوتي محمد ﷺ، وقد حاول أفراد في مختلف الأمم أن ينقطعوا عن العالم، فإذا هم قد انقطعوا عنه إلى غير أوبة إليه، فمنهم من ضل عنه عقله ولم يَثُبْ إليه رشاده، ومنهم من هجر العالم فرارًا من آلامه، ومنهم من أخذ عن الجماعة الإنسانية ببدائع الطبيعة، ومنهم من فني في الخالق — جلَّ وعلا — وهام به ونسي أن هدى الناس خير ما يُرضي الخالق، وقليلون منهم عادوا إلى الإنسانية بحقائق أضاءت سبلهم فساروا على هداها، وهؤلاء هم الذين اتبعوا سنة الرسول.
لكن الله لم يُؤت أحدًا ما آتى عبده ونبيه ورسوله، فلم ينطبع العالم في نفس بالقوة التي انطبع بها في نفس محمد، ولم تصل الرياضة الروحية بأحد، ولن تصل بأحد، إلى الرؤيا الصادقة التي انتهى إليها قبيل بعثه وبعد أن قضى السنين يتعبد شهرًا كل عام في حراء، ولقد ظل محمد طوال حياته مشغوفًا بالوحدة، تطمئن إليها نفسه القوية، ويستمد أثناءها من ربه نور الهدى، حتى تنزَّلت عليه كلمة الله وحيًا ونورًا.
ومن هذه القمة التي كان الرسول يتعبد فوقها متخذًا إياها المرصد الروحي لتَلَمُّس الحق في الحياة، يرى الإنسان منظرًا يدله على أن المسلمين لم يكفهم أن لم يطيقوا أسوته — عليه السلام، بل نسوها، وتعلقوا بالعرض دون الجوهر، وبالقشور دون اللب، لست أقصد إلى أنهم أقاموا قبة يتبركون بها حيث كان الرسول يتعبد وظلوا على ذلك حتى هدم الوهابيون هذه القبة، فلا عجب أن يقام في هذا المكان الخالد الذكر بالحادث الذي خصَّه القدر به تذكار ينبه الغافل إليه، فأما البَرَكة الحقَّة ففي العبادة وفي التقوى، بل أقصد أن تفكيرهم هوى إلى أسفل من هذا الدرك بمراحل، ومن ذلك أن ثمَّة شقًّا في قمة حراء يجري حوله جدل أشار إليه صاحب «مرآة الحرمين» ورده على أنه غير صحيح، وهو جدل، لا غناءَ فيه، عن هذا الشق وأصله، ومداره: هل شق الملكان صدر النبي في هذا المكان وطهَّراه وأسالا ماء الطهور من هذا الصدع في الجبل؟
ما أكبر الفرق بين هذا التفكير ممن يقف على قمة حراء وتفكير الرسول حين تعَبَّد فوقها قبل بعثه! لقد كان يتلمس الحقيقة وكان يراها في خلق الله مما حوله وكان يجاهد لاختراق حجب الحياة إليها حتى أسلمها الله إليه بالوحي كاملة، كانت حقيقة العالم وخَلْقه وخالقه هي التي تشغل روحه، وهي التي تصرفه عن تجارة الحياة وطعامها وشرابها وتنسيه كل شيء فيها، لم يكن يعنيه أن يزداد ارتفاع جبل على جبل، أو أن يكون في شعبٍ من شعاب الجبل شقٌّ أو نتوء لا شبيه له في الشعب الآخر، بل كان متعلقًا بما هو أسمى من هذا وأرفع مكانًا؛ كان يبحث عن الكون وعن الزمان والمكان فيه، وعن مُنْشِئ ذلك كله. أما اليوم فينصرف أكثر المسلمين عن هذا السمو الفكري، ويتعلقون بروايات تصح أو لا تصح ويجعلونها علَّةً لخلافهم ونضالهم ولإقامة الفرق والشيع المتناحرة بينهم، بل لرمي بعضهم بعضًا بالمروق والكفر.
كانت الشمس تنحدر إلى ناحية المغيب، فيجلو انحدارها قطوب الجبال ويكسو السفوح الظليلة سلامًا وسكينة، وكان أصحابي يدورون في شعاب الجبل ويعود أحدهم الفينة بعد الفينة فيراني منصرفًا عنه إلى ما حولي لا أُوَجِّه إليه كلمة، فيرتد إلى إخوانه، فلما طال بهم الأمد ورأوا المغيب زاحفًا علينا، نبهني أحدهم فاستمهلته رويدًا وهبطت وإياه إلى الغار، غار حراء، ورجوته أن يدعني هنيهة إلى نفسي، ووقفت بين هذه الصخور الضخمة قبالة الجُحْر الموحش في الجبل القفر، وقد تسللت إليه الظلمة فزادته وحشة وقفرًا، ووقفت وحيدًا مفكرًا أتخطَّى بذهني القرون إلى الماضي وقد امتلأت نفسي بصورة ذلك اليوم الفذ في التاريخ، يوم نزول الوحي الأول، ونسيت كل ما حولي، وخُيِّل إليَّ أنني أرى، نعم!
رأيت محمدًا متمطيًا في الغار الموحش وعلى مُحيَّاه الجميل سيما الرضا وكأنما يتقلب من هذا الصخر في فراش وثير، وإني لأحدق في قسمات وجهه وقلبي كله الرضا والحب، إذ رأيت هذا الوجه أضاءه نورٌ لأْلَاءٌ زاده جمالًا، ورأيت ابتسامة مطمئنة ترتسم على ثغر تنم شفتاه الرقيقتان عن معاني التأمل وعظيم الأمل، وأُخِذْتُ بما رأيت، وازددت بصاحب الوجه المنير شغفًا، وفي قسماته الحلوة تحديقًا، وفيما أحدق شعرت أن الجبل كله يهتز، وبهرني من الغار نور لم تطق عيناي ساطعَ ضيائه، سمعت صوتًا ملائكيًّا يهيب بالمتمطي في الغار: «اقرأ» ويجيب محمد في صوت مرتعش ونبرات تهتز من الخوف: «ما أقرأ» والنور الساطع والبَهْر يتولاني من كل مكان، وأحس الفزع يجري في عروقي، وأحاول الفرار فتخونني قواي، وأسمع الصوت الملائكي مرَّة أخرى يهيب بمحمد: «اقرأ» ومحمد ملؤه الخوف والوجل يجيب بصوت من أرسل بعد اختناقٍ: «ما أقرأ» ويكرر الصوت الملائكي: «اقرأ» ويشعر محمد أنه لم يبق في مِلْك نفسه وأنه لا مفرَّ له من أن يقرأ أو يظل صاحب الصوت يخنقه ويرسله، فيجيب: «ماذا أقرأ؟» ويتلو الصوت الملائكي: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. ويتلو محمد هذه الآيات من بعده.
خُيِّل إليَّ وأنا في موقفي من الغار أني أرى هذا المشهد الفذَّ في التاريخ، وأني أسمع هذه الأصوات لم أسمع قط مثلها، وصَفَّدَني الفزع مكاني وأقمت أنتظر ما يكون من بعدُ، فإذا النور الباهر يترفع، ومحمد في الغار يتصبب عرقًا ويدور بنظراته فيما حوله ويهتز مضطربًا من رأسه إلى أخمصه ثم يفرك عينيه ويمسح بيده جبينه العريض المضيء — سمة من يخشى مكروهًا أصابه — ويزداد به الرعب فينطلق من الغار هائمًا في شعاب الجبل لعل في هوائه ما يدفع عنه رَوْعه، ها هو ذا يقف منصتًا كأنما يناديه مناد من السماء، إنه الصوت الملائكي الذي كان يحدثه في الغار، وهو يحدِّق في مصدر الصوت، ويرى صاحبه فيزداد فزعًا ويقفه الرعب مكانه وهو يلقي بنظره إلى الجبل ويصرف وجهه يَمْنةً ويسرة، ثم لا ينفك يسمع ويرى، ليست حواسه إذن مصدر سمعه ورؤيته، إنما مصدرهما روحه؛ وهو مع ذلك يراه لأنه تجلى بإذن الله له ولم يتجلَّ لغيره، وهو من بعدُ في فزعٍ يتقدم في شعاب الجبل ويتأخر ولا يبرح يسمع الصوت الملائكي ويرى صاحبه، ما أشدَّ هذه الساعةَ هولًا! وهي مع ذلك للإنسانية ساعة النور والرحمة والهدى!
رآني أصحابي واقفًا في شعاب حراء على مقربة من فوهة الغار، فأقبل عليَّ أحدهم يسألني أن نهبط الجبل قبل أن تدهمنا الظلمة وقد آذنت الشمس بالمغيب، وأفقت لسماع صوته مما كنت فيه، وطلبت إليهم أن يأتوني بشربة ماء، وتناولت القدح وشربت من ماء «الجِعْرانة» المثلوج فأعادني شربه إلى الحياة المحيطة بي، وتهيأت للهبوط، فجمعتُ قوَّتي، وبدأنا جميعًا ننحدر في الطريق المتعرج و«التكروني» يتبعنا دون أن ينبس ببنت شفة، ولقِيَنَا رجلٌ من الهنود وامرأته يصعدان، فسألانا في لَكْنة أعجمية عما بقي إلى القمة، وجعلنا نتلوَّى يمنة ويسرة منحدرين دون أن تكون بنا حاجة إلى الوقوف لنستريح، ففي نسيم هذه الساعة التي تتلو المغيب ما ينعش ويريح.
وألفيت صاحبي المكيَّ الذي وقف دون القمة قد سبقنا إلى أسفل الجبل، فلما رآني سألني عن حالي واعتذر عن تخلُّفه في الطريق بجرح أصاب به الصخر قدمه، وأقلَّتْنا السيارة إلى المأوى وصلاة العشاء تكاد تؤذن، وشعرت وأنا أصعد الدرج إلى مخدعي أن بفخذي وساقيَّ ألمًا، وأفضيت إلى مضيفي بما أشعر، فسألني: ما عسى كان الرسول ﷺ يفعل؟! قلت: أَلِف الجبال وتَصْعادها، وأحبَّ خشونة العيش وشَظَفَه، فما يشق اليوم علينا كان رياضة له، وما يعجزنا اليوم كان في متناول يده، حياتنا متاع وغرور، وحياته متاع روحه ورضا ربه، والرجل لا يمتع غروره في ناحية إلا على حساب الأخرى، يمتع غروره بقوة عضله على حساب عقله أو على حساب روحه، ويمتع غروره بكثرة ماله على حساب خُلُقه أو حساب كرامته، أما متاع الروح بما يرضي الله فلا ضَعْفَ فيه، وهو القوة على كل شيء، ومتاع الروح الرياضة؛ رياضة الجسم بالسَّعي في مناكب الأرض، ورياضة العقل بتدبر ما في الكون، ورياضة القلب بالحب والإخاء، وذلك بعض ما رأيت وأنا فوق حراء، وبعض ما شعرت به وأنا أنحدر عنه.
وبكرتُ إلى مضجعي حتى أهبَّني مؤذن الفجر عنه، وجلست بعد الصلاة أفكر في حراء، وفي الغار، وفي الملك، وفي رسول الله ﷺ، وفي يوم الوحي الأول، جلست أفكر والخيط الأبيض يتبين من الخيط الأسود من الفجر، وذكرت رسول الله بعد يوم الغار، وتمثلت لي رسالته تتبين من خلال الظلمات المحيطة لها، ظُلمات الكفر والوثنية والشرك، كما يتبين هذا الخيط الأبيض من ظلمات الليل البهيم، وجعل الضياء ينتشر حولي شيئًا فشيئًا كما انتشر الإسلام فأضاء الأرجاء بنوره، إذ ذاك توجهت إلى الله بكل قلبي ودعوته: اللهم مالك الملك، تُؤْتِي الملك من تشاء، وتنزعُ الملك ممن تشاء، وتُعِزُّ من تشاء وتُذِلُّ من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير.
ربنا منك السلام وإليك السلام فحيِّنا ربنا بالسلام.
وقمت عن مصلَّاي ممتلئ النفس من مشهد الجبل والغار فوقه، ومن مشهد يوم الوحي الأول حين أراد الله للناس الهدى فبعث به عبده ورسوله محمدًا بشيرًا ونذيرًا، وإنني اليوم لأذكر هذا المشهد ممتلئ النفس من جماله وجلاله وهيبته، عامر القلب إيمانًا بهذا النور الذي أضاء العالم بالحق، علَّمه الله الناس بالقلم ولم يكونوا يعلمون.
ربَّنا جلَّ ثناؤك، وتعالت أسماؤك، لا إله إلا أنت، بيدك الخير، ومنك الهدى، وإليك المرجع والمآب.