بادية الطائف
كانت الطائف القديمة تقع بين التلال القائمة أمام البُستانَيْن حَوايا وشِهَار من الجهة الغربية على رواية أهلها اليوم، أما في هذا الزمن الحاضر فالبستانان يقعان خارج الطائف ويبعدان عنها بضعة أميال؛ لذلك يحسبهما البعض بحق باب بادية الطائف، فأنت لا تكاد تراهما بالمنظار المقرب، وإن رآهما البدو بالعين المجردة، فإذا أنت جاوزت البساتين إلى الجهة المقابلة للطائف لقيتك البادية مترامية أمام نظرك، منطلقة كأنها السهل حينًا، منثورة فيها الأحجار التي حَطَّها السيل من أعالي الجبال حينًا آخر، ناتئة جبالها المتباينة الارتفاع على مقربة من النظر أو عند مرماه.
آثر أصحابي يوم زرنا بُسْتانَيْ حَوايا وشِهار أن نُمْعِن بعض الشيء في البادية، وأغروني على الإمعان بما ذكروا من أنَّا سنلقى على مقربة منهما آثارًا تنير أمامي السبيل لما أبحث عنه من تاريخ هذه البقاع، وانطلقت بنا السيارة تؤمُّ وادي السَّداد حيث تقع هضاب الرُّدَّف، وفيما تجري السيارة مسرعة حينًا، متعثرة بالأحجار المنثورة في الطريق حينًا آخر، لفت رفيقي نظري إلى وادٍ تتخطاه وذكر لي أنه وادي وَجٍّ، وأنه يمر بقرية المَثْنَاة منحدرًا إلى ناحية الطائف، وأن الماء الذي يسيل به في فصول الأمطار ينحدر من جبل بَرَد ومن جبال الطلحات حيث تقيم بعض قبائل هُذَيل … وعجبت أن لفت نظري إلى هذا الوادي ولا شيء فيه يلفت النظر، لكنه استطرد قائلًا: إنه من الأودية المأثورة؛ فقد روي أن النبي — عليه السلام — حرَّم صيده، وإن تكن هذه الرواية موضع خلاف، ولم أُرِدْ أن أناقشه في الأمر أو أذكر أولئك الذين دعاهم الرسول إلى الإسلام فأَبَوْا إلَّا أن يُحَرِّم واديَهم كما حَرَّم مكة، فلم يُجِبهم إلى ما طلبوا؛ لأن حُرمة مكة مِن أمْر الله، ومرجعها إلى البيت العتيق الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا.
وبلغت السيارة وادي السَّداد وقد أحاطت به هضاب الرُّدَّف، ووقفت على مقربة من صخور ضخمة مركومة بعضها فوق بعض فهي وحدها هضبة مستقلة ناتئة أثناء الوادي، وهبطتُ منها في لباس البدويِّ وجعلت أُجيل النظر فيما حولي فلا أرى إلا جبالًا قليلة الارتفاع تحجب ما وراءها، وأحجارًا متفاوتة الأحجام قذف بها السيل في أنحاء الوادي، أين تُرى تكون الآثار التي حدثني أصحابي عنها؟ وسألتهم فأشاروا إلى هذه الهضبة المستقلة، وقالوا: إنها رموز وعبارات كتبت على الصخور العُليا منها.
وتسلقنا الهضبة، ودار أحدهم فوقها ثم دعاني إليه، فعلوتُ صخرًا وهبطت آخر وتسلقت ثالثًا، ثم وقفت إلى جانبه أحاول وإياه أن نحل رموز خطوط أدنى إلى الكوفي نُقشت على صفحة الحجر، وأحدِّق وإياه في صخور أخرى فنرى رموزًا لم نَدْرِ ما هي، ولعلها خَطٌّ للغة من لغات البلاد الإسلامية في آسيا أو أمريكا لم يبلغنا علمه ولم تبلغنا رسالته، وأراد بعض الحاضرين أن يرد هذه الكتابات إلى عصور قديمة، فاعترضه آخر بأنها قد لا ترجع إلى أكثر من عشرات السنين، وقد ترجع إلى بضعة قرون، وأنها على الأرجح لجماعة ممن زاروا هذه المنطقة من أزمان غير بعيدة جذبهم وادي وَجٍّ إليها، فجعلوا على أحجارها عبارات متداولة مثل: الحمد لله وحده، وآمن بالله فلان، أو خطُّوا عليها صورًا استعاضوا بها عن الكتابة؛ لأنهم لا يعرفون الكتابة.
وما رأيت من كتابات ونقوش يجعلني أميل إلى هذا الرأي الأخير، ووجود الكتابة الكوفية لا ينهض بذاته دليلًا على قِدَم العصر الذي كتبت فيه، فالكتابة الكوفية تعتبر في يومنا الحاضر زخرفًا يُجِيد تصويره كثيرون، وهي قد كانت أكثر ذيوعًا منذ بضع عشرات من السنين خلت، وإنما يدعوني لترجيح هذا الرأي تشابه العبارة في هذه الجمل المنقوشة على الصخر وعدم دلالتها على شيء يتصل بالطائف أو بالعرب، أو بشيء من حوادث الماضي ذات الجسامة والخطر، ولو أنها كانت قديمة بمعنى أنها ترجع إلى العصور الإسلامية الأولى لبدا فيها طابع تلك العصور، ولأشارت إلى ما حدث فيها من حروب وما تم فيها من أعمال عظيمة، أما وهي كما رأيت فإنما هي عبارات تقليدية ينسخ فيها زوَّار هذا المكان كلٌّ على طراز مَنْ سبقه، ولو أنني فكرت في أن أصنع صنيعهم وأن أنقش على هذه الصخور المرموقة ما أسجل به وقوفي عندها لنقشت عليها أغلب الأمر عبارة كعبارة «آمن بالله فلان.» مقلِّدًا بذلك من سبقني، فالتقليد أيسر مشقة، والعبارة التي اختارها أولئك السابقون أيسر نقشًا على الحجر من سواها.
وليس يعدل بي عن ترجيح هذا الرأي ما يروى عن قدم بعض النقوش حتى ليقال: إنه كان من زمن الجاهلية، وإنه من الخط الكوفي القديم الذي لم نألفه، اللهم إلا أن تكون نقوش على جبال أو صخور أخرى كالنقوش التي يذكرون وجودها بجبل السكارى مما لم أقف عنده ولم أفكر في أمره، على أن القائلين: بقدم هذه النقوش يذكرون أنها خالية من التاريخ، وأن الباحث لا يستطيع لذلك أن يستنبط منها ما يقوم عليه حكم من الأحكام، أو تتحقق به حادثة من الحوادث.
فأما وادي وَجٍّ الذي أشار صاحبي إلى أنه من الأودية المأثورة لقوله — عليه السلام: «صيد وجٍّ وعضاهه حرام محرَّم.» فقد اختلف في أمره؛ يقول ابن منظور في لسان العرب: «وجٌّ موضع بالبادية، وقيل: هو بلد بالطائف، وقيل: هي الطائف.» وبعد أن روى حديث تحريمه قال: «ويحتمل أن يكون حرَّمه في وقتٍ معلوم ثم نُسِخ، وفي حديث كعب أن وجًّا مقدس، منه عَرَج الربُّ إلى السماء، وفي الحديث أن آخر وَطْأة وَطِئَها الله بوَجٍّ. قال: وجٌّ هو الطائف، أراد بالوطأة الغزاة ها هنا، وكانت غزوة الطائف آخر غزواته ﷺ.»
ويذهب غير واحد من الذين كتبوا في تقويم البلدان إلى أن وجًّا اسم للطائف قبل أن تسمى الطائف، وروى الفاسي في كتاب «شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام» رواية مستندة إلى الزبير بن العوَّام أنه قال: أقبلنا مع رسول الله ﷺ من ليلة حتى إذا كنا عند السِّدرة وقف رسول الله ﷺ عند طرف القرن الأسود — والقرن: جبل صغير ورأسه مشرف على الهَدَّة — فاستقبل نَخِبًا ووقف حتى اتفق الناس ثم قال: «إن صيد وجٍّ وعضاهه حرام محرم لله — عز وجل.» وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيفًا، وقد ورد هذا الحديث في سنن أبي داود ومسند ابن حنبل، وإسناده ضعيف على ما قال النووي، وقال البخاري: لا يصح، وذكر ابن عبد رَبِّه أن ثقيفًا جاءوا إلى النبي بعد مقتل عروة بن مسعود فعرضوا عليه إسلامهم فكتب لهم بحرمة واديهم.
لم أُعْنَ كثيرًا بما قيل عن تحريم وادي وجٍّ ومدى هذا التحريم، وكيف لي أن أُعنى به وهذا الخلاف واقع عليه، والبخاري ينكره؟! وإنما عنيت من أمره بأنه على أبواب الطائف من ناحية «لِيَّة» عند انحدار المسلمين منها إلى الطائف، وكل ما أستطيع أن أستخلصه من الروايات التي سبقت أن الرسول — عليه السلام — وقف بهذا الوادي حين بلغه، وأنه جمع المسلمين هناك حوله، وأنه هَيَّأ صفوفهم لحصار الطائف، وأنه حرَّم عليهم — وكانوا من قبائل مختلفة — أن يثيروا بينهم شقاقًا أو أن يستبيحوا بينهم ما ليس مباحًا لهم في البلد الحرام، فلما انصرفوا عن الطائف لم تبقَ لوجٍّ حرمة أكثر مما لغيرها من الآفاق.
قمت وأصحابي صبح الغد من ذلك اليوم مبكرين بعد أن نلنا بالنوم راحتنا ليوم جهد ومشقة، فقد رأى الشيخ صالح القزاز أن نتناول إفطارنا فوق السد السَّمَلَّجِيِّ، وأن نتناول طعام الغداء فوق سطح جبال الهَدَّة ضيوفًا على محمود المغربي، والسد السملجي يقع شمال الطائف، وجبال الهَدَّة تقوم في جنوبها الغربي، فلا سبيل إلى الجمع بينهما إلا أن نستقل سيارة البكس بكرة الصباح لنشهد السد وموقعه، ولنعود بعد ذلك إلى جبال الهَدَّة فنرتقيها إلى دار مضيفنا نتناول الغال ونشرب القهوة ونذَرَه ينحر الضأن وينضجه، فإذا عدنا تناولنا العقال، وهو قائم في خدمتنا لا يقرب الطعام ولا ينظر إلينا ونحن نأكل.
والغال هو ما نسميه في مصر: «التصبيرة»، أما العقال فطعام الغداء، وهو الذي يعقل به الرجل معدته فلا تتحرك إلى طلب الطعام، والبدو لا يُعدُّون العقال ولا ينحرون إلا بعد أن يصل إليهم ضيفهم.
غدونا إذن مصبحين وتناولنا قدحًا من الشاي وآخر من القهوة، ثم ركبنا السيارة فانطلقت بنا قاصدة السد السملجي، وكما مررنا أمس بوادي وجٍّ في طريقنا إلى هضاب الرُّدَّف، فقد مررنا أول ما تبدَّت البادية أمامنا بوادٍ لفت صاحبي نظري إليه قائلًا: إنه وادي نَخِب، والمأثور أنه بوادي النمل الذي ذكره القرآن في قصة سليمان إذ يقول — تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ.
وسألت صاحبي: وأين سليمان من الطائف وقد كان ملكه بالشام؟! قال: «لقد جند الله لسليمان الوحش والطير فكان يُسَيِّرهم إلى حيث شاء من بقاع الأرض، وكانت الطائف بعض ما مر به من البقاع في ذهابه إلى اليمن، وقد اختلف الرواة: أَمَرَّ الجيش بها طائرًا في الهواء بأمر سليمان وبإذن الله؟ أم مرَّ بها سائرًا على الأرض؟ والقائلون بالسير يستندون إلى ما ورد في الآيات السابقة، فلو كان الجيش طائرًا لما حذرت النملة قومها منهم، أما القائلون بالطيران فقد ذهبوا إلى أن جيش سليمان أتى على وادي النمل ولم يحطم منه نملة، ولو كان سائرًا لقضى على النمل وقريته، وإنما قالت النملة لأصحابها ما قالت يدفعها الحذر والحرص على الحياة.»
ولم يذكر صاحبي أن وادي النمل حُرِّم كما حرِّم وادي وجٍّ وإنْ على خلاف، ولم يشر كذلك إلى ما أوردته الروايات المختلفة في وادي النمل وموقعه، فقد ذهب قوم إلى أنه بالشام، وذهب آخرون إلى أنه باليمن، وتوسط الذين قالوا: إنه بالطائف بين الشام واليمن، ولغير هؤلاء جميعًا مذهب في النمل وواديه لا اتصال له بالطائف ولا بوادي نَخِب بها ولا بالسدر منها، ولم أر ما يدعو لمناقشة هذه الأقوال جميعًا؛ إذ كنت لا أقصد من تحقيق ما أرى إلى معرفة شيء فيما قبل عهد النبي، وقد كان سليمان قبل عهده بأكثر من خمسة عشر قرنًا، فليكن وادي النمل بالطائف أو بالشام أو باليمن، فليس تحقيقه مما يدخل في نطاق بحثي.
وقيل لي: إذا تخطت السيارة هذا الوادي فإنها تجتازه إلى وادي «لِيَّة»، وأنا أعلم أن الرسول جاء من حُنين إلى الطائف على رأس جيش المسلمين فاجتازوا لِيَّة؛ لذلك شاقني أن أقف على هذا الوادي وأن أرى بعيني طريقًا مرَّ به الرسول، وزادني شوقًا إليه ما قيل: من إنه يمثل خصب الطائف وثمارها الشهية، وإن لم يكن الفصل فصل ثمار تُجتنى وإن اشتُهِيَتْ، ومددتُ بصري إلى ما أمامي لعلني أرى طلائعه، فإذا الجبال تحيط بنا من كل جانب، وإذا السيارة تندفع نحوها كأنما تريد أن تقتحمها اقتحامًا أو تتسلقها تسلقًا، وبدأت تتيامن وتتياسر تتقي الأحجار المنثورة حولها مصعدة أثناء ذلك على هون كأنما تريد أن تتخير سَرَبا خلال الجبال القائمة أمامها تصدُّها، ولم يخطئ حَدْسي؛ فلقد وجدت السَّرَب الذي تنفذ منه خلال السلتين القائمين عن جانبها ذلك عِرْقٌ في الجبل حُطِّم لتمر السيارات من خلاله في ريع ليس اجتيازه فوق الجنادل المكدسة فيه بأقل من تسلق الجبل عسرًا ومشقة، وسائق «البكس» يدفعه بكل قوة الوقود واحتراقه، وهو مع ذلك يسير متعثرًا كالطفل أول مشيه، يترجَّح إلى اليمين تارة وإلى اليسار طورًا، ويكاد يهوي في كل لحظة إلى هذا الجانب أو ذاك، والسفحان عن الجانبين يحصراننا ولا يزيلان مخاوفنا أن تهوي السيارة بينهما وأن تتحطم على جنادلهما الصُّمِّ الصِّلاب، ووقفت السيارة هنيهة لا تتقدم ولا تتأخر، ويريد أحدهم أن يبدي للسائق رأيًا لعله يعينه، فيثور ثائر السائق بهذا الذي يتدخل فيما لا يعنيه، يدعوه إن شاء أن يجلس مكانه ليرينا من معجزاته ما عجز السائق عنه، والريع ممتد لا ينتهي، والسفحان لا ينفرجان عن سطح أو وادٍ يبعث إلى النفس الأمل أن قد بلغنا مأمَنًا، وكلنا واجمٌ لا تنفرج شفتاه إلا عن كلمة تشجيع للسائق وإعجاب بمهارته مخافة أن يثور ثائرُه كرَّةً أخرى، وكلنا مع ذلك مطمئن راضٍ بَاسمُ الثغر لهذا النهار المشرق الوضاح السماء؛ ولهذا الجو الصفو الرقيق الذي ينعش الفؤاد ويشيع المسرة في كل أنحائه، وترتقي السيارة خلال هذا الريع ثم تنحدر بعض الطريق لتعود إلى الارتقاء من جديد، وهي في انحدارها أشد حذرًا منها في تسلقها، والسائق مُلْقٍ بكل انتباهه إلى كل حَجَر أمامه، وإلى كل حركة من حركات السيارة في تيامنها وتياسرها، وقد جمدت يداه على مدارها فلا تتركانه، وخَفَّتْ حركة رجله على معيار الوقود ينفق معه مدققًا في حسابه ألَّا يزيد ما ينفقه وألا ينقص عن حاجة السيارة في حركتها أثناء هذا الوقت الدقيق.
ربنا لك الحمد! ها نحن أولاء قد سَمَوْنا إلى القمة، وتكشَّف الأفق عن يميننا ويسارنا، وانكشف أمامنا الوادي منبسطًا أسفل منا، تحيط الجبال على مرمى النظر بأطرافه، وها هو ذا السائق يتنفس الصُّعَداء كمن كَرَبَه أمرٌ ثم غلبه وغلب كرْبَه، وانحدرت السيارة متجهة صوب دار قامت في عزلة هذا الوادي وانبسط أمامها زرع أخضر ذو رَوَاء وبهجة، هنالك تحدثنا، وذكر أصحابنا هذا الوادي، وادي لِيَّة، وجمال حدائقه وأعنابه وفاكهته اللذيذة الجميلة، وأشادوا بجودة رُمَّانه وسفرجله، وتمنَّوْا لو أتاح لنا الفصل أن ننال منها طعام إفطارنا، لكن فصل الفاكهة لم يأْنِ بعدُ، فلنَطِب نفسًا بما حملنا للإفطار من الطائف.
ودارت السيارة حول هذا الزرع البهيج ثم انطلقت مسرعة في الوادي، وما لبث ما حولنا أن تغيَّر: ازداد الجو صفوًا، والنسيم رقة وعذوبة وسرَتْ إلى الصدور غبطة مسعدة ضاعفت نعمة الحياة، ذلك أثر الماء في مسيله والسيارة تحاذيه حينًا وتجتازه حينًا، ثم تعود إلى محاذاته ثم إلى اجتيازه، ونهبط منها بين آنٍ وآخر حين يخاف السائق غوصها في الرمال ثم نعود إليها فرحين مطمئنين كما هبطنا منها، وتغوص في الرمل فيدفعها أصحابنا متضامنين خاضعين لأمر السائق الجالس على عرشه قابضًا على مدارها، فإذا خلصت وآنَ لها أن تعود سيرتها قفزنها إليها في مَرَحٍ دونه أي مرح، وانطلقت تسير في أرض خصبة خالية من الزرع إلا ما ندر.
ويذكر صاحبي أن وادي لِيَّة يمتد مستطيلًا مدى خمسة وعشرين ميلًا تقريبًا، وأنه يبتدئ من ديار بني سُفيان الثقفيين من الجهة الجنوبية وينتهي بخَدِّ الحاج من الجهة الشمالية، وأن أعلاه يسكنه الأشراف، ويسكن الزوران وعوف أسفله، والزوران قبيلة من هوازن، وعوف فخذ من ثقيف.
وسألت: كم بقي لنا لندرك السد السملجي؟ فعلمت أنَّا نتخطى وادي صُخَيرة إلى وادي ثُمالة حيث يقوم هذا السد، قال صاحبي: «ويقيم بنو صخر بوادي صخيرة الذي نجتازه الآن، وهم بطن من ثقيف، ومنهم الحَجَّاج بن يوسف الثقفي عامل عبد الملك بن مروان، ومَن بقي اسمه علمًا على القسوة والفتك والتلذذ بمنظر الدماء، فقد كان يرى في كل جماعة يتولى أمرهم رءوسًا أينعت وحان قطافها، لا فرق عنده بين صحابي وتابعي وأعجمي أسلم ولمَّا يدخل الإيمان في قلبه»، وذكرتُ وأنا أسمع لصاحبي ما للبيئة في الناس من أثر؛ فأدرت طرفي يمنةً ويسرة لعلي أستشف من خلال وادي صخيرة سِرَّ ما رُكِّب في الحَجَّاج من هذه الخِلال، وخيل إليَّ أني أرى في طبيعة الوادي قسوة لم يكن شيء من مثلها في وادي لِيَّة، فقد انقطعت المياه وغاض مسيلها، ونتأت أحجارٌ صُمٌّ جلاميد، وخيم على الكون صمت ثقلت وطأته، لم أدر أهو الذي صاغ روح الحجاج من بطش وقسوة، أم أن مبعثه روح الحجاج وحديثنا عنه؟ وأنَّا لو لم نتحدث عن الحجاج لما نتأت صمُّ الجلاميد في هذا المكان أكثر منها في أي مكان غيره، ولما ثقلت وطأة الصمت المخيم على الكون في أنحاء البادية جميعًا، ولما كان انقطاع المياه غيض مسيلها آية غيض الرحمة من قلب الحجاج وانقطاع مسيلها إلى نفسه.
ونسينا صُخَيرة، والحجَّاج وبنيه وآباءه حين وقفت السيارة بنا في منقطع من الوادي، وأعلن سائقها أن وقودها وشيك النفاد، وأنَّا إن لم نتداركه بالرأي لم يعد يدري كيف السبيل إلى بلوغ السد ثم العود إلى الطائف، ولم يكن بيننا الجريء الذي يلقي عليه تَبِعة الإهمال في الخروج من المدينة إلى رحلة كرحلتنا هذه دون التزود من الوقود بأكثر من حاجته، فنحن الآن أحوج ما نكون إلى رضاه واتقاء غضبه، وهو رجل حادُّ المزاج، قد تدفعه حدَّتُه فيذرنا حيث نحن ساعات وساعات، وما عسى أن يجدي تحميله التبعة في بلوغ غايتنا والعود لنتم رحلتنا؟! قال السيد صالح القزاز: «لا عليك فهاهنا على مقربة منا كوخ لا يأبى أصحابه أن يبيعونا ما لديهم من بترول، وأحسبه يصلح مع ما بقي من بنزين السيارة لنطمئن به حتى عودتنا إلى الطائف.» وأشرقت أسارير الرجل، فانطلق بالسيارة غير بعيد ثم وقف عند كوخ قائم فوق ربوة بعيدة عن مسيل الوادي، ونادى بأعلى صوته لعل أحدًا يسمعه ويجيئنا بالبترول الذي نبتغيه، وأجاب النداء صبي، فسألنا: ما نبغي؟ ثم أطلق ساقيه للريح يلتمس أهله حين علم أن في الأمر تجارة وربحًا، وجلستُ وأصحابي فوق الصخور الناتئة حول السيارة حتى جاء أهل الصبي بصفيحة البترول وبكوز صغير معها هو الكيل الذي يبيعون به، وانطلقت السيارة الضخمة في طريقها فوق الصخور مطمئنة إلى وقودها وكفايته، تمتَّعُ معنا بجو الصبح الجميل، حتى بلغت السد السملجي ولما تكتمل الساعة التاسعة، وكنا إذ بلغناه قد تجاوزنا وادي صخيرة إلى وادي ثُمالة، وتجاوزنا قسوة الطبيعة إلى ابتسامها بالزرع النضر والخضرة الباسمة، وآن لنا أن نطمئن إلى مكان نتناول فيه إفطارنا وقد زادت بكرة اليقظة وجمال الهواء وجهد الرحلة في شوقنا إليه وحرصنا على تناوله.
ولم نتردد في اختيار المكان، فهذا السد أمامنا ضخم عريض السطح مرتفع يشرف على ما حوله، وهو فيما يبدو من أمره أثر تاريخي كان له في حياة هذه البلاد أثر بالغ، فلنصعد إليه ولنتخذ من سطحه مائدتنا، وتسلقنا أحجاره الضخمة كما يتسلق الناس الأهرام في مصر حتى استوينا فوقه، ثم سرنا حتى توسطنا سطحه، ونظرت عن يميني فإذا مجرى أشبه بمجرى النهر قد حُصِر بين شاطئين ولا ماء فيه، وعن يساري فإذا أرض مستوية استوت فيها الحنطة على سوقها ولمَّا تُحصَد بعدُ، ومن أمامي ومن خلفي قام جبلان يحصران هذا الوادي الممرع الفسيح تتحدث أرضه بمعاني الخصب وقوة الإثمار، وإن لم يكن به من زرع إلا هذه الحنطة التي أرى، وجلسنا على الحجر ونشرنا عليه ما معنا من الزاد، ما كان أحلاه وأشهاه على بساطته وبداوته! أستغفر الله! لم يكن بدويًّا وقد كان بعضه «بسكوت» ومُرَبَّى مجلوبين من إنجلترا، واشتركنا جميعًا في تناوله، فكان في ذلك من مظهر الديمقراطية البدوية ما تستريح له النفس ويشعر المرء في أثنائه بالإخاء الإنساني الذي لا يعرف الطبقات ولا يعرف الحاكم ولا المحكوم، والذي يكمل به إيمان المرء إذ يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويدرك إدراكًا عميقًا صادقًا أنا جميعًا سواسية أمام الله وأنَّا جميعًا عباده، لا فضل لأحد منا على صاحبه إلا بالتقوى.
اطمأنت معداتنا فقمنا نستأنف حديث السد والقبائل التي حوله، قال صاحبي: تقع ديار بني سعد حيث استرضع النبي على عشرة أميال من هذا المكان، وأغلب الظن أن قد جاء النبي في طفولته إلى هنا مع الرعاة من بني سعد بن بكر؛ فالرعاة لا يذرون مكانًا به كلأ أو مرعى أيًّا كان نوعه دون أن يطرقوه، قال آخر: هذا احتمال قد يكون وقد لا يكون، وربما اعترض عليه بحق من يذكر أن رعاة بني ثُمالة ما كانوا ليدعوا رعاة بني سعد يطئون أرضهم موفورين عن رضًا منهم وطواعية، فقبائل البادية شديدة الحرص على حُرُمات أرضها، وهي أشد حرصًا إذا كانت الأرض خصبة وكان فيها لذلك مطمع، قال السيد صالح: دعوا عنكم هذا الحديث وتعالوا بنا نهبط إلى حيث الحنطة لنواجه السد، فيرى ضيفنا منه ما هو أجدى في بحوثه من كلام لا يتيسر لنا ها هنا تحقيقه، وأومأ صاحبي إيماءة الرضا عما قال السيد وتقدمنا كي نهبط السد، وسار الشريف حمزة الغالبي إلى جانبي كيما يعاونني إن احتجتُ إلى معونة.
وهبطنا إلى مزرعة الحنطة، واستقبلنا السد، فأخذتْ بنظرنا الأحجار الضخمة التي شُيد منها، كما أخذ بنظرنا إحكام بنائه على عظمته وضخامته، فهو يبلغ نحو الثمانين مترًا في طوله، والخمسة والعشرين مترًا في ارتفاعه، أما عرض سطحه فيزيد على عشرة أمتار، وسألت عن تاريخ بنائه فقيل: إنه يرجع إلى عهد معاوية بن أبي سفيان في صدر الإسلام، وإن الحجة في ذلك هذه الكتابة المنقوشة على أحد أحجاره والتي لا تكاد تتضح، فقد نقلها عبد الله باشا باناجي بالفوتوغرافيا في أوائل هذا القرن وبعث بها إلى مصر حيث حُلَّت رموزها، فإذا فيها: «أمر ببنائه عمرو بن العاص بأمر أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان.» هو يرجع إذن إلى ثلاثمائة وألف سنة خلت، لم يكن بناة الأهرام وحدهم إذن هم الذين عرفوا العظيم والضخم في العمارة، بل عرف أبناء بلاد العرب من ذلك ما عرف قدماء المصريين، فأقام أهل الطائف هذا السد كما أُقِيم سد مَأرب في بلاد اليمن، وأقيم هذا السد في مسيل الوادي بين الجبلين كما أقيم سد مأرب لينتفع الناس بالمياه ولا يدعوها تذهب هدرًا، كانت الغايات الاقتصادية والعمرانية هي التي أدت إلى إقامة هذا السد إذن كما أدت إلى إقامة سد مأرب، وهذه الغايات هي التي دعت بُناته ليقيموه بالقوة والمتانة التي أقاموه بها من أحجار ضخمة يمسكها المِلَاطُ القوي على مجابهة الزمان، لا بد إذن أن قد كان في هذه البادية من أسباب العمران ما لا نرى له اليوم أثرًا، ولا بد أن قد كان العرب في صدر الإسلام ينعمون بحضارة ننكرها اليوم عليهم؛ لأن أبناءهم أنكروها عليهم بإهمالهم إياها، بل أراني أميل إلى الظن بأن هذه الحضارة كانت قائمة ينعم بها أهل هذه البلاد قبل الإسلام، وأن الدين القَيِّم قد نزل على قوم لهم من الحضارة هذا الحظ الأوفى.
وأدليتُ بما جال بخاطري من ذلك، فذكر السيد صالح القزاز: أن هذا السد أضخم سدود الطائف المعروفة، لكن بالطائف سبعين سدًّا غيره، ومنها ما يكاد يُدانيه ضخامة وعظمة، من ذلك سد واقع في حِمَى سَيْسَد المعروف بشرق الطائف، يقال: إن يزيد بن معاوية هو الذي أمر ببنائه، وآخر واقع بوادي ثنية بين الطائف ووادي مِحْرِم، وهذه السدود جميعها مخرَّبة منذ أزمان بعيدة لا يعرف أحد من أبناء هذا الجيل عنها شيئًا، ولم يخامرني ريب في أن تخريب هذه السدود هو الذي هوى بالطائف إلى حيث هي اليوم بعد أن كانت مضرب المثل في الخصب والمنعة، فقد كانت هذه السدود جميعًا خزانات تحجز مياه المطر لفائدة الزراعة، فكانت المساحات الواسعة تستغل مزارع للحنطة والغلال والفاكهة وما إليها مما ترويه الكتب عن ثروة الطائف وعن مكانتها الاقتصادية، وكان ذلك سببًا في العمران وانتشار السكان في هذه الأودية الكثيرة التي مررنا والتي لم نمر بها، أما اليوم فأنت لا ترى في هذه الأودية أثرًا ظاهرًا للعمران، وما يذكرونه عن ثمالة وصخر وثقيف وهذيل وأفخاذها وبطونها لا يزيد على أسماء تحيي في النفس ذكريات تاريخية ترجع إلى أيام الإسلام الأولى، وترجع إلى ما قبل الإسلام، فإذا أردنا أن نلتمسها اليوم لم نجد إلا نجوعًا منثورة ها هنا وهناك يقيم فيها من الأعراب مَن لا يزيدون عن البدو الرُّحَّل رُقيًّا ولا تحضُّرًا، ومن جَنَوْا بتأخرهم على ما كان لهذه الحضارة الزاهرة في صدر الإسلام من مكانة لا ينكرها أحد.
وأردف السيد صالح: ولم تكن مياه هذه السدود مقصورة فائدتها على إمداد الزراعة المتصلة بها، بل كان لها فائدة أخرى لا تقل عن حجز الماء وقد تربو عليه؛ ذلك أنها ترفع ماء العيون والآبار في المناطق التي لا تصلها مياه السدود، فتجعل الري من هذه الآبار والعيون هينًا ميسورًا، والعمران يزدهر حيثما وجد الماء فجعل كل ما حوله حيًّا؛ لذلك كانت بادية الطائف عامرة كلها، وكانت الدور والقصور في هذه الأماكن التي نسمع اليوم أسماءها ولا نجد لها أثرًا، وسترى مصداق ذلك اليوم حين نذهب إلى الهَدَّة، وغدًا حين نذهب إلى الشَّفَا؛ إذ نسمع أسماء وردت في الشعر القديم على أنها موضع حضارة وأماكن عمران، وهي اليوم بادية ممتدة أمام النظر ليس فيها أثر لحضارة أو عمران، إلا ما يكون من رسم دارسٍ يثير بقاؤه في النفس الأسى وفي القلب الحسرة.
علَوْنا مزرعة الحنطة إلى الطريق لنستقل السيارة عائدين إلى الطائف في طريقنا إلى الهَدَّة، ووقفنا إلى جانب السد ريثما يجتمع رفاقنا، وسألني صاحبي عن هذا السد ورأيي فيه، وسألته بدوري عن صحة اسمه: أهو السد السَّمَلَّجيُّ أم السد السَّمَلَّقي؟ فهم ينطقونه جيمًا كجيم أهل القاهرة، وقافًا كقاف أهل الريف في مصر؛ وكنت أميل إلى الظن بأنه السملقي، لا أدري لمَ؟ واختلف القوم وأصَرَّ أكثرهم على أنه السملجي واحتجوا بمقال نشره الأستاذ إبراهيم مصطفى أحد أساتذة كلية الآداب بالجامعة المصرية، وكان قد جاء إلى هذه المنطقة وزار هذا السد، وقال صاحبي حسمًا للخلاف: ليكن هذا أو ذاك فله اسمان آخران لا خلاف عليهما: سد ثُمالة، وسد بني هلال، ولقد أعجبني هذا الرأي وصرفني عن الإمعان في تحقيق اللفظ ما عسى أن يكون الوجه الصحيح فيه.
وانطلقت بنا السيارة نحو الطائف سالكة طرقًا أكثر يسرًا من الطريق الذي جاءت فيه، ورأى أصحابنا طمأنينة السائق في مجلسه؛ فسأله أحدهم: أكان قد ضلَّ فلم يسلك هذا الدرب المعبَّد، أم أنه شبع بعد تناول إفطاره فقويت ذاكرته فسلك السبيل السويَّ؟ ولم يغضب الرجل ولم تغلبه حدَّته، وفيم الغضب وكل شيء مُيَسَّرٌ أمامه؟! وبلغ الطائف ووقف عند مخزن البنزين فأخذ صفيحة وأفرغ في السيارة أخرى وعاود انطلاقه لنبلغ الهَدَّة قبل الظهر.
واتجهنا غرب الطائف في أودية جرداء حينًا ومزدانة بالشجر النامي الذي يبعث فيه روح الحياة حينًا آخر، وكان وادي مسرَّة أدنى الأودية إلى الطائف من هذه الناحية، وهو يقع على مقربة من بستان الشريف الشهيد ابن عون الذي يعرف اليوم باسم «مِعَشِّي» على قول صاحبي، ولقد جاوزته السيارة إلى ما بعده من أودية وهي ترتفع على هضابها حينًا، وتهوي إلى بطونها آخر، مطمئنًّا سائقها إلى الطريق سلكه قبل اليوم غير مرة، وبعد ساعة ونصف ساعة من الطائف انفسح أمامنا سهل يجاور جبلًا رفيع الذُّرَا، أما السهل فوادي مِحْرِم الذي كان يعرف أيام السلف باسم قَرْن المنازل، وأما الجبل فهو الهَدَّة المتصل بجبل كَرَاء.
ووادي مِحْرِم — أو قَرْن المنازل إن شئت — مفرق طرق تصل بين بادية الطائف ومكة، ولاثنين من هذه الطرق شهرة، يتجه أحدهما من وادي محرم إلى حِمَى النمور فالثنية المقابلة للشرائع فمكة، ويتجه الآخر صاعدًا من وادي محرم خلال النقب الأحمر إلى الهَدَّة، والهَدَّة: سطح جبل كَرَاء، ومن هذا السطح ينحدر الإنسان إلى جبل كراء المتصل بشدَّاد فخريق نَعْمان فعرفات فمكة، وهذا الطريق هو الذي سلكه الرسول — عليه السلام — حين جاء من مكة إلى الطائف قبيل الهجرة، والطريق الأول هو الذي سلكه في العودة من الطائف إلى مكة بعد أن ردَّه أهلها وآذّوْه، وهذان الطريقان ما يزالان مسلوكين إلى اليوم للسائرين على أقدامهم وللممتطين الزَّوامل التي مُرِّنَت على تسلق الجبال؛ فهما أقصر من طريق الشرائع فالزَّيْمة فالسيل الكبير بمراحل، وأهل البادية أشد مَيلًا لاتباع الطريق الموجز وإنْ شقَّ السير فيه، وليس يدفعهم إلى ذلك حرصهم على الوقت وكسبه، أو تقديرهم أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، بل يدفعهم إليه مَيْلٌ طبيعي إلى المجهود الأقلِّ، ومشقة الطريق لا قيمة لها عندهم ما يسَّر قصره للإنسان أن ينال بعده راحة كاملة تعوِّضه عن كل جهد ومشقة.
وتقع الدار البيضاء بأسفل وادي مِحْرِم، وحَذَارِ أن يثير اسم الدار البيضاء في نفسك ما أثاره في نفسي من صورة البيت الذي أنشأه الأمريكيون لمقام رئيس الولايات المتحدة بواشنجتن! فلقد خُدِعت حين سمعت هذا الاسم وجعلت، إذ وصلنا وادي محرم، أدير بصري يمنة ويسرة أريد أن أرى هذه الدار البيضاء أين هي؟ فيرتد إليَّ البصر ولم تأخذ به دار بيضاء ولا دار حمراء، وإنما كان أكثر ترددي في السؤال عنها مخافة أن أثير الإشفاق في نفس أصحابي كيف لا أرى هذا القصر المنيف يخِرُّ دونه قصر الرئيس الأمريكي ساجدًّا؟! فلما جازفت بكل جرأتي وسألت القوم، إذا الدار البيضاء قرية من قرى البادية قامت بها بعض منازل صغيرة حقيرة، وإذا أنا الذي يثور عجبي بل إشفاقي ذهبت ألتمس للقوم عذرًا عن هذه التسمية الفخمة للعزبة الحقيرة، إنها ربما كانت دارًا بيضاء ذات بهاء وجلال في الماضي؛ فلما هَوَتْ إلى حيث هي اليوم بقي لها هذا الاسم الذي لا يتناسب معها، كما تبقى لأشخاص ضعاف ضئيلة في الحياة قيمتهم هيِّن بين الناس قدرهم، أسماء أجداد اهتزت بأسمائهم عصورهم؛ فلما ثَوَى الأجداد في الثرى وأورثوا أسماءهم مَن بعدهم عَبِثَتْ يد الزمن بالأسماء لعبثها بوارثيها.
ووقفنا هنيهة ننتظر المطيَّ التي تصعد بنا خلال النقب الأحمر إلى الهَدَّة، وأقبل فتيان من البدو تسبقهم حُمُر تلهث مسرعة كأنها مستنفرة فرَّت من قَسْورة، ووقف الفتيان الحمر على مقربة منا، واختار أصحابي أحدها لركوبي، ولم أعرف لاختيارهم سرًّا؛ فبين الحمر وبراذعها من الشبه ما يثبت اليقين بديمقراطية الحمر في البادية كديمقراطية كل شيء فيها، على أني شكرت للقوم حسن الاختيار، وعلوتُ مطيتي كما عَلَوْا مطيهم، وانطلقنا نُغِذُّ السير في طريق لا عِوَجَ فيه ولا أَمْتَ، وخُيِّل إليَّ أننا سنصعد كذلك في هُون حتى نبلغ غايتنا، وما راعني إلا الجبل انبعث صُعدًا في السماء أمامنا، ولم يدع لنا طريقًا نسلكه إلا نقبًا أحمر يتلَوَّى صاعدًا مع الجبل بين صخور كأنما صهرت في أتُونٍ خلع عليها لونَ النار، ووقفت المطيُّ أمام هذا النقب وألقت برءوسها وآذانها إلى الأرض وفحصت بأرجلها الصخر تبلو متانته، ثم تقدمت في حذر تصعد الجبل، تضعُ رِجْلًا فوق صخرة وتنقل الثانية إلى ما يليها، وتقف هنيهة حتى تتثبت من موقفها، ثم تنقل رجلها كَرَّة أخرى ممعنة في الصعود، وأمسكتُ أنفاسي وأمسك القوم أنفاسهم، ورفعت طرفي في لمح البصر إلى أعلى الجبل ورددته إلى موضع الخَطو لهذا الحمار المختار الذي أركبه، وفي هذه اللحظات الأولى القليلة القصيرة مرة بنفسي مئات الخواطر، وإني لكذلك إذ زلفتْ رِجْلُ حماري على صخر فاستردها مسرعًا، عندئذٍ دعوت الفتى البدوي صاحب هذا الحمار فاستوقف دابته واعتمدت على كتفه ونزلت فوق صخرة وتركت الحمار يتابع تصعيده.
قال أصحابي: «ما لك؟! وممَّ تخاف؟ …» قلت: «أوثر أن أصعد هذا الجبل على قدمي كما صعدت حراء وثورًا، وما أحسبه أكثر ارتفاعًا من أيهما.» قالوا: «لا تخف! فهذه الحمر قد مرنت على صعود الجبل مرانة البدو، ونحن معك، يسبقك بعضنا ويلحقك بعض.» قلت: «لئن كانت الحمر قد مرنت على الصعود لقد مرنت أقدامي كذلك عليه، لكن فاتتني هذه المرانة في الصعود على ظهور الدواب.» وذكرت لهم كيف صعدت أرز لبنان في سنة ١٩٢٤، ولما تكن طريق السيارات قد مهدت له، ثم أردفت: «ولقد امتطيت يومئذٍ حمارًا كهذا الذي تفضلتم باختياره لركوبي فإذا هو لا يطيب له السير إلا على حافة الجبل وحافة الهاوية، حتى لقد كان يُخيل إليَّ في كل لحظة أني على شفا جُرُف هارٍ؛ وذلك شأن الحمر جميعًا، وهو شأنها اليوم، وسيظل شأنها أبد الآبدين ودهر الداهرين؛ وقد مضت اثنتا عشرة سنة من ذلك اليوم وأنا مع ذلك لا أنساه، وما أحسبني بعد هذا الزمن كله في مثل ما كنت فيه من نشاط الشباب وإقدامه، مع ذلك كنت يوم ذاك ممسكًا قلبي بيدي حذر الموت، وأين لي اليوم هذا القلب وتلك اليد التي كانت تمسكه؟! فبالله عليكم إلا ما تركتموني أصعد راجلًا، فمشقة الأقدام والسير أهون من مشقة الأعصاب وخفق الفؤاد.»
وابتسم السيد صالح القزاز لروايتي وترجَّل عن حماره ولحق بي وقال: «إذن نصعد راجلين معًا، وإن كنتُ لا أشاركك في مخاوفك.» وقال البدوي صاحب الحمار الذي أركبه: «جُعِلْتُ فداك لا تَخَفْ، فهذا الحمار أبرُّ بي وبراكبه من أن يُحْدِث أمرًا، والأمر بعدُ لله، والله معنا.» وترجَّل صاحبي وجاء هو كذلك إلينا يسير معنا، فقافلة الحمر لا تقف أثناء الصعود إلا كارهة، ولقد رأيتها تتخطَّى أمامي من صخرة إلى صخرة في حذر ليس كمثله حذر، ورأيتني تنزلق قدمي فوق الصخور حيث لا تنزلق حوافرها، وسمعت كأن هاتفًا يهتف في أطواء قلبي: «لم تخاف ولكل أجلٍ كتاب؟! ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا!» والأمر بعدُ أهون من أن أجعله موضع رجاء أصحابي، والتماس البدوي صاحب الحمار، ودقة الملاحظة لخَطْوِ الحُمر، وهذه الفلسفة الجبرية التي بدأت تهتف بي، على أني مع ذلك آثرتُ أن أجعل عَوْدي إلى امتطاء الدابة نزولًا مني على إرادة صاحبها، ووقَّف الرجل الحمار في بطن النَّقب، وعلوتُ صخرةً استويت منها إلى مركبي، وعادت القافلة تسير في نظام مطمئن.
وازددنا طمأنينة بعد ربع ساعة من مسيرنا، فقد استوى الجبل في صعوده واستوى النقب طريقًا تجري الدواب فيه جريها في السهل، لا تخاف شيئًا ولا تخشى، وظللنا كذلك فترة نسينا أثناءها ما استولى علينا من الصمت في الفترة الأولى؛ فهذا يقص أنباء كراء، وذاك يقص أنباء كُرٍّ، وثالث يتحدث عن الصخرة الضخمة على سطح الهَدَّة وما عليها من كتابة ونقوش، وآخر عن البركة الواقعة على منحدر كراء إلى الكُرِّ، ويشترك البدو أصحاب الدواب في هذا الحديث بما يعرفونه من أنباء هذه الأماكن، وإنَّا لفي مرحنا وفي قصصنا إذ آنَ للجبل أن يعتدل عموديًّا في ارتفاعه، وللنقب أن يعود شاقًّا مخوفًا، وآنَ لنا أن نستأنف الصمت الأول، وأن نشد أبصارنا إلى مواقع الخطو من هذه الدواب الحذِرة المجازفة، ويقوِّس الحمار ظهره إذ يعلو بقدميه الأماميتين صخرة نابية في نتوئها، ويبلغ من تقوسه أن يكاد الإنسان ينزلق هاويًا وراء ذنبه لولا أن يشد اللجام بيدٍ ويمسك البرذعة بالأخرى، ويخفق القلب لهذه الحركات «البهلوانية» المتئدة خفقًا شديدًا، وتتمتم الشفاه بعبارات الاستعانة بستر الله في همس لا تسمعه إلا أذن قائله، بل تتخيله هذه الأذن تخيلًا.
ماذا عساي أصنع؟! أأترجل عن دابتي كَرَّة أخرى أم أبقى متسنمًا ظهرها ويفعل الله ما يشاء؟! تُرى كم بقي إلى غايتنا، ليكن ذلك بضعة أمتار، فالسقوط عن الدابة ودقُّ الرقبة يتمان فيما دون الثانية الواحدة، وإذا ترجَّلتُ وعاد القوم يخاطبونني ويشجعونني وعاد البدوي صاحب الحمار يرجوني فيا خَجَلا! فإن لم يكن بعد ذلك بُدٌّ من أن أستجيب لرجائهم فخير ألَّا أترجل أو أحدث في القافلة ما لا مفر أن يحدث من هَرج ونحن في هذا المضيق الدقيق، ويستدير الحمار فوق صخرة يقف عليها بأربعه، وأكاد أراني هاويًا متدحرجًا على الصخور إلى رحمة الله، فيثب قلبي في صدري ويتعطل كل تفكيري وأشير إلى البدوي السائق ليدنو مني فأعتمد عليه وأهبط عن الدابة في صمت، وأسير بضعة أمتار على قدميَّ لا أحدث أثناء ذلك ضجة ولا جلبة، ولا يكاد يفطن أحد ممن معي لما فعلت، ويسبقنا الحمار ويسير البدوي إلى جانبي، ثم يشير إليَّ بعد قليل أنَّا صرنا على مقربة من القمة، وأن الطريق استقام أو كاد، وأني أستطيع في غير خوف أن أعود فأمتطي دابته، ويمسكها وأعلوها، وتسير في طريق ما يزال وعرًا كما كان، لكنني كدت آلفه، ووعورته للسائر على القدم ليست دون خطره على ممتطي الدابة، فأنت منه بين أمرين أحلاهما مُرٌّ؛ وأنا أُدَاوِل بين الأمرين دراكًا وما دمنا قاربنا الغاية فلأن أبلغها فارسًا مع السادة خير من أبلغها ماشيًا مع قادة الدواب.
وكنا على رأس النقب حين بدت لنا دار حمراء لم أدرِ أبُنيت من الآجُرِّ أم من أحجار هذا النقب، دار قائمة في عُزلة الصومعة شُيدت على قمة عالية، وعلى صورة البرج، كيف الطريق إليها؟! انقطع النقب واستدارت الحمر على سطح للجبل مخضرٍّ تجري خلاله طرق ملتوية في تصعيدها، حيل بينها وبين خضرة الزرع بأحجار رصفتها أيدٍ حريصة على هذا الزرع حذر أن تدوسه أقدام المشاة أو حوافر الدواب وأخفافها، وتلوَّت قافلتنا في هذه الطرق تسير صعدًا نحو الدار في طمأنينة من أدرك غايته، قال صاحبي وهو يتبعني على أتانه حتى يكاد رأس الأتان يمس ساقي: «هذه الهَدَّة هي السطح من جبل كَرَاء، وهي ترتفع عن الطائف بستمائة متر، وعن سطح البحر بمائتين وألفين من الأمتار، أو ترى هذا الجبل المصعدة قمته في الجو هناك في الناحية الجنوبية؟ إنه جبل سِفَار، وهو أعلى قمة في هذه الناحية من جبال الطائف، ويبلغ ارتفاعه عن سطح الهَدَّة خمسين ومائتي مترًا، والبدو يرون البحر منه عند منحنى الليث الواقع على مقربة من جدة، وهم يرونه ساعة مغيب الشمس إذا كان الجو صفْوًّا فلم يحل دون امتداد البصر إلى غاية الأفق حائل.»
وكان الجو في هذه الساعة رقيقًا صفوًا من كل شائبة، وكان هواء الجبل صحيحًا منعشًا يبعث إلى النفس الغبطة وإلى القلب المسرة، وكانت الشمس ترسل أشعتها المحسنة تحيي بها الكون وتفيض منها الدفء والنور، فتزيد النفوس غبطة والقلوب مسرَّة، وكان زملاؤنا جميعًا فرحين أن بلغنا الغاية بعد ساعات تنقلنا أثناءها من الطائف إلى سد ثمالة، فإلى الطائف كرَّة أخرى، فإلى هذا المكان الذي بلغناه بعد جهد ومشقة، لعلي كنت أكثرهم اغتباطًا ومرحًا، فهذا كله جديد في حياتي وهو متداول في حياتهم، فإن لم يكن بعض ما يزاولونه كل يوم فهو بعض ما يتعرضون له الفَيْنَة بعد الفَيْنَة، ومنهم من تكاد تكون هذه المشقة بعض حياته، كالشريف حمزة الغالبي، وربما كان فرح هذا الرجل أن بلغ بنا ما نبغي، وأن حدثنا عن كثير مما أريد أن أسمع عنه، أعظم من فرحه لمرأى دار مضيفنا في الهَدَّة، ولقد رأيت السرور يلمع في عينيه ونحن نترجل عند دار هذا المضيف وهو يسألني في شوقِ مَن يريد أن يطمئن: «لعلك لم يبلغ منك التعب؟»
ودلفنا إلى بيت مضيفنا محمود المغربي، فدخلنا بابًا وارتقينا درجًا وأوينا إلى غرفة أذكرتني بداوتها وسذاجتها منازل العِزَب في مصر، ولقِيَنَا أهل الدار مؤهِّلين فرحين، ودخل بعضهم معنا الغرفة الخالية، وجاء أحدهم بحصير من هنا وآخر بسجادة من نسج أيديهم من ها هنا، وفرشوا ما استطاعوا فرشه من جوانب الغرفة، ثم جاءوا بوسادتين أتكئ عليهما مبالغة في إكرامي، وأعدَّ لنا القوم الغال — وهو طعام «التصبيرة» كما أسلفت — بيضًا وخبزًا وتمرًا، وقام ربُّ الدار على قدميه عند الباب لا يتناول معنا طعامًا ولا يلقي إلينا نظرة، وكل همِّه أن يجيء بالماء للظامئين، وسمعته يتحدث إلى أهله.
جُزيتَ يا مستر فلبي! أهذه اللغة العربية الفصحى الصميمة التي هديتني إلى موطنها؟! إنها لهجة لا أكاد أفهمها إلَّا كما أفهم أهل لبنان أو أهل المغرب إذ يتحدث بعضهم إلى بعض، يرحم الله شعراء ثقيف وخطباءها! ويرحم الله الحجاج بن يوسف الثقفي يوم قال:
ورحم الله أُمية بن أبي الصَّلْت الثقفي في الجاهلية! ورحم الله المغيرة بن شعبة، وغَيْلان بن سَلَمة، وعروة بن مسعود، والفَارِعة بنت أبي الصَّلت وغيرهم وغيرها من رجال ثقيف ونسائها الشعراء والحكماء، أين شعر هؤلاء وأين حكمتهم؟ وأين هم من أولئك الذين أرى اليوم فلا أكاد أستبين لهم حديثًا أو أفهم لهم قولًا؟! وأسأل السيد صالح القزاز في ذلك فيذكر لي أنه الجهل المطبق الذي خيم على البلاد أجيالًا بل قرونًا، والذي ألِفه الناس حتى ما يفهمون غيره، فإذا أنشأت لهم الحكومة الفاتحة اليوم مكاتب للتعليم تَلَكَّئُوا في الإقبال عليها واعتبروها عدوًّا لهم أي عدو، هذا على شعورهم بالحاجة إلى المعرفة بعد إذ رأوا السيارة والبرق، وأيقنوا أن الحياة في عصرنا الحديث بغير علم مستحيلة، وأن الجهل والبهيمية فيها سواء.
خرجنا بعد «الغال» من دار مضيفنا ندور في الهَدَّة من سطح كراء، وأطلقنا للدواب أزمَّتها تجري مرسلة العنان لا تخاف وَعْرًا ولا وَعْثًا، ويدفعها أصحابها البدو الفرحون بجريها إلى مزيد منه، فهي تستبق ما انفسح الطريق أمامها، فإذا قام النبات عن جانبيها وضاق الطريق سارت بعضها في أثر بعض، ونبات الحنطة المزروع في هذا السطح من الجبل لا تجاوز مساحته المنثورة ها هنا وهناك بضعة الأفدنة لكل قطعة منها، وهي تقع أغلبها في حضن سفح أو على رأس هاوية، فأما ما وراء ذلك من سطح الجبل فخلاء منثورة فيه الأحجار المتباينة الأشكال والأحجام، وقد مررنا بحجر ضخم قائم في الفلاة يكاد ارتفاعه يبلغ ثلاثة الأمتار أو يزيد عليها، فذكرت لمرآه أحجار الهرم الأكبر بالجيزة، وإن لم يهذب ولم يسوَّ ما هُذِّبت وسُوِّيَتْ، ووقف أصحابي أمام هذا الحجر فإذا عليه كتابة ونقوش، حاولوا قراءة ما يمكن قراءته منها، وحاولوا أن يردوه إلى عصور قديمة ترجع إلى صدر الإسلام وإلى ما قبل الإسلام، قال صاحبي وهو يحاورهم: «أَوَتحسبون صخرة كهذه الصخرة معرضة للريح والمطر تحتفظ ألوف السنين أو مئاتها بكتابة لم يعمق صاحبها نقرها؟! لشد ما تغلون! وإني لأظنكم تحرصون في غير موضع للحرص أن تخلقوا تاريخًا منقوشًا على صخور هذه الأماكن الغنية بما وعت من عهد الرسول فأغناها عن كل نقش، وحسب هذا المكان فخارًا أنه — عليه السلام — مرَّ به في مجيئه من مكة إلى الطائف يستنصر أهلها، فأما ما ترونه منقوشًا على هذه الصخرة أو غيرها من الصخور فلا أحسبه يشفي غُلَّة أو يروي ظمأ، وإن ألفى الذين يحلون طَلاسِمَه تاريخ البشر مطويًّا في ألفاظه.»
كانت غايتنا من سيرنا أن نبلغ البِرْكة القائمة عند منحدر جبل كَرَاء إلى الكُرِّ، فمن هذه البركة يرى الإنسان الطريق إلى شدَّاد فوادي نَعْمَان فمكة، وهو الطريق الذي يسلكه المشاة وتسلكه الدواب بين مكة والطائف، وهو الطريق الأثري الذي سلكه الرسول من ستين وثلثمائة وألف سنة مضت، وهو هذا الطريق الذي نصح إليَّ الحاج عبد الله فلبي أن أسلكه لأسمع عربية البادية، أما ولم يتسنَّ لي أن أتعدى ما بعد وادي نَعمان يوم جئت إليه من مكة، فلأذهب إلى الكُرِّ من ناحية الطائف فأكون قد قطعت من هذا الطريق أكثره، وانطلقت الدواب بعد أن قرأ أصحابي ما استطاعوا وما لم يستطيعوا قراءته مما على الحجر الضخم حتى بلغت منحدر الطريق على سفوح كراء إلى البركة، هنالك عادتْ إلى مجازفتها وحذرها، ولم يطل بنا الطريق فيرتاع القلب من خشية الخطر والانزلاق، بل كنا عند البركة بعد دقائق من بدء المنحدر، وكان من البدو الذين معنا من سبقونا إليها ونادونا من عندها لنطمئن بندائهم إلى قِصَر الطريق ويُسره.
والبركة مربَّعة، بنيت بناء محكمًا، ومهد إليها انحدار الماء من الجبل في قُنِيٍّ أُحْسِنَ نظامها، كما نظم انحدار الماء منها ليظل ماؤها جاريًا ما نزلت السيول أو ذابت الثلوج، وشرب منها بعض رفقتنا تيمنًا وتبركًا، وأدرت المنظار المقرب فيما حولي، فألفيت انحدار السفح فيما دوننا وعرًا عموديًّا أو يكاد، فسألت أصحابي في صعوده؛ فابتسم أحدهم وقال: «إن من أهل شدَّاد الواقعة في السهل عند نهاية كُرٍّ من يطيب لهم المجيء إلى هنا ليشربوا القهوة، وليتحدثوا ولينعموا بهواء الجبل ما طاب لهم، وليعودوا بعد ذلك مغتبطين بنزهتهم لم يصبهم نَصَبٌ ولم يمسَسْهم تعب؛ وإنما تحسب أنت للأمر حسابه وترى فيه عُسرًا لأنك لم تتعوده، والحياة عادة، ولو كنت تصعد الجبل اليوم للمرة الأولى ولم تكن قد سبقت إلى صعود حراء وثور لوجدت من المشقة أضعاف ما تجد.»
وحقٌّ ما قال، وإني لأذكر يومًا من سنة ١٩١٠ كنت فيه بلُوسِرن من أعمال سويسرا، وقد قضيتُ الليل بفندق في قمة جبل الپيلات، فلما تنفس الفجر خرجت أشهد مشرق الشمس على قمم الجبال، فألفيتُ جماعةً من أهل الجبل في هذه المنطقة سبقوني وقد تسلقوا من أدنى السفح إلى أعلاه في بكرة الصبح خفافًا يتغنون أغاني الجبل ويتصايحون صيحاته، وهم في جَذَلٍ ومرح دونهما مرح الطير الطليق من عشه مع تباشير النور، وقديمًا ثقل هواء السهل على أهل الجبل، فكان تحنانهم إلى السفوح والقمم ينساب في شعرهم نغمات كتغريد الطير حين أوبته إلى عُشِّه وأفراخه.
وعدنا إلى منزل مضيفنا نتناول العقال، فألفيناه ثَرد الثريد وجعل عليه لحم الجَزور كله، وهيأ بذلك لنا طعامًا بدويًّا لذيذًا، ولم يشاركنا في العقال كما وقف ساعة الغال بعيدًا عنا يجيب مطالبنا ولا يلقي علينا نظره، ودارت القهوة بعد الطعام، ثم خرجنا فركبنا دوابنا ودُرْنا بها في أنحاء الجبل نستبق، وبدأت الشمس تميل نحو الغرب كل الميل، فعدنا إلى النقب الأحمر نهبط خلاله إلى وادي مِحْرِم، ولقد آثرت أن أقطع جانبًا من النقب على قدمي مخافة السقوط من فوق الدابة وهي تنحدر في حذرها ملقية إلى الأمام برأسها وبكل جسمها، فلما استوينا بعد ذلك في «البُكس» وأسرع يقطع بنا الطريق إلى الطائف تنفسنا الصُّعَداء، وقدرتُ صِدْقَ الدعوة التي يدعوها بنو وطننا للمسافر: «يكتب الله لك في كل خطوة ألف سلامة.»
قال صاحبي ونحن نتناول طعام العشاء: سنذهب صبح غد إلى الشَّفَا أرفع جبال الطائف، وهناك ترى البادية كما خُلقت لم يعْدُ عليها نظام ولم تعبث بها يد عابث، قلت: أوَعبثت يد النظام بالهَدَّة؟ وهل يرتفع الشفا عن كراء؟ وتبسم الشيخ صالح القزاز وقال: إنك سترى يوم غد ما يسرُّك، وستكون لك فرصة نادرة المثال في الموازنة بين بلادنا اليوم وما كانت عليه أيام الرسول وفي صدر الإسلام، وسترى في أعالي الجبال هناك من طبائع البداوة ما لم تره اليوم، وما هو خليق ببحثك ودرسك.
قلت: أوَنجد مكان اللَّات طاغية ثقيف في طريقنا إلى الشَّفَا؟
وأجاب السيد صالح: لا يعرف أحد اليوم أين كانت تقوم اللات؟ وكل ما يذكرونه أن الصنم مُسِخَ ونقل حجره أمام مسجد ابن عباس تدوسه أقدام الناس.
وذكرت لسماع هذا القول ما يذكره أهل مكة عن هُبَل، وأن حجره وضع أمام باب الصفا من أبواب المسجد لحرام ليدوسه الناس.
قال صاحبي: تلك كلها روايات لم يحفل التاريخ شيئًا منها ولم يذكرها مؤرخ جاد في كتاب من كتبه.
وقمنا صبح الغد نقصد الشفا، وأقلَّنا البُكس، وانطلقنا في طريق مستوية حتى حاذينا قرية المَثْنَاة، قال صاحبي: سألتني غير مرة عن المكان الذي لقي فيه الرسول عدَّاسًا النصرانيَّ وحرصتَ على أن تقف عنده، ففي المَثْنَاة مسجد سيدنا عدَّاس، قلت: أولا ننزل فنزوره؟! لكن الشيخ صالح آثر أن نرجئ هذه الزيارة إلى حين العودة من رحلتنا، وانطلقت السيارة متخطية وادي المَثْنَاة في أرض مطمئنة يدل ظاهرها على خصبها، وهي مع ذلك غامرة لا زرع فيها ولا نبات، وبلغنا زراعة مخضرة ونباتًا حسنًا، فقيل: هذه «الوَهْط»، ورأينا بساتين تسقى من عين تجاورها، وتقوم منازل على مقربة منها أدنى إلى أن تكون ضيعة صغيرة، يتعهد أهلها هذا الزرع القليل، قال الشيخ صالح: هذه الوَهْط التي لا تكاد تُغِلُّ اليوم شيئًا مذكورًا كانت في صدر الإسلام مضرب المثل في الخصب والنماء.
ذكروا أن عمرو بن العاص اشترى فيها أملاكًا أيام إمارته في عهد معاوية، وأن هذه الأملاك كانت تُغِلُّ من الكروم والنبيذ ما يتحدث الناس عنه، جاء معاوية من الشام يومًا ومرَّ بهذه النواحي، فلما كان على مقربة من الوَهْط رأى على البعد ما ظنه أحجارًا سوداء ناتئة في كثرةٍ نتوء الحرار في مدينة الرسول، فسأل: ما هذه الحِرار؟ وعلم أنها ليست حِرارًا وأنها خوابي النبيذ التي تُعصر فيها كروم ابن العاص، فلما توسط بساتين الوَهْط قال لعمرو مرة أخرى: لي عندك يا عمرو طَلِبةٌ لعلك لا تردها، قال عمرو: لك ذلك يا أمير المؤمنين، ولي عند أمير المؤمنين بعد ذلك طلبةٌ أرجو ألَّا يردها، ووعده معاوية ما أراد، فأما الذي طلبه معاوية إلى عمرو فأن يَهَبَه الوَهْط، قال عمرو: هي خالصة لأمير المؤمنين، وابتسم معاوية ثم قال: فَسَلْ يا عمرو ما بدا لك فأنت مجابٌ إليه، قال عمرو: أن ترد الوَهْط يا أمير المؤمنين.
وأردف الشيخ صالح: وسواء أصحت هذه القصة أم لم تصح فهي تدل على ما كان لهذه الأماكن القفرة اليوم من شهرة بخصبها وثمراتها، وتؤيد صحة رأيك في هذه البلاد، وأنها لم تعد إلى مكانتها في الحضارة والثروة منذ انتقل الملك إلى دمشق وبغداد والقاهرة.
ولعل الشيخ صالح القزاز لم يجزم بصحة الرواية التي حدَّث عنها لما تختلف عليه الكتب أكانت أملاك الطائف لعمرو بن العاص أم لابنه عبد الله، فقد ذكر صاحب لسان العرب ما نصه: «الوَهْط: مال كان لعمرو بن العاص، وقيل: كان لعبد الله بن عمرو بن العاص بالطائف، وقيل: الوَهْط: موضع، وقيل: قرية بالطائف.»
وجاوزنا الوَهْط إلى الوُهَيْط القريبة منها والتي تشاركها في أن أهلها من ثقيف، وبالوهيط بستان كبير للشريف عون الرفيق يكاد يكون خلاء من الزرع لولا شجرة كبيرة من شجرة «اليوكالبتس» كان عون الرفيق قد جاء بها إليه، وهو يُسقَى من عين جارية تنحدر إليها المياه من سفوح الجبال القائمة على مقربة من البستان، والتي تميز طبيعة الوهيط عن طبيعة الوَهْط السهلة الفسيحة الرحاب في جوانب الوادي.
وانطلقت السيارة في طريق يقع أسفل جبل بَرَدٍ ويدور معه حتى يبلغا الموضع الذي يصعد منه الصاعد إلى الشفا، ووقفنا في منتصف هذا الطريق عند صخرة تفصل بين قريش وهذيل وسفيان؛ سفيان في الشرق وهذيل في الجنوب وقريش في الغرب، ونزل إخواني وحاولوا قراءة ما على هذه الصخرة من آثار لم أُعنَ بمشاركتهم في قراءتها؛ لأنني لا أثق بقدمها؛ ولأنها إن تكن قديمة في حاجة إلى دراسة ليست في نطاق ما أقصد إليه من بحوثي، فلما رأى أصحابي انصرافي عن هذا الأثر عدنا إلى السير حتى بلغنا مكانًا انفسح فيه الوادي، هنالك نزلنا، فإذا الدواب في انتظارنا، على أننا رأينا على مقربة منا خلايا للنحل زرناها، فإذا هي تذكرني تربية النحل عندنا في أوائل هذا القرن المسيحي؛ ولعلها هي الطريقة التي كانت تتبع في تربيته منذ قرون ترجع إلى أوائل الدهر.
ركبنا الدواب وسرنا في دروب بدأت سهلة مريحة، ثم بلغ من وعثها ووعورتها أن صار النَّقب الأحمر جنة بالقياس إليها، وطال الطريق، وبعُدت الشُّقَّة، ونالني الجهد، وكدت أوقن أنَّا لن ندرك لهذا الجبل غاية، وكم مرة جال بخاطري أن ألوي عِنان دابتي لأعود من حيث أتيت لولا أن غلبني الحياء! ويترجَّل الشريف حمزة الغالبي عن دابته ويسير إلى جانبي يشجِّعني إذا استقام الطريق، ويعاونني في المنحدرات وفي المرتقيات المخوفة، ويحاول أن يُرَفِّه عني ويهدئ ثائرة أعصابي، والطريق يطول ويزداد وعورة، ولا أجد في كلمة من حمزة أملًا في قرب الغاية، فتعود إلى أعصابي ثورتها وأكاد أغالب حيائي وأتغلب عليه وأعود أدراجي، وهممت أن أفعل لولا أن أكد لي حمزة أن ما بقي من الطريق دون ما قطعناه منه بمراحل.
وانتهى بي الأمر أن استسلمت للأقدار، وآثرتُ أن أنعم حتى بالمشقة، وأن أجني منها خير ما فيها، وأن أنعم بهواء هذه الساعة فوق الجبل بلغ من الصفو والعذوبة ما لعله سرَّى عني وجعلني أستمتع بما حولي، وتكبَّدَت الشمس السماء، وأرسلت إلى الخليقة من باهر ضيائها ما زادني بما حولي متاعًا، ثم آنَ لحمزة أن يزفَّ إليَّ البشرى بأنَّا لم نضل الطريق وأنَّا أشرفنا على الغاية منه، وبعد نصف ساعة من ذلك تبدت لنا دار مُضيفنا عامر الريعي قائمة وحدها في هذا المنقطع من ظهر الجبل، ويقال مع ذلك: إنها بقرية خُماس من قرى الطلحات إحدى قبائل هذيل.
وتلقانا عامر وبنوه مُرَحِّبين، ودار بينهم وبين الشيخ صالح حديث سمعته ولم أفهم منه كلمة، وجلسنا في فناء الدار عند باب غرفة لعلها الوحيدة فيها، ثم انتقلنا إلى مخزن بعيد عنها بضعة أمتار، وهناك جيء لنا بالثريد صُبَّ عليه السمن بمقدار لم أستطع معه أن أتناول منه لقمة، ولم ينحر عامر جَزورًا؛ لأنا بلغنا داره بعد الظهيرة، وسنعود إلى الطائف قبل أن يُتاح للحم الجزور أن ينضج، واكتفيت لطعامي ببعض ما جئنا به من الفاكهة والحلوى، وجَمَعَ مَن شاء بين صلاة الظهر والعصر، ثم أقمنا هنيهة نستريح، وفيما نشرب القهوة أغمضت عيني ورحت أفكر فيما رأيت، فهذه البادية، التي جُسْتُ خلالها أمس واليوم، بادية الخصب غزيرة الماء بديعة الهواء في الصيف غير قارسة القُرِّ في الشتاء، ونحن الآن في شهر مارس والهواء فيها رقيق ينعش النفس ويبعث النشاط إلى الحواس كلها، وما رأيت بها من سدود ضخمة لحجز المياه كي ينتفع بها الزُّرَّاع وترتفع بها مياه الآبار يشهد بأن الذين عمروها وأنشئوا هذه السدود كانوا ذوي حضارة وفن يعرفان كيف يفيدان من خِصب الطبيعة وقوتها على الإثمار.
وتاريخ هذه البلاد وتراجم أبنائها الذين عاشوا في عصور مختلفة منذ صدر الإسلام إلى آخر عهد بني أمية يشهد بما كان لها من أدب رائع ومن فلسفة وشعر وحكمة، كما يدل على أنها أخرجت أولي مقدرة ودهاء في الحكم وسياسة الشعوب، فماذا دهاها اليوم فصارت إلى ما أرى من اضمحلال الثروة وتهدم المنشآت وجهل الناس وفساد الأمر فيها؟! كيف هوت من مرتبة الحضارة الرفيعة إلى هذه المراتب الأولى من البداوة، وكيف تعطل علمها وفنها فتحطمت فيها كل آثار العلم والفن؟! وكيف ذهبت لغتها العربية الصميمة الصحيحة وحلت محلها هذه الرطانة البدوية التي لا يصل بينها وبين العربية الأولى نسب؟!
ذهبت هذه الحضارة وذهب العلم والفن معها منذ تقلص السلطان من هذه البلاد، ومنذ هجرها أبناؤها ذوو السلطان إلى بلاد أخرى، فمن يوم انتقل الأمويون إلى دمشق، ومنذ استقر العباسيون ببغداد، والفاطميون بالقاهرة، حُكِمَ على هذه البلاد العربية بالاضمحلال والانحلال، أُغرقت أول عهد الأمويين بأموال الفتح، وفاتها من أول عهد الأمويين شرف الفتح وفخاره، ملك ثروتها أبناؤها العرب الذين ارتحلوا عنها وأقاموا بعواصم الإسلام دون تفكير في العودة إليها، وما يُغني المال إذا ذهب السلطان؟! وما يغني الماضي إذا تقلص ظل الحاضر؟! وكيف ينمو المال إذا غاب عنه رب المال؟! لذلك لم تلبث تلك البلاد التي كانت حاكمة فانقلبت محكومة، وكانت سيدة فصارت مسودة إلا قليلًا، حتى تقلص عنها ظل النعمة إلى غيرها، وحتى انتقلت منها العروبة إلى الشام وإلى العراق وإلى مصر، وبقيت لها البداوة الساذجة والأعرابية التي فقدت كل مقومات الحضر العربي.
ثم كان الانحلال الذي بدأ منذ الأيام الأخيرة من العهد العباسي، والذي نقل السلطان من يد العرب إلى يد الفُرْس والتُرْك والمماليك، هنالك انحلت اللغة وحلت محلها عُجمة نكراء كانت بلاد العرب أول من اصطلى بنارها، فلما آل الأمر إلى الأتراك العثمانيين لم يبق لبلاد العرب من المكانة إلا أنها موطن البلاد المقدسة ومكان بيت الله وقبر رسول الله؛ من ثم أصبحت أدنى في نظر الحاكمين إلى أن تكون بلادًا أثرية، فصار الرأي فيها أن تتجرد من زخرف الحياة كما يتجرد الحاج بيت الله من زينة هذه الحياة، بذلك غاضَتْ قوة الحياة في البلاد العربية جميعًا وأصبحت كلًّا على غيرها في كل مرافق الحياة، وما حاجة مَن أصبح كلًّا على غيره إلى السعي؟! وما حاجة من لا يسعى إلى العلم أو الفن أو الحضارة؟! وتعاقبت القرون ونفسية أهل هذه البلاد هذه النفسية، وروحهم هذا الروح، ونظرة المسلمين إليهم هذه النظرة، لا عجب وذلك شأنهم أن تتهدم السدود، وأن يغيض الماء، وأن يرحل عنهم العلم، وأن يعودوا إلى بداوة الجاهلية الأولى، لقد أَسِفْتُ واشتد أسفي لحال هذه البلاد، وما عسى أن يغني الأسف؟! هل تراه ينهض يومًا بأمة من ضعفها وانحلالها إلى مواطن البأس والقوة؟! إنما ينهض بالأمة صائح من أبنائها يحرك فيها معاني الإنسانية ويدفعها إلى الأمام تبتغي الكمال العقلي والكمال الروحي، أما وقد تحرك أبناء هذه البلاد يريدون الحياة مؤمنين بالله وبالروح وبالحق، فما أجدرهم أن يعودوا إلى الحياة وأن يُعيدوا مجد الأجداد!
آن لنا أن نعود أدراجنا، فامتطينا دوابنا وسِرْنا في الجبل نصعد حينًا وننحدر آخر، ونترجل عن ظهور المطي إذا اشتدت وعورة الطريق، وأدركنا سيارتنا وأهبنا بالسائق أن يسرع لنزور المَثْنَاة، وأسرع بنا السائق، وأدركنا المَثْنَاة والليل وَشِيك أن يمد على الوجود رِوَاقَه، وانحدرنا نتسلل خلال الأزقة نريد مسجد عدَّاس لنقف حيث وقف الرسول — عليه السلام — في ساعة من أدق ساعات حياته ورسالته، ولو أني لم أقف هذا الموقف ولم أدرك هذه الزيارة لخرجتُ من الطائف وكأن لم أحضر إليها ولم أقف بها، وما الطائف من غير زورة لمسجد عداس؟!
في المكان الذي يقوم هذا المسجد اليوم عليه وقف رسول الله بعد أن أخرجه أهل الطائف من ديارهم وقد أبوا نصرته وأغروا به سفهاءهم يسبونه ويلقون عليه الأحجار، لاجئًا إلى حائط عُتبة وشيبة ابني ربيعة يحتمي به من أذى هؤلاء السفهاء، وهناك جلس إلى ظل شجرة من عنبٍ يقلِّب كفيه ثم يرفع رأسه إلى السماء ضارعًا في شكاية وألم ويقول: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى مَن تَكِلُني؟! إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو مَلَّكته أمري؟! إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، لكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلَح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحلَّ عليَّ سخطك، لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.» ونظر إليه ابنا ربيعة وهو في هذه الحال وطال تحديقهما به، فتحركت نفساهما شفقةً عليه، فبعثا غلامهما النصراني عدَّاسًا إليه بقِطْف من عنب الحائط، وتناوله الرسول ووضع يده فيه وقال: «باسم الله» ثم أكل، ودَهِش عداس لما سمع وقال: هذا كلام لا يقوله أهل هذه البلاد، وعلم محمد أنه نصراني نِينَويٌّ فقال له: «أمِن قرية الرجل الصالح يونس بن مَتَّى؟» قال عدَّاس: وما يدريك ما يونس بن مَتَّى؟! قال محمد: «ذاك أخي كان نبيًّا وأنا نبي»، فأقبل عداس على محمد يُقَبِّل رأسه ويديه وقدميه.
وقام الرسول — عليه السلام — بعد أن طَعِم العنب واستراح فانصرف عنه عداس، فتوجه إلى مكة سالكًا طريق حِمَى النُّمور فوادي مِحْرِم فالثنية، لا أنيس له في طريقه غير إيمانه بالله وعياذه بنور وجهه الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا موقف من مواقف الرسول الكبرى، هو الموقف الذي سبق الهجرة وكان مقدمة بيعة العقبة ثم الاختفاء بغار ثور، والذي هيأ الله به للرسول وجهة الدعوة إلى دين الحق، فلئن أجارت الحبشة المسلمين حين لجئوا إليها، ولئن أسلم بمكة عدد عظيم له قُوَّتُه وله مَنَعَتُه، لقد جعل الله يثرب مدينة الرسول ولم يكتب لغيرها من بلاد العرب أن يسبقها إلى نصرته، فلن يكون الأنصار إلا أبناءها الذين يُؤْوُون رسول الله ويمهِّدون للفتح ولكمال دين الله وتمام نعمته، أما الطائف فستظل آية الله في الأرض أن الإيمان سبيلنا إلى الله لينصرنا، وإن ينصرنا الله فلا غالب لنا.
ما الطائف إذن من غير زَوْرَةٍ لمسجد عدَّاس؟! لقد كانت المَثْنَاة التي يقوم المسجد بها قطعة من الطائف في عهد النبي، وأكبر الظن أنها كانت بعض أطرافها، فقبلها انصرف صبيان الطائف عن محمد وانقطعوا عن إيذائه؛ وبها كانت بساتين الطائف وكرومها، أما اليوم فتقع المَثْنَاة من الطائف على نحو ثلاثة أميال إلى الجنوب الغربي، ولا تزال المياه جارية في أنحائها، ولا تزال بساتينها ذات بهاء ونضرة، والكثير من دورها تحيط به البساتين، ويُسقى معظمها من عين ينحدر ماؤها من جبل بَرَد من مساكن قريش، أيُّ قريش هذه؟! وما مبلغ صلتها بقريش مكة في عهد الرسول؟! هذا ما لم أقف على تحقيقه.
وقفت السيارة بنا في ميدان فسيح أمام دور المَثْنَاة، وانحدرنا نتسلل خلال الأزِقَّة نريد مسجد عدَّاس، وهي أزقة ضيقة بدت في هذه الساعة من مولِّيات النهار ومقْدم الليل موحشة على ضيقها، فلم يكن بها إنسان يؤنس وحشتها، ولولا البساتين المحيطة بها على الجانبين لبدت أشد وحشة، واستدرنا في هذه الأزقة غير مرة حتى بلغنا دارًا خُيِّل إلينا أن بها إنسًا، وسأل صاحبي مَن بها عن طريق المسجد، فتقدمنا صبي تخطى جدارًا فتبعناه، ثم استدار فإذا بنا أمام بناء ضيق، صورته صورة المساجد بمكة، ولكنه بالغ في الضيق حدًّا ضاق به الصدر حين علمنا أنه مسجد عدَّاس.
يا عجبًا! بل يا أسفًا! أيكون هذا الأثر الضئيل ما أقامه المسلمون ذكرًا لهذا الموقف العظيم الجليل؟! مسجد لم يُقمه مُقيمه ليَذْكُرَ المؤمنون اللهَ فيه، وإنما أقامه ذكرًا لتوجه الرسول إلى ربه بهذا الابتهال المضيء بنور الإيمان، والذي يملأ القلب جلالًا وروعة، أين هذا الأثر الصغير من هذا الدعاء المنير؟! ألا لو أن منارة ارتفعت ما ارتفعت إلى كبد السماء، وكانت كل جوانبها محاريب تمثل الركوع لله والسجود أمام وجهه لقصرت عن تمثيل هذا الموقف الفذِّ من مواقف الرسول، موقف السمو بالإيمان إلى حيث يتضاءل كل سمو، والإسلام لله إلى غاية حدود الإسلام، لكن، من ذا يقيم هذه المنارة؟! ومن ذا يصوِّر فيها هذه المحاريب؟! ومن ذا يفكر في أثر غير المنارة ومحاريبها يبعث في النفس صورة هذا الموقف وما له من عظمة وجلال، وقد خيَّم الجهل على المسلمين فانقلب الإسلام في نفوسهم إذعانًا لعباد الله، واتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، وآمنوا لمن لم يَتَّبِع دينهم، وجعلوا عبادتهم مظهرًا لأوضاع يتعصبون لها، وحقت عليهم كلمة الله — تعالى — في الأعراب: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ.
وأين الحائط الذي كان لعتبة وشيبة ابني ربيعة؟! أين هذا البستان الذي بعث الفَتَيَان منه بقِطْف العنب مع عدَّاس إلى النبي؟! سألت في هذا حين رأيت أمام المسجد مكانًا ضيقًا مُسَوَّرًا به زرع لم أتبيَّن في هذه الساعة من إقبال الليل ما هو؟ وقيل لي: إن البستان مملوك لرجل من أهل المَثْنَاة وإن كان فقيرًا، وكأنه بستان المسجد، وعجبت لهذا واشتد بي العجب، فإذا لم يكن هذا المكان وقفًا على تعبير الفقهاء، ومنفعة عامة على تعبير رجال القانون من أهل عصرنا، فأين يكون الوقف وأين تكون المنافع العامة؟!
وعُدنا إلى الأزقَّة وسرنا خلالها حتى كنا بظاهر المَثْنَاة في ناحيتها المقابلة للميدان حيث وقفت السيارة، وتخطينا سدودًا وقُنيًا تجري فيها المياه تسقي هذه البساتين والزروع، ودُرنا حول القرية حتى وقفنا عند مسجد الكُوع، وهو أفسح من مسجد عدَّاس رقعة، ويبدو خيرًا منه حظًّا عند الذين يتعهدونه، ولست أدري أيقيم أهل القرية فيه صلاتهم وهو على ما شهدت من ضيق؟ لكن الذي عرفته أنهم يعتبرونه مسجدًا مأثورًا؛ لأن النبي استراح عنده بعد مطاردة ثقيف إياه، ولعلهم يريدون أن ينحلوه هذه الصفة ليكون له ما لمسجد عدَّاس من مكانة، فكُتب السيرة كلها تقرر أن ثقيفًا أبَوْا نُصْرته وأغرَوْا به صبيانهم، وأنه فرَّ منهم حتى بلغ حائط ابني ربيعة فلجأ إليه واحتمى به، وهناك وافاه عدَّاس بالعنب، اللهم إلا أن يكون النبي وقف كرَّةً أخرى في هذا المكان، مكان مسجد الكوع قبالة جبل المدهُون، قبل أن يسلك طريقه إلى حِمَى النمور ووادي مِحْرم عائدًا إلى مكة، وهذا قول لم أقف عليه ولا أعتقد صحته، وأغلب الظن عندي أن ما يذكر عن مسجد الكوع لا يزيد من ناحية الثبوت العلمي على ما يذكر عن أكثر مساجد مكة.
وعدنا إلى الطائف وصاحبي يحاورني في مسجد الكوع، ويكاد يقرُّني على أن لا سند من التاريخ لما يذكر عنه، أما مسجد عداس فقد بقيت لديَّ منه صورة تبعث في النفس الألم، ولو أن لي من الأمر في هذه البلاد شيئًا لحققت بكل وسائل العلم هذا المكان الذي لقي عدَّاس النبي فيه، ولأقمتُ به أثرًا يفاخر أعظم الآثار على التاريخ، لكنما يكون ذلك بعد أن تصلح الطائف وباديتها، ويعود لها من العمران والحضارة ما كان لها في صدر الإسلام وفي عهده الأول، هنالك تقوم السدود ويجري الماء ويرتفع في الآبار ويعود الخصب ويكثر الثمر، وترجع هذه البلاد كما كانت جنة شبه جزيرة العرب، عند ذلك يُدرك القوم هذه المعاني الخالدة من مواقف الرسول الكريم وما لها من جلال وعظمة، وهنالك يقيمون لها من الآثار ما يتناسب يومئذٍ مع علمهم وحضارتهم من غير حاجة إلى من ينَبِّهُهم إلى هذا الواجب.
عدنا إلى الطائف وقد أخذ منا التعب كل مأْخذ، فتناولنا عشاءنا وأوينا إلى مضاجعنا على أن نبرح الطائف عائدين إلى مكة بكرة الغد، لكنا لن نعود إليها من الطريق الذي جئنا منه، فقد سمعت روايات كثيرة عن سوق عُكاظ والمكان الذي كان العرب يقيمونها فيه، وتذهب بعض هذه الروايات إلى أنها كانت تقام عند العُشَيْرة، فلنجعل طريقنا إلى العشيرة، ولنعد منها إلى ذات عِرْق فإلى السيل الكبير، فأكثر الرواة على أن عُكاظًا كانت بنخلة بين مكة والطائف، ونخلة هي السيل الكبير اليوم، ويزعم بعضهم أن آثارًا قديمة باقية على مقربة من هذا السيل تؤكد هذه الرواية، فلعلنا إن مررنا بالأماكن التي اختلفت الروايات أيها كان موضع عكاظ، أن نرجِّح روايةً في أمر هذه السوق وموضعها، ولئن لم يكن لدينا من أسباب التحقيق ومن فسحة الوقت ما يجعل ترجيحنا ذا قيمة من ناحية علمية، لقد يكون مع ذلك ذا فائدة عند من تُواتيهم فسحة الوقت وأسباب التحقيق بما لم تُوَاتِنا به.