بين المَرْفَأَين
كانت الأميرة خديجة حليم قد فرضت الحج عامنا هذا، واختارت السفر على «كوثر» آخر باخرة تدركه، وكان برنامجها أن تغادر مكة طائرةً إلى المدينة في اليوم التالي للوقوف بعرفة، مكتفيةً بالفِداء عن فرائض الحج ومناسكه جميعًا.
ولقد أحدث صعودها وصعود حاشيتها إلى الباخرة هَرْجًا بين الذين سبقوهم إليها، ولم أجد لهذا الهرج مسوغًا إلا في كثرة المودِّعين الذين كانوا أضعاف المسافرين إلى الحج عددًا؟ هؤلاء أقاموا على ما طبعته الحياة الحاضرة في نفوسهم من تقديس ذوي الجاه والإمارة، أمَّا الذين فرضوا الوقوف بين يدي الله بالأماكن المقدسة، فقد وجب أن تبرأ نفوسهم من كل تقديس لغير الله ما دامت قد فرضت أن تبرأ من الحوبات والأوزار جميعًا.
وشُغلت إدارة الباخرة بالأميرة وما تختاره من الغرف لنفسها ولمن معها، فلما فرغت من ذلك أَذِنت للخدم في دعوة الناس للطعام، وجلس طلعت باشا حرب مدير شركة مصر للملاحة البحرية إلى مائدة تتوسَّط غرفة الطعام، ودعاني إلى الجلوس معه، كما دعا آخرين منهم محافظ السويس وحكمدارها الإنكليزي ورُبَّان كوثر، ودار حديث اشترك فيه الربان بالإنكليزية تارة وبالفرنسية أخرى، وما كنت لأشير إلى هذا الحديث لولا ما أصاب الباخرة ساعة وصولها إلى جُدة، وتركنا الربان وما نزال على المائدة، فذكرت لزملائي عليها أن إنكليزيته وفرنسيته تدلان على أنه ليس إنكليزيًّا ولا فرنسيًّا، قال طلعت باشا: بل هو إيطالي، إذ ذاك توجَّهت إلى الحكمدار الإنكليزي وقلتُ مبتسمًا: ذلك خير، فلئن أصبح البحر الأحمر ميدان حرب بين إيطاليا وإنكلترا أثناء سفرنا لنكونن في حمايته الإيطالية.
وسارع طلعت باشا إلى التعقيب على عبارتي هذه بقوله: لقد دعوتُهُ منذ نشأت الأزمة الدولية الأخيرة ونبهته في حَزْمٍ إلى احتمال وقوع حرب يشتبك وطنه فيها، وسألته ما يكون موقفه يوم ذاك؟ فأكد لي بشرف البحَّار أنه يخدم بإخلاص العَلَم الذي يُظِلُّ الباخرة التي يقودها كائنة ما تكون الأحوال التي تحيط به.
وأردف الحكمدار الإنكليزي بهذه العبارة العميقة المغزى: قد تكون الحوادث أحيانًا أقوى من كل ما نُقْسِم به.
ونهضنا وغادرنا غرفة المائدة إلى حيث جلسنا نتحدث ونشهد تقلب الموج، وتناول حديث بعض الحاضرين زميلتنا في الحج إلى بيت الله، الأميرة خديجة حليم شقيقة عباس حلمي خديو مصر السابق وأرملة الأمير سعيد حليم الصدر الأعظم في تركيا في أخريات حكم السلطان الخليفة محمد رشاد، ودار الحديث حول تصوُّر الأمراء للحج، وما يلتمسون أثناءه من مغفره الله لهم، وإنَّا لفي هذا الحديث إذ أقبل علينا الأمير محمد عبد المنعم ابن الخديو عباس حلمي وولي عهد مصر السابق، وكان قد جاء يودِّع عمته بالسويس، وانتقل الحديث لمجيئه إلى موضوعات أخرى كان من بينها فيلم «وداد» السينمائي الذي أخرجته المغنية أم كلثوم في شركة مصر للتمثيل والسينما، وكان مدير هذه الشركة في مجلسنا، وكان حريصًا على أن يسمع رأي الناس في هذا الفيلم، قال الأمير عبد المنعم: إنما ألاحظ على هذا الشريط صورة المسجد فيه والنداء للأذان به.
ولاحظ الأمير صمت الحاضرين وعدم إبدائهم الموافقة على ملاحظته، فقال: صحيح أن المناسبة التي ألقي فيها الأذان من فوق مئذنة المسجد حسنة جدًّا؛ فقد كان الناس يختصمون، فلما سمعوا الأذان انصرفوا عن الخصومة وولَّوا وجوههم شطر بيت الله، لكن السينما تنتقل من بلد إلى بلد، ولا عجب أن يعرض هذا الشريط في أوروبا، والغربيون يستهزئون حين يسمعون الأذان وحين يسمعون القرآن، ومن الواجب علينا ألا نُعرِّض ما نقدسه إلى استهزاء الغير به.
ودار حول رأي الأمير حوارٌ دل على أن كثرة الحاضرين لا تؤيده وإن اختلطت عبارات هذا الحوار بكثير من ألفاظ التبجيل والاحترام، وتنقل الحديث من بعد في مسائل شتى، تركنا الأمير على أثرها ليقيم سويعةً مع عمته قبل سفرها، ولعله تركنا غير راضٍ عن الذين خالفوا رأيه عن الأذان في السينما.
ولم أشترك في حوار الذين حاوروا الأمير، ولم أرد أن أذكر ما ورد في القرآن عن الذين يستهزئون حين يسمعون كلام الله وأن الله يستهزئ بهم ويردهم في طغيانهم يعمهون؛ فما كنت لأثير جدلًا حول أمر يتصل بعقيدة صاحبه، وليس من اليسير أن يصرفه الجدل عن رأيه، أو يحمله على المصارحة بالعدول عن عقيدته فيه.
على أني لم أعجب لهذا الرأي من شابٍّ نشأ في أسرة مالكة، وكان يومًا وليَّ العهد لعرش دولة لها مكانتها في العالم الإسلامي كله، فهؤلاء يبالغون في الحرص على تقديس ما يعتقدونه مقدسًا ليبالغ غيرهم في تقديس الدين وما يصدر عنه، وهم لا يؤمنون كما يؤمن أبناء الشعب بصوت الشعب وأنه من صوت الله، وإنما يؤمنون بصوت الملك وأنه من صوت الله، فإذا حجوا ليستغفروا أو يطهروا، كفاهم أن يرتقوا إلى عرفات ولهم في سعة مالِهِم من أسباب الفدية ما يحسبون أنهم يفتدون به كل الأوزار والخطايا، وإن منهم من لا يرضى أن يحرم يوم عرفة؛ لأنه لا يؤمن بالمساواة، فهو يريد أن يفتدي منها كأنما يفتدي من عذاب يوم عظيم.
وإنما عجبت أن لم يذكر أحد من الذين جادلوا رأي الأمير ما سمعته غير مرة من أن الأذان بصوت حسن كان مما حمل كثيرين من غير المسلمين على أن يدينوا بالإسلام، ولقد عرف هذه الحقيقة من أقاموا من قبل في تركيا حين كانت تختلط في عاصمتها زُمَر الأمم المختلفة الأديان، والحق أن كلمات الأذان البسيطة العذبة جديرة حين تُرتَّل ترتيلًا يؤدي معناها بكل قوته أن تنفذ إلى أشد النفوس صلابةً، وأشد النفوس استكبارًا، وهل هناك أقوى من قولك: الله أكبر، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، الله أكبر، لا إله إلا الله؟!
وغير المسلمين يسمعون إلى آي الذكر الحكيم حين يقصد من ترتيله إلى حسن فهمه بإجلالٍ وإكبارٍ كإجلال المسلمين وإكبارهم، فلا عجب أن يحرص المسلمون على أن يُذاع القرآن ويذاع الأذان بكل وسائل الإذاعة، ولا عجب أن يحتج المسلمون من أقطار الأرض كافة حين يسمعون أن محطة الإذاعة في مصر ستعدل عن إذاعة القرآن أو تقلل من تلاوته.
وآن لكوثر أن تتحرك، فتركها المودِّعون بعد أن ألقوا على المسافرين كلمات الأمل الطيب، وحسن الرجاء في حج مقبول وعودٍ حميد، وانتقل المسافرون إلى ناحية الشاطئ يحيُّون مودعيهم التحية الأخيرة قبل السفر، فإذا جَمْعٌ من ألوف الناس على رصيف المرسى لم يلبثوا حين سمعوا الموسيقى تصدح أن تعالى في الجو هتافهم للإسلام وللحج وللوطن هتافًا حارًّا صادرًا من حبات القلوب ومن أعماق الأفئدة، ما أبلغ أثر هذا المنظر في النفس! فهذي الألوف الذين جاءوا لتحية المسافرين إلى بيت الله لا يعرف أكثرهم أحدًا من هؤلاء المسافرين، وإنما جاءوا يودعون إخوانهم في الدين بقلوب عامرة بالله والوطن، لقد كانت مشاعري تهتز أيَّما اهتزاز كلما علا نداء هذه الجماهير في الجو، فهذه أمة تلتمس التوجيه الصالح إلى حياة تريدها حياةَ مجد وعظمة، وتلتمس هذا التوجيه بصدق وإخلاص، وتلتمسه في كل مظهر من مظاهر الحياة المصرية، يملؤها الأمل من اقتراب هذا اليوم الذي يفتح فيه باب الرجاء فتندفع إليه متفانيةً في سبيله، كلها التضحية للعقيدة، وكلها التضحية للوطن.
وتحركت الباخرة، فعدتُ إلى ناحيتها الأخرى أشهد أمواج خليج السويس المصري، وأشهد من ورائها مخازن شركة البترول الإنكليزية القائمة في الأراضي المصرية، وأعود بتفكيري إلى الحجاز وإلى الحج، وإلى ألوف المسلمين الذين يؤدون هذه الفريضة في كل عام؛ لأنهم يستطيعون إليها سبيلًا.
وشُغِلت بخليج السويس ومياهه وأمواجه حتى انحدرت الشمس إلى مغيبها، ولما تناولنا طعام العشاء أسرعت إلى مِخْدَعي، علِّي أجد في النوم ما يعوضني عن مجهود نهاري، وبعض ما يعوضني عن مجهود الأيام التي سبقت.
واستيقظت مع الصبح واستنشقت هواء البحر، ما أرقه وأعذبه وأصحَّه! وشكرت لله أنعمه وأنا في خلوتي المبكرة فوق سطح الباخرة أشهد شواطئ خليج السويس التي لم تزل قريبة منا، فلما آن ليقظة النهار أن تجمع أصحابي معي كي نتبادل من الحديث أطرافه ألفيتُني في رفقة لم أُلْفِ منها أحدًا فيما سبق من أسفاري، وإن يكن منهم من سافر من قبل إلى أمريكا وأوروبا، وإن يكن منهم من يقيم في باريس أكثر وقته، قال صاحبنا هذا: أوَلا تعجبكم هذه السكينة التي غمرتنا على البحر منذ غادرنا السويس؟! ولو أن «كوثر» كانت مسافرة في رحلة الصيف إلى أوروبا لسمعنا الموسيقى على العشاء، ولشهدنا فيلمًا من أفلام السينما المسلية إن لم تحرك الموسيقى شجن ذوي الشجن إلى الرقص، أما وهي مسافرة إلى بيت الله بالذين يريدون وجهه فقد نسيَتْ ما أَلِفَتْ من ألوان المسرَّة الساخرة، واتشحت برداءٍ من الحكمة هو وحده الجدير بوجهتنا، ولست أخفي عليكم أنني ابتسمت مساء أمس حين ذكرت ما كان على الباخرة التي أقلَّتني من أوروبا منذ أسابيع من مرح شدَّ ما كنا نستطيبه، واشتد بي الشوق أن أسمع إذاعة من مصر على الأقل أتداوى بها من ملال السفر على الماء، فلما جنَّني الليل واشتملت الباخرة سكينته ولم أسمع إذاعة ولا موسيقى، تداويت عن طمأنينة العاطفة بطمأنينة القلب، وادَّكرت ما أنا مقبل عليه، فطابت إلى سكينة القلب نفسي، وجعلت من ذكر الله وتلبية دعائه أنيسي، وتذكرت أن الأقلين من أُوتوا مثل حظي فداولوا في أسابيع بين النَّهل من وِرْد باريس وعلمها ومسارحها ومتاحفها ومجتمعاتها الحافلة بأسباب الأنس، وورد المنهل العذب للحياة الروحية بمكة عند بيت الله الحرام وبالمدينة مثوى قبر رسوله — عليه السلام.
وبُهِت بعض الحضور لهذا القول، فتبادلوا النظرات بينهم هُنَيهةً خيَّم أثناءها الصمت، ثم قال أحدهم موجهًا الكلام إلينا جميعًا: ائذنوا لي أن أقدم لكم كتيِّبًا جمعت فيه مناسك الحج وأركانه، لعل لكم في تلاوته بعض ما ينفعكم فيما أنتم مقبلون عليه.
وأخرج من جيب قفطانه عدة كتب صغيرة وزعها علينا جميعًا، عرفت إذ أَجَلْتُ النظر فيها أنها تلخص مناسك الحج على المذاهب الأربعة، ولم ينجه هذا التلطف من أن يوجه إليه أحد الحاضرين بعد أن استوى الكتيب في يده قوله: وهل ترك مطوِّفو مكة لأحد في الحج قولًا؟ إنهم ليوجِّهوننا في كل دقيقة وجليلة من شئون حجِّنا وإن استوى لأحدنا من العلم بهذه الفريضة ومناسكها ما لا علم بعده.
قال صاحب الكُتيِّب: الذنب على الحاج لا على المطوف، فلو أنه عرف فروض الحج وواجباته وسننه لما كان لمطوِّفٍ عليه ما تذكر من سلطان.
ومر بنا الخادم فطلبنا إليه قهوة ما كان أشهاها والباخرة تجري بنا فوق لُجٍّ صافٍ ونسيم رقيق منعش، وأقمنا نتحدث؛ أن لم نجد غير الحديث ما يسلينا في هذا السفر، فلما نُودي لصلاة الظهر قبيل موعد الطعام ذهبت مع القوم إلى حيث يؤمهم فقيه منهم في صلاة الجماعة، وعجبت حين رأيتهم يتخطون بهو الدرجة الأولى، فليس وراء هذا البهو في كوثر إلا «البار»، ولم يدر بخلدي يومًا ما أن يكون بار من البارات مسجدًا، لكن عجبي لم يمنعني من مشاركة القوم حين رأيتهم اتخذوا من بار كوثر مصلًّى وما لهم ألا يتخذوه وقد طهر أثناء رحلة الحج من أمهات الكبائر، وأمهات الصغائر، وفرش بالحصير الطاهر؟! وكان هذا المصلى أبلغ آية على أن العمل الصالح يخلع قدسيته على كل مكان يحل فيه، وإن شهد هذا المكان قبل ذلك من الوزر ومن اللهو ما يجعله إذ يشهدهما مثابة لهو ومهد متاع.
وتناول المسافرون طعام الغداء، وقال منهم من اعتاد أن يقيل، وأدَّوا فريضة العصر في مصلاهم ثم انتظموا جماعات يتحدثون، وجلس في جماعتنا شاب عرف الحجاز ونجدًا، وقضى بهما سنوات اتصل أثناءها بابن السعود ورجال حكومته، وكان يرتدي «جلابية» من السكروتة وعباءة من صوف دقيقٍ شفَّ لدقته عمَّا وراءه، وقد طُرِّز ما حول العنق والصدار منها بالقصب، وتدلت من حاشية الصدار «كراريت» مكسوَّة بالقصب كذلك، وسأله أحد الحاضرين عن هذه العباءة، فقال: إنها لباس أهل الحجاز الرسمي كالجلابية سواء، أما غطاء الرأس عندهم فالطرحة والعقال، وحذاؤهم النعال، وهم يسمون العباءة «المِشلح»، وسئل عما يقصُّونه عن النجديين وشدة تعصبهم لمذهبهم، فقال: كان ذلك أول فتحهم الحجاز وانحدارهم من نجد إليه، فقد دُفعوا يومئذٍ إلى الغزو والفتح عقابًا للأشراف أصحاب الحكم في الحجاز على استهانتهم بدين الله وارتكابهم المعاصي، وقيل لهم: إن أهل الحجاز قد أقاموا من القباب أوثانًا فهم على عبادتها عاكفون؛ لذلك كانوا يحطمون القباب أينما ثقفوها، كما كان المسلمون الأولون يحطمون الأصنام، وكانوا يبالغون فيما يسمونه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى كانوا يعتدون على المدخنين وعلى غير الملتحين، أما اليوم فقد استقرت الأمور إلى نصاب وسط تواضع عليه القوم، وكان للحجاج من البلاد الإسلامية المختلفة أثر بالغ في تقريره، وما أحسب مسلمًا يرى هذا النصاب الوسط اليوم عنتًا، فالإخوان «النجديون» حريصون على أن يسيروا حيث وَلُوا الأمر على حكم كتاب الله وسنة رسوله؛ لذلك يُجْزَى كل من جهر بمعصية بالحد الشرعي، بذلك اختفى ما كان باديًا قبل توليهم أمر الحجاز من استهتار ومجون، فلم يبق من يعاقر جهرةً الخمر، أو يغازل جهرة غلامًا، وتطبيق الحدود على الجرائم هو الذي أقر الأمر في نصابه، حتى صار الحجاز يفاخر بحق أكثر الأمم طمأنينة وأمنًا، والفضل في هذا النصاب الوسط يرجع إلى ما بدءوا به من شدة وتزمُّت.
«وإنما أدَّى بالحكومة الحجازية إلى العدول عن بعض ما كان أهل نجد يشتدون فيه كشدتهم في إرخاء اللحية، وقص الشارب وعدم التدخين، وما إلى ذلك مما يبيحه غير المذهب الحنبلي من المذاهب الإسلامية، ما حدث غير مرة من أهل نجد وأهل المذاهب الأخرى من المسلمين أثناء أشهر الحج مما كان له أثره في الحج، وفي الحالة الاقتصادية في البلاد، ولو ذكرتم أن التسامح في مسألة التدخين يرجع في كثير إلى تأثر إيراد المكوس «الجمارك» الحجازية بسبب منعه، لعلمتم ما للحالة الاقتصادية من أثر كبير في العقائد والعادات.»
بينا كنا نستمع لصاحبنا يتحدث عن الحجاز وما صنع به أهل نجد، مر بنا جماعة ليسوا مصريين لبسوا لباس الإحرام، وإذ كان بيننا وبين ميقات الحج برابغ يوم كامل، فقد فسَّر أحد الحاضرين سبقهم إلى الإحرام بأنه تعجل لمغفرة الله واستزادة من ثوابه.
وأوينا بعد العشاء إلى مضاجعنا، فلما أصبحنا كنا على ساعات من ميقات رابغ، وعلى ساعات كذلك من إعلان النية بالحج والعمرة والإحرام بهما؛ لذلك لم يكن للمسافرين جميعًا طيلة الصباح حديث غير حديث الإحرام، بعد هذه الساعات يتطهر المسافرون جميعًا ويصلون بنية الحج والعمرة ويُحرمون، وبعدها يكررون التلاوة لقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ، ثم نلتقي جميعًا على سطح الباخرة وقد تغير لباسنا، وتغيرت تحيتنا، وتغير حديثنا، جميعًا نلبس غير المخيط، ونحيي بالتلبية، وننسى من شئون الحياة كل شيء سوى الحج ومناسكه، يا لرهبة الموقف وروعة جلاله! يجب أن ننسى كل شيء إلا أننا جند الله لبَّينا دعاءه، ويجب أن يكون كلامنا طاهرًا، وقلوبنا طاهرة، وأعمالنا طاهرة، وأن يكون كل وجودنا خالصًا لله وحده، خالصًا إخلاص صدق لا تشوبه شائبة ولا ترقى إليه ريبة من أوهام هذه الحياة الدنيا.
أي: سمو بالنفس كهذا السمو؟ وأية مرقاة هذه المرقاة التي نروض أنفسنا على الارتفاع بها لإدراك هذه الغاية؟ ما أبلغ هذه الحكمة الأولى من حِكم الحج! وما أعظم هذه الرياضة الروحية للنفس! رياضة تبلغ بالإنسان إلى عليا درجات الإنسانية، إلى الدرجة التي يقرب عندها من الأنبياء والصدِّيقين والأولياء المقرَّبين، والتي تطوع له أن يفنى حقًّا في جلال الله ذي الجلال والإكرام؛ ليُقوي بهذا الفناء ضعف نفسه، وتزول بهذه القربى كل عوارض أهوائه، لقد تضاعفت هيبة هذه الصورة في نفسي منذ أحسستها قريبة كل القرب مني، فامتلأ قلبي بجلالها أضعاف ما امتلأ من قبل حين كنت أصورها لنفسي قبيل السفر.
وتناولنا طعام الغداء، وأويتُ إلى مخدعي، وأوى الآخرون إلى مخادعهم وإلى غرف الاستحمام نتهيأ كلنا للإحرام، ودلفت محرمًا إلى بهو الباخرة أتقي به هواء البحر، فإذا من بالبهو جميعًا محرِومون، وألقيت عليهم السلام فكان جوابهم أن تنادوا وأنا معهم: لبيك اللهم لبيك … ها أنا ذا الآن تنطق شفاهي وأسمع بأذني ما كان يتصوره ذهني، وها أنا ذا يخفق فؤادي لهذا النداء نجيب به داعي الله صادرًا من قلوب مُلئت بالله إيمانًا، ويقبل علينا قادم محرم فتعلو بالتلبية أصواتنا جميعًا في شيء من الترتيل لا يذهب بمعناها وينتظم نغمها، فإذا انقضت فترة لم نشغلها بالتلبية تحدَّث الحاضرون في الحج، أو قص أحدهم طرفًا من سيرة النبي — عليه الصلاة والسلام، فلما آن للشمس أن تغيب قام فقيهٌ فنادى مؤذنًا بصوت جَهْوَري سمعه أهل الباخرة أو أكثرهم، ثم أمَّ المكان الذي اتخذناه مصلى فنادى فيه للصلاة، وسرعان ما انتظمت الصفوف، ولم يكن الرجال وحدهم هم الذين نظموا صفوفهم، بل نظمت السيدات صفوفهن من خلف الرجال وقمن معهم بصلاة الجماعة في خشوع وإنابة، واستغفرن بعد الصلاة كما استغفروا، وطلبن عفو الله كما طلبوه.
وخرجت من البهو إلى سطح الباخرة أجتلي في موليات النهار تقلب الموج، وألتمس أشعة القمر الناصع ما تزال متألقة فوقه، وإني لأسير إذ لاقيت رفيقًا يمشي الهُوَينى، فمشيت معه، ولم يكن رفيقي يخفي من آرائه حرصه على حجاب المرأة أو عدم اتصالها بغير ذي رَحِم محرم من الرجال، ولا يخفي اعتقاده أن في التقاء الجنسين، وإن في مجمع حافل، محرِّضًا على الفساد، ولكنه إذ رأى هذا الاجتماع للصلاة يحضره الرجال والنساء في طهر وإنابة لم يلبث حين سرت معه أن قال: أرأيت هذا الاجتماع الذي ضم الجنسين معًا للصلاة؟ إن طهارة القلب والقصد وسمو الغاية كفيلة بأن تزيل كل خوف من اختلاطهما، ولو أن أخلاقنا صلحت وغاياتنا في الحياة سمت لما تمسك بالحجاب أحد.
وأقررت رأيه ولم أذكر له أن إقبال السيدات المصريات على الاشتراك في صلاة الجماعة على الباخرة، إنما شجَّعهن عليه ما نلن في السنوات الأخيرة من حرية طوعت لهن الاتصال بالرجال في تجارة الحياة، وأنهن لو بقين كما كنَّ رهن خدورهن، يراهن الرجال عورة، ويولين من منظر الرجال فرارًا، لما تركت إحداهن مخدعها، ولا تناولت طعامها بالباخرة في غرفة المائدة لا يفصل بينها وبين الرجال إلا ستار رقيق، ولظللن حبيسات المخادع حتى يخرُجْن من الباخرة محمولات إلى مركباتهن، ثم إلى محفَّات الطواف والسعي.
أقبل المساء وبدأ الركب يتحدثون في وصول الباخرة بُكرة الصباح إلى جدة، ويتساءلون: أيتيح لهم الحظ فرصة النزول إلى الشاطئ والذهاب إلى مكة لإدراك صلاة الجمعة في الحرم، ولأداء طواف العمرة وسعيها بعد الصلاة كيما يحلوا إحرامهم إحلال التمتع ليحرموا بعد ذلك للحج، واشتركت وإيَّاهم في هذا الحديث، فلما خلوت إلى نفسي عجبت لهذا الإحرام الذي لا يدوم يومًا كاملًا، والذي يتحدث أصحابه في التحلل منه بعد سويعات من ارتدائهم إياه، فما بين رابغ وجدة أقل من اثنتي عشرة ساعة في الباخرة، وبين جدة ومكة ساعتان أو نحوهما في السيارة، وما بين ذلك من إجراءات النزول إلى جدة وما بعده من الطواف والسعي لا يستغرق أكثر من أربع ساعات أو خمس، أين إذن أُسْوَة المسلمين بالرسول وأصحابه في هذه الفريضة؟
إن ما بين المدينة ومكة على الإبل ليستغرق عشرة أيام أو أكثر يظل الحجيج محرمين أثناءها ملتزمين ما فرض القرآن أن لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وهذه الأيام المتوالية لها أثرها في رياضة النفس الروحية وفي تهذيبها هذا التهذيب الراقي السَّامي، وإنما فرض الإحرام — في رأيي — لهذا التهذيب وهذه الرياضة؛ ولذلك يلتزم الإنسان أثناءه آدابًا في التلبية، وفي التوجه لله، وفي الرغبة عن أهواء الحياة الدنيا، فكيف تتم هذه الحكمة بالتجرد أربعًا وعشرين ساعة لا يمتنع الإنسان خلالها إلا عن القليل من عاداته! إن رياضةً هذا كل أمدها غيرُ جديرة بأن تترك في النفس أثرًا يذكر.
وأفضيتُ بخاطري هذا إلى بعض إخواني بالباخرة، فكان جواب أحدهم: الدين يسر لا عسر، والميقات مكان لا زمان، ولو أنك أحرمت من رابغ ثم طرت إلى مكة في ساعة أو دونها لكنت قد أدَّيت الواجب الديني المفروض عليك، فأما الرياضة الروحية فليس الإحرام بمُمَهد لها، ولا التحلل بمانع منها من أرادها.
ردني هذا الجواب إلى التفكير فيما حسبته من حكمة الإحرام، وتساءلت: فيمَ إذن هذا التجرد من المخيط إذا لم تكن له حكمة تسوِّغه؟ أوَلا يكفي أن يتساوى الناس سُوَيعة في مظهرهم وهم يعلمون ما بينهم من عظيم التفاوت؟ ولم أرد أن أمعن في هذا الحوار مخافة أن يكون الاعتراض على رأي الغير أو التفكير في قيمته جدالًا فيه، «ولا جدال في الحج»، وأنا جد حريص على رياضة نفسي هذه الرياضة السامية التي وردت في القرآن.
وأوينا إلى مضاجعنا وكلنا الشغف أن يطالعنا الصبح بشاطئ جدة بعد سفر بالَغَ البحرُ أثناءه في اللطف بنا، حتى لوددنا لو نظل وإياه أيامًا لولا شغفنا ببلوغ البيت العتيق، وتنفس الصبح عن جو صاف ونسيم عذب ويقظة للوجود مستبشرة ضاحكة، وقمنا إلى متاعنا نعدُّه للنزول، وأخوف ما نخافه أن تضيق بنا السويعة الباقية عن إتمام إعداده، وأزفت الساعة السابعة صباحًا، وتبدَّى الشاطئ بشيرًا بأم القرى، وإنا لنفكر في النزول إلى جدة وفي الرحيل منها وفي إدراك الجمعة بالحرم إذا «كوثر» تهتز هزة عنيفة وكأنما زُلزلت زلزالها، هزة رُجَّت منها مفاصلها جميعًا، واضطرب لها كل وجودها، وبعد هُنَيهة من هذه الهزة التي لم تتسع لأي تفكير منا في أمرها وقفت الباخرة لا حراك بها وكأنها جسد هامد، وفي أثر وقوفها سَرَت إلى مخدعي من بهوها أصوات المسافرين ترتفع مرتِّلة: «باسم الله، الله أكبر، ولله الحمد»، فملبِّية في حماسة فيها إيمان وتقوى.
ما هذه الهزة العنيفة يعقبها وقوف مفاجئ؟! لم يدر بخلدي أن في الأمر ما أخشاه، وما عسى أن أخشى وهذا الشاطئ على مقربة منا قد رأيناه رأي العين؟ وكل ما توهمته أن ربان الباخرة أدارها نحو الشاطئ في عنف نشأت عنه هذه الهزة، ثم وقف بها انتظارًا لشرطة المرفأ ورجال الصحة به، وآية ذلك هو الحمد لله من جانب المسافرين، وازددت انهماكًا في إعداد متاعي كيما أسبق غيري إلى الزوارق فأسبقهم إلى الشاطئ، وضغطت الجرس أبتغي فنجانًا من الشاي أتناوله قبل أن يبغتني الوقت، فلما أجاب الخادم جرسي طلبت إليه الشاي، وسألته عن هزة الباخرة ما كانت؟ فأجاب: لقد شحطت على جزيرة من الرمل، وعما قريب تعود سيرتها إلى جدة.
شحطت على جزيرة من الرمل؟! لم تكن هذه الهزة المزعجة إذن لفتة من الربان فيها عنف، بل كانت صدمة بجزيرة من جزر البحر وشِعْب من شعابه، الأمر أجلُّ إذن من أن أقف عند متاعي وإعداده، فلأذهب لأتبين جليَّته، وتناولت الشاي دراكًا وأسرعت إلى بهو الباخرة في لباس إحرامي، فألفيت المسافرين مجتمعين كأنهم يتداولون، وخلوت بأحدهم وسألته فقال: لقد اصطدمنا بشعبٍ من شعاب البحر الأحمر الناتئة بجدة، هذه الشعاب المعروفة للملاحين جميعًا؛ لذلك لا أدري كيف دفع الرُّبان السفينة إليه في يقظة النهار وضوء الشمس، وقد قيل لنا: إن الربان بعث رجاله فامتحنوا موضع التصادم من قاع الباخرة، واطمأنوا إلى أنه لا خطر على الباخرة ولا خطر علينا، ولست أدري ما الله صانع بنا من بعد ونحن في وسط البحر بين صخوره وشعابه؟
واشترك معنا في الحديث زميل حاج من رجال التلغراف اللاسلكي، فقال: لقد صعدت إلى الربان ساعة حدثت الصدمة؛ لأنني أعرف في هذا المكان شعبًا يدعوه أهل جدة «شعب السامري»، وتثبته الخرائط الأوروبية باسم «شعب سانت ماري»، ولم تدر بخاطري ريبة منذ حدثت الهزة في أننا اصطدمنا به، وذكرت للربان أنني من رجال اللاسلكي الرسميين، وعرضت عليه خدمتي، فشكرني وذكر لي أن عنده رجل اللاسلكي الذي يعمل بالباخرة وأنه لا يخشى خطرًا.
وساد الباخرة صمت رهيب بعد ضجة التكبير والتهليل التي أعقبت الصدمة، فقد نسي المسافرون الإحرام والتلبية، ووقف تفكيرهم عند هذا الحادث وأثره، وكان جلُّ تساؤلهم عن مبلغ الخطر وهل يوشك أن يدهمنا؟ ولم تهدأ وساوسنا بعض الشيء إلا بعد ان علمنا أن الشعب الذي ارتطمت به الباخرة شعب أملس يميل متدحرجًا في هُون إلى الارتفاع، وأن ميله وملوسته وتدرجه طوعت لها أن تزحف عليه وأن تستقر فوقه، ولولا ذلك لتحطمت عليه، ولكنَّا منذ وقوع الحادث بين يدي الموت يرحم من شاء ويختار من شاء، وقال الذي نقل إلينا هذا التفصيل: لعلكم علمتم أن الماء دخل من نوافذ الحجرات الواقعة عند مؤخر الباخرة، واضطر رجالها إلى إقفال الأبواب الحديدية المتصلة بهذه الحجرات، ذلك أن الباخرة حينما زحفت فوق الشعب ارتفع مقدمها وانحدر المؤخر، فهوت نوافذ حجرتها فحاذت الماء فتسرَّب جانب منه إليها قبل أن يحكم إقفالها، ولولا أن وقفت الباخرة حيث وقفت بعد أن تقدمت في زحفها بضعة أمتار، لجرَّها مؤخرها إلى الماء فابتلعها وابتلعنا معها.
انطلق المسافرون يعلِّقون على هذا الحديث كلٌّ بما عنَّ له، ولم يأب توثب الخيال على بعضهم أن يذكر أن الربان تعمد وقوع الحادث، وكيف لا يكون تعمده — في تصورهم — وهو قد وقع في وضح النهار وفي مكان يعرف كل من مَارَس البحر الأحمر ما به من شعاب، ولم يعدل هؤلاء عن تصورهم أن أبسط منطق للعقل يأباه، فلا مصلحة للربان الإيطالي في وقوعه، وأيسر نتائجه يؤذيه أبلغ الأذى، والعقل يأبى أن يعرض إنسان نفسه للأذى بلا فائدة ولا مقابل، لكن منطق العقل ليس المنفرد بالسلطان علينا، وكثيرًا ما يغلب خيالنا منطقنا بتسلط تصورنا على حسنا، ولقد كنت أشد الناس اقتناعًا بهذا المنطق وحرصًا على إقناع المسافرين به، مع ذلك ذكرني وقوع الحادث وخوض الناس في تفاصيله بما كان من حديثنا عن الربان في غرفة المائدة قبيل السفر، وقول حكمدار السويس الإنكليزي: قد تكون الحوادث أحيانًا أقوى من كل ما نُقسم به.
وعدت وعاد المحرمون إلى الخوض في الحادث وكيف وقع، هذا الحادث الذي لم أحسبه أول الأمر ذا بال، وها هو ذا يتجسَّم الآن خطره، ويزداد جسامة رويدًا رويدًا في نظري ونظر المسافرين جميعًا، فلما أدركنا جسامة الخطر على حقيقتها ازددنا شكرًا لله أن وقفت الباخرة حيث هي، يمسكها الشِّعب وإن مالت إلى جانبها بعض الميل، وامتلأت نفوسنا بالشكر وفاض عنها، فترجمنا عن فيضه بالإمعان في التلبية مكررة قوية صادرة من قلوب زادها تصور الخطر إخلاصًا وإيمانًا، إن صحَّ أن تزداد قلوب قصدت إلى بيت الله ملبية نداء ربها إخلاصًا وإيمانًا.
وكان رجال الباخرة الرسميون في مثل ارتباك المسافرين للحادث، حتى لقد اختفوا عن الأنظار، ولم يقف منهم إلى جانب المسافرين من يهوِّن الأمر عليهم أو يبعث الطمأنينة إلى نفوسهم، ولم يعادوهم من الطمأنينة ما يذكرهم واجبهم إلا بعد أربع ساعات من الحادث، إذ ذاك أصدروا بلاغًا قيل فيه: إنه لا خطر منه، والحمد لله على «كوثر» وركابها، وإن الباخرة «زمزم» الراسية بمرفأ جدة ستجيء لمعاونتها.
تلقَّى المسافرون هذا البلاغ بنوع من الاطمئنان لم يكن منه مفر، وزادهم طمأنينة سكينة البحر وصفاء الجو ورقة النسيم من حولنا، والشمس ساطعة يبعث ضياؤها إلى الأفئدة دفئًا ينعشها ويزيل كل مخاوفها أن يصيبها من غدر البحر سوء، وهل يغدر البحر بمن أتوا إلى بيت الله حاجين معتمرين؟
وتناولنا غداءنا ولم تكن «زمزم» قد ظهرت في الأفق، ومع لطف الله في قضائه لم تطاوع أحدنا نفسه أن ينزل إلى حجرته يقيل بها، بل بقينا نحدق إلى ناحية الأفق منتظرين الباخرة المنقذة، وقبيل الساعة الثالثة بعد الظهر — أي: بعد ثمان ساعات من الحادث — تبدَّت «زمزم» مقبلة، فشُدَّت إليها أبصارنا وبقيت معلقةً بها حتى وقفت على مقربة منا تختار مكانًا يهيئ لها القيام بالمهمة التي نُدبت لها حتى يتم انتقالنا إليها بسلام لإيصالنا إلى المرفأ، ذلك ما جاء في بلاغ رجال «كوثر»، وهو ما دار بخاطرنا، لكنا بقينا ساعة كاملة ننتظر هذا الانتقال، ثم لم نر من بوادر التهيؤ له ما يبشر به، وسألنا في ذلك، فقيل لنا: إن التفكير منصرف إلى أن تسحب «زمزم» «كوثر» من مكانها إن أمكن لتدخل الباخرتان جدة معًا، فيسدل ذلك على الحادث ستارًا ينسى من علم بأمره في مصر وفي غير مصر أنه وقع.
أقرَّ كثيرون هذا الرأي حرصًا منهم ألا تشوب سفرة «كوثر» شائبة، وكاد هذا الرأي يسود لولا أن قال أحد الحاضرين: فإذا فرض أن بكوثر عيبًا يستره التحامها بالشُّعَب ويبديه سحبها فتتعرض بسببه حياتنا للخطر، فما عسى أن يكون الرأي؟ أليس الأحكم أن ننتقل أولًا إلى زمزم، ثم تجر «زمزم» «كوثر»، فإن سحبتها من الشعب وعادتا معًا إلى جدة تحقق الأثر الذي تبتغيه الشركة ولم يتعرض المسافرون لخطر، وإلا عادت «زمزم» بنا إلى جدة قبل أن تضيع علينا فرصة الحج، ولم يبق على الوقوف بعرفات إلا ثلاثة أيام؟!
وسمعت السيدات هذا الحديث وكن منتحيات جانب البهو المقابل للرجال، فلما بدا لهن خوف الخطر إذا سحبت «زمزم» «كوثر» ونحن بها تقابلت نظراتهن في لمح البصر، ولم تلبث إحداهن أن اندفعت معبرةً عن شعورهنَّ جميعًا تقول: لن تتحرك «كوثر» ونحن بها، فلينقلونا أولًا إلى «زمزم»؛ لنكون بمأمن على ظهرها ثم ليفعلوا ما شاءوا، وإذا وجب علينا — لأننا مصريون — أن نحرص على نجاة «كوثر» وسلامتها، فواجب على الشركة أن تكون أشد حرصًا على أرواحنا، كذلك قالت، ثم حدَّقت بنا معشر الرجال بنظرة الآمرِ، وأضافت: هذا رأينا، وعليكم — معشر الرجال — أن تتشاركوا فيه وأن يُبَلَّغ للمختصين من رجال الشركة.
ألقيت هذه الكلمة في حزم تجلت فيه كل مظاهر الإرادة الصلبة التي لا تلين، وأيدت السيدات قول زميلتهن في حزم كحزمها، وكان الرأي ظاهر السداد، فلم يكن إلى التردد في تنفيذه سبيل، وأجابنا ممثل الشركة بأن الأمر استقرَّ كما أردنا، وأن تنفيذه يبدأ من فجر الغد، فقد أرخى الليل سدوله وسادت دولة الظلام.
شهدت ثورة السيدات قبل اليوم غير مرة وفي غير بلد، شهدتها في إنجلترا، وفي فرنسا، وفي مصر، لكنها كانت في هذه المرات كلها متصلة بمطالب سياسية أو قومية، فكانت العاطفة التي تدفع إليها تشوب قوَّتها رقة ويشوب عنفها فنٌّ يتصل بها اتصال الرقة بسجية الأنوثة، أما هذه الثورة التي بدت في أعين السيدات مذ شعرن بالخطر يهدد حياتهن وحياة بعولتهن أو ذويهن، فلم تشُبْها رقة ولم يسر فيها شيء من روح الفن، بل كانت كلها عنفًا وقوة وحزمًا وصلابة، وهذا طبيعي، فالثورة القومية أو السياسية يمكن أن تنتهي إلى صلح — إن لم يحقق أغراضها — كان فيه شيء من حفظ الكرامة، أما ثورة من يدفع الخطر عن حياته وحياة من يعز من ذويه فلا صلح فيها إلا بالتسليم والنزول على إرادة هؤلاء الثائرات حفاظًا على كيانهن وكيان ذويهن، وكذلك كان.
اطمأنت النفوس إلى الانتظار في «كوثر» حتى الصباح، وزاد في طمأنينتها أن بقي الجو في صفوه والنسيم في رقته، فلم نكن نخشى عاقبةً تتأثر الباخرة بها وهي مائلة فوق الشعب تأثرًا بالغ بعضهم أثناء النهار تقدير نتائجه، وجاء إلى «كوثر» قنصل مصر في جدة وطبيب القنصلية بها ورجال الحكومة العربية السعودية منتقلين من «زمزم» إليها مع رجال شركة مصر للملاحة، فشعرنا لوجودهم بيننا؛ كي يشاركونا مصيرنا، كأن الباخرة رست، وكأننا وإياهم في أرض جدة، وتناولوا وإيانا طعام العشاء، واتصل بيننا وبينهم حديث فيمن سبقونا إلى موسم الحج، وفي هذا الحادث ولطف الله بنا في قضائه، وفي حسن حظنا بوجود «زمزم» بجدة لتيسر انتقالنا فلا يفوتنا الحج، بهذا كله سكنت أعصابنا، وأتيح لنا أن ننال بعض الراحة بالنوم في أمن من انزلاق الباخرة إلى قاع اللُّج، ممتلئين أملًا أن ندرك مكة قبل مغيب شمس الغد.
وابتدأ انتقال المسافرين إلى «زمزم» في بكرة الصباح، وكان الانتقال بطيئًا لعدم التعاون بين المسئولين عن سرعة إنجازه، ولولا اندفاع المسافرين وانتقال طائفة كبيرة منهم في زوارق النجاة لما تم طيلة اليوم، وكمل المسافرون بزمزم في الساعة الثالثة من بعد الظهر، فتحركت بهن على هونٍ حتى قاربت مرفأ جدة والنهار يولي، وبينما كان المسافرون في ابتهاجهم بقرب نزولهم إذا قرار السلطات المحلية في هذا الأمر يحيل ابتهاجهم تجهُّمًا؛ فقد خشيت هذه السلطات أن يصيب «السنابك» التي تنقل المسافرين من الباخرة إلى الشاطئ ما أصاب «كوثر» حين مرور هذه السنابك بين الشعاب في ظلمة الليل، فقرَّرت مبيت المسافرين بزمزم، ولم يستثن من هذا القرار إلا الأميرة خديجة حليم وحاشيتها، واستثنيت أنا منه لكوني ضيف وزير المالية العربية الشيخ عبد الله بن سليمان الحمدان، فتركنا الباخرة مع رسوله إليَّ ونزلت ومن معي إلى «اللنش» لينقلنا إلى الشاطئ.
وانطلق «اللنش» مخلفًا وراءه «زمزم» ومن بها، وإني ليتنازعني ساعة انطلاقه عاملان: عامل الأسف لمقام إخواني على الماء ليلة أخرى، وعامل الغبطة لإدراك مكة والبيت الحرام ولقضاء العمرة طوافًا وسعيًا، ولقد تنازع هذان العاملان نفسي مذ علمت أني مغادر «زمزم» قبل إخواني، وكان عزيزًا عليَّ أن أفارقهم أو أتقدَّمهم وقد قضينا سفرًا نعمت معهم فيه بخير رفقة، لكنهم رأوا الأميرة وحاشيتها يسبقونهم فشجعني بعضهم على النزول، وكأنما رأوا فيه مظهر مساواة بين الطوائف، أو شبهة مساواة على الأقل.
وجرى بنا «اللنش» بين الشِّعاب قاصدًا إلى الشاطئ والشمس وراء ظهورنا تنحدر إلى مغيبها، واتشحت اللجة الزرقاء الأديم بوشاح المغيب، فلم نأبه لها، وقد شُغلنا عنها باستعجال غايتنا، ومررنا بباخرة محطمة غرقت في الماء فليس يبدو منها إلا أعلاها، تلك هي الباخرة الفرنسية «آسيا» التي احترقت منذ سنوات أثناء وقوفها حيث هي اليوم من غير أن تصطدم بشعب أو يصادفها غير الأجل الذي سلَّط ألسن النار عليها، وسرى إلينا نسيم المغيب فوق لجة الماء فأنعشنا وأنسانا بعض وصب النهار، وتلوَّى الزروق في انطلاقه متيامنًا حينًا متياسرًا حينًا، محاذرًا الشعاب، مطمئنًّا إلى مهارة سائقه وإلى معرفته ما تحت الموج إلى قاع اللج معرفة يأمن معها الاصطدام بالسامريِّ أو غير السامري من هذه الشعاب.
اقتربنا من جدة وبدت لناظرنا دورها وعماراتها، وازدادت وضوحًا على رغم نزول الظلام، وكان مظهرها يغري بالظن أنها خططت تخطيطًا جميلًا وبنيت على الطراز الحديث، وذلك الشأن في كل ما يبدو للمقبل في البحر من مظاهر اليابسة، فإذا اقتحمناه كنا كالجرَّاح إذ يقتحم بمشرطه جسدًا جميلًا، وشاهد «نابولي» أو «مرسيليا» أو «بيروت» قبل أن ترسو الباخرة بها يرى جمالًا أدنى إلى جمال المرأة في ثياب زينتها، وأحسب الذين لم يعرفوا من ذلك ما عرفت قد خدعوا بمظهر جدة، وكان من حقهم أن يُخدعوا بهذه المباني التي تمتد أمامهم على الشاطئ أميالًا عدَّة في نظام زاده البعد اتساقًا وجمالًا.
وأرسى «اللنش» على درجٍ صعدنا منه إلى الشاطئ، ولم يثر إحرامنا تطلُّع أحد؛ إذ كان الإحرام لباس عشرات الألوف الذين يفدون إلى جدة كل عام حاجِّين، وتناول رسول وزير المالية جوازات سفرنا، وتخطينا بناء الجمرك ولا يكاد يرى الإنسان أثناءه طريقه لضآلة نور المصابيح المعلقة إلى جدرانه، وتفضَّل رسول مضيفنا فأمر من تقدمنا بمصباح ذي نور أبيض، وأفضى بنا الجمرك إلى ميدان فسيح لولا نور القمر لتعذَّر علينا أن نصل منه إلى جانبٍ وقفت السيارات فيه، وقد أُعدت إحداها لتقلنا إلى أم القرى.
الله أكبر! ها أنا ذا بالأراضي المقدسة، بلاد النبي العربي محمد — عليه الصلاة والسلام، وبعد سويعة سأكون في الطريق إلى مكة، ما أكرمك ربي وما أعظم رحمتك ورضاك! قضيت أن نحُجَّ بيتك ويسَّرت لنا سبيله، فتقبل ربنا حجتنا وعمرتنا، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.