طريق المدينة
خرجنا إذن من مكة عصر يوم الإثنين الثالث والعشرين من شهر مارس بعد أن ودعني بدار مضيفي من أنِسْت إليهم وأنِسُوا إليَّ من شباب مكة، وصحبنا مضيفي في السيارة إلى دار وزير المالية بجَرْول، واستقبلنا الشيخ عبد الله سليمان بترحاب، وزودني بعد القهوة بخطابات من جلالة الملك إلى أمير المدينة عبد العزيز بن إبراهيم وإلى أمير خَيْبَر ليعاوناني فيما أريد أن أقوم به من مباحث، وأهدى إليَّ ساعة ذهبية عليها اسم جلالة الملك ابن السعود، وستارًا من كسوة الكعبة، وخرج يصحبني ويصحب الشيخ عباس قطان إلى باب الدار، فلما أردت أن أستأذنه مودعًا وأشكره على جميل ضيافته ألفيته يشير إليَّ كي أركب معه سيارته، ولقد تأثرت نفسي لهذا التلطف غاية التأثر، وذكرت إذ ذاك هذا البيت الذي تمثل به الشيخ محمد صالح القزاز ساعة وصلنا الطائف:
وأبديت ما خالج فؤادي من عرفان الجميل لوزير المالية، فرد تحياتي بأحسن منها في لسان عربي بدوي وقع من نفسي أبلغ موقع، وأقلتنا سيارته حتى جاوزنا أبواب مكة، هنالك نزلت منها وكررت آي الشكر له ولمضيفي الشيخ عباس قطان، وركبت سيارتي مع والدتي والشيخ عبد الحميد حديدي ومطوفنا الشيخ إبراهيم النوري، فلما بلغنا الشِّميسي وقفت السيارة أمام فندقها، وألفينا عنده جماعة من أصدقائي شبان مكة؛ ليودعوني على حدود موطنهم بالمدينة المقدسة، وبعد أن تبادلنا التحية والشكر كَرُّوا بسياراتهم راجعين إلى مكة، وعادت السيارة تجري بنا في الطريق صَوْبَ جدة، لكننا ما نزال في وضح النهار، وهذه الشميسي هي الحديبية حيث كانت بيعة الرضوان، وحيث عقد الرسول أول عهد له مع قريش، فنزل فيه الوحي بسورة الفتح، ولقد حال الجهد وتقدم الليل والشوق إلى دخول مكة دون وقوفي عندها يوم نزلت الحجاز، أما وفي مقدوري الآن أن أنزل بها وأقف عندها فهذه فرصة لن أضيعها.
ولم يثنني عن ذلك ما قرأته أثناء وجودي بمكة في «شفاء الغرام» للفاسي من أن مسجد الشجرة والحديبية لا يُعرفان الآن، فلو أن مثل هذا القول صدني عن الوقوف عند أثرٍ مأثور لوليت وجهي عن الآثار المأثورة جميعًا فيما خلا الحرم وحراء وثورًا؛ لذلك نزلت بعد قليل من مغادرة السيارة فندق الشميسي قبالة مسجد الرضوان فإذا هو مُشَيَّد من حجر أزرق متين على طراز مساجد مكة؛ لكن متانته وحُسن عمارته يجعلانه يبدو للنظر أكثر اتصالًا بالحياة منها، وهو أفسح رقعة من أكثرها؛ لذلك قامت به ثلاثة عقود وضعت فوقها البواكي لتمسك سقفه، ومحرابه أدق فنًّا من محاريب تلك المساجد. ولا عجب في ذلك وبناؤه لا يرجع إلى أكثر من مائة سنة بشهادة ما نقش بأعلى هذا المحراب مما نقلته في فصل «ظاهر مكة».
والمشهور — على رغم ما يقوله الفاسي — أن هذا المسجد يقوم في الموضع الذي كانت تقوم فيه شجرة الرضوان؛ وهي الشجرة التي نزل فيها قوله — تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا، ولم تبقَ هذه الشجرة في موضعها بعد وفاة الرسول إلى أكثر من عهد عمر بن الخطاب حين خشي أن يتخذها المسلمون إلى الله زُلْفَى كما كان يفعل الجاهليون بأصنامهم، فأمر بقطعها.
ولنزول هذه الآية في المؤمنين الذين بايعوا تحت الشجرة سُميت البيعة بيعة الرضوان والشجرة شجرة الرضوان، ولا عجب أن يخشى عمر تقديس المسلمين هذه الشجرة؛ فقد كانت بيعة الرضوان من أروع ما عرفه التاريخ في سيرة الرسول — عليه السلام، ولقد تمثَّل لي هذا المشهد في كل روعته وأنا بموقفي فوق الهضبة التي قام المسجد عليها، فازددتُ له إكبارًا وبه إعجابًا، فها هو ذا محمد على رأس المسلمين قد خرجوا جميعًا من المدينة محرمين لا يحمل أحد منهم سلاحًا إلا ما يحمل المسافر من سيف مُغْمَد، وها هم أولاء قد انطلقوا في طريق مكة يُلبون وقد ساقوا الهدي أمامهم سبعين بَدَنة بعد أن مَازُوا جوانبها اليمنى.
انظر إليهم؛ لقد قطعوا البيداء حتى بلغوا عُسْفان؛ وهذا رجل يُجيب الرسول إذا سأله عن أنباء قريش: «قد سمعوا بمسيرك فخرجوا معهم العُوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور ونزلوا بذي طُوًى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدًا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدَّموها إلى كُراع الغَميم.» ويعجب الرسول لأمر قريش ويقول: «يا ويح قريش! لقد أهلكتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلَّوْا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قَاتَلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فوالله، لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يُظهره الله أو تنفرد هذه السالفة.» إنه الآن يرى فرسان مكة على مرمى النظر فينادي في الناس: «مَن رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟» وهو يفعل إيمانًا منه بحرمة مكة مدينة السلام وحرصًا منه لذلك على أن يدخلها معتمرًا لا مقاتلًا، ويخرج رجل من المسلمين فيسلك بهم طريقًا وعرًا بين شِعاب مضنية حتى يبلغ بهم سهلًا عند منقطع الوادي، ثم يخرج بهم على ثنية المُرار مهبط الحديبية من أسفل مكة.
والآن ماذا أرى؟ لقد كان ما شهدت حتى الساعة أدنى إلى صورة ترتسم أمام الخيال ثم تتجسم وتدبُّ فيها حياة كحياة صور السينما، أما الآن، فإنني أرى! نعم! أرى بعيني، وأسمع بأذني، ويهتز كل وجودي لما أرى وأسمع، فهؤلاء ألفان من المسلمين مقبلين عليَّ وأنا بموقفي من هضبة الحديبية، محرمين كلهم، يُلبُّون كلهم، وعلى رأسهم رسول الله ﷺ ممتطيًا ناقته القَصْوَاء يتقدمهم ومن فوقه غمامة تُظله … رحماك ربي! ماذا عسى أن أصنع؟ أأتقدم من هذه الناقة وأُمسك بخِطامها وألتمس من الرسول الكريم دعوة صالحة تشفع لي عند ربي؟ أأجثو أمامه ضارعًا إليه أن يبارك عليَّ؟ أأسرع إلى قدمه فأمسك بها وأوسعها تقبيلًا؟
جالت هذه الخواطر برأسي وأنا مضطرب النفس شارد اللب لا أكاد أعي أين أنا؟ ولا مَن أنا؟ ثم استجمعت كل قوتي ورفعت بصري فحدقت في معالم هذا الوجه، فإذا نور ينبعث من عينيه الوَضَّاءتين، وابتسامة عذبة راضية تطوق ثغره الجميل، وإذا أذناي تسمع في وضوح وجلاء: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ، وإذا هو يلتفت إليَّ ويقول ما كان يقوله لأصحابه إذ يقومون حين يقدَم عليهم: «لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظِّم بعضهم بعضًا، ولا تُطْرُوني كما أَطْرَت النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله.»
وإذا أصحابه من حوله ينظرون إليه نظرة حُبٍّ وإجلالٍ وتقديس وإكبار، لكنها نظرة أُخُوَّة خالية من كل عبودية، ونظرة إسلام لله وما يوحيه إلى عبده ورسوله، لا ترى على سيما أحدهم مَذَلَّة، ولا تلمح في نظر الذين ينظرون إلى النبي وَجَلًا أو خوفًا، بل ترى محبة دونها كل محبة، لا يتوضأ إلا ابتدروا وَضوءه، لا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، وهم يتسابقون إلى ذلك أمامه كما يتسابق الأبناء البررة إلى محبة أبيهم البر الرحيم، هم إذن لا يُقَبِّلون قَدَمَه، ولا يفعلون شيئًا مما يفعل الأعاجم الذين اعتادوا النظر إلى كسرى وإلى عُمَّاله كأنهم آلهة الشر يخشونهم كخشية الله أو أشد خشية، بل يحبونه كما يحب أحدهم نفسه وأهله، وأكثر مما يحب نفسه وأهله، هنالك تراجعتُ ووقفت أحدِّق في هذا الجمع حول الرسول وأنتظر ما عساهم يصنعون.
وبدت آيات الغضب على سيما بعضهم والتفكير في مُنازَلة قريش حتى يحكم الله بينها وبينهم، أما الرسول فاستمسك بخطة السلم والجنوح عن القتال إلا أن تهاجمه قريش وتستبيح حرمة مدينة السلام، وترسل قريش رسلها فيحاولون صرف المسلمين بالحسنى عن دخول مكة، ثم يعودون وقد رأوا بأعينهم أن المسلمين إنما جاءوا زائرين للبيت معَظِّمين لحرمته، ثم يحاولون إقناع قريش بأن يُخَلُّوا بين هؤلاء المسلمين والبيت العتيق.
ولم ترض قريش رأي رسلها، فبعث محمد إليها برسول من عنده، فأساءت إليه وعَقَرَتْ بعيره، ولم ييأس محمد مما صنعوا، فبعث إليهم عثمان بن عفان يفاوضهم، وطال احتباس عثمان عن المسلمين، فظنوا أن قريشًا غدرت به في الشهر الحرام عند المسلمين وعند العرب جميعًا، ودخل في رُوعِ النبي ما دار بأخلاد القوم جميعًا فقال: «لا نبرح حتى نناجز القوم.» ونادى فيهم ليبايعوه على ذلك.
انظر إنهم يتزاحفون إليه يريد كل أن يسبق صاحبه إلى البيعة، لقد امتلأت نفوسهم حماسة ونظراتهم حِدَّة وعزمًا، وهو واقف تحت الشجرة يتلقى بيعتهم مغتبط النفس مطمئن القلب مما يرى، ها هم أولاء فرغوا من البيعة، وها هو ذا يضرب بإحدى يديه على اليد الأخرى بيعة لعثمان كأنه حاضر معهم، والآن انصرف القوم ينظمون صفوفهم ويعدُّون للقتال عُدَّتهم، يا لهم من جنود بواسل في سبيل الله! ما أعذب ابتسامة أبي بكر! وما أحَدَّ نظرة عمر! ما هذا؟ إنهم يحدقون إلى ناحية مكة كأنما يريدون أن يحرقوا أهلها بلهب نظراتهم، أم تراهم يلمحون عند الأفق شيئًا أو شبحًا؟ نعم! إنه رجل … إنه عثمان بن عفان مُقْبلًا، لم تقتله قريش إذن، بل هو يبلِّغ للنبي رسالتهم أنهم أيقنوا أنه وأصحابه إنما جاءوا حاجِّين مُعظِّمين للبيت، وأنهم لا يملكون منعَ أحد من العرب عن الحج والعمرة في الأشهر الحرم، ولكن ما حدث من مناوشات بينهم وبينه يجعل العرب تتحدث إذا خَلَّتْ قريش بينه وبين مكة بأن قريشًا انهزموا أمامه، وفي هذا من تهوين أمرهم في نظر العرب ما لا طاقة لهم باحتماله، فليرجع المسلمون هذا العام وليعودوا عامهم المقبل، فلن تحول قريش بينهم وبين البيت.
ويرضى النبي عن سِفَارة عثمان، وتوفد قريش سُهَيْل بن عمرو للمفاوضة وتدوين شُروط الصُّلح، وتقع محادثات طويلة يغيظ بعضَ المسلمين أمرُها، ويبلغ من ذلك أن يقول عمر بن الخطاب لأبي بكر: «عَلَامَ نُعطي الدنِيَّة في ديننا؟!» ويجيبه أبو بكر: «يا عمر، الْزَمْ غَرْزَك؛ فإني أشهد أنه رسول الله.» ويجيب عمر: «وأنا أشهد أنه رسول الله.» وهو لا يرضى عمَّا يرى، ويتم عهد الحديبية ويوقعه الرسول، ويعود المسلمون منصرفين إلى المدينة وأكثرهم لهذا الصلح كارهون، وإنهم لفي طريقهم إذْ نزل الوحي على الرسول بقول الله — تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا إلى آخر سورة الفتح؛ وفيها يقول الله — تعالى: لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا ۗ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا. ويقول — تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا * لَّقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا * مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا.
وسمع المسلمون إلى كلام الله في سورة الفتح فاطمأنوا ورضوا، وذهبَ عن الغاضبين منهم الغضب، وعادوا إلى المدينة ينظرون اليوم الذي يعودون فيه إلى مكة العام المقبل.
لا عجَبَ، وذلك ما حدث، أن يخشى عمر تقديس المسلمين شجرة الرضوان تقديسًا يبلغ عبادتها وأن يأمر لذلك بقطعها، وما له لا يفعل وهو الذي قال وهو يُقبِّل الحَجَر الأسود بالكعبة: «أنا أعلم أنك حجرٌ لا تضُرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يُقَبِّلك ما قَبَّلْتُك!» وهو الذي لم يرض أن تجمع أحاديث الرسول وسُنَّته اكتفاءً بكتاب الله، وهو الذي أراد أن يظل الإسلام لله مطهَّرًا، مظهره الإيمان العقلي المبرَّأ من كل مظهر من مظاهر الوثنية.
وآنَ لنا أن نعود إلى السيارة في طريقنا إلى جدة، ولقد بلغناها والليل ساجٍ والأماكن القليلة التي تضيئها الكهرباء هي وحدها المنيرة وسط الدُّجُنَّة المنتشرة لا يهوِّن منها ضوء مصابيح الطرقات إلا قليلًا، ولقيَنَا أصحابنا المصريون بجدة، ودعاني قُنصل مصر لتناول طعام العشاء عنده مع جماعة أزمعوا ركوب البحر في غدهم إلى أرض الوطن، وأقمت لحظة عند صاحب الدعوة، وغادرته إلى منزل الشيخ عبد الله سليمان بجدة حيث تركتُ متاعي، وعرفت مكان نومي، ثم عدت إلى بني وطني وأنا مشوق أي شوق للقياهم، وتحدثنا وتناولنا طعام العشاء، ثم جلسنا نسمع الإذاعة من مصر ونلتمس في مُوسِيقِيها وفي أغاني المغنين من بنيها وبناتها النشوة والطرب، فالإذاعة مُحَرَّمٌ سماعها بمكة؛ لأن مذهب ابن عبد الوهاب يُحَرِّم الطرب، فلا أقل من أن يحرِّمه الوهابيون في الحرمين، أما جدة فمرفأ يباح للناس من كل الأديان أن ينزلوا به، فلا تثريب عليهم أن يسمعوا الإذاعة من مصر ومن باريس ومن لندن ومن حيث شاءوا، هذا تصور قد يبدو عجيبًا لأولي المنطق، فالحرام حرام حيث كان، والحلال حلال حيث كان، لكن المنطق يجب أن يتسع لمناطق الشك، وأن يعتبرها حرمًا آمنًا تتجاور فيه الحرمات، وجدة ومرافئ الحجاز كلها من مناطق الشك حيث تتجاور حرمات الشرق وحرمات الغرب، وحُرمات الله وحرمات حضارة هذا الجيل، فليتجاور فيها طَرَبُ المذياع الذي يسمعه الناس جميعًا مع الطرب المستور بين الجدران والطرب الحلال عند أهل نجد، وليتسامح أهل هذا الطرب وأهل ذاك، فالتسامح وحده سبيل اليُسر في عيش الجماعة.
وفي بكرة الصباح أقلتنا السيارة وتبعها «البكس» فخرجنا من جدة في طريق المدينة، وسألت صاحبي: أين نلتقي بطريق القوافل الذاهبة من مكة؟ فقال: إنما نلتقي بها عند القَضِيمة بعد أن تتخطى القوافل وادي فاطمة فعُسْفان إليها، وسألت: أللمدينة طريق غير هذه التي نسلكها اليوم وتسلكها القوافل؟ فعلمت أن لها طرقًا أربعًا: هذه التي نسلكها وتسمَّى الطريق السلطاني، والطريق الفرعي، وطريق الغَايِر، والطريق الشرقي، وإنما غايتي من هذا السؤال أن أعرف الطريق التي سلكها الرسول في هجرته، وفي عمرته، وفي فتح مكة، قال صاحبي: ليس التحديد الدقيق يسيرًا، فهذه الطرق تختلط بعضها ببعض كما تختلط طريق السيارة وطريق القوافل، ومن اليسير على من شاء أن يَعْدِل عن أي الطريقين إلى الأخرى أثناء سيره، وسترى من أسماء الأماكن التي تمر بها ما تستطيع معه أن تعين ما مر به الرسول — عليه السلام — منها.
كانت السيارة تنطلق مسرعة فوق أرض رملية خطتها دروب من عجل السيارات التي تجري طول أشهر الحج فيها، وإلى يميننا امتدت الرمال إلى الأفق فما تقف دون النظر هضبة ولا قمة، وامتد البحر الأحمر عن يسارنا مطمئنًّا هادئ الموج يحول البعد عنه بيننا وبين صريف أمواجه، وحاذينا مَحَلة قال صاحبي: إنها الكُراع فيما يسمونه اليوم، وكُرَاع الغميم على عهد الرسول، ها هنا إذن وقف فرسان مكة وعلى رأسهم خالد بن الوليد عام الحديبية، ومن هنا اتجه النبي على رأس أصحابه إلى طريق الحديبية اتقاء الالتقاء بخالد وجيشه حتى لا يقاتل المسلمون وهم محرمون بعمرة، لكنا لم نبلغ القَضِيمة بعدُ، أفكانت الطريق على عهد الرسول غير الطريق اليوم؟ أم أن خالدًا وفرسانه أرادوا أن يحصروا محمدًا وأصحابه بينهم وبين مكة؟ أغلب الظن أن تكون الطريق قد تغيرت إن صح أن هذا الكراع كراع الغميم، فقد نادى الرسول في أصحابه حين رأوا فرسان قريش: «مَن رجلٌ يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟» وقد سلك المسلمون إلى الحديبية طريق ثنية المُرار، فوجدوا في سلوكها جهدًا ومشقة، هم إذن خرجوا من الطريق المألوفة لهم والتي لم تصبح طريق القوافل في يومنا الحاضر.
وتخطينا بعد الكراع دَهَبان ثم تُوَل وبلغنا القضيمة، وكنا أثناء ذلك على مقربة من الشاطئ لا يكاد يغيب عنا، وأغراني ذلك بالسؤال عن القُدَيْد أين هي؟ فللقُديد في نبأ هجرة الرسول ذكر وأثر، عندها أدرك سُراقة بن جُعْشُم محمدًا وأبا بكر ليعود بهما إلى مكة أسيرين أو يقتلهما فيفوز في الحالين بالإبل المائة التي جعلتها قريش لمن يردُّ محمدًا إلى مكة حيًّا أو ميتًا بعد فراره منها وإخفاق فتيانها في العثور عليه، وعندها كَبَا جَوَاد سراقة بفارسه كَبْوَةً عنيفة طرحت الفارس أرضًا وجعلته يتطيَّر ويؤمن بأن الآلهة مانعة منه ضالته، هنالِكَ وقف ونادى المهاجر العظيم وصاحبه: «أنا سُراقة بن جُعْشُم، أنظروني أكلمْكم، فوالله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه.» وطلب إلى محمد، فأمر أبا بكر فكتب له كتابًا يكون آية بينه وبين النبي، وأخذ سُراقة الكتاب وعاد أدراجه، وجعل يُضَلِّل الذين يطاردون محمدًا وصاحبه كيلا يلحق بهما منهم أحد.
وزاد في إغرائي ما ذكره الأزرقي عن القُديد عند كلامه عن مَنَاة صنم الأزد وغَسَّان، فقد ذكر أن عمرو بن لُحَيٍّ نصب مَنَاة على ساحل البحر مما يلي قُديدًا، وقد أثبتَتِ الخرائط قديدًا على مقربةً من عُسفان، على أن صاحبي لم يجد ما يجيبني به، مما دلني على أن قديدًا ليست معروفة عند أهل الحجاز من معاصرينا، هذا على أنهم أكثر الناس تعليقًا على سيرة الرسول، حتى لتراهم يضيفون إليها ما لم يَرِد في رواية ولا في كتاب، وتفسير إغضائهم عن قديد وغيرها من الأماكن المتصلة بالسيرة أن هذه الأماكن ليست مواضع لزيارة الحجاج وتبركهم، فهي لا تُدِرُّ أخلافها من الرزق ما يدعو أهل الحجاز إلى تحقيق أمرها وإضافة الروايات والأحاديث إليها.
انطلقت السيارة من القضيمة مُيَمِّمَة رابغًا — بعد وقفة يسيرة في «مقهى» تناولنا فيه الشاي والقهوة — وانطلقت في سرعة دونها سرعة البرق؛ لأن مياه البحر تغمر رمال الشاطئ في هذه المنطقة فتجعله صلبًا صلابة الأسفلت، وتجعله تحت عجل السيارة أكثر لينًا ونعومة، ولولا أماكن في الطريق بَعُد ما بينها وبين الشاطئ فلم يكسبها تسرب الماء إليها ما أكسب الرمال القريبة منه من تماسك وصلابة، ولولا أماكن أخرى تَعَاوَن السيلُ والسيارات الثقيلة فيها فقَلَبَا رمالها ظهرًا لبطن، إذن لبلغنا رابغًا من القضيمة فيها دون الساعتين، لكن هذه الأماكن المتقطعة في الطريق كانت تضطر السائق ليسير الهوينى بين حين وآخر، فإذا استوى إلى أرض صلبة أطلق لعجلات السيارة العنان فانطلقت تسبق الريح وتذرها وراءها تصفر من شدة الغيظ، ولولا هذه الأماكن المتقطعة لما أمَلَّنا جدب الطريق، جدب لا تقع العين فيه على شيء يلفت النظر، لكن هذه الأماكن المضطربة بالرمال المتقلبة، وهذا الجدب المُمْحِل الذي يمل النظر، جعلانا نشعر إذ نبلغ رابغًا بحاجة إلى الراحة لا تقل عن حاجتنا إلى الطعام.
وزاد في سأمنا الطريق منظر كان يتكرر كلما هَوَّن السائق السير ووقف ليرى ما يصنع بالرمال المحيطة بعجلات السيارة، ذلك منظر المتسوِّلين من أهل البلاد، فهم يُعَدُّون بالمئات وبالألوف، بل هم يُخْطِئُهم العَدُّ، وأنت ترى الطريق خاليًا منهم، حتى إذا هدأ سير السيارة رأيتهم نَبَتُوا على جانبيها، وما تدري أأنبتَتْهم الأرض أم قذفت بهم الهضاب من أعاليها كما تحط السيول الأحجار من القمم العالية، ومنظر هؤلاء المتسولين قلَّ أن يثير في النفس عاطفة الرحمة، وإن كانوا يجيئون إليك عُراةً أغلب أمرهم ليس عليهم لباس إلا ما يستر العورة، فأما النساء والبنات فيتقدمن كاسيات ولكنهن لَسْنَ دون الرجال والشبان إلحافًا ومسألة، وهم يُقبِلون على السيارة تسابقها سيقانهم الدقيقة وقد مدوا أيديهم يصيحون: «يا حاج، يا بويا، هَلَلَه، وحياة النبي، بالسلامة …» إلى آخر الأنشودة التي حفظوها على كَرِّ السنين عن ظهر قلب، يتوارثها الأبناء عن الآباء، والحَفَدة عن الأجداد، ولولا أن الحجاج، والحاجَّات بنوع خاص، يشعرون بأن الإحسان إلى هؤلاء المتسولين من تمام الحج، وأن فيه استجابة لقوله — تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ لَرَغِب أكثرهم عن بذل الصدقة لهؤلاء المتسولين، وأكثرهم أصحاء مفتولو العضل أقوياء البنية، وأكثرهم يرى هذا التسوُّل صناعة مباحة للارتزاق، ويرى فرضًا على هؤلاء الحجاج أن يُحسنوا ويعطوهم، وإذا كان شيء في هذه الظاهرة النفسية يثير الإشفاق فليس ذلك ما عليه هؤلاء المتسولون من فقر لا يعلم أحد مداه، بل ما هم عليه من جَهْلٍ وتَدَلٍّ في مراتب الإنسانية إلى حضيض ما أجدر القائمين بالأمر في الحجاز أن ينزهوا أهل الحجاز عنه! سُموًّا بالإنسانية عن المذلة، وبالإسلام عن الهوان.
فهؤلاء المتسولون إنما هم بعدُ من بني الإنسان، وهم بعدُ مسلمون، والإسلام يأبى على بني الإنسان أن يبلغ التفاوُت بينهم حتى يكون أحدهم حيوانًا أو دون الحيوان مكانة، في حين ينعم الآخر ببُلَهْنِيَة العيش ومُتَع الحياة وبأسباب الترف جميعًا، وهؤلاء المتسولون دون الحيوان في تصورهم الحياة وفي إدراكهم ما حولهم، أقبل أحدهم يلهث نحو حاجٍّ ويقول مستجديًا: «وحياة النبي!» فسأله الحاج: ما اسم النبي؟ فبُهت السائل في بَلَه ولم يُحِرْ جوابًا، هو إنما يكرِّر كلمتين — وحياة النبي — تكرارًا آليًّا كما يكررها الببغاء أو «الفونوغراف» دون أن يعرف لهما معنًى أو مدلولًا، وهو يجري سائلًا يلتمس القوت كما يلتمسه الكلب، وقد كان صاحبه قاطع الطريق يجري قبل عهد الوهابيين يلتمس القوت نهبًا كما يلتمسه الذئب، بل لعل هذا السائل أحط في قَدْر الإنسانية من المجرم إنْ جاز أن تعقد مثل هذه الموازنة، فالمجرم حيوان مفترس والمتسول حيوان مَهين، فإذا هما تساويا في الحيوانية فالمفترس — لا ريب — خير مكانًا من الذليل المَهين.
وأحسب هذه المراتب الإنسانية الدنيا منتشرة ها هنا حيث الجهل ضارب أطنابه، لقد سمعنا جميعًا اسم رَضْوَى يتكرر في الشعر العربي القديم، ولا يزال الكثيرون منا يتغنون بثَبِيرٍ ورَضْوَى كما يتغنون بجبلي نعمان، ولعل من شعرائنا المصريين في العصور المتأخرة من ورد اسم رَضْوَى في شعره، ذكره حين أراد أن يتخيل جبلًا أو يتمثل ما يدل الجبل عليه فكان اسم رَضْوَى أقرب إلى ذاكرته من اسم سيناء، ذكر لي مَن عرفت بالحجاز حديثًا عن رضوى أثار منِّي كوامن الدهشة جميعًا، فهذا الجبل يمتد في طريق المدينة إلى ينبع، ومنطقة المدينة وما حاذاها أكثر اتصالًا بالحضارة من كثير من مناطق بلاد العرب؛ لأنها أدناها إلى الشمال وأيسرها اتصالًا بالشام ومصر، كذلك كانت في عهد النبي وفي صدر الإسلام، وكذلك هي اليوم، ولقد زار وزير المالية الشيخ عبد الله سليمان رَضْوى منذ سنوات قليلة، واستصحب معه أمين مكة الشيخ عباس قطان، كما استصحب قوة من الجند، وعُدَّةً للمقام من خيام وأدوات للطهي وطُهاة ومَن إليهم، وتسلق القوم إلى قِمَّة رَضْوَى فرأوا عجبًا: رأوا قومًا لم ينزلوا السهل حياتهم، ويرون في نزوله المَعَرَّة الكبرى، فإذا احتاجوا إلى شيء مما فيه فأتباعهم وضعافهم هم الذين ينزلون، ورأوا هؤلاء القوم يعيشون في الكهوف والمغارات عيش الحيوان المفترس، ورأوا أحدهم إذا ظفر بغنيمة مما كانوا يذبحون فرَّ بها إلى كهفه وأوى إليه وانبعث ينهشها كما ينهش الحيوان المفترس فريسته، وجعل يذبُّ عنها من يحاول اقتحام الكهف عليه بأن يدفعه برجله كما يفعل الذئب أو النمر، أفيتصور أحد هذه الحياة في بلاد العرب وعلى مقربة من المدينة؟! أما أنا فدهشت لها أول ما سمعت نبأها، ثم خَفَّت دهشتي حين ادَّكرتُ مَن رأيت من الأعراب بالشفا من جبال الطائف، وما أحسب الفرق بين هؤلاء وأعراب رضوى ببالغ أن يثير الدهشة.
يأبى الإسلام أن يبلغ التفاوت بين بني الإنسان حتى ينكر بعضهم بعضًا، ذلك أساسه في أمور الرزق، وهو أساسه في الحياة الروحية؛ فهو دين إخاء يرتفع بالإخاء إلى أسمى مراتبه، ويرى لذلك أن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأين الإيمان في أمة يتناكر بنوها فينكر أحدهم أمر صاحبه، فإذا عرف أمره دهش له وأخذ منه العجب؟ وأين الإخاء في أمة يعيش نصف أبنائها حُفاة عُراة، رزقهم من التسول، وسعادتهم في الجهل، وطمأنينتهم إلى العيش في قُنَن الجبال، ويعيش النصف الآخر في حضر أو ما يشبه الحضر؟ ليس هذا من دين محمد في شيء، بل الإسلام عدُوٌّ لهذا التفاوت الظالم وهذا التناكر الذي يمقت الإخاء ويمقته الإخاء، وإن دينًا يدعو عمر بن الخطاب ليقول لعلي بن أبي طالب وقد اقتضاه غريم أمرًا: «ساوِ خصْمَكَ يا أبا الحسن.» فيساوي عليٌّ خصمه في مجلس القضاء، وينكر على عمر أن يدعوه «أبا الحسن»؛ لما في الكُنْيَة من تعظيم لا يتفق مع المساواة، لأَثْبَتُ أساسًا من أن يُقِرَّ تفاوتًا مبلغه من الجور ما ذكرت، ويأبى هذا الدين أن يقر التفاوت الروحي؛ فهو لا يجعل لطائفة من الناس فضلًا على طائفة إلا بالتقوى، ويجعل العلم وما يدعو إليه من تحابٍّ في الله وقضاء على غرور النفس ببلوغ المعرفة الحقة أساس الهدى ومنارة الإيمان؛ لذلك كان العلماء فيه ورثة الأنبياء، والعلماء الصادقون كالأنبياء الصادقين يُؤْثِرُون هُدَى الناس على طمأنينة أنفسهم بل على حياتهم، ويبذلون مِن ثَمَّ للناس كل أسباب العلم حتى يبلغوا به غاية ما يستطيع المرء بلوغه من الهدى.
بلغنا رابغًا بعد زوال الشمس بساعة أو نحوها، فلبغنا بذلك حَضَرًا لم نر شيئًا منه منذ تركنا جدة، وهو على تواضعه حضرٌ يقف النظر عنده، فقد وقفت بنا السيارة أمام بناء فسيح يشبه السوق، في جانب منه مقاعد لمقهى يجلس الناس فيه يتناولون الطعام والشاي والقهوة، وإلى الجانب الآخر من الطريق قامت مبانٍ أحدُها مخفر البوليس، وبعضها حوانيت تعرض للبيع ألوانًا شتى من الطعام وغير الطعام، وسألت أصحابي: أين نلتمس الراحة ونتناول الطعام؟ فأشاروا إلى بناء متصل بالسوق زعموه فندقًا … ودُرْنا نلتمس في هذا الفندق غرفة نأوي إليها، فإذا أنا أمام غُرَف حقيرة لا أدري ممَّ بُنيت، وليس يغطي أرضها حصير ولا ما دون الحصير، على أن أصحاب المقهى توَسَّموا فينا الخير فجاءوا بحصير قديم نشروه في إحدى الغرف، وجئنا من متاعنا بسجاجيد الصلاة ففرشناها فوقه، وذكر أصحابي من أهل مكة أن برابغ سمكًا صالحًا للطعام يُطهى لساعته، فطلبت إليهم أن يجيئونا منه بما يكفينا، وإنا لنُعِدُّ لراحتنا ولطعامنا إذ أقبل علينا رجل الجندية فتقدم بالتحية وعرض عليَّ ضيافته، وشكرتُه وأبديت له أني مطمئن حيث نزلت، وأن حاجتي إلى الراحة تُمْسِكني دون القيام ودون اتباعه إلى شاطئ البحر أو إلى المخفر أو إلى أي مكان غير هذا المكان الذي أنا به، وابتسم الرجل وبادلني من التحيات ما ضاعف شكري، ثم تركَنَا وانصرف مكررًا ساعة انصرافه أنه يود لو يكون في خدمتنا فيكون بذلك سعيدًا.
وبعد صلاة الظهر تناولنا السمك الذي جاءوا به، ما أشهى الطعام على جوع وما أطيبه وأصحه! ومِلتُ بعد أن نلت شبعي فتمطيت على سجادة الصلاة أبتغي الراحة، فإذا بي أسرع إلى عالم النوم، واستيقظت وقد عاد لي نشاطي، والتمست الخريطة أقيس عليها ما قطعنا من جدة وما بقي لنا لنبلغ المدينة، قال صاحبي: «وما تجدي الخريطة في طريق شديد التفاوت بين الاستواء والوعث، وتستطيع السيارة أن تقطع عشرات الفراسخ كل ساعة في بعضه، وهي تعيا في البعض عن قطع فرسخ واحد في ساعة أو ساعات؟! وإنا لن نبلغ المدينة الليلة، والمُسَيْجِيد غاية ما نستطيع أن نبلغه إذا بلغ لطف الأقدار غايته، وقد نَبِيت بآبار بني حَصَان وقد لا ندركها، والأمر في ذلك كله لله، بيده تصريف الأمور.»
لم يَثْنني هذا الحديث عن الاطلاع على الخريطة، يا عجبًا! كيف نسيت أن الجُحفة على عهد النبي هي رابغ اليوم، أو أنهما تتجاوران؟ ومذْ رأيت اسم رابغ نسيت حديث صاحبي وعدت بذاكرتي إلى عهد الرسول، وذكرت حديثًا لهند بنت عُتْبة زوج أبي سفيان إذ يتشاور قومها من قريش قُبَيْل خروجهم إلى غزوة أُحُد ويختلفون أتسير النسوة معهم، فتصيح هند بمن يعترض خروج النساء: «إنك والله سَلِمْتَ يوم بدر فرجعت إلى نسائك، نعم! نخرج فنشهد القتال ولا يردُّنا أحد كما ردت الفتيات في سفرهم إلى بدر حين بلغوا الجحفة فقتلت الأحبة يومئذٍ.» نحن ها هنا إذن في الطريق الذي سلكته قريش إلى بدر وإلى أُحُد، ونحن ها هنا في الطريق الذي سلكه الرسول عام الفتح، فقد ترك العباس بن عبد المطلب قريشًا وهي في جدل ماذا تصنع لاتقاء عَدْوَة محمد على مكة، وسار يريد المدينة، فلقي جيش الفتح بالجحفة، هذا إذا كان الطريق المسلوك بين مكة ويثرب إلى الشام؛ وهذه الجحفة التي نقف الآن بها كانت موقعًا ذا شهرة فيه، أما ولرابغ الشهرة اليوم فقد أَنْسَتِ الناسَ الجحفة وما وقع على عهد الرسول بها.
وقمنا بعد العصر، فانطلقت بنا السيارة إلى مَسْتورة في طريق مستوٍ يجاور البحر فهي تجري فيه تخطفه خطفًا، وفي حذاء مستورة تيامنت السيارة مُشَرِّقة نحو بئر الشيخ، ومذ تيامنت بدأ الطريق يتعذر السير فيه؛ ذلك أننا كنا نبعد عن البحر إلى داخل تهامة، وكانت الرمال التي تسير السيارة عليها خلال هذه الصحراء غير مستقرة لكثرة ما تقلبها السيارات الثقيلة إذ يكثر مرورها بها في موسم الحج، وحيثما تعذر السير نَبَتَ المتسولون من جوف الأرض أو انحطوا من المرتفعات.
وبلغنا بئر الشيخ بعد غروب الشمس فجلسنا إلى مقهى بها تناولنا فيه الشاي وأقمنا حتى سَجَا الليل، فليس يضيق سائقو السيارات بشيء ضيقهم بالسويعة التي تلي غروب الشمس حين تختلط موليات النهار بإقبال الليل فيَنْبَهِم النور وتنبهم الظلمة ويضطرب ضوء السيارة بينهما، وسأل السائق عن الطريق بين بئر الشيخ وآبار بني حَصَان ومبلغ صلاحها للسير بها، فاختلف أهل المقهى رأيًا، وأشار أحدهم إلى أن طريقًا منها لا يزال صالحًا للسير فيه، وأن الطريق الآخر أفسدته السيول فلم يبق السير فيه مستطاعًا.
ولم يكن إلى المبيت ببئر الشيخ سبيل إلا أن نظل ليلتنا في هذا المقهى، وإن أطَقْتُ أنا هذا المبيت وغامرتُ به فما عسى أن يكون أثره في صحة والدتي؟ ولقد ذكر القوم أن بالمحلة التي تلينا، محلة آبار بني حصان، فُندقًا للمبيت فيه، في ذلك استخرنا الله وقمنا إلى سيارتنا، لكنها لم تَسِرْ بنا إلا قليلًا حتى سَاخَتْ في الرمل ولم تستطع حراكًا، وأضاء السائق فنارها فإذا أمامنا ثلاث سيارات أصابها ما أصاب سيارتنا، ولقد جعل سائقوها يتعاونون ويعاونهم ركابها على دفعها للمسير، واللوريات في مثل هذه المواقف أسعد حظًّا، لارتفاع جسمها فوق الأرض على عجلاتها الكبيرة، وسُمُوِّها لذلك عن أن يغوص بطنها في الرمال، وأقمنا حيث نحن، وذهب أصحابي يعاونون الذين تعطلت سياراتهم أمامنا ليقابلونا بالمثل فيعاونوا سيارتنا على الخروج من ورطتها، وقد أقمنا ساعة أو نحوها، ثم أذن الله بالفرج وخرجت السيارات من هذه العسرة التي أصابتها، وسرنا منطلقين في طريقنا وكل رجائنا أن نبلغ آبار بني حصان قبل منتصف الليل لعل النوم بفندقها يعوضنا عن جهد هذا النهار.
وانقضت ساعة أخرى والسيارة تجري ونحن ننعم بنسيم ما أرقَّه وأعذبَه! نسيم البيداء الطلق الجاف الصحيح الذي يبعث إلى النفس النشاط والغبطة، والذي ينسي المسافر كل نصب وكل مشقة، وفيما نتحدث عن المدينة ومتى نبلغها غدًا إذ السيارة تغوص مرة أخرى في الرمال، وحاول السائق مذ شعر باللُّجة الخطرة تحت مزالق العجلات أن ينجو منها بتحريك عجلة القيادة يمنة ويسرة لعل في تحرك العجلات ما يُجَنِّبُها الغوص العميق، لكن هذه المداورة لم تفلح، وساخت السيارة وجعلت عجلاتها تدور حول نفسها في حركة رحوية غير مجدية، ونزل أصحابي يحاولون دفع السيارة إلى الأمام لعلها تجاوز منطقة الخطر، ومع ما بذلوا في ذلك من جهد شاق لقد ذهب جهدهم عبثًا، وخُيِّل إليَّ أني أستطيع معاونتهم، ودفعت معهم ولكن على غير جدوى، وبعد ساعتين ذوى فيهما الرجاء وذهب ما أنفقنا خلالهما من جهد سُدًى رأيت أن أستريح إلى اليأس من السير هذه الليلة وأن أسلم الأمر لله وأن أنام فوق الرمل على مقربة من السيارة، وسحبت سجادة الصلاة فجعلتها فراشي، وجئت بغطاء من الصوف التحفته وتمطيت وتغطيت راجيًا أن تعيننا يقظة النهار على اجتياز هذه العقبة، وطاب لي هذا المقام، وذكرت به عشية عرفة لولا غياب القمر وانتشار الظلمة، وإن آنستنا نجوم السماء ببريقها الجذاب.
وإني لفي أحلام ما قبل النوم، أحلام حُلوة مسعدة زادها صفو السماء في هذه الساعة حلاوة وإسعادًا، إذ جاء إليَّ من أصحابي مَنْ يخبرني أن السيارة خرجت من لجة الرمل وأنها وشيكة أن تسير، ولما رأى مني الريبة في قوله ذكر أن عربة كبرى بها مفتش للطرق أدركتهم، وأن بها أداة خاصة لإنقاذ العربات المنكوبة في لجة الرمل، وأنها ردت عربتنا إلى الحياة والسير، وقمت بين مُصدِّقٍ ومكَذِّبٍ، فلما رأيت السيارة انتقلت من مكانها أيقنت أنها خلصت من براثن هذه الرمال، وأنها وشيكة أن تسير حقًّا، فأسرعت إليها، وسارت بنا تقصد آبار بني حصان ونحن في أشد الخوف أن يُنشب الرمل براثنه في عجلاتها كرة أخرى، ولم تهدأ ثائرة الخوف في نفوسنا حتى رأينا أنوار آبار بني حصان، فلما بلغناها نادى مُنادٍ أن نميل لننام عنده، ولكن عنده مقهى لا يفضل مقهى بئر الشيخ، ونحن نريد الفندق، فندق آبار بني حصان، وأهبنا بالسائق أن يقصد توًّا إليه، وأنا أصور لنفسي غرفتي به وما سأناله بها من نوم مريح.
ووقفت السيارة أمام بناء اشتملته الظلمة قيل: إنه «الأوتيل»، ودق أحد الرفاق بابه ونادى أهله وطال به الدق والنداء، ولئن كنا في الثلث الأخير من الليل لقد عجبت كيف ينام الموكلون بفندق يأوي إليه الناس ساعات الليل وقلما يقفون عنده بالنهار؟! قال صاحبي: لا تعجب؛ فالفندق للحكومة والموكلون به عمالها، وهم يقتضون منها لذلك مرتبًا لا يزيد بزيادة من ينزلونه ولا ينقص بنقصهم، وفتح الباب رجل عليه أمارات النوم، فلما عرف أمرنا جاء بمصباح ضئيل النور وتقدم يهدينا إلى غرف المنزل، وخطوت في أثره من الفضاء الذي كنا به بين جدران البناء وغرفه، ووَسْوَسَتْ لي نفسي أن أرجع أدراجي وأن ألتمس تحت العراء مبيتًا، أين هذا الهواء الطلق اللذيذ السائغ، هواء البادية الجاف الجميل، من هواء حبيس راكد بين الجدران؟! ولكني رأيت أحد أصحابي ينادي الخادم ليجيء بالطعام من «البكس»، وأحسست الجوع الشديد، فَأَهَبتُ بالقوم أن يفتحوا نوافذ الغرف جميعًا، ومددت بصري خلال نور المصباح إلى داخل الغرف فارتد يدعوني أن أهم بالعودة إلى العراء وهوائه الحر الطليق، فهذه الغرف الخالية من كل أثاث وفراش إلا من رمل لا شك أن رمل العراء أنقى منه، لا تشجع على المكث ولا على المبيت، لكن الجوع والجهد وما خافه أصحابي من أثر العراء في الصحة، كل ذلك ثناني عن تنفيذ ما أردت، قال أحدهم: لو أن معنا خيمة نضربها لكان الخير فيما تشير به، وشقادف الجِمَال تُغْني عن الخيام، أما وليس معنا هذا ولا ذاك «فالأوتيل» خير مكان لمبيتنا.
وتناولنا طعامنا، وفرشت سجادتي على حصير أكرمنا القوم بإحضاره، وأغفيتُ السويعة التي تفصل بيننا وبين الفجر، فلما تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود قمنا جميعًا إلى فَرْض الله، ثم تناولنا الشاي وبعض الطعام وخرجنا إلى الفضاء الطَّلْق ننعم فيه بالهواء الحر والنور الوليد، وألفينا أمامنا واديًا فسيحًا تكتنفه الجبال وقد انحط بطنه عن الفندق بضعة أمتار، فالفندق يقع منه على أكمة تتحكم فيه، ورآني رجل من أهل الفندق أميل منظاري المقرب أهبط به إلى بطن الوادي تارة وأرتفع به إلى أعلى الجبل أخرى، وسمع أثناء ذلك حديث صاحبي عمَّا لقينا من عنتٍ أصابنا به غوص السيارة في الرمل، فقال: إنها سُيول هذا العام أفسدت الطريق وكان من قبلُ صالحًا، فقد انهمرت وبلغ انهمارها حدًّا لا عهد لنا به مذ عرفنا الحياة، وكات من ذلك أن ارتفعت المياه في هذا الوادي حتى غمرت سيارة من سيارات اللوري فمات بها اثنا عشر من راكبيها، وأن بلغت هذا الفندق وكادت تُوهن جدرانه لولا متانة بنائه.
عجبت لما سمعت وقلت: «وماذا كان يفعل آباؤكم الأولون وقد كان هذا طريقهم من مكة إلى يثرب وإلى الشام؟»
سكت رجل الفندق ولم يجب، إذا ذاك تولى صاحبي الجواب فقال: قَلَّ أن تنهمر مثل هذه السيول الجارفة المخربة، فسيول هذه البلاد هتَّانة حقًّا، لكنها سريعة أن تُمسك سرعتها إلى أن تنهمر، فإذا أمسكت ابتلع الرمل الماء في دقائق، أما آباؤنا الأولون فلم يكونوا يعرفون السيارات، فلو أن سيلًا جارفًا كسيل هذا العام نزل بهم لصعدوا بالإبل في دروب الجبال حتى يبلغوا قُنَنها إن أَعْوَزَهم الأمر.
وأمسك صاحبي هُنيهة ثم قال: «هذا طريق ما بين مكة ويثرب؛ وغنك لحريص مذ هبطت الحجاز على أن تمر ما استطعت حيثما مر الرسول — عليه السلام، أفتذكر كم مرة مر بهذا الطريق؟»
قلت: نعم! ووجمتُ هنيهة أفكر: لقد مر بهذا الطريق ولا يزال طفلًا في السادسة من عمره حين ذهب مع أمه آمنة يزور قبر أبيه بيثرب، فلما آن لهما أن يعودا منه ماتت أمه ودفنت بالأبواء، ومر به حين ذهب في الثانية عشرة مع عمه أبي طالب إلى الشام، كما مر به في الخامسة والعشرين حين ذهب في تجارة خديجة، وأقام بعد ذلك خمسًا وعشرين سنة تباعًا لا يقطعه، ولما هاجر من مكة والصِّديق معه جاوزه إلى طريقٍ يُساحل البحر خيفة أن تدركه قريش، لكنه عاد بعد ذلك منه عام الحديبية، ثم عام عمرة القضاء، ثم عام الفتح، ثم في حجة الوداع، ما أحفل هذا الطريق بالذكريات! لقد رأى النبي العربي طفلًا، ورآه صبيًّا، ورآه شابًّا، ورآه نبيًّا، ورآه مجاهدًا، ورآه حاجًّا بيت ربه مستغفرًا إياه ضارعًا إليه، ولقد رآه يوحي إليه ربه من كتابه هدى ونورًا، وأنا أسير اليوم فيه ويسير عشرات الألوف من المسلمين فيه كل عام، وقلَّ من يذكر منا ما يحفل به أو يذكر هذه الحوادث من أيام النبي، وكل واحدة منها عبرة، وفي كل واحدة منها مُدَّكرٌ، أوَليس هذا نسيانًا يجب أن نتنزه عنه إكبارًا لذكرى الرسول الخالدة والتماسًا لموضع العبرة والأسوة من سيرته وحياته؟!
ولو أن علم هذا العصر الذي سخر لنا قوى الطبيعة، استطاع أن يحلل ما ينطوي عليه الماضي، وأن ينقل إلينا ما نشاء من ذكريات على موج الزمن كما ينقل إلينا الأصوات التي نشاء من أقصى الأرض على موج الأثير، إذن لرأينا في هذا الطريق ما تهتز له القلوب وما تطير له الأفئدة تقديسًا وإعجابًا، إذن لرأينا الصغير محمدًا يجلس مع أمه آمِنة والبعير يسير بهما وبحاضنة الغلام أم أيمن قاصدًا يثرب بخُطاه الهادئة البطيئة، وآمنة تقصُّ على ابنها نبأ أخوال أبيه من بني النجار بالبلد الذي إليه يقصدون، وتقص عليه كيف ارتحل أبوه إلى الشام في تجارته، وكيف عاد منها، وكيف مرض ومات ودُفن عند أخواله، والصغير يُنصت مأخوذًا يدري ولا يدري، لقد رأى القوافل التي تذهب في رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام، فهذا الرجل الذي تحدثه عنه أمه، عبد الله بن عبد المطلب، قد ذهب مع قافلة الصيف لا ريب، ترى كيف كان؟ وتُجيبه الأم الرءوم أنه كان جوادًا شجاعًا وشهمًا كريمًا، بل كأن الشهامة والجود صُوِّر رجلًا، وتقص عليه الأم من أخبار عبد الله ما ترجو أن يكون أسوة للابن ومثلًا، فما أكبر أملها أن ترى هذا الصغير يكبر ليكون كأبيه؛ محبوبًا من قومه، مقدَّرًا منهم، عزيزًا عليهم، حتى ليقفون دون إرادة جده حين أراد أن يذبحه وفاء لنذره وبره بقسمه! وما له لا يكون كأبيه وفي نظرته من قوة البريق ما كان في نظرة عبد الله، وفي نبرة صوته من الرقة والقوة ما كان في نبرة صوت أبيه؟!
وينقضي اليوم ويتلوه غده فينقضي كانقضائه وهم يقيمون ثم يسيرون لا يُعجلون بعيرهم ولا يسأمون طول الطريق، وكيف يسأمون حياة هي حياتهم وبيئةً هي بيئتهم؟! وكيف تسأم آمنة وهي تسير إلى قبر حبيب وهبت له نفسها، وكان لها في الحياة منه أمل عريض، فلم يمهله القدر أن اختطفه منها، وهي تتعلق — على رغم القدر — بأملها وتريد أن تصل بين الثَّاوي في القبر وقلبها، ويبلغون يثرب، وتزور آمنة القبر وتُزِيرُه صغيرها وتتحدث وإياه عنه، وتأوي معه إلى دور بني النجار، وهي ترى في الطفل محمد أحب صورة إليها من عبد الله، وترى فيه الحياة وبهجتها، والعزاء عن ألم الحياة وقسوتها، لا يجول بخاطرها أنها عَمَّا قريب ستلحق بعبد الله، لكنها لا تلبث حين تتحمل مع ابنها وحاضنته عائدة إلى مكة أن يصيبها المرض وأن يخترم حياتها، فيتعاون دليلها وأم أيمن على دفنها بالأبواء، ويلتمسها الصغير لتحدثه عن عبد الله فلا يجدها، ويلتمس مَن يحدثه عنها فتسرِّي عنه أم أيمن لوعة اليُتْم من أبيه وأمه، حتى إذا بلغ مكة وجد في جَدِّه عبد المطلب وفي حنوه وعطفه أبًا وأمًّا.
ثم لرأينا محمدًا في الثانية عشرة من عمره يسير مع عمه أبي طالب في هذه الطريق التي كنا نسير فيها، لكنه يسير هذه المرة في قافلة ذاهبة في رحلة الصيف كالقافلة التي سار فيها أبوه، ولا يسير وحيدًا بل معه عمه كما كان مع أمه، وتتخطى القافلة سَرِفَ، وتتخطى وادي فاطمة، وتُساحل البحر فتبلغ يثرب، ثم تتخطاها متخذة دروب البادية إلى الشام، وتحط القافلة رحالها ها هنا وهناك، ويسأل محمد حيثما سار وأينما نزل عما يحيط به، فيجيبه عمه حينًا، ويجيبه رفاقه في القافلة حينًا آخر، وأية وسيلة يقطع بها راكب الجمل طول الطريق كالتحدث وقصص الماضي والتندر بالأنباء؟! ولكل مَحَلَّة تنزل بها القافلة حديث ونبأ، ولكثير من الأماكن قصص تذهب في بطون التاريخ إلى حيث يكاد التاريخ يضل فيها، ومحمد الصبي ينصت وقلما يتكلم، ويقلب ما يسمع على أوتار فؤاده ليرى مبلغ اتساقه مع ما يرى، وتبلغ القافلة حدود فلسطين ويرى فيها قومًا غير الذين ألِفهم في البادية؛ قومًا عرفوا الحضَر وصناعته، والاستقرار ونُظُمه، يتحدثون عن رُومِية وعن بزنطية وعن أديانهما ورسلهما، ويذكرون اليونان والرومان وحكمتهما وتشريعهما، ويذكرون موسى وعيسى والنبيين من قبلُ، وليس يشغله من أمر التجارة التي جاء قومه بها ما يصرفه عن التفكير فيما يرى ويسمع وعن استذكاره، ثم ينصرف مع القوم قافلين إلى مكة مارِّين بيثرب وبوادي فاطمة، وهو لا يفتأ يسأل عما يرى وإن كان أدنى في عودته إلى الصمت إمعانًا في التفكير فيما رأى وسمع.
ويعود في الخامسة والعشرين إلى مثل هذه الرحلة في تجارة خديجة مع قافلة الشام، وتربح تجارته ويتزوج خديجة، لكن رحلة الصيف إلى الشام لا تستهويه ليعود إليها كرة أخرى، لقد عرف أنباء الشام واتصل بأهلها، وفكر فيما وقف عليه من ذلك كله، وهو رجل تأمل في المثل الأعلى، وليس تاجرًا يغريه المال والاستزادة منه، فلترسلْ خديجة في تجارتها من تشاء وليُقم هو بمكة على مقربة من البيت العتيق مفكرًا متأملًا منقطعًا إلى تفكيره وتأمُّله، ثم ليتحنَّث في غار حراء حتى يوحي إليه ربه الأكرم أنه علَّم الإنسان ما لم يعلم.
وينصرف محمد عن هذا الطريق سنوات متوالية حتى يأذن له ربه بالهجرة، فإذا ارتد من غار ثور سلك طريقًا غير الذي نسلكه نحن اليوم، نجاةً بنفسه وبصاحبه من مطاردة قريش إياهما واقتفائها أثرهما.
ويعود إلى هذا الطريق بعد ذلك عام الحديبية، يعود إليها شيخًا توجت الرسالة وتوجت السنون رأسه، ويعود مع أصحابه حتى يبلغ منه ذا طُوًى، ثم يُضطر إلى الخروج إلى طريق الحديبية حتى لا يصطدم بجيوش قريش.
ويسلك هذا الطريق بعد عام في عُمرة القضاء، يسلكه ملبيًا نداء ربه مناديًا مع أصحابه: «لبيك اللهم لبيك.» وتتجاوب أودية البادية وهضابها بهذا النداء تنفرج عنه شفاه ألفين من المسلمين يسيرون وراء نبيهم وكلُّهم شغف بهذا اليوم الذي انتظروه منذ سنين، فهو اليوم الذي يطوفون فيه ببيت الله ويؤدون مناسك العمرة، والرسول في مقدمتهم على القصواء تسير به، وهو في طمأنينته إلى نصر ربه أكثر من كل مَن معه شكرًا لله وإذعانًا. وتُنيخ القافلة ثم تستأنف سيرها حتى تبلغ مكة، فإذا هي خالية غادرها أهلها، ويجوس المسلمون خلالها طائفين مصلين مهللين مكبرين، أين هم اليوم منهم يوم أخرجتهم مكة منها وأقْصَتْهم عنها وضنت عليهم بدخولها وأنكرت حقهم من الوجود أو أداء شعائر دينهم؟! لكنهم صبروا وصابروا فنصرهم الله من فضله، والعاقبة للصابرين.
وينقضي عامان من يومئذٍ، فيسلك محمد هذا الطريق على رأس عشرة آلاف من المسلمين ليفتحوا مكة، أين مسيرته اليوم من مسيرته صغيرًا، ومن مسيرته صبيًّا، ومن مسيرته تاجرًا، ومن مجيئه حاجًّا؟! لقد دانت له العرب وبقيت مكة على عنادها، لكنها اليوم على أهبة أن تدين وأن تُسلم مفاتحها وأن تؤمن بالله ورسوله وأن يطهر بيتها من الأوثان وأن تعود إليه قداسة التوحيد والإيمان.
فأما المرة الأخيرة التي سلك محمد هذا الطريق فيها فهي حجَّة الوداع، حين سار من المدينة على رأس مائة ألف من المسلمين الذين جاءوا من أنحاء شبه الجزيرة رجالًا وعلى كل ضامرٍ يَنْسِلون من كل حَدَب، وأقاموا ليلتهم بذي الحُلَيْفة؛ فلما أصبحوا أحرموا وانطلقوا جميعًا ينادون: «لبَّيك اللهم لبيك.» وتتصل روح الرسول بأرواحهم جميعًا وهو يلبي على رأسهم فيزدادون إمعانًا في توجههم إلى ربهم وسموًّا إليه، أين من هذا الرجل الذي أكمل الله له وللمسلمين جميعًا دينهم وأتم عليهم نعمته ذلك الطفل مع أمه، وذلك الصبي مع عمه، يسير في هذا الطريق لا يعرف في المرة الأولى أنه ذاهب إلى قبر أبيه يزوره، ويسائل رفاقه في المرة الثانية عن كل ما يرى؟! أين من هذا الرسول الذي نقل العالم من الضلال إلى الهدى ومن الوثنية إلى التوحيد ذلك الصغير الذي كانت تنظر إليه أمه نظرة الحب والإعزاز لوحيدها اليتيم الذي فقد أباه، وغاية ما ترجو أن يكون كهذا الأب أيْدًا وكرمًا ورجولة؟! ويصل هذا الجمع الزاخر مكة فيُشاركه أهلها في الإحرام بالحج وأداء مناسكه متأسِّيًا في ذلك بمثل الرسول، سائرًا في خطاه، داعيًا دعاءه، مستغفرًا استغفاره … ألا إنها الحياة الإنسانية بلغت غاية السمو من إنسانيتها، ثم سمت فوق الإنسانية إلى حيث رفعتها مراتب النبوة والرسالة، وبقيت مثلًا تحاول الأجيال أن تجعل منه أسوتها؛ وهيهات هيهات أن تبلغ من ذلك إلا يسيرًا!
قال صاحبي: «ما أعظم العبرة وأبلغ الموعظة فيما تذكر! ولو أن المسلمين الذين يسيرون كل عام في هذا الطريق ذكروا من ذلك بعض ما ذكرت لازدادتْ نفوسهم بالحج طهرًا، وإنه في الحق لطريقٌ لو حدثت رماله وحدثت هضابه بما شهدتْ لأَنْصَتَ العالم كله بأرضه وبحاره لأروع ما شهد على التاريخ من جلال الحق وانتصاره.»
كان رجالنا قد أعادوا رحالنا إلى «البكس» وإلى السيارة حين أتم صاحبي عبارته، وشكرنا لأهل «أوتيل آبار بني حصان» ظرفهم، وانطلقنا في طريقنا نبغي المسيجيد، آخر محلة نقف بها قبل أن نبلغ المدينة، وبلغناها، ونزلنا فندقًا بها يشبه فندق الآبار، فأخبرنا رجاله أن السيد عبد العزيز الخرِيجي مضيفنا بالمدينة بعث مساء أمس وصبح اليوم مَن ينتظرنا، وأقمنا بالفندق ريثما تناولنا الشاي والقهوة، وشكرنا أصحابه ثم انطلقنا كرةً أخرى في طريقنا إلى غايتنا، يا عجبًا! لقد اختلفت طبيعة البيداء كرةً أخرى، لقد كنا نسير من جدة إلى رابغ وإلى مَستورة على رمال شدت مياه البحر بعضها إلى بعض فهي صلبة متينة، فلما استدرنا من مستورة مشرِّقين إلى بئر الشيخ وآبار بني حصان تفككت الرمال ولم تبق لها صلابتها؛ لذلك غاصت عجلات السيارة، وغاص بطن السيارة فيها غير مرة، واطَّرَدَ الطريق على هذا النحو من الآبار إلى المسيجيد، فأما بعد المسيجيد فقد انقلبت البيداء صخرية على رغم ما يكسوها من الرمال، واطمأن السائق إلى أنَّا لن نغوص في الرمل، فأطلق العنان لسيارته، فلما قضينا بعض الساعة إذا الطبيعة تختلف من جديد، وإذا جبال سود تقف منا عند مرمى النظر، وأدركت السيارة سفوح الجبال وتخطت خلالها مرتقية حينًا منحدرة آخر، ثم انطلقت من جديد في بيداء تكتنفها الجبال.
ووقفنا عند محلة أناخت بها قوافل للحجاج الذين يقصدون المدينة، وجاء حسن بماء للسيارة احتياطًا للجبال القريبة منا، وأثار منظر القوافل في نفسي حنينًا وذكرى: حنينًا لأيام الطفولة حين كنت أمتطي الجمل مع جدتي وأسير في القافلة الذاهبة في صحبة جدي إلى السيد البدوي بطنطا، أو إلى مولد ابن العاص القريب من قريتنا، وذكرى أولئك الذين سبقونا من آبائنا وأهلينا إلى هذه الديار قبل أن تُغِير السيارة على الجَمَل فيها، وحين كان الجمل سفينة الصحراء، وفكرت حين ألحَّ بي الحنين وألحت الذكرى فيما يكتبه الغربيون عن القاهرة وعن الآستانة وعن غيرها من بلاد الشرق، وما يُبْدون من أسف أشد الأسف أن أضاعت هذه البلاد طابَعها الشرقي القديم الجميل، وتحدثت إلى نفسي أسائلها: كم أضاع الحجاز وأضاعت بلاد العرب بغزو السيارة إياها من طابعها، وكم يضيع منه غدًا حين تغزوها الطيارة، فنجيء على متنها من مكة إلى المدينة في ساعتين كما فعلت الأميرة خديجة حليم هذا العام؟! ترى ماذا كانت تترك في نفسي رحلة القافلة من مكة إلى المدينة في الدرب الطويل أقضي فيها أسبوعين كاملين؟!
لقد قرأت ما كتبه كثيرون عن مثل هذه الرحلة في مختلف الدروب التي تنساب في البادية، قرأت ما كتبه برتن الإنجليزي، وبورخارت السويسري، وإبراهيم باشا رفعت، وقرأت رحلة البتانوني، إنهم جميعًا قد أُتيح لهم أن يدرسوا من طبيعة البادية ونفسية أهلها ما لا يتسنى لراكب السيارة أن يعرف إلا القليل منه، وهم قد استمتعوا من حياة الصحراء وواحاتها ومن صُحبة أهلها بما لم أستمتع أنا بشيء منه، اللهم إلا حين نزلت رابغًا، وحين قضيت الليل بآبار بني حصان، أما راكب الطيارة فلن يرى من ذلك كله إلا ما يراه الطائر من علية سمواته، ولن يستمتع منه بغير المنظر السريع التغيُّر، السريع إلى الزوال، ومن الحق إذن أن غزو السيارة للجمل وتعريضها إياه للزوال وحلولها محله سفينة للصحراء خسارة يأسف لها رب الفن الحريص أن ينعم على هُون بكل ما في البادية من حياة ومعنًى وجمال.
أوَليس من الحق كذلك أن غزو الطيارة للسيارة يعرض الإنسانية من ناحية الفن لمثل هذه الخسارة؟ أم أنَّا يجب علينا في سبيل ما نسميه التقدم ألَّا نقيم لهذه الخسارة وزنًا، وأن نغتبط أن عوضنا الله خيرًا منها وأعظم جدوى، وإذا انقرض الجمل وبقيت السيارة دابَّة الحمل واختصت الطيارة بالسفر، فلا خسارة في ذلك على الإنسانية ولا على الفن؟ ولم أجد جوابًا على ذلك كله إلا أن محاولة الجواب لَهْو وعبث ما أشبههما بالأسف! لأن الطفل صار رجلًا؛ أو لأن الهَرِم الفاني مات ليخلفه غيره، مع أن هذا وذاك سُنَّة الطبيعة، فما حدث اليوم لا مفر منه وهو لا بد كائن.
ورجل الفن الصادق العاطفة والموهبة لا يأسف على ما فات، ويجد من آثار الفن فيما حوله خير منزل لوحيه وإلهامه، وميراثنا مما خلفه الأولون من آثار الفن بعض ما هو كائن، شأنه في ذلك شأن ما حولنا من آثار العلم، فإذا نحن أسِفْنا على ما فات فلن يجدي أسفنا شيئًا، ولئن دلَّ على شيء لَعَلَى أنَّا كَسَالَى في الفن، نريد أن ننهج نهج مَن سبقونا ونتأثر خطاهم، بدل أن نُبدع جديدًا من إلهام الحاضر وحياته، فأما الذين يريدون أن يبقى الشرق الحي متحفًا لصور الماضي فأولئك يجهلون ما في النفس الشرقية من توثُّب ونزوع إلى الطَّفرة، وما تحرص عليه مع ذلك من توثيق عُرى الحاضر بالماضي؛ لأن الحاضر والماضي والمستقبل مرتسم فيها منذ الأزل، مصوَّر في أطوائها على أنه وحدة تتطور حياتها كما تتطور حياة الكائن الحي، لا على أنه أجزاء منفصل بعضها عن بعض، لا تتسق في كُلٍّ ولا تربطها وحدة الزمان والمكان.
وانطلقنا، ولم يطل بنا السير حتى كنا ندور في الجبال مصعدين نسلك طريقًا لا بأس بفسحتها، وإنا لفي إحدى استدارات السيارة إذ انطلق إلى السماء أمامنا جبلان عن اليمين وعن الشمال لَفَت انطلاقهما النظر، قال صاحبي: «هذه جبال المُفْرِحات، وهي طلائع المدينة المنورة.» هنالك اتجهت بكل ذهني وجناني إلى ناحية مدينة الرسول — على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وجعلت أُحَدِّق بنظري وحده تارة، وأستعين بالمنظار المقرب أخرى، أريد أن أجتلي بشائرها، وكأنما شعر السائق بأنا نستعجل بلوغها والدخول إليها، فدفع بالسيارة في طريق استقام حتى كأنه قد نحت في الجبل نحتًا، ورصف فيه رصفًا، فلما أوفى على غاية هذا الطريق استدار إلى طريق آخر، ثم وقف فجأة بعد استدارته فيه ومد إصبعه إلى ناحية الشرق مشيرًا، وقال: هذه القبة الخضراء.
الله أكبر ولله الحمد! بلغنا إذن مقصدنا، فالقبة الخضراء قبة الحرم النبوي، وهي الآن أمامي وعلى مرمى نظري، فليُسرع حسنٌ إذن حتى نقوم بزيارة الحجرة التي صارت قبر الرسول الكريم بعد أن كانت سكنه في الحياة، والمكان العزيز عليه في دار عائشة، وليسرع حتى نمتِّع النفس والقلب بالوقوف خُشَّعًا أمام هذه الحجرة ونُسَلِّم على صاحبها، ونشهد أنه بلَّغ رسالة ربه، ونحاول أن يتصل روحنا الضعيف الرازح تحت أعباء الحياة ومادتها في عالم الدنيا بروحه القوي الأمين الذي سما بفضلٍ من الله ومغفرة إلى مقام الرسالة الأسنى، فكان صاحبها الأسوة والمثل في حياته، وكان بعد مماته نور الجمال والكمال والسر والجلال والوحدة والضياء الوضَّاء الذي غمر العالم فأنار له السبل وهداه مَحَجَّة الحق، وليسرع فالنفس مشوقة والقلب يود أن يطير إلى هذا الموقف يشهد عن كَثَبٍ منبع هذا النور، وأن يمتلئ من إشراق سناه، هذه لذة كبرى بدأتُ أشعر بها وأريد أن أنهل منها وأبلغ الريَّ الروحي ريًّا لا أظمأ بعده أبدًا.
والسيارة تجري، والقبة الخضراء تزداد وضوحًا ويزداد النظر بها تعلُّقًا، وها هي ذي بشائر المدينة المنورة كلها تبدو، لقد صِرْنا إذن منها قاب قوسين أو أدنى.