طريق الطائف
بيْنَا أنا بالتكية المصرية ظهر السبت الرابع عشر من مارس لقيتُ الحاج عبد الله فِلْبي — أو سينت جون فلبي كما تشاء — فبادلتُهُ الحديث في أمور بلاد العرب حاضرها وباديها، وأدَّى بنا الحديث إلى لغة القوم بمكة وبُعْد ما بينها وبين اللغة العربية الفصحى، وسألت الجوَّالة البريطاني: أيوجد في شبه الجزيرة عرب يتكلمون هذه اللغة الفصحى؟ قال فلبي: «إنما يوجد هؤلاء في الجبال وفي البادية، وأنت إذا ذهبتَ إلى شدَّاد في طريقك إلى الطائف عثرتَ ثَمَّ على طَلِبَتِك»، ولمَّا علم أنني ذهبتُ إلى عرفات وإلى وادي نَعْمان حيث تبدأ عين زُبَيْدة قال: «إن بين شداد ووادي نعمان أمدًا قريبًا، فإذا بلغتْ بك السيارة شدادًا على سفح جبل كُرٍّ وجدْتَ محلَّةً بها قوم من الأعراب عندهم الدواب التي تصعد بك كُرًّا وكَرَاء، وتذهب بك إلى الطائف، وهناك تسمع العربية التي تتوق إلى سماعها.»
لم يعترض أحد من الحاضرين على هذا الكلام فمِلْتُ إلى تصديقه، وكان لي بزيارة الطائف شَغَف، ففيها من أثر الرسول قُبيل هجرته وفي أعقاب غزوة حُنَيْن ما يدعو إلى زيارتها، لكني تصورت ركوب الدواب في صعود الجبال، فذكرت يومًا من سنة ١٩٢٤ كنت فيه بِلُبنان وصعدتُ فيه إلى الأَرْز مع رفاق كثيرين، ولم تكن طريق الأَرْز قد عُبِّدت للسيارات حين ذاك، فاكترينا الدواب من بلدة «بشَرِّي» وامتطينا لتصعد بنا في طريق فيه سعة ونظام، مع ذلك بقيُت أذكر ذلك اليوم والصعود على الدواب فيه فتمتلئ نفسي من صعودها مخافة ورهبة، فهي تأبى إلَّا أن تسير على حافة الطريق المتصلة بالهاوية، حتى ليشعر الإنسان أنه مُوفٍ في كل خطوة على حَتْفِه، وعبثًا يحاول الإنسان أن يلزمها السير في منتصف الطريق، فإنها لا تلبث أن تعود إلى حافتها وتلزمها، وما أغناني عن كُرٍّ وكَرَاء وصعود سفوحهما على الدواب إذا كان للطائف طريق غير هذا الطريق! أما ولها طريق تسلكه السيارة هو الطريق المُعَبَّد، وما دام مقصدي من زيارتها أن أسمع العربية في صفائها، فلأترك طريق شدَّاد لمن شاء أن يسلكه وحسبي ما قرأته عنه في كتب الرحلات، فهو لا يُغري بركوب المشقة المضنية لاجتيازه.
ولم يَدُرْ بخاطري أن الدواب ستصادفني حين تجوالي بجبال الطائف، وستجعلني أحْمَدُ للمقادير عدولي عن مشورة «فلبي» إلى طريق السيارة لتقطع الطريق ما بين مكة والطائف في بضع ساعات.
ولقد استشرتُ مُضيفي أمين العاصمة في الذهاب إلى الطائف وسألته عن خير طريق إليها، وذكرت له ما أشار به فلبي، فقال: هذا رجل أَلِف البادية ومتاعبها، فما لك أنت وما أَلِفه؟! في وسعك أن تسلك الطريق الذي نسلكه كلنا حين نصعد من مكة لقضاء الصيف بالطائف، ثم ذكر لي أنه مُخبرٌ وزير المالية الشيخ عبد الله بن سليمان الحمدان بعزمي على السفر بعد ظهر يوم الإثنين ١٦ مارس، وفي الغد أخبرني أن وزير المالية سرَّهُ عزمي على زيارة الطائف، وأنه سيضع تحت تصرفي عربة «بكسفورد» تكون جنيبًا للسيارة التي خُصِّصَتْ لنقلي منذ نزلت مكة، وأنه سيختار مَن يصاحبني في هذه الرحلة ويكون دليلي فيها.
وفي صباح يوم الإثنين زرتُ «فلبي» بمنزله على موعد بيننا، وأفضيتُ إليه بأنني ذاهب إلى الطائف بعد الظهر، ويقع منزل «فلبي» بحي جَرْوَل في أطراف مكة فوق ربوة يسيرة الارتفاع، وقفت السيارة أمام بابه فصعدنا درجةً — كان من الخير أن تكون درجتين أو ثلاثًا — وتخطينا الباب إلى حديقة تبدو أشجارها الباسقة من فوق السور ولا تحجب الدار القائمة بعدها، وليست الحديقة بالفسيحة ولا بالضيقة، تتراوح مساحتها بين المائة والخمسين والمائتين من الأمتار المربعة، وهي أدنى إلى أن تكون مهملة قلَّ أن تمتد إليها يد التنظيم، لكنها مع ذلك متعة للنظر في مكة حيث لا تقع العين على حديقة إلا في الدور التي تشبه القصور، ويسير الإنسان من باب المنزل خلال الحديقة في طريق صاعد يكاد يكون مستقيمًا، فإذا دخل المنزل وجده أقرب إلى البداوة مِن كثير من منازل أهل مكة، وقابلنا «فلبي» على باب غرفة إلى يسار الداخل من باب الدار مرتديًا جلبابًا أبيض ونعلين، مكشوف الرأس، ينم شعره الأحمر وذقنه الحمراء المحيطة بكل وجهه الأبيض المشرب حُمرةً كما تنم عيناه الزرقاوان عن أصله الإنجليزي الذي يختفي تمامًا حين يرتدي المِشْلَح والعقال، فيبدو نجديًّا وسيمًا أنيق الملبس، وتقدمنا إلى داخل الغرفة، فخلع نعليه حين بلغ البساط الذي يفرش أرضها، وتبعته وجلست إلى جانبه أسمعه وأجيبه وهو يحييني بكلمات قليلة كلها الرقة والظرف، ولقد اعتذر عن موعدين سبقا بيننا ولم نلتق فيهما بأنه يقضي من النهار في حضرة ابن السعود ما لا يدع له من وقته إلا الصباح الباكر يعمل فيه أو يَلْقَى مَن يريد لقاءه أثناءه، فإذا أضحى النهار ذهب إلى القصر فقضى فيه إلى الظهر، ثم عاد إليه بعد العصر فلم يغادره حتى تتم القراءة للملك بعد العشاء فيفضُّ المجلس.
وفيما نتحدث سمعت تصفيقًا ورأيت الرجل خَفَّ بنفسه إلى خارج الغرفة ولم يلبس نعليه ثم عاد يحمل صينية الشاي وعليها أدواته، وتناولنا الشاي وسألته أثناء تناولنا إياه: «ألا تكتب حياة محمد وقد عَرَفْتَ بلاده وسِرْتَ في خُطاه، ودرست دراسة المدقق كل مكان له اتصال بسيرته؟!» وكان جوابه: «أنا لا أريد الاختلاف مع العلماء المسلمين في أمرٍ لا يفيد الخلاف فيه، وكثيرًا ما يضر، وليست كتابة التاريخ من عملي العلمي، فإنما عملي وضع الخرائط للأماكن التي أمُرُّ بها والتي لم يسبقني معاصر إلى وضع خرائطها.» فلما تحدثتُ وإياه عن الإسلام، ذكر أنه مقتنع تمام الاقتناع بأن الديمقراطية الإسلامية والحكومة الإسلامية خير أنواع الديمقراطيات والحكومات.
وانصرفت من عنده فمررت بالتكية المصرية، ثم عدت إلى دار مضيفي فتناولنا طعام الغداء، وأقمت أنتظر رفاق السفر إلى الطائف، وأقبل السيد محمد صالح القزاز أمين أموال الدولة بالطائف، وهو شاب وسيم حلو الحديث، أحدث مضيفي التعارف بيني وبينه، وذكر أنه سيصحبني في رحلتي إلى الطائف وسيدلُّني على كل ما فيها مما تصبو إليه نفسي، فهو بكل ما فيها خبير.
وأضاف الشيخ صالح أنه سعيد أن وقع اختيار الحكومة عليه ليصحبني، وفيما نتحدث أقبل الشيخ محمد سرور الصبَّان القائم بأمر المواصلات في المملكة، ولم يطُل مُكْثه معنا؛ لأنه لم يكن مسافرًا، وإنما جاء يودعني من مكة ويرحب بي ضيفًا بمنزله بالطائف، وأقبل الشيخ عبد الحميد حديدي الذي أزمع معاونتي في هذه الرحلة، كما كان لي نِعْم العون بمكة في بحثي وفي إقامتي وفي حِلِّي وتَرْحالي، وجعل الشيخ عباس قطان كل همه أن يبعث الطمأنينة إلى نفسي ويزيد أواصر المودَّة بيني وبين رفاقي، وسمعنا نفير سيارة كانت «البكسفورد» الذي بعثت به الحكومة لتصحبني، وبعد سُويعة أقبلت سيارتي وأعلن السائق حَسَن عن مَقْدَمها بصوت النفير، إذ ذاك نزلنا إليها وصحِبَنَا مضيفُنا حتى ودعني في جماعة من أصحابه عندها.
وانطلقت السيارة في طرق مكة، حتى إذا كانت عند قصر الملك تياسرت في طريق الجِعْرانة دائرة حول حراء، وقبيل منتصف الطريق إلى الجِعْرانة تيامنت منطلقة في وادٍ فسيح بين الجبال حتى وقفتْ في محلة الشرائع أمام كوخ هو وحده مظهر الحياة الإنسانية في هذا الوادي، وأهل هذا الكوخ يستقون من عين جارية تروي أشجارًا قليلة، وقد جعلوا من كوخهم مقهًى يتناول فيه السائر الشاي، ويجد به شربة من ماء وفنجانًا من القهوة النجدية، وسألني الشيخ صالح أأريد النزول؟ فلما علمتُ أن ليس بالمكان غير المقهى آثرتُ أن ننطلق إلى المحلة التي تلي الشرائع، على أن الشيخ عبد الحميد حديدي استوقف حسنًا السائق هنيهة ليقصَّ عليَّ من نبأ التاريخ ما له اتصال بالسيرة النبوية، ومن موقفنا أشار إلى الجبل القائم عن يميننا وإلى مكان منخفض بعض الشيء عند قممه، وقال: هذا شِعْب الثَّنيَّة الذي تخطَّى منه النبي إلى مكة حين عودته من الطائف منفردًا بعد أن أساء أهلها لقاءه ورَدُّوه بِشَرِّ جواب، قلت: من أين إذن ذهب إلى الطائف؟ قال: من طريق كُرٍّ وكَرَاء بعد اجتياز عرفات وشدَّاد، وحدَّقتُ في شعب الثنية بهذا الجبل المرتفع عن اليمين، وصورت لنفسي ما كان يلقاه محمد من المشقة في سبيل الدعوة إلى الحق الذي بعثه الله به، فهذه جبال جرداء قاحلة لا أنيس بها، تغشاها السباع كما تغشى جبل كَرَاء، مع ذلك لم يكن محمد يخشى وحشتها، بل كان يسير خِلالَها مطمئنًّا إلى رسالات ربه يبلغها للناس، وقد بلَّغها إلى العرب أثناء الحج حين مقامهم بمكة ومنًى وعرفات فلم يسمعوا له، وقد ذهب إلى غير واحدة من القبائل في منازلها فردُّوه منكرين، وهو يعلم أن ثقيفًا بالطائف من أمنع قبائل العرب وأعزها جوارًا؛ لذلك ذهب إليها سالكًا طريق الجبل الوَعْر، فردَّتْه بشرِّ ما ردته به قبيلة، وأغرتْ به صبيانها فقذفوه بالحجارة، فانصرف عنهم من طريق آخر في الجبل الوعر متخطيًا هذه الثنية القائمة قبالة الشرائع، لم يغيِّر الأذى من عزمه ولم يضعضع من قُدْس إيمانه وجلال يقينه، وأيَّة قوة أو مشقة تضعضع من هذا الإيمان المتصل بالله الواحد الأحد، المستمَدِّ من روح الله ووحيه؟ أَمَرَه ربه أن يُبلِّغ رسالته، فانطلق يبلغها مطمئنًّا إلى ربه واثقًا من نصره.
وتخطت السيارة مَحَلَّة الشرائع في مضيق بين جبلين، وتابعت سيرها حتى بلغت الزَّيمة، ووقفت السيارة هناك عند منظر يستوقف النظر في تهامة كلها، ذلك منظر الماء والشجر الأخضر.
لقد رأينا بالشرائع أغراسًا دَعَوْها بستانًا فلم نحفِل به، أما ها هنا فقد رأينا الماء ينهمر منحدرًا من الجبال يسقي بساتين عدة، ورأينا أشجار الموز تكظُّ بعض هذه البساتين، والنفس مبتهجة ما رأت الماء والخضرة؛ لذلك قضينا في هذه المحلة زمنًا ما كان أحوجَنَا إليه والوقت يسرع نحو المغيب، وبيننا وبين الطائف طريق ما يزال طويلًا!
قال صاحبي: «يذهب بعضهم إلى أن وادي حُنَين، حيث وقعت غزوة حنين بين المسلمين وبين هَوَازِن وثَقِيف في أعقاب فتح مكة، إنما يقع بين الشرائع والزَّيْمة، وأن جيوش المسلمين قضت الليل على أبواب الوادي الذي تخطيناه الآن بين هاتين المحلَّتين، والذي كان يسمَّى يومئذٍ وادي حنين، فلما كانت بُكْرة الفجر تحركوا والنبي على بغلته البيضاء في مؤخرتهم يريدون أن يأخذوا عدوهم على غِرَّة، وإنهم لمنحطون إلى الوادي إذْ شَدَّت عليهم القبائل بإمرة مالك بن عوف النَّصْري شَدَّة رجل واحد، وأَصْلَوْهم وابلًا من النبال، هنالك اضطرب أمرُ المسلمين فَوَلَّوا الأدبارَ منهزمين وقد زُلْزِلوا زلزالًا شديدًا، ورأى محمد فرار أصحابه فلم يتزحزح من مكانه، بل ثَبَتَ وجعل ينادي في الناس وهم يمرون به منهزمين: «أين أيها الناس أين؟!» ووقف عمه العباس بن عبد المطلب إلى جانبه يصيح في الناس بصوت جَهْوَريٍّ أَسْمَعَهُم جميعًا: «يا معشر الأنصار الذي آوَوْا ونصروا! يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة! إن محمدًا حيٌّ فهلمُّوا!» وكشفت تباشير النهار عن عَمَاية الفجر، ورأى الناس موقف رسول الله وعظيم ثباته، فتنادى القريبون منه يجيبون نداء العباس: لبَّيك لبيك! وارتدُّوا إلى المعركة، وتبعهم من لاذ قبلهم بالفرار، وذكروا جميعًا ماضيهم في النصر، فخاضوا غِمَار الموت لا يبالونه، فتَّم لهم النصر وولَّى عدوهم مدبرًا ولم يعقِّب، تاركًا وراءه النساء والأبناء والأموال غنيمة للمسلمين.»
قلت: فما بالُ اسم حنين المجيد في تاريخ الإسلام قد عُفِّي على أثره فلم يبق عَلَمًا على مكان من الأماكن؟! أتراه قد اختُلِف فيه من بعدُ، وأن من الناس من يرى أن الواقعة وقعت في مكان غير هذا المكان الذي تحدثني عنه؟
قال صاحبي: «حقٌّ ما تقول، وإن من الناس لمن يحسبها وقعت بعد الزَّيْمة في مكان بينها وبين السيل الكبير، وهي المحلة التي تليها، أما أنا فأميل إلى اعتقاد أنها وقعت حيث ذكرت، ويحملني على ذلك أن المسلمين قاموا من مكة للقاء عدوهم فقَضَوْا في طريقهم بياض النهار ولم يزيدوا عليه، أو بياض النهار وبعض الليل، وما بين مكة والزيمة يستغرق بمسير الإبل هذا الزمن كله، ثم إن المسلمين ذهبوا بالفيء الذي غنموا إلى الجِعْرانة وجعلوه بواديها حين أجمعوا حصار الطائف، والجِعْرانة تقع إلى شمال الشرائع وتبعد عن السيل، فلو أن حنينًا وقعت حيث يذكرون لترك المسلمون الفيء بوادي السيل الفسيح أو لعادوا به إلى وادي الشرائع، أقرب مكان منهم إلى مكة.»
«ولعلك تسألني: وما لهم لم يفعلوا إن كانت حنين قد وقعت حيث تذكر والشرائع أدنى إليهم من الجِعْرانة؟ ولهذا السؤال — لا ريب — موضعه، ولقد ألقيتُه على نفسي والتمست الجواب عنه، فكان ذلك أن الناس يميلون إلى النزول حيث أَلِفوا، وقد ألف العرب في عهد الرسول ومن قبله مواضع الأسواق التي كانت تقام حول مكة قبيل الحج في عُكَاظ ومَجَنَّة وذي المجاز، وليس من اليسير أن تحدد اليوم مكان هذه الأسواق، ولكن الراجح في شأن مَجَنَّة أنها كانت تقام بين الشرائع والجِعْرانة إلى شمالها، ومِن ثَمَّ سلك المسلمون طريق الشرائع إلى السوق التي تقع بينها وبين الجِعْرانة ثم تخطوْها إلى وادي الجِعْرانة الفسيح الذي يسع الفيء ومَن يقوم على حراسته.»
وأبديت الميل إلى تصديق صاحبي، وإني لأخاله اليوم صادقًا، فقد ذكر الأزرقي في «تاريخ مكة» أن العرب كانوا يذهبون إلى عكاظ يوم هلال ذي القعدة، وعكاظ تقع عند السيل الكبير أو بعده على خلاف في الأقوال سنتناوله من بعدُ، فإذا قضوا بعكاظ عشرين يومًا انصرفوا إلى مَجَنَّة فأقاموا أسواقهم بها عشرة أيام، وإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز فأقاموا به أسواقهم ثمانية أيام، ثم خرجوا يوم التروية من ذي المجاز إلى عرفة، وإنما سُمي الثامن من ذي الحجة يوم التروية؛ لأن الناس كان يأخذون فيه الماء من ذي المجاز ليترَوَّوْا منه بعرفة وبالمزدلفة حيث لا يوجد الماء، فالظن الغالب إذن أن يكون الطريق بين الشرائع والجِعْرانة طريق مَجَنَّة.
السيل الكبير هو المحلة الثالثة في طريق الطائف، والطريق بينه وبين الزيمة طويل يقارب ما بين مكة والزيمة، ويبدؤه من الزيمة درب اليمانية، وهذا الدرب منثورة فيه أحجار كثيرة تنحدر إليه مع السيل من أعالي الجبال القائمة على جانبيه، لكنها أحجار لا تعوق السيارة في انطلاقها وإن اضطرتها إلى عدم الإسراع، وعجيب أن تظل هذه الجبال جرداء على رغم ما ينحط عليها من سيول وأمطار، فلا تنبت الأشجار في قُنَنها وعلى سفوحها، أيرجع السرُّ في ذلك إلى أنه لم يُعْنَ أحد باستنبات هذه القنن والسفوح فظلت جرداء أن لم تُبذَر فيها بذور ولم يُغرَس بها شجر؟ ما أظن، ففي صحاري تهامة وأوديتها ألوان من الشجر تنبت بذاتها، منها السَّلَم والعَشَر والطَّلْح، ولعل هذه الألوان لا ترقى إلى سُفوح الجبال وقُننها؛ ولذلك ظلت جبال اليمانية جرداء رغم المياه التي تنحدر عنها.
ينتهي درب اليمانية حيث تنتهي هذه الأحجار المنثورة خلاله، ويقوم على جانبيه عند نهايته جبلان متقابلان يطلق عليهما اسم السُّومان، ويحسب صاحبي أن هذا الاسم محرف أصله التوءمان.
بعد هذين الجبلين ينفرج الوادي ويصلح الطريق وينفسح ويصبح في سعته وصلاحه كأنه بعض طرق برلين الكبرى، فهو طريق حجريٌّ أصفر اللون في صفرة الرمل، تنطلق فيه السيارة بما يشاء لها سائقها من سرعة، وهذا الطريق يدعى البِهِيتة بلغة البدو، والبُهيتاء بالعربية فيما ذكر صاحبي، وقد أضاف أنه سمي كذلك؛ لأنه يبهتُ الإبل، أي: يجهدها؛ ذلك أنه متدرج في الارتفاع من الزيمة إلى السيل الكبير تدرجًا لا يحسه راكب السيارة في انطلاقها، لكنه يراه بعينه إذا نظر إلى الطريق أمامه وارتدَّ ينظر فيما وراءه، وصَدَقَ، وقد فعلتُ، فذكرت طرق الجبال في لبنان وفي أوروبا، لا يقدِّر الإنسان ذهابها في الارتفاع أو الانخفاض أثناء انطلاق السيارة حتى يُجِيل نظره فيما أمامه وفيما خلفه منها، والبهيتاء تظل ذاهبة في ارتفاعها منذ تبدأ من اليمانية حتى تبلغ السيل الكبير.
علمت بأنا بلغنا السيل الكبير حين رأيت جبالًا تقوم في الطريق فتسده، ولقد رأيت بأسفل سفحها دورًا من الحجر أدنى إلى الأكواخ منها إلى الدور، ورأيت المياه تجري أمام هذه الأكواخ، وقد عبرتها سيارتنا ووقفت في فناء فسيح تحيط الأكواخ به، وهبطنا منها، وأقبل علينا بعض ساكني هذا السيل، فطلب أصحابي إليهم أن يُعِدُّوا لنا شايًا، وفي انتظار إعداد الشاي صلينا العصر والشمس توشك أن تغيب، وتناولنا الشاي جلوسًا على الفراش الذي مُدَّ لنا، وصاحبي يقول: «من هذا الطريق الذي جئنا منه جاء جيش المسلمين الذين أرادوا حصار الطائف، ويذهب بعضهم إلى أن هذا المكان الذي نقيم الآن به هو الذي وقعت به غزوة حنين، وإن كانت الشواهد كلها تُدْحِض هذا القول، وهذا المكان هو في المشهور وادي نخلة؛ ولذلك كان وما يزال ميقات أهل نجد والعراق، وبَعُدَ مَا بين حنين ونخلة! ولذلك أميل كما قدمت إلى أن حنينًا تقع بين الشرائع والزيمة.»
وأَجَلْتُ بصري في هذه الدور التي حولي والتي تتكون منها هذه المحلة، فذكرت الدَّساكر «العزب» في الريف المصري، وزادني ذكرًا إياها أنني قمت أدور في أنحاء المحلة، فألفيت بعض الخيل والدواب في أحد جوانبها، وألفيت الماء ها هنا وهناك فيما أمامها، ولم أعجب لوجود الماء واسم المكان عَلَمٌ عليه، بل عجبتُ لقِلَّته، قال الشيخ صالح: هو قليل الآن لانتهاء فصل السيول، لكنه يكثر حين الأمطار حتى يجعل السير في هذا المكان متعذرًا وكذلك تراه يتبع في قلته وكثرته ما تنحدر عنه الجبال من مياه المطر.
ولم يكن عجبي من هذا المكان لقلة الماء ولا لكثرته فيه، بل لهذا الجبل الذي يسد الطريق ولا سبيل لاجتيازه، فمن أين ترى تتخذ سيارتنا طريقها؟ وإذا كان قد قُدَّ لها في الصخر طريق، فمن أين سار جيش حُنين لحصار الطائف؟ لقد كانوا اثني عشر ألفًا ومعهم من الإبل ما يكفي لحملهم وحمل مئونتهم، أفتسلَّقوا الجبال خفافًا وتسلقت إبلهم معهم؟ أم داروا حوله وستدور سيارتنا الآن كذلك حوله؟!
ثم ألقيتُ نظرةً إلى الطريق الذي جئنا منه، إلى هذه البهيتاء المنحدرة نحو اليمامة فالزيمة، الجامعة بين فسحة الوادي وصمت الصحراء، وقد ألقت عليها الشمس المنحدرة إلى مغيبها أشعة ندية أَوْحَتْ إلى صمتها معاني ينشرح لها الصدر وينفتح لها القلب وتسبغ عليها الروح ما يفيض عنها من صور ومُثُل، وما أبهى ما يفيض عن الروح في هذه الساعة وما أشد صفاءه! إنها الطمأنينة إلى الطبيعة الفسيحة المترامية إلى ما وراء الأفق حيث لا يتصور خيالنا للكون نهاية، طمأنينة تضمنا إلى أحضان الطبيعة وتجعلنا نضم الطبيعة إلى أحضاننا، إنها سكينة الفؤاد إلى هذا الصمت المهيب العذب، لا تفسده ضجة الحياة ولا تغشِّيه مشاغلها بسُحُب الهموم حرصًا على المال والسلطان، إنه التأمل في هذا السكون العظيم وفي بارئه الأكبر — تعالى جل شأنه — تأملًا يثير أمام الذهن صورة الماضي مجتمعة في النفس إلى أول الخلق، وصورة جهاد الإنسان أثناء هذا الماضي ليبلغ الكمال، ومن هذا الجهاد مسيرة جيش حنين في ذلك الطريق مترنمًا بأغنيات الفوز والظفر، رافعًا عَقِيرَته إلى السماء مناديًا: «لبَّيك اللهم وسَعْدَيْك»، ومن هذا الجهاد مسيرة الرسول في عزلة يريد الطائف كما أريدها أنا اليوم، لكنه يريدها لغاية أسمى وغرض أرفع من غرض الدرس وغاية المعرفة، يريدها ليدعو أهلها إلى الحق ولينقذهم من ظلمات الضلال.
ودعاني أصحابي لنتابع سيرنا، وتخطت السيارة الماء عائدة إلى الطريق، ثم سارت إلى صدر الجبل كأنما تريد أن تقتحمه، وهي تتخطى أثناء سيرها مياهًا تجري ها هنا وهناك منحدرة على هون من أعالي القنن، وما لبثتْ حين استدارتْ بين صخور الجبل حتى ابتلعها الجبل في جوفه، فهي تشق خلاله طريقًا وَعْرًا ما تكاد تتقدم أثناءه، ترتفع آنًا على حَجَرٍ وتهبط آنًا إلى طريق لا يستوي بضعة أمتار حتى تكظه الأحجار؛ فيضطر السائق إلى أن يعنُف بالسيارة كيما تتخطاها، والجبل تقوم قِمَمُه عن يميننا وقممه الأخرى عن يسارنا قد حَجَبَ عنا كل شيء إلا طريقًا في السماء تدلنا زرقته على أن الشمس لمَّا تغرب.
وأبديت لصاحبيَّ عجبي لوعورة الطريق بما لم أر قط مثله، وخشيتُ أن يكون ذلك شأننا فيما بقي أمامنا إلى الطائف، قالا: «لا عليك! فإنما هذه ذات عِرْق، وهذا الرِّيع الذي تصعد بنا السيارة خلاله لا يزيد على بضعة كيلومترات، هي وحدها كل ما في الطريق من مشقة، فإذا اجتزناها عدنا إلى مثل طريق اليمانية وطريق البهيتاء تداولًا بينهما حتى الطائف، ولطالما حاولت الحكومة أن تصلح هذا الجزء من الطريق فغلبتها السيول تخريبًا إياه وإلقاء للأحجار من قنن الجبال أثناءه.» وبينما نتحدث كانت السيارة تبذل مجهودًا أشق مجهود وأعسره، مجهود الحُبْلَى تريد أن تقذف بمن في جوفها سليمًا إلى الحياة: أتنجح وتنجو بجنينها، أم يروح مجهودها سدًى فتذهب هي وجنينها ضحيته، أم يخرج مَن في جوفها وتكون هي الضحية؟! والسائق يعاونها في هذا المجهود ويفادي بها الصخر حينًا ويدفع إلى محركها مزيدًا من البنزين حينًا آخر، وهي بين هذا وذاك تئن تارة كأنما تتأوه، وتقف أخرى مستسلمة للمقادير وقد بدا منها اليأس، وإنها لتندفع بين الصخور وفوقها وقد قاربت نهاية الريع إذ ارتطم بطنها بصخرة اشتدت من هول صدمتها صيحتها، وسألنا حَسَنًا ما بالها؟ فهوَّن الأمر، لكنه نزل من مكانه يفحصها ثم انبطح أرضًا يحاول أن يعالجها، ونزلنا نحن منها وتخطينا ما بقي من الرِّيع، فانكشف أمامنا سهل فسيح تبينا أثناءه أن الشمس قد انحدرت في هوَّة المغيب، ولم يبطئ السائق بل أدركنا بالسيارة وأنبأنا أن عطبًا غير ذي بالٍ أصابها، وأنها قديرة على أن تبلغ بنا الطائف، وقد اقتضاه عطبها ألَّا يسرع بها كما كان يودُّ أن يسرع.
وسرنا نشق سهلًا فسيحًا تمشَّت بشائر الليل في جوفه فأكسبته رقة وجمالًا وإن حجبت عن النظر الكثير مما وددت لو استمتعتُ به، ويطلق السائق للسيارة العنان إذا رأى الطريق صالحًا فتسرع، ولكن لا كما كانت تسرع في البهيتاء، ويبعث أضواء فناره الساطعة ما بين آن وآن لتكشف له الطريق كلما غُمَّ عليه، وقليلًا ما يغم الطريق على هؤلاء البدو الذين اعتادت أعينهم أن ترى خلال الظلام، وسألت عن أشجار تبدَّتْ أطيافًا إذ نمرُّ بها، فقيل لي: إنها الطلح النابت في الصحراء.
قال صاحبي: «أنساني ما عانت السيارة ساعة ارتطمت بالريع أن أذكر أن المكان الذي وقفنا عنده بعد خروجنا من ريع ذات عرق، والذي يتصل بهذا الطريق الذي نسير فيه الآن، هو مفرق الطريق بين الطائف والعُشَيرة، فنحن قد سِرْنا إلى يمين ذات عِرْق نقصد الطائف، فأما الذين يقصدون العشيرة ونجدًا فيسيرون إلى اليسار، وقد تواضع الناس على تسميته مفرق العشيرة.»
وبعد هنيهة أردف يقول: «ونحن الآن نقترب من السيل الصغير، وتقع ديار القُثَمَة، بين مفرق الطريق والسيل الصغير، فهي التي تمر السيارة بها الآن، والقُثَمَة قبيلة من هوازن لعلها اشتركت في غزوة حنين مع سائر هوازن وثقيف، وسنمر الآن عند السيل الصغير بمكان اشتُهر باسم القهاوي، ولو أن النهار أسعدنا بضوئه لرأيت آثارها، وإنما يعنيك من ذلك ما يدور على أفواه الكثيرين من أن سوق عكاظ كانت تعقد عندها، وما يؤكده بعضهم من صحة هذا القول، لكنك قد سمعت أنها كانت تعقد عند السيل الكبير، وستسمع كذلك أنها كانت تعقد في وادي عُشَيْرة مما يلي رُكْبة، وهو المشهور قديمًا بوادي العقيق، ويذهب غير هؤلاء وأولئك إلى أن هذه السوق كانت تعقد على مقربة من الطائف بوادٍ يقال له: وادي عقرب، ولقد حاول بعضهم تحقيق هذه الأقوال والقطع برأي فيها، فلعل ما تقوم به من البحوث يصل بك إلى ما لم يصل إليه غيرك، فلقد كان لعكاظ ذكر في سيرة الرسول — عليه السلام — قبل أن يبعثه الله نبيًّا.»
وهدَّأَت السيارة من جريها، وقال السائق: «هذه القهاوي، وهنا المكان الذي يقولون: إنه عكاظ.» أما أنا فلم أر شيئًا أستطيع أن أتبينه، فقد هبطتْ كِسَفُ الظلام وانطوى الوجود في دُجُنَّة الليل، وكنا في الثلث الأخير من ذي الحجة، فلم يكن للقمر في السماء أثر، ولم تكن النجوم لتكشف من غطاء الليل شيئًا، وهذه الأودية الصامتة في رابعة النهار هي الساعة أشد صمتًا ومهابة، فالنهار يجلو أمام النظر ما فيها من حزون وبطون، أما الآن فالعين لا ترى إلَّا ظلامًا، فإذا تبينت خلال الظلام شيئًا فأطياف لا تدري أهي أطياف الشجر أم مَرَدَةٌ من الجِنِّ تسْبحُ الليل في مَهَامِهِ هذا القفر الموحش؟! وما لها لا تكون أطياف أولئك الأعراب الذين يقطعون على الناس الطريق وينزعون عنهم ما يملكون، إن رضُوا كرمًا منهم أن يهبوهم حياتهم؟! هذه أخيلة تدور بخاطري الساعة وأنا أصف الطريق، أما والسيارة تسري بنا الليل أثناءه فلم يمر بي طيفها، بل كنتُ مطمئنًّا كل الطمأنينة، ولم يكن مرجع طمأنينتي إلى أننا كنا أربعة بالسيارة، وأننا كانت تتبعنا عربة «البكسفورد»، فلا خوف علينا من مَرَدة الجن ولا من مردة الإنس، بل كان مرجعها إلى حال نفسية أَلِفْتُها في حياتي، كنت في الحجاز أشد إلفًا لها، فأنا قلَّما يساورني الخوف من شيء، لكنني كنت في الحجاز أشعر كأنما تضاعفت قوة الحياة في نفسي؛ لأنني تضاعفت ثقتي بالله وتضاعف إسلامي له.
وتكلم صاحبي بعد زمن من عودة السيارة إلى انطلاقها كأنما يريد أن يقطع الصمت الذي سادنا خلال هذا الليل الذي يشتملنا: «لقد صِرْنا على مقربة من الطائف، وهذا الوادي الذي يسبقها تعمره قرًى كثيرة، فعلى مقربة منا الآن أم الحمض، ويجيء بعدها وداي لُقَيْم، ثم المُلَيْساء، ثم هضبة الزوار، ثم شبرة، ثم الطائف، وقد لا نحتاج في اجتياز هذه جميعًا إلى غير ساعة أو أكثر قليلًا.»
شعرت من لهجة هذا الحديث أن صاحبي يريد أن يهوِّن عليَّ مشقة الطريق، فقلت: «إن الجو الآن جميل يبعث إلى نفسي الغبطة والمرح، ولا حاجة بنا أن نعجِّل غايتنا، وما دامت السيارة لا تسرع بنا فليت «البُكس» يدركنا لندخل الطائف معًا.»
قال الشيخ صالح: «أحسبني أسمع صوت نفير لعله نفيره، وأحسبه على خمسة أميال منا، وهو — لا ريب — قد تخطى الرِّيع دون أن يلحقه أذى، فعجلاته عالية تيسِّر للسائق تفادي الصخور التي تعترض سبيله، وسائقه جريء لا يخاف، وأكبر ظني أنه مدركنا قبل نصف ساعة من وقتنا هذا؛ بذلك ندخل معًا الطائف حيث ينتظرنا الناس، فلا نضطر نحن ولا غيرنا إلى انتظاره هناك.»
ولم يخطئ ظن الشيخ صالح، فبعد دقائق سمعنا جميعًا صوت نفير قرَّر سائقنا أنه نفير «البكس»، ثم قرر وقد التفت وراءه أنه يرى ضوء فناره، فنحن إذن بمأمن إن أصاب سيارتنا عطب يحول دون بلوغها الطائف، إذ نستطيع أن نركب البكس ونتم الطريق.
وأدركنا البكس بعد نصف ساعة، وكانت الساعة قد جاوزت الثامنة مساء، بل لعلها قاربت التاسعة، وانطلقت العربتان تجريان في طريق معتدل قدر ما يكون طريق السيارة فوق رمال البادية معتدلًا، وشعر الشيخ صالح أني أضُمُّ إليَّ ردائي ومِشْلَحي فقال: «هذا جو الطائف، والطائف ترتفع عن سطح البحر ألفًا وسبعمائة متر أو تزيد؛ وهي لذلك مَصِيف أهل مكة، فلا عجب أن أدركك من جوِّها شيء من البرد، ولكن لا تَخَف، فهي مَصَحٌّ لا يضر جوُّه.»
انتهز الشيخ عبد الحميد فرصة هذا القول فأردف: «إذا كنت تضم إليك رداءك من البرد فما كان عسى أن يصنع جيش حنين ولم يكن يحول بينهم وبين هواء البادية زجاج كالذي يحول بينك وبينه؟!» وتبسمتُ ضاحكًا من قوله وأجبت: «لقد كانوا في دفء بالظفر والغنيمة، وكانوا كذلك في دفء بالسير على أقدامهم أو على ظهور إبلهم، ولعلهم كانوا يقطعون هذا الطريق في الربيع أو في الصيف فكان لهم نعيمًا وغبطة.»
انقضت الساعة التاسعة وتنصفت الساعة العاشرة والظلمة المحيطة بنا دَرْدَبِيس لا يرى الإنسان أثناءها كفَّه، والسيارتان تجريان على هُون حتى لا يزيد ما بسيارتنا من العطب، ونتحدث آنًا ونلزم الصمت آخر وقد حُجب عنا كل ما حولنا فلا نرى إلا ما يضيئه فنار السيارة من الطريق، وإنَّا لكذلك إذ بدا من ناحية الشرق ضياء وَخَطَ سوادَ السماء، ثم أضاء القمر الأرجاء، ومددت البصر ذات اليمين وذات الشمال فرأيت ما حولي سهلًا فسيحًا لا تقف الجبال البعيدة دون تجوال النظر فيه، وبدت الجبال لبعدها عنا أشباحًا مهولة لا نميز منها إلا ارتفاعها وضخامتها، وفي هنيهة صمتٍ قال السائق: هذه الطائف، وحدَّقْتُ أرجو أن أرى بناءً فارتد بصري ولم أر شيئًا، وإنما تعزيت بالمثل العربي: «القول ما قالت حَزَامِ»، ولئن كانت حزامِ تبصر إلى مسيرة ثلاثة أيام لقد عوَّدَنا حسنٌ الصدق حين يتحدث عمَّا يرى.
هذه الطائف، في هذا السهل الفسيح حولنا كانت إذن جنود النبي العربي منتشرة حين جاءت من حنين لحصار المدينة الحصينة وأهلها ذوي البأس والمَنَعة، وفي مكان منه ضُربت خيمتان من أديم الحمر لمقام أم سَلَمة وزينب أمَّي المؤمنين، تُرى أين يكون هذا المكان؟ أكان ها هنا على مقربة منا فنحن نسير حيث نزلوا؟ إنهم جاءوا إلى الطائف من ناحية لِيَّة، وهي لا ريب قريبة من هنا، ولكن أين كانت مضارب خيامهم؟ لعلِّي لو سألت لما أجابني أحد، فتحديد المواقع التي مرَّ بها الرسول أمر لا يعرفه الناس من أهل هذه البلاد إلا ظنًّا، إلا من يكون قد عُني منهم بدرس السيرة درسًا تطبيقيًّا، ولقد كنت سمعت أن الشيخ عبد الله بن بُلَيهد عالم نجد قد قام بشيء من هذا الدرس، فلأُحَاوِل بعد عودتي إلى مكة أن أراه، وإن كنت لا أثق كثيرًا بأنني سأجد طَلِبَتي عنده، فأما الحاج عبد الله فلبي — أو سير سينت چون فلبي — فلم يجعل من هذا الأمر موضع عنايته مخافة الخلاف مع علماء الشريعة على قوله، أو لأنه أكثر عناية برسم خرائط بلاد العرب الحالية كما يبدو من عمله.
قال صاحبي: هذه شُبْرة، وعجبتُ كمصري لسماع اسم يتداوله سمعي أثناء مُقامي بعاصمة بلادي، وفطن صاحبي لعجبي فقال: «وهذا قصر الملك هنا، ولقد بناه الشريف عبد الله بن عون وأحاطه بالبساتين، وسُمِّي هذا المكان شُبْرة باسم شبرا المجاورة للقاهرة؛ لمجاورة هذا المكان للطائف، وهذا القصر من أفخم قصور الحجاز، بل لعله أفخمها جميعًا.»
كان صاحبي يقول هذا الكلام والسيارة تتخطى على هُون بين جدران أغلب الظن أنها من الحجر الأبيض ألقى عليها القمر أشعته البيضاء فزادها بياضًا، فأما ما وراء هذه الجدران من قصور وبساتين يتحدث عنها صاحبي فلم يلفتني إليه ولم يوقظ إليه انتباهي، لقد أزِفَت الساعة على الحادية عشرة مساء، أو الخامسة بالوقت العربي إن شئت، وقد كنتُ مجهودًا غاية الجهد، ولَعَلِّي لو رآني في هذه الساعة أحد من أهلي أو أصدقائي بمصر لذكر لفوره قول عمر بن أبي ربيعة:
اجتازت بنا السيارة شُبرة ثم تيامنت فمرَّت، بعد فضاء يبدو إلى جانبه سور لم أدرِ ما هو، بمنازل أشبه بالأطلال، لكن بناءها يبدو جديدًا لم يتم بعدُ، فلم توضع أبوابه ونوافذه، وتيامنت السيارة ثم تياسرت ثم وقفت بباب لقينا عنده من ينتظرنا، وهبطنا من السيارة واجتزنا الباب إلى حديقة لَمَعَ تحت ضوء القمر نباتُها، ثم سرنا إلى بهو فسيح مطل على نافورة ماء لم أقف عندها، وفي يمين البهو باب دخلنا منه إلى غرفة بها مقاعد وثيرة دعاني القوم إلى الجلوس فيها، فجلستُ سعيدًا أن قطعنا رحلتنا هذه وبلغنا غايتنا منها بعد الذي أصاب السيارة سالمين، وجيء لنا بالقهوة فشربناها، وتبادلنا من الحديث ما ردَّ إلينا بعض الطمأنينة، وغاب عنا الشيخ محمد صالح القزاز زمنًا ثم عاد فجلس يحيينا، وكان ما تمثل به:
وشِمْتُ فيه إذْ تمثل البيت الروح العربي القديم؛ روح الكرامة والكرم والشهامة والنخوة، فشكرت له وبادلته تحية بتحية، وأقمنا بمجلسنا حتى دعينا لتناول الطعام، وتناولناه، واعتذرت عن القهوة، وتحدثنا حينًا ثم أوينا إلى فراشنا، وكان فراشي في غرفة بابها يقابل باب غرفة الجلوس في الجدار الموازي من البهو، ومن داخل هذه حَمَّام به صنابير للماء ساخنًا وباردًا، ونمتُ مِلْءَ جُفوني ثم استيقظت بكرة الصباح ممتلئًا نشاطًا، وأقمت أنظر كيف أَعَدَّ السيد صالح القزاز برنامج يومنا، وإني لكذلك إذ جاءني بصحبة الشيخ عبد الحميد حديدي ومعهما ورقة كتبا فيها برنامجًا لكل يوم من أيام مقامنا بالطائف، وكان برنامج يومنا الأول مدينة الطائف وما حولها.