طواف الوداع
أمَّا واليوم موعد الرحيل عن مكة فهلُمَّ إلى طواف الوداع، وخرجنا مع المطوِّف فطفنا ودعونا الله أن يغفر لنا، وأن يجعل لنا من العَوْد إلى البلد الأمين والطَّوْف ببيته المحرَّم قِسْمًا ونصيبًا، ومِلْتُ إلى حِجْر إسماعيل بعد تمام الطواف فصليت فيه، ثم صليت في مقام إبراهيم، وبعد أن أقمت زمنًا أدعو وأستغفر انتحيت ناحية الفيء، وأقمت أفكر في هذا الرحيل من مكة وأستذكر أيامي السعيدة بها، وأية سعادة كهذا النعيم الروحي الماثل في كل رحابها، يتضوَّع بأريجه هواؤها، وتتحدث عنه أنباء الماضي في تاريخها، وينشر البيت العتيق شذاه في كل أرجائها!
وصرف التفكير في هذه السعادة الروحية عني إحساسًا طالما دبَّ إلى نفسي كلما ودعت بلدًا احتواني وأنا في شك من العودة إليه، فقد كنت أشعر في مثل هذه المواقف بأن ما أفارقه ينهار بالنسبة لي في لُجَّة ما لا نرى ولا نحس إلا خيالًا وحدسًا، كما أشعر بأن ما مضى من حياتي إلى ساعة هذا الوداع ينهار في لجة الزمن الذي لا يذر العالم لحظة من غير مَوْر ولا تجدد، أما اليوم فكان إحساسي وتفكيري، وأنا بمجلسي من المسجد الحرام، بعيدين كل البعد عن معاني الانهيار وعن تصور الزمن لُجَّةً تبتلع الحياة والأحياء، لقد انبسط الزمن أمام بصيرتي وِحْدَةً جمعت الماضي والمستقبل، وانكشفت أمام الروح في بساطة دونها بساطة المكان ووِحْدَته، تدركها بل تراها إذا جلست في غرفة ضيقة للإذاعة اللاسلكية، تسمع فيها وتشهد منها عن طريق «التليفزيون» كل ما شئت أن تسمعه أو تشهده في أنحاء العالم المختلفة، ليس للزمن ولا للمكان إذن لُجَّة، بل روحنا هي هذه اللجة التي تسع الزمان كله والمكان كله، ما عرفنا أن نسمو بها فوق مادة الحياة الدنيا المحدودة بالزمان والمكان، وأين يتيسر للإنسان هذا السمو ما يتيسر له أمام البيت العتيق وفي هذا المسجد الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا؟!
في الحق أن ليس في العالم كله موقف يطوِّع للروح أن تسمو فوق حُجُب الزمان والمكان ما يطوعه لها هذا الموقف الذي أنا فيه، وليس ذلك لسر في الحجارة التي بُنِي البيت العتيق منها، فالحجارة مادة، والمادة تنهار وتتجدد، ولقد جُدِّد بناء هذا البيت غير مرة، إنما يطوع للروح هذا السمو فكرة التوحيد التي قام البيت رمزًا لها منذ رفع إبراهيم القواعد منه وإسماعيل، وفكرة التوحيد هي الحقيقة السامية، الحقيقة الأولى، الحقيقة التي تتفرع عنها كل الحقائق، والتي يهتدي بها العلم والفن، وتهتدي بها الحياة كلها إلى وجه الله الأكرم، يسبِّح له — جلَّ شأنه — مَن في السموات والأرض، لا إله إلا هو الكبير المتعالِ، نعم! فكرة التوحيد هي المركز الذي تنجذب إليه العوالم وسننها والكون وأطواره، والذي تتجه إليه ذرَّات هذا الوجود كلها مُسَبِّحة مُقَدِّسة، والفكرة روح وليست مادة، ومعنًى وليست جسدًا؛ وهي لذلك سامية في خلودها فوق المادة المصوَّرة والصورة المجسَّدة؛ ولذلك يبقى رمزها بيت الله العتيق لا تعدو عليه عادية، ولا يصرف الإنسان عنه صارف، وكيف تنصرف الإنسانية عنه وهو يمثل خير ما فيها وأسمى معانيها؟!
ولقد حاول غير واحد من أُولي البأس والسلطان في عصور مختلفة أن يصرفوا الناس عن هذا البيت فذهبت كل محاولاتهم هباء، ذلك بأن فكرة التوحيد تستقر في أعمق الروح الإنسانية وإن اختلفت مظاهر العقائد التي تدين بها جماعاتها، وهذه المحاولات إنما دفع إليها التنافس التماسًا للغلب المادي في الحياة الدنيا، والتوحيد لا يعرف التنافس ولا يرقى إليه الغلب؛ لأنه يسمو بطبعه فوق كل غلب، والتنافس على المادة من مظاهر هذه الحياة الدنيا وأعراضها الزائلة التي لا تتعلق الروح ولا الفكرة بها، بذلك بقي البيت العتيق رمز التوحيد، لم تعدُ على الحقيقة العليا التي يصوِّرها أوهام الحياة، ولم تُخْفِها الأكداس التي رَانَتْ عليها زمنًا حين كانت الوثنية الجاهلية صاحبة الغلب؛ لأنها تسمو على الزمن ولا تأبه لما يجيء وينقضي مما لا بقاء له؛ ولأنها أزلية خالدة، فرمزها باقٍ لذلك بقاء الخلود.
كان تُبَّع بن حَسَّان ملك ملوك حِمْيَر عائدًا من حربٍ شن غارتها على الأوس والخزرج بيثرب، فلما كان على مقربة من مكة حدثته نفسه بهدم الكعبة — وكان يهوديًّا — فمنعه مَن كان معه من أحبار اليهود أن يهدم بيت التوحيد، فكساه وعاد إلى بلاده.
وبَنَتْ غطفان في القرن الأول قبل الهجرة حَرَمًا كحرم مكة وحاولت أن تصرف العرب إليه، وبلغ ذلك ملكًا على العرب اسمه زُهَيْر بن حُباب فقال: «لا والله، لا يكون ذلك أبدًا وأنا حيٌّ.» واتبعه قومه حين قال لهم: «إن أعظم مأثُرة ندخرها عند العرب أن نمنع غطفان من غرضها.» وقَاتَل غطفان وظفر بهم وأبطل حرمهم.
فلما استقل أبرهةُ الأشرم قائد نجاشي الحبشة بأمر اليمن، سَوَّلت له نفسه أن يقيم بصنعاء بيتًا للنصرانية يصرف به العرب عن بيت مكة، وبنى القُلَّيْس بها وزخرفه وجلب إليه فاخر الأثاث، وظن أنه صارفٌ أهل مكة أنفسهم عن بيتها، فلما رأى العرب جميعًا لا يتجهون إلا إلى البيت العتيق، ورأى أهل اليمن يذرون القُلَّيْس ولا يعتبرون حجهم مقبولًا إلا بمكة، تهيأ للحرب في جيش من الحبشة تقدمه على فِيلٍ عظيم وسار يريد هدم الكعبة، وبلغ مكة وأنذر أهلها أن يُخَلُّوا بينه وبين البيت ليهدمه، وأخلى أهل مكة مدينتهم، وأصبح أبرهة يريد أن ينفذ عزمه، فإذا جيشه قد تفشَّاه مرض الجدريِّ وبدأ يفتك به فتكًا ذريعًا، وأصيب أبرهة بما أصيب به قومه، فعاد أدراجه إلى اليمن فزعًا؛ وبلغ صنعاء وقد تناثر جسمه من المرض ولم يقم إلا قليلًا حتى لحق بمن مات من جيشه؛ وصدقت كلمة عبد المطلب جد النبي: «إن للبيت ربًّا يحميه.»
ولقد فشت الدعوة القَرْمَطِيَّة بالعراق على عهد العباسيين، وجعل أصحابها يرمون بالكفر مَن لم يكن على مذهبهم في موالاة محمد بن الحنفية ابن علي بن أبي طالب، وكان أبو طاهر القرمطي أول من ظهر من هؤلاء الدعاة في أيام المُقْتَدِر العباسي، ولقد بنى أبو طاهر دارًا في هَجَر، من مدائن البحرين، سمَّاها دار الهجرة، وأراد أن ينقل الحج إليها، وكان يقصد الطرق المؤدية إلى مكة ويفتك بحجاج البيت الحرام، بل سارت عساكر القرامطة في جيش لَجِبٍ إلى مكة أيام الحج، ودخل أبو طاهر الحرم ووضع السيف على بغتة من الناس في الطائفين والعاكفين والرُّكَّع السُّجود، وقتل نحو ثلاثين ألفًا بمكة وشعابها، واقتلع باب الكعبة وجرَّده مما كان عليه من صفائح الذهب، بذلك دبَّ الرعب في القلوب، وصار الناس لا يجدون إلى الحج سبيلًا آمنًا فانقطعوا عنه؛ لكنهم لم ينصرفوا إلى دار هَجَر، فلما مات أبو طاهر ورأى قومه العبث في محاولته تحويل الحج عن الكعبة أعادوا الحجر الأسود إلى مكة، وكان أبو طاهر قد نزعه من الكعبة وأخذه معه، وعاد الحج إلى بيت الله كما كان.
ولما اهتم عبد الملك بن مروان بعمارة قبة الصخرة في جوار المسجد الأقصى، وبالغ في زخرفتها ظن بعضهم أنه يفعل ذلك ليصرف أهل مصر والشام إلى حج القبة والمسجد الأقصى، وذلك إذا تمت الغلبة لابن الزبير فردَّ المُلْك إلى الحجاز وإلى أهل بيت النبي، أما وقد تمت الغلبة لبني أمية وبقي الناس يحجون البيت العتيق، ويولون وجوههم شطره فالمسلمون في ريب مما نُسب إلى عبد الملك بن مروان من هذه المقاصد، وهم كذلك في ريب مما ظنه بعضهم من أن المنصور العباسي بنى القبة الخضراء إلى جوار قصر الذهب الذي شاده ببغداد، وأنه بالغ في زخرفتها ليولي الناس وجوههم شطرها؛ إذ لم يرد في التاريخ من أعماله ما يؤيد هذا الظن.
وإنما باء أبرهة ومن سبقه ومن لحقه بالإخفاق في مآربهم من صَرْف الناس عن بيت الله؛ لأنهم كانوا يرمون من ورائه إلى غاية سياسية، والغايات السياسية مَوقوتةٌ مصيرها إلى الزوال؛ وهي لذلك لا تستند إلى أساس ثابت في قرارة النفس الإنسانية، ولا تمثل المعنى الروحي ولا الحقيقة العليا التي يتعلق بها الفؤاد ويتوق إليها القلب، يستوي في ذلك قلب الساذج وقلب العليم، ونفْس الغَوِيِّ ونفس الطَّهُور، أما فكرة التوحيد التي يقوم هذا البيت العتيق رمزًا لها فهي الفكرة الخالدة المبرأة من الهوى، والتي تمثل الحقيقة في أسمى صورها؛ ولذلك تتحطم على جوانبها كل محاولة ترمي إلى إفسادها ثم يبقى رمزها خالدًا تتعلق به القلوب وتتوجه إليه الأبصار من أقطار الأرض جميعًا.
دار ذلك بخاطري وأنا بمجلسي من فَيء المسجد أرنو بعينين سعيدتين إلى هذه البنية التي رنا إليها خاتم الأنبياء والمرسلين، والتي رفع أبو الأنبياء خليل الله قواعدها، وانقطعتُ عن التفكير هنيهة كأنما كنت أهضمه أثناءها وأسيغه وأستمتع بجماله وسحره، وإني لكذلك إذ أشرق أمام بصيرتي نورٌ خلتهُ منبعثًا من هذه الكعبة المشرقة القائمة أمامي، وخلتني أقرأ خلال هذا النور وأحدث نفسي بما يلي: «الآن أدركت لماذا حرم الله مكة وجعلها مدينة السلام لا يحل فيها القتل والغزو والأسر، ولا يحل فيها سفك الدم ولا التعرض لصيدها أو نباتها أو حيوانها، وأدركت لماذا قال — عليه الصلاة والسلام — وهو يخطب الناس يوم الفتح: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام من حرام من حرام إلى يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا أو يعضد فيها شجرًا.» ذلك بأنها رمز التوحيد وبيتها هيكله، والتوحيد سلام لذاته، ولا سلام إلا أن يُجمع الناس على الإيمان به، فأما التعدد فتنافس ولو في الخير، والتنافس نضال، والنضال حرب.
فإذا جاز لبلد في العالم إذن أن يكون مدينة السلام فذلك مدينة التوحيد، بالتوحيد تتوجه الإنسانية كلها إلى وجه واحد، هو وجه الله — جلَّ شأنُه، فإذا صدَقت في توجهها إليه تحابَّ بنوها، وسَمَوْا بالحب فوق المنافسات، وما تجر إليه المنافسات من حقد وبغضاء وتحاسد، وبَرءُوا مما تدفع هذه العواطف الدنيا إليه من تنابز بالألقاب، وتكاثر بالأموال، وتسابق إلى الجاه والسلطان، وكيف يهوي إلى هذا الدرك من يبغي وجه الله وحده، ومن يجعل تقوى الواحد الأحد رداءه في أعماله وأقواله ودخائل نفسه؟! وكيف يهوي إلى هذا الدرك من يكمل إيمانه فيحب لأخيه ما يحب لنفسه، وكيف لا تسمو الإنسانية إلى مقام الحب والسلام إذا آمنت بالتوحيد وجعلته سُنتها، وجعلتْ بيت الله رمز التوحيد قبلتها؟! ألا ما أبلغ هذه العبارة التي يرددها الإنسان من أعماق قلبه أول ما يدخل الحرم ويستقبل الكعبة لطواف القدوم: «ربنا، منك السلام وإليك السلام، فحيِّنا ربنا بالسلام.» ما أبلغ هذه العبارة وما أعمق معناها وما أعظمها سموًّا لقوم يعقلون! اللهم هُداك خلْقك وزدني تثبيتًا وإيمانًا.»
وانطلقت أفكر بعد أن أتممتُ هذا الحديث النفسي: لقد أفضيتُ أول ما نزلت بالبلد الحرام إلى وزير المالية وإلى الملك ابن السعود برأيي أن تكون مكة مقرًّا لعصبة الأمم الإسلامية، وهذا واجب تقضي به حياة المسلمين في عالم اليوم، ولكن! ترى لو أن الإنسانية كلها التمست يومًا مقرًّا لعصبة الإسلام، أفتجد خيرًا من مكة بلدًا ليكون هذا المقر؟! لقد اختارت عصبة الأمم الأوروبية جنيف من أعمال سويسرا مقرًّا لها؛ لأن سويسرا محايدة، ولقد طمعت عصبة الأمم الأوروبية في أن تقر السلام فيما بينها عن طريق التفاهم في جنيف وإن لم تفز بإقرار السلام في ربوع العالم مما وراء أوروبا، إلا أن يهدد اضطراب السلام مصالح الأمم الأوروبية، ولقد بذلت الدول المشتركة في العصبة جهودًا كبيرة في سبيل السلام، فقررت وسائله في عهد العصبة وفي ميثاق التحكيم وفي محكمة العدل الدولية، وحاولت أن تجعل من التفاهم المشترك بينها جميعًا حينًا، ومن التفاهم الثنائي حينًا آخر، سببًا للاحتفاظ بالسلام، مع ذلك ذهبت جهودها هدرًا، وباءت من مقاصدها السلمية بالخيبة، وارتدت إلى سياسة التسلح والسلام المسلح، وإلى النظرية القائلة بأن الاستعداد للحرب يمنع الحرب.
ارتدت إلى هذه السياسة طوعًا أو كرهًا وهي تعلم أنها سياسة كاذبة خاطئة، فلماذا؟ لأن فكرة السلام ليست قائمة في أنفس بنيها وساستها على أساس من الإيمان بالسلام، وليست تصل السلام بمبدأ أسمى يكون من أمر الله وسُنته في الكون، ويجعل السلام غرض الإنسانية في توجهها إلى الكمال، إنما تحركت النفوس في أوروبا إلى السلام رهبًا من أهوال الحرب، وفزعًا مما تجني الحرب على المصالح المادية، اقتصادية ومالية، وأهوال الحرب تنسيها مُتع السِّلْم، وكما تجني الحرب على المنافع المادية فالحرب تحقق هذه المنافع وتشحذ النفوس إلى طلب المزيد منها، طبيعيٌّ إذن أن تخفق سياسة السلام إذا قامت على هذا الأساس، وإنما تنجح هذه السياسة وتستقر يوم تجمع الإنسانية على التوحيد ويكمل إيمانها به، ثم يكون الأساس لكمال هذا الإيمان أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يذكر الناس جميعًا أن سعادتهم في إيمانهم الحق بالله، وأن يكون ذكرهم هذه الحقيقة عن علم ويقين، لا عن ترويج ودعاية غايتهما تحكُّم طائفة في طائفة أو استعلاء قوم على آخرين.
يوم تُجمع الإنسانية على هذا مؤمنة بأنه من أمر الله، ويوم تئُوب به إلى الله من خطاياها، يومئذٍ تتم كلمة الله ويكون الدين كله لله، ويومئذٍ تكون مكة رمز التوحيد ومقام هيكله، مثابة الناس قاطبة من أمم الأرض جميعًا، فتكون بذلك مقر السلام المطمئن طمأنينة الإيمان، ومقر عصبة الأمم الإنسانية كلها.
تاقت نفسي حين بلغت من تفكيري هذا المبلغ أن أقوم فأطوف بالبيت كرَّة أخرى شكرًا لله وحمدًا، واستعانة إياه على مزيد من الهدى وعلى معرفة الحقيقة من كل جوانبها لعلها أن تنكشف لي كاملة، فأستطيع بعونه أن أحدِّق في نورها وأن أبلُغ الرضا بالنهل من باهر ضيائها، وطوَّقَتْ ثغري ابتسامة سعيدة حين هممت أن أفعل، فقد كنت أسأل نفسي عن الطواف ما حكمته؟ فأقف عند قول بعضهم: إنما الحج ومناسكه أمورٌ تعبُّدية تغيب عنا حكمتها ولا سبيل للعقل إلى فهمها، لشد ما يخطئ أصحاب هذا القول! فنحن إنما نطوف بهيكل التوحيد لنرى حقيقة التوحيد من كل جوانبها، صحيح أن هذا الهيكل رمز وأن جوانبه كلها تتشابه، لكنَّنا لا نستطيع أن نواجه الحقيقة لذاتها قبل أن نرى رمزها، ولا نستطيع أن نحيط بها كاملة دون أن نطوف بها من كل جوانبها، فإذا فعلنا أتيح لنا أن نبلغ لبابها وصميمها، كما أن الحاج لا يدخل الكعبة قبل أن يطوف بها، فالطواف إذن طريق الإحاطة بالحقيقة العليا التي يقوم البيت العتيق رمزًا لها وعَلَمًا عليها.
على هذا النحو فكرتُ في أمر الطواف وحكمته، وإن لم أر شيئًا من مثله فيما قرأت من الكتب، ولعلي لا أجد فيها شيئًا يشبهه إلا أن يكون ذلك في كتب الفلاسفة والمتصوفة ومَن إليهم ممن يرون الفكرة حقيقة ملموسة، بل يرونها وحدها الحقيقة الملموسة دون سواها، فأما المادة وأطوارها ومظاهرها فإلى مَوْر دائم واستحالات متصلة لا يقر لها معها قرار، ونحن نعيش في بيئة من المادة، فنحن متأثرون بها وبأطوارها، وتفكيرنا متصل بما حولنا منها اتصالًا يحول بين الأكثرين والتجرد للسمو إلى ما فوق هذه البيئة التي تجعلنا نرى الأشياء في ضوئها وبالنسبة لها، ولا نرى الحقائق الخالدة مما وراءها.
ولئن كشف العلم اليوم عن حقيقة قررها القرآن وكررها، وهي أن سُنن الكون ثابتة، وأنك لن تجد لسنة الله تبديلًا ولن تجد لسنته تحويلًا، لقد بقي التفكير الإنساني متأثرًا بنسبية البيئة المادية تأثرًا لا يسهل التخلص منه والسمو عليه، والأقلون الذي يستطيعون هذا السمو ممن عالجوه في الماضي لم يعالجوه على طريقتنا العلمية الحديثة التي تقرب الحقيقة إلى العقل — وإن دَقَّتْ واستعصت — بل على طريقة ذاتية فيها التجرد وفيها بلوغ مراتب الإشراق الروحي مما لا يتيسر للمجموع دركُه، ولو أن طرائقنا العلمية استطاعت أن تقرِّب الحقائق التجريدية إلى الأذهان على نحو من الثبوت يصوِّر الأمور المجرَّدة للحس، كما قرَّب الأثير إلى الذهن وحدة المكان عن طريق الإذاعة، إذن لهان أن يبلغ مجموع الإنسانية من إدراك الحقيقة العليا والحقائق المتصلة بها ما لم يصل إلى إدراكه في الماضي، وما كان وقفًا على طوائف قليلة من المثقفين، بل على أفراد معدودين من هذه الطوائف.
أما والطواف رمزٌ للإحاطة بالتوحيد ابتغاء الوصول إلى لُبِّه، أما وللتوحيد بوصفه عقيدة ما رأيت من أثر في حياة الإنسانية وسعادتها وسلامها، فللطواف — وهو ركن من أركان الحج — حكمةٌ بالغة.
والطواف الواجب طواف العمرة، وهو طواف القدوم، وطواف الحج وطواف الإفاضة، ويجمع بعضهم بين طواف الإفاضة وطواف الوداع؛ ذلك بأن طواف الإفاضة لا موعد له بعد عرفة ومِنًى، فمن الناس من يقوم به يوم النحر — كما فعلتُ — ومنهم من يرجئه إلى ما بعد أيام النحر، ولقد طاف النبي طواف العمرة وطواف الإفاضة وطواف الوداع في حجَّة الوداع، فكانت هذه أسوة ثابتة يجري عليها المسلمون يؤدون بها الركن والواجب والسنة، بل إنهم ليطوفون بالبيت طول مقامهم بمكة ما استطاعوا الطواف؛ فهم يطوفون قبل كل صلاة من الصلوات الخمس، وهم يطوفون كلما دخلوا المسجد، ويطوفون وهم في المسجد مرات عدة قبل الصلاة وبعدها، ولا عجب أن يفعلوا وقد رأى ابن بطوطة حين وجوده بمكة وزير غِرْناطة وكبيرها أبا القاسم محمدًا الأزدي يطوف كل يوم سبعين مرة.
خرجت من المسجد بعد طواف الوداع وبعد أن دعوتُ الله أثناءه أن يكتب لي العودة إلى بلده الحرام والطواف ببيته العتيق، أُعِدُّ العدة للخروج من مكة إلى المدينة، وأُودِّع بعد البيت أصدقاء كانوا أثناء مقامي عندهم خير ما أرجو كَرَم ضيافة وحُسن لقيا ودوام تأهيل وترحيب، كما كان الكثيرون منهم نِعْمَ العون لي في بحوثي، بما أسدى بعضهم من معلومات، وما أهدى بعضهم من كتب، وما أرشد إليه بعضهم من مصادر.
وقد ودعتهم وودعتُ مكة راجيًا أن يكتب الله لي العودة إليها راضي النفس مطمئن القلب سعيدًا أن فتح الله لي أثناء المقام بها آفاقًا من الشعور والتفكير ما كان أحوجني إلى أن تنفتح أمامي! لأرى من خلالها هذا العالم العظيم الجليل؛ عالم الحقيقة والرضا.