في المسجد النبوي
تَخَطَّيْتُ باب السلام أتبع مضيفي وفي ذهني من هذا المسجد النبوي صورة خيَّلها فيه ما اطَّلَعْتُ عليه من كتب الرحلات إلى الحجاز، وما في هذه الكتب من أوصاف وصُوَر شمسية، وتخطيت باب السلام وكلي التَّوق للوقوف أمام الحجرة النبوية والسلام على صاحبها — عليه أفضل الصلاة والسلام، وكنت أحسب بعد الذي رأيته بمكة والطائف وطريق المدينة من آثار أنني أَلِفْتُ هذه الآثار، فلم يبقَ منها ما أخشى النظر إليه بعين الباحث، لا أستثني من ذلك إلا قبره الكريم حين أقف أمامه؛ لذلك أقمت داخل الباب أنتظر «المزوِّر» الذي أومأ مضيفي إليَّ بانتظاره، وأكاد أحسب أني لن أرى في طريقي إلى الحجرة النبوية إلا ما أعرف، لكنني ما لبثت حين تقدمت في المسجد خطوات فاشتملني شَفَقُهُ الرهيب أن نسيت ما كان ماثلًا في ذهني من صور المسجد والحجرة مما اطلعت عليه في الكتب أو سمعته من حديث مَن سبقوني إلى هذا المكان، فما كان من ذلك في نفسي، إنما كان صورة وعاها خيالي، وها أنا ذا الآن أُواجه الحقيقة ذاتها، أشهدها بعيني وألمسها بجوارحي، وما عسى أن تغني الصورة عن الحقيقة أو يغني الخيال عن الحس؟!
انجابت الصورة وانجاب الخيال وسرت أتبع مزوِّري نحو الحجرة، مأخوذًا بما حولي، منصرفًا مع ذلك عن كل ما حولي، امتدت عن يساري غابة من العُمُد الضخمة البديعة الصَّقل، وهبط من نوافذ المسجد الرفيعة في جداره القائم عن يميني ضوء مبهم لم يحجب الأشعة المنبعثة من مصابيح الكهرباء منبسطة على السجاجيد الثمينة التي نسير عليها، مع ذلك لم يشخص بصري إلى العُمُد ولا ارتفع إلى النوافذ ولا استقر على السجاجيد، بل سِرْتُ مندفعًا أمامي كاسِرَ الطرف خشوعًا ورهبة، ممتلئ القلب من سيرة الرسول الكريم، تتواتر في نفسي دراكًا مواقف العظمة والجلال مذ بعثه الله نبيًّا حتى اختار الرفيق الأعلى، ثم تقف النفس عند هذا المكان الذي أخطو فيه والذي خطا ﷺ فيه سِنِي مقامه بالمدينة، والذي شهد من أمر الله ووحيه إلى نبيه ورسوله، ومن وقوف المسلمين الأولين حافِّين مِن حوله، ما جعلني أنسى كل شيء إلا هذه المواقف التي غيرت وجه العالم بعظمتها وجلالها، وبفضل الله ومشيئته، وبإيمان المسلمين الأولين بالله وبرسول الله.
وبلغنا الحجرة النبوية، ووقف مُزَوِّري واستوقفني قُبالة قبر الرسول الشريف، فلما اطمأننت مكاني إزاء المقصورة الجميلة أشار إلى فتحة فيها هي شبَّاكها، ثم تلا وتَلَوْت من بعده: «السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، نشهد أن نبي الله ورسوله قد بلغ رسالة ربه وجاهد في سبيله حتى أتم الله النصر لدينه، وأنه وَفَى بوعده، وأَمَر ألَّا نعبد إلا الله وحده لا شريك له.» ثم تحركنا خطوة صغيرة وقفنا بها من المقصورة إزاء قبر الصِّدِّيق أبي بكر وسلَّمْنا عليه، وتحركنا خطوة صغيرة أخرى وقفنا بها إزاء قبر الفاروق عمر بن الخطاب وسلمنا عليه، ثم تلونا الفاتحة.
أقمت مكاني هنيهة شاخصًا إلى هذه الحجرة، مأخوذ الذهن عن التفكير، متجهًا بقلبي إلى هذا الدليل الذي يتلو أمام ما يقتضي الموقف تلاوته، حَذرًا أن يفوتني منه شيء، وكأنني في حضرة ملك أُؤَدِّي مراسم الإجلال والإكبار، كلا، بل كان الموقف أكبر من حضرة ملك، فقد لقيت ملوكًا وتحدثت إليهم، ولقيت بعضهم وما أزال في صدر الشباب، فلم أجد للقياهم مثل هذه المهابة، ولا امتلأت نفسي أمامهم بشيء من هذا الإكبار، ووقفت أمام قبور لملوك وفراعين وأباطرة وعظماء فلم أشعر بشيء من الجلال الروحي الذي أخذ على تفكيري المسالك وأنا في هذا الموقف، وأشهدُ لقد كنت في حيرة ما أصنع، وإنما أنقذني من هذه الحيرة أن دعاني المُزَوِّر لأذهب إلى الروضة النبوية فأؤدي بالصلاة فيها تحية الحرم وأصلي فيها وراء الإمام فريضة المغرب، وتقدمني مُضيفي عائدًا نحو باب السلام، فكان جدار المسجد الذي به محراب القبلة إلى يساري، وكان إلى يميني حاجز يرتفع إلى ما فوق قامة الرجل صنع من أعواد صفر لعلها من النحاس أو من حديد طُلي بلون النحاس، واتصل بينها شَبَكٌ من لونها، وهذا الحاجز يقوم على حدود الرواق الجنوبي الذي نسير فيه فيفصله عن الروضة النبوية، ويمتد على طول الطريق من الحجرة إلى مقربة من باب السلام، على أنَّا لم نكد نتوسط هذا الطريق حتى دخلنا الروضة من باب في الحاجز لم تُعِنِّي الفرصة على الوقوف عنده وإنعام النظر في صنعه، فقد ألفيتُني وسط جمع زاخر جلس في صفوف متراصة ليس بينها مكان لواقف.
أأتخطى هذه الصفوف لعلِّي أجد لي فيما وراءها مكانًا؟ وهممتُ أن أفعل لولا أن أومأ إليَّ مضيفي فوقفت، وأسرَّ حديثًا إلى رَجُلٍ من خَدَم المسجد فأرشدني الرجل إلى مكانٍ أقف به في الصف الأول من الروضة إلى جوار منبر لم أشك أنه منبر الرسول، وهَمَّ يناولني كتابًا في يده، فألفاني أسرعتُ إلى إقامة الصلاة تحية للحرم وللروضة وسلامًا على صاحبها — عليه السلام، فلما فرغت من الصلاة مدَّ إليَّ يده بالكتاب، وفتحته فإذا هو مصحف مخطوط مذهب جميل، والتفتُّ فرأيت في يد جاري اليمين كتابًا صغير الحجم أدركت أنه دلائل الخيرات؛ لأنني عرفت من قبل أن بعضهم يتلوها حينًا ويتلو في المصحف حينًا آخر كلما جاء إلى الروضة، ومددت البصر إلى اليمين فوقع على مقعد فوقه عدد عظيم من المصاحف والدلائل، وإلى جانبه كراسي من الخشب يستعين بها بعضهم فيجعل عليها المصاحف أو الدلائل أثناء التلاوة فيها، وتستند المصاحف والدلائل الموضوعة فوق المقعد إلى المنبر النبوي الذي تنتهي الروضة بعده، ولم أحاول التحديق في المنبر تحديق الفاحص؛ لأن حالي النفسية في هذه اللحظة لم تكن حال فحص أو تحقيق، بل كانت حال عبادة وتهجد وتوجه خالص إلى الله.
ونادى المؤذن لصلاة المغرب، فانتظم الناس صفوفًا في الروضة وفيما أمام الروضة من الرواق الذي به المحراب العثماني وفيما وراء الروضة لا ريب، وصلينا مع الإمام ركعات المغرب ثم صلَّى السُّنَّة مَن شاء، وأقمت بعد ذلك وبي إلى أن أطيل المقام بالروضة هوًى ألحَّ بي أن أبقى إلى صلاة العشاء لعلِّي أجد في هذه الفترة فرصة التأمل فيما حولي وتدبُّره، لكن مضيفي أقبل نحوي ودعاني، فتبعته خلال الروضة نحو باب السلام، على أنه انْفَتل قُبَيْله متجهًا إلى داخل المسجد مجاورًا الجدار الغربي، فلم تخامرني الريبة في حرصه على المرور بي في أنحاء المسجد كله لأحيط به في نظرة إحاطة عامة، ووقف عند مكان من الجدار كأنه الباب عليه إطار وكتابة، وقال: «هذه خَوْخَة أبي بكر.» وذكر معي ونحن نتلو الكتابة ونُعجب بخطها الجميل ما كان لدُور الصحابة على عهد النبي من أبواب تفتح على المسجد حتى أمر رسول الله بسدِّها وقال: «لا يبقيَنَّ في المسجد خَوْخَة إلا خوخة أبي بكر.» فسُدَّتْ وبقيت هذه الخوخة التي وقف مضيفي أمامها وقرأ معي هذا الحديث الذي كتب على بابها، على أنه لم يلبث أن قال: «إن هذه الخَوْخَة لا تقع حيث كانت خوخة أبي بكر على عهد الرسول — عليه السلام — فقد وُسِّع المسجد مرات بعد ذلك، ورُدَّ هذا الجدار الغربي إلى حيث هو الآن بعد أن كان هناك عند ذلك العمود الذي يحدد مسجد النبي.» وبعد أن أشار إلى عمود عليه إطار مذكور فيه أنه حدُّ المسجد النبوي أضاف: «والخَوْخَة الآن تقابل موضعها الأول تمامًا.»
وعُدْنَا نسير بعد الخوخة حتى بلغنا باب الرحمة الواقع في الجدار الغربي كباب السلام، فلما رأيت مضيفي اتجه إليه لنغادر المسجد رميتُ ببصري لعلي أحيط بالمسجد في نظرة، فإذا الناس حولي في زحمة الخروج يدفعونني نحو الباب ولا يجعلون لي إلى الإحاطة بالمسجد سبيلًا ولا من الخروج بُدًّا.
أكثرتُ من التردد من بعد ذلك على المسجد وأحطت بكثير مما فيه خُبْرًا، ولقد أعانني على ذلك أنني اتصلت منذ نزلت المدينة بالأستاذ عبد القدوس الأنصاري صاحب كتاب «آثار المدينة المنورة»، وأستاذ الأدب العربي بمدرسة العلوم الشرعية، كما اتصلت بكثيرين كان لهم في إرشادي ومعاونتي فضل أذكره لهم وأشكره أجمل الشكر.
أول ما يلفت النظر في المسجد موقع الحجرة النبوية، فهي لا تتوسطه كما تتوسط الكعبة الحرم المكي، بل تقع في ركنه الجنوبي الشرقي على مقربة من باب جبريل، ولم تكن الكعبة تتوسط الحرم المكي إلى عهد الوليد بن عبد الملك الذي أصَرَّ على أن تكون في وسطه، ولو أنفق في ذلك ما في خزائن بيت مال المسلمين، ولعله قد حرص على ذلك في شأن الكعبة ولم يحرص هو ولا حرص غيره عليه في أمر الحجرة النبوية؛ لأن الكعبة قبلة المسلمين من نواحيها جميعًا، إليها يولون وجوههم حيثما كانوا، فمن الحق أن تتساوى جوانب المسجد الذي بُنِي حولها، أما الحجرة النبوية فلم تدخل المسجد إلا سنة ثمان وثمانين من الهجرة، وكان للاعتبارات السياسية دخلٌ في ضَمِّها إليه، وتقوم دور أثرية على مقربة من الحجرة النبوية، كدار عثمان، ودار أبي أيوب، وديار آل عمر، رُئِي لاعتبارات سياسية كذلك ألَّا تُضَمَّ إلى المسجد، ويقع باب جبريل في الجدار الشرقي للمسجد في موضع ينحدر إلى الشمال بعض الشيء عن مكان الحجرة، ومكانه متوسط بين باب السلام وباب الرحمة في الجدار الغربي.
ويقع بعد باب جبريل باب النساء في الجدار نفسه، وتقع فيما بينهما دكَّة الأَغَوَات، وباب النساء في هذا الجدار يقابل باب الرحمة في الجدار الغربي، وعلى الخط الموصل إلى هذين البابين أو وراءه قليلًا يقع حدُّ المسجد كما أقام النبي بناءه الثاني، وفيما وراء ذلك يمتد المسجد في مستطيل غير متوازي الأضلاع تزيد مساحته على ضعف مساحة مسجد النبي ويتناول زيادة عمر وزيادة عثمان وزيادة الوليد وزيادة المهدي، وهذا المستطيل مكشوف لا سقف له، ويسمى الحصوة، وكان به فيما مضى بعض أشجار من نخيل يطلقون عليها اسم بستان السيدة فاطمة، وبه الآن ساعة زواليَّة دقيقة الصنع، وتقوم حول هذا المستطيل المكشوف عُمُد ضخمة فوقها قِباب من طراز عمد المسجد وقبابه تحيط بها سائر جدران المسجد، وهذا الإطار الذي يحيط بالحصوة تشمل ناحيته الشرقية زيادة الوليد وزيادة المهدي، وتتناول الناحية الغربية فضلًا عن ذلك زيادة عمر وزيادة عثمان، وعمر وعثمان هما اللذان زادا الرواق الممتد من الحجرة إلى باب السلام فيما أمام الروضة.
وأرض الروضة مفروشة بعدد من السجاجيد الثمينة من صنع الآستانة، وهي كمثيلاتها بمكة أثمن ما رأيت بالمسجد، وقد تبلغ قيمتها جميعًا نحو ألف من الجنيهات، ومدخل الروضة من ناحية باب السلام رائع المظهر، فالألوان المختلفة المنبعثة من كل ناحية، والعمد البراقة الصقل كأنها البِلَّور، والسجاجيد البديعة، والرصف الثمين، والكتابة الذهبية المنقوشة على الحائط الجنوبي، وتلماع أعواد الحجرة فيما وراء ذلك، هذا كله يبهر النظر لأول وَهْلة، لكنه ما يلبث بعد هنيهة أن يبدو على حقيقته ظاهرًا من الزخرف البراق ليس فيه شيء من النفائس الصحيحة.»
ويضيف الحاج عبد الله برخارت: «فإذا ذكرنا أن هذا المكان من أقدس أماكن العالم الإسلامي كله، وأنه اشتهر بروعته وفخامته ونفاسة حليته، وأنه زُخْرِفَ بكل ما اجتمع من هدايا الغُلاة في هذا الدين، ازددنا دهشة وعجبًا أن يكون ذلك كل مظهره، فهو لا يُقاس إلى مثوى بقية من رُفات قِدِّيس، وإن هان شأنه، في أية كنيسة من كنائس أوروبا الكاثوليكية، وهو بهذا ينهض دليلًا مقنعًا على أن المسلمين لم يُساوُوا المسيحيين الغُلاة في هِباتهم الدينية في أي عهد من العهود، ودع عنك أحوالًا كثيرة أخرى تؤيد الاعتقاد أنه مهما يكن من تعصُّب المسلمين وأوهامهم، فإنهم لم يُبْدوا قط ميلًا للبذل والتضحية المالية من أجل منشآتهم الدينية، كما يضحي الكاثوليك، بل كما يضحي المسيحيون البروتستنتيُّون من أجل منشآتهم.»
سقنا هذه الملاحظة الأخيرة للسويسري المسلم المدفون بالقاهرة لموازنتها بما كتب غيره ممن ولدوا مسلمين، من هؤلاء صاحب الرحلة الحجازية محمد بك لبيب البتانوني الذي رأى الحجاز عام ١٩٠٧ في صحبة خديو مصر عباس حلمي الثاني، وهو قد تحدث عن الروضة حين حديثه عن المسجد النبوي، فأشار إلى موضعها من المسجد وإلى أنَّ داربزينًا من النحاس الأصفر يبلغ ارتفاعه نحو متر يفصل بينها وبين زيادتي عمر وعثمان اللتين في جنوبها، ثم قال: «والروضة على الدوام غاصَّة بالناس لشرف مكانتها، وفيما يلي هذا الدرابزين ربعات قرآنية كثيرة، وعدد كبير من المصاحف المختلفة الحجم، منها ما هو بحرف الطبع، ومنها ما هو بخط اليد الجميل، وإلى جانبها نُسَخٌ كثيرة من دلائل الخيرات، وكل ذلك موقوف عليها للقارئين من الزوار، وفي غرب الروضة الشريفة قِبلته ﷺ، وهي آية من آيات الله في كمال بهجتها، وجمال صنعها، وهي على استقامة المقصورة الشريفة من جهة القبلة، وضعها — عليه الصلاة والسلام — يوم الثلاثاء الموافق نصف شعبان من السنة الثانية للهجرة عندما أمره الله — تعالى — بالصلاة إلى الكعبة المكرمة، وإلى غرب القبلة المنبر الشريف، وهو من الرخام المنقوش باللِّيقة الذهبية الفاخرة وعلى غاية في الجمال ودقة الصناعة، أرسل هدية من السلطان مراد الثالث العثماني إلى الحرم سنة ثمان وتسعين وتسعمائة للهجرة، فوضع في مكان المنبر الذي كان به منبر قايتباي، وهو في نفس المكان الذي كان به منبر رسول الله ﷺ.»
ويذكر إبراهيم رفعت باشا في كتابه «مرآة الحرمين» ما في الروضة من الأعمدة الجميلة المُفْرَغة ويذكر «نجفة» كبيرة، ويخص بالذكر نجفتين على أطرافهما تنانير يوقد منها الشمع أهداها إلى المسجد النبوي عباس باشا الأول، والكبيرة منها معلقة في السقف القبلي مما يلي الروضة، كما يذكر أن عباسًا هذا أهدى إلى المسجد أربع شجرات على أعمدة من البِلَّور مفرعات بأغصان مائلة عليها تنانير صافية وضعت بالروضة المطهَّرة وما يليها من الغرب في صف واحد من الأساطين.
ويصف عبد القدوس الأنصاري اثنتين من هذه الشجيرات الأربع فيقول: «وبجانبي المحراب نخلتان صفر، مثبتتان في الأرض، ولكلٍّ جذرٌ وجذعٌ وساقٌ وغصون، وهما مثمرتان وذواتا أكمام، ولكن ثمرتهما قطع البِلَّور الصافي، وأكمامهما المصابيح الزجاجية الملونة.» أما وصف الروضة وما فيها فلم يتناوله صاحب «آثار المدينة المنورة» في اتساق كما فعل السويسري برخارت، بل تحدث عن بعض ما فيها فذكر المحراب النبوي وأنه في شرقي المنبر: «تزينه الآيات المرقومة بماء الذهب، وقطع ملونة من الرخام، وناهيك بجمال العمودين بجوانبه، فهما من الرخام الأحمر ذي اللون الإِثْمِدِيِّ، وفي الجانب الغربي من المحراب مكتوب: «هذا مصلَّى رسول الله ﷺ.» وشكل بناية هذا المحراب ينبئ على أنه قرين المحراب السليماني في تاريخ العمارة، والمحراب السليماني يقع في غربي المنبر، وبظهره كتابة تنبئ أنه بني سنة ٩٣٨ﻫ، وأن بانيه السلطان سليمان، أما المنبر فيقع بين المحرابين، وبه اثنتا عشرة درجة، ثلاث بخارجه وتسع بالداخل، مصنوع من المرمر، وظاهره مغمور بالتذهيب وبالنقوش الفائقة، وفوقه قبة لطيفة قائمة على أربعة أعمدة من المرمر، وفوق بابه شرفات آية في الإبداع، وإن لماء الذهب لبريقًا حتى لكأن الصانع فرغ من صنعه بالأمس، وتاريخ عمارته وإرساله من قِبَل السلطان مراد هو سنة ٩٩٨ﻫ، كما تنطق به الأبيات المنقوشة على بابه، وأمام المنبر مقصورة المبلِّغين وتسمَّى المكبريَّة، وبينها وبينه إلى الشمال نحو خمسة أمتار ومنها يقيم المبلغون الصلوات، وهي عبارة عن مربَّع رُخامي قائم على ثمانية أعمدة رشيقة، ستة منها مُحَلَّاة بصبغ أحمر عقيقي اللون، واثنان أبيضان.»
سُقتُ هذه الأوصاف لما في الروضة اكتفاء بها عن الوقوف أمام كل أثاث فيها أو زخرف، فهذا الوقوف يقتضي مَن أراد الإحاطة بجمال الفت في دقة تفاصيله ساعات طويلة وعلمًا مستفيضًا بفنون شتى، ما لم يكن ممن يكفيهم إبداء الإعجاب بهذا الجمال والبهر لمرآه، ثم إني على كثرة ترددي على المسجد والروضة لم أكن حريصًا على دراسة التفاصيل في عمارته وزخرفه حرصي على دراسة ما تبعثه الروضة، وما يبعثه المسجد كله إلى النفس الإسلامية في عهدنا الحاضر من أثر في خشوعها وتعبُّدها، فهذا الرجل الجالس إلى جوار المحراب النبوي ملصقًا نفسه به حتى يكاد يصبح جزءًا منه مخافة أن يزحزح عن مكانه، مؤمنًا أنه يدنو بذلك من رياض جنة الخُلْد، وهذا الآخر الذي ينفح خادم الحجرة بما ينفحه ليختصَّه بمكان إلى جوار منبر الرسول يجلس فيه كلما جاء إلى الروضة، وهذه الصفوف الأولى من الجالسين الذين يبدو عليهم أثر النعمة والوجاهة بالقياس إلى الجالسين في الصفوف التي وراءهم، هذه المظاهر وأمثالها هي التي عُنِيتُ بملاحظتها ودرسها في هذا الجانب الأقدس من مسجد النبي العربي الذي نادى في الناس بكلمات من ربه: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ. وما لي وتفاصيل المنبر والمحاريب والنجف والسجاجيد وما طُعِّمت به، ومِمَّ صنعت، وأين نسجت، وهي كلها في نفاسة صنعها ترجمان حالات نفسية في الروح الإسلامي خلال تطوره على العصور؟! وما تحاط به اليوم من تقديس، وما تبعثه إلى النفس من أثر في خشوعها وتهجدها، إنما هو صورة النفس الإسلامية في طورها الديني الحاضر، وهذا عندي أجدر بالدرس والعناية من الآثار الفنية لذاتها.
ومما لا ريب فيه أن الأكثرين ممن يجيئون إلى الروضة ويختارون أماكنهم منها يحسبون أنها كانت على الصورة التي يشهدونها منذ برأ الله الأرض ومَن عليها، أو أنها كانت كذلك على الأقل من عهد النبي — عليه الصلاة والسلام، وقلَّ منهم من يفكر في الأدوار التي مرت بها من حيث العمارة والزخرف، ولا ريب كذلك في أن لعمارة الروضة ولزخرفها في نفوس هؤلاء الأكثرين أثرًا تعبديًّا يتغير إذا تغيرت هذه العمارة وهذا الزخرف، كتغيُّره حين انتقالهم من الروضة إلى المكان المحيط بصحن المسجد مع شدة الشبه بين ما في هذا المكان وما في الروضة من عُمُد وما فوق هذه العمد من قباب، ولو أن النفس الإسلامية كانت اليوم كما كانت في عهد الرسول وخلفائه الأولين صفاءً وطهارة وقوة لما تأثرت في خشوعها وتهجُّدها وتوجهها إلى الله بمكان، وإن بلغت الذكريات التي يثيرها هذا المكان فيها غاية الطهر والسمو، ولكان الاجتماع بمسجد الرسول أدنى أن يبعث فيها من معاني المحبة والقوة والجهاد أسوة بصاحب هذا المكان وأصحابه الأولين ما يزيدها على الحياة قوة، وما يجنبها أن تعبد إلا الله وحده لا شريك له.
يحسب الأكثرون أن الروضة كانت دائمًا كما يشهدونها اليوم، أو أنها كانت كذلك منذ عهد النبي — عليه الصلاة والسلام، والحق أنها لم تكن إلا في عصور متأخرة، وأن هذا المسجد النبوي قد مرَّ به من الأدوار التي تمثل التفكير الإسلامي في تطوره أكثر مما مر بالحرم المكي، بل لقد كان هذا المسجد خاضعًا للتطور السياسي والديني أكثر من الحرم منذ صدر الإسلام وفي عهد الخلفاء الأولين.
فقد كان المكان الذي يقوم المسجد فيه مِرْبَدًا لغلامين يتيمين في المدينة هما سهل وسهيل ابنا عمرو يوم جاء النبي مهاجرًا إليها، والمشهور أنه ﷺ انتهى من هجرته إلى قُباء على فرسخين من المدينة فأقام بها ومعه أبو بكر أربعة أيام، وفي هذه الأيام الأربعة أسَّس مسجدها، وكان آخر الأيام الأربعة يوم جمعة، وفيه سار ومعه أبو بكر وعليُّ بن أبي طالب حتى دخل المدينة وأهلها في انتظاره يتحرقون شوقًا لمشاهدته، وهناك في المسجد الذي ببطن وادي رانُوناء أقبل عليه مسلمو يثرب وكلهم الإيمان والمحبة الصادقة، وصلَّى الجمعة معهم، واعتذر لمن عرض عليه منهم أن يقيم عندهم في العَدَد والعُدَّة والمَنَعة، وامتطى ناقته القصواء وألقى لها خِطَامَها وتركها تسير وأهل المدينة من حولها في حفل حافل، فلما كانت عند مِرْبَد سهل وسهيل ابني عمرو بركتْ، فقال رسول الله: «هذا إن شاء الله المنزل.» ودعا: «اللَّهُمَّ أّنْزِلْنَا مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ»، وسأل عن المربد فأجابه مُعاذ بن عَفْرَاء أنه ليتيمين في رعايته، وأنه سيرضيهما، ورجاه أن يتخذه مسجدًا، وقَبِلَ محمد على أن يدفع ثمنه، وأقام أثناء بناء المسجد في دار أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري، وشارك أصحابه في بناء المسجد وعمل فيه بيديه، وبُنِيَ المسجدُ يومئذٍ فناءً فسيحًا، جدرانه الأربعة من الآجُرِّ والتراب، وسُقِّف جزء منه بالجريد، وترك الجزء الآخر مكشوفًا، وخُصِّصت إحدى نواحيه لإيواء الفقراء الذين لا يملكون مسكنًا.
وقد أورد السمهودي في كتابه «وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى» روايات لا تختلف عن هذه ولكنها تزيدها وضوحًا وتفصيلًا، فقد أحاط المسلمون بالناقة في مسيرها حتى وقفت أمام المربد، وكان يومئذٍ يصلي فيه جماعة من المسلمين، وكان أبو أمامة سعد بن زرارة ذا آصرة قُربى باليتيمين وكانا في حِجْرِه، وكان قد اتَّخَذ بعض هذا المربد واتخذ أرضًا له متصلة به مسجدًا واتخذ عليه عريشًا، وقد أقام النبي اثني عشر يومًا بعد وصوله إلى المدينة وإقامته بدار أبي أيوب يصلي فيه، ثم إنه سأل سعدًا أن يبيعه أرضًا تُجاور ذلك المسجد مملوكة لليتيمين سهل وسهيل ليزيد فيه حتى يتسع للمسلمين حين صلاتهم، وكان هذا المربد للتمر يُجَفَّف فيه، وكان به نخل وغَرْقَد وقبور للجاهلية، فأمر الرسول بالنخل والغرقد فقُطعت، وبالقبور فنُبشت، وبعظامها فغُيِّبت، وكان به ماء فسيَّره فذهب، فلما تم ذلك بدأ بناءه كأبسط ما يكون البناء باللَّبِن، وسقَّفه بالجريد، وجعل عمده من خشب النخل.
وذكروا أن محمدًا لما قدم المدينة قال: «ابنوا لي عريشًا كعريش موسى ثُمامات وخشبات، وظلة كظلة موسى، والأمر أعجل من ذلك.» قيل: وما ظلة موسى؟ قال: «كان إذا قام أصاب رأسه السقف.»
وبدءوا يبنون المسجد والرسول يبني معهم ينقل اللَّبِن والبنَّاءون يبنون، لقيه رجل وهو يحمل لَبِنةً فأراد أن يخفف عنه بأن يحملها وقال: أعطينيها، فأجابه: «اذهب فخُذ غيرها فلست بأفقر إلى الله مني.» وجاء رجل من حَضْرَمَوْتَ يُحسن عجن الطين فنحَّى رسول الله غيره عن هذا العمل وقال للرجل: «الزَمْ أنت هذا الشغل فإني أراك تُحسنه، ورحم الله امرأ أحسن صنعته.» ولما رأى كبار الصحابة إقبال رسول الله على العمل أقبلوا عليه جميعًا ولم يكن لأغنيائهم قبل ذلك بهذا عهد، وكان علي بن أبي طالب يعمل ويرتجز:
وكان عثمان بن عفان على واسع ثروته وعظيم جاهه، وعلى أنه كان رجلًا نظيفًا متنظفًا، يحمل اللبنة فيجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كُمَّه وما يكون قد أصاب ثوبه من التراب، وكان سائر المسلمين يعملون ويرتجزون:
وسرعان ما تم بناء المسجد، فقد كان بسيطًا، جُدُره من اللَّبِن، وسقفه من الجريد، وعمده من خشب النخل، وقيل: إنهم صنعوا من النخل قبلةً له إلى ناحية المسجد الأقصى، وبقيت كذلك حتى عُدِلَ بها إلى ناحية الكعبة.
وكان هذا المسجد الأول كافيًا على بساطته للغاية التي قُصد إليها من بنائه، فقد كان الإسلام كما دعا إليه الرسول دين قوة على الحياة وزُهد فيها مع السعي للرزق وجني ثمراته؛ لكيلا ينسى الإنسان نصيبه من الدنيا، وكان المسلمون يومئذٍ يدركون هذه المعاني إدراكًا دقيقًا أن كان لهم في رسول الله أسوة حسنة، وأين يكون الزهد في الحياة الدنيا وزخرفها إذا لم يكن في مساجد الله ودُور عِبادَته؟! وكيف يقتل المرءُ غرورَ النفس إذا لم يشعر ساعة وقوفه مصليًا بين يدي ربه أنه يتصل بخلق الله لا حائل بينه وبينه، تشرق الشمس ويصفو الهواء، فينعم من هذا ومن ذاك بفضل الله، ويقصف الرعد ويهتن المطر، فيحتمل هذا وذاك ساعة عبادته صابرًا شاكرًا؛ لهذا لم يكن في مسجد النبي شيء من الزخرف، ولم يكن فيه وقاية من قسوة الجو وانهيار السيل، وكثيرًا ما هَتَنَت السماء والنبي يصلي في المسجد والمسلمون من ورائه، فلم يصدَّهم هَتْنُها ولا صدهم ما بالمسجد من طينٍ عن صلاتهم؛ بل لقد رئي ﷺ وبه من طين المسجد أثر كان يسرع بعد الصلاة إلى إزالته وتنظيفه.
وبقي المسجد على هذه الحال وجدرانه من اللبِن وسقفه من الجريد، وأكثره غير مسقوف، وعمده من جذوع النخل ست سنوات تباعًا، لم يغير منه ما كان من انتشار الإسلام ولا غيَّر منه ازدياد الرخاء بالمدينة وما أفاء الله على أهلها من بسطة الرزق، فلما غزا المسلمون خيبر في السنة السابعة للهجرة وفتحها الله عليهم كانت المدينة قد أصبحت خالصة للمسلمين وكان أهلها قد ازداد عددهم بمن سكنها ممن هداهم الله للإسلام، فلم يكن من توسيع رقعة المسجد بدٌّ، عند ذلك زاد النبي في مساحته مائة متر مربع، فقد كان إلى يومئذٍ خمسًا وثلاثين مترًا في ثلاثين، فجعله النبي مربعًا، وفي رواية أنه جعله خمسين مترًا في خمسين، لكنه لم يفعل أكثر من ذلك، ولم يغيِّر من عمارته باللبن والجريد وجذوع النخل شيئًا.
وهذا المنبر الذي صار من بعدُ آية في الفن وإتقانه على ما رأيت، والذي يُسمى منبر رسول الله لم يفكر النبي حين وسَّع المسجد في تغييره ولا في زخرفته، وما حاجته ﷺ إلى هذا الزخرف المادي وكل دعوته إلى كمال الروح وسموها ودأبها للقربى من بارئها؟! وهو لم يتخذ لنفسه منبرًا أول الأمر، وما كان ليتخذه لولا أنه شعر بالحاجة إليه، فقد كان يخطب الناس إلى جِذْعٍ في المسجد حتى شعر بأن القيام قد شقَّ عليه، فلما عرف أصحابه ذلك منه قال تميم الداريُّ: أنا أعمل لك منبرًا كما رأيت يُصنع بالشام، وقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلامًا يقال له: كلاب أَعْمَلُ الناسِ، قال النبي: مُرْهُ يعملْ، فأرسله العباس إلى أثْلة بالغابة فقطعها ثم عملها درجتين ومجلسًا.
وقد جعل النبي للمسجد حين بناه ثلاثة أبواب؛ باب بالجهة الغربية دُعي باب عاتكة — وهو باب الرحمة الآن، وباب بالجهة الشرقية دُعي باب آل عثمان — وهو باب جبريل الآن، وباب بالجهة الجنوبية بقي سبعة عشر شهرًا حين كانت قِبلة المسجد في جداره الشمالي لتواجه المسجد الأقصى؛ فلما تحولت القبلة إلى الكعبة سُدَّ الباب الجنوبي ووضعت القبلة مكانه، وفتح في الجدار الشمالي باب مكان القبلة الأولى.
وبقي بناء المسجد على ذلك حتى اختار النبيُّ الرفيقَ الأعلى، ولم يحدث في خلافة أبي بكر إلا ما روي من أن سَوارِيَ المسجد نخرت فبناها، فلما كان عهد عمر بن الخطاب واطَّردت الزيادة في عدد المسلمين لم يكن من توسيع المسجد كَرَّة أخرى بدٌّ، ولقد كان الشعور بضرورة الزيادة واضحًا منذ دانت للإسلام بلاد العرب كلها في عهد الرسول، حتى لكان يقول: «ينبغي أن نزيد في المسجد.» ولقد اعتمد عمر إلى هذا الحديث حين استقر عزمه على الزيادة فكان يقول: لولا أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ينبغي أن نزيد في مسجدنا.» ما زدتُ.
ودعا عمر كل مَن كان له إلى جوار المسجد دار فقال لهم: اختاروا منِّي بين ثلاث خصال: إما البيع فَأُثَمِّن، وإما الهدية فأشكر، وإما الصدقة على مسجد رسول الله، فأجاب الناس، وكان للعباس بن عبد المطلب دار عن يمين المسجد، فلما خَيَّره عمر بين هذه الخصال الثلاث رفض أن يجيبه إلى شيء منها، قال عمر: إذن أهدمها، قال العباس: ما لَك ذلك، فاحتكما إلى أُبَيِّ بن كعب وانطلقا إليه فقصَّا عليه القصة، فقال لهما: إن شئتما حدثتكما بحديث عن رسول الله، وذكر أنه سمعه ﷺ يقول: «إن الله أَوْحَى إلى داود أنِ ابْنِ لي بيتًا أُذْكَرُ فيه، فخطَّ داود خُطَّة بيت المقدس، فإذا تربيعها ببيت رجل من بني إسرائيل، فسأله داود أن يبيعه إياها فأَبَى، فحدثت داود نفسُه أن يأخذها، فأوحى الله إليه أن يا داود أمَرْتُك أن تبني لي بيتًا أُذكر فيه فأردتَ أن تُدخل في بيتي الغصب وليس من شأني الغصب، إن عقوبتك ألا تبنيه، قال: يا ربِّ فمِنْ ولدي؟ قال: فمن ولدك، وبناه سليمان بن داود.» فلما سمع عمر حديث أُبَيٍّ أخذ بمجامعه وسار به حتى دخل المسجد فوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله فناشد أُبَيٌّ الحاضرين أن يذكر منهم مَن سمع هذا الحديث، فشهد بعضهم أنه سمعه، فأرسل عمر أُبيًّا؛ فالتفت إليه وقال: يا عمر! أتتَّهمني على حديث رسول الله؟ قال عمر: والله يا أبا المنذر ما اتهمتُكَ، ولكني أردت أن يكون الحديث عن رسول الله ظاهرًا، وقال للعباس: اذهبْ فلا أعرض لك في دارك، قال العباس: أما إذْ قلت فإني قد تَصَدَّقتُ بها على المسلمين أوسع عليهم في مسجدهم، فأما وأنت تُخاصمني فلا، وبنى له عمر دارًا بدلها من بيت مال المسلمين.
بدأ عمر توسيع المسجد في السنة السابعة عشرة للهجرة، فزاد فيه خمسة أمتار من الناحية الجنوبية ونقل القبلة إليها، وزاد نحو ذلك من الناحية الغربية، وزاد خمسة عشر مترًا من الناحية الشمالية، ولم يزد شيئًا من الناحية الشرقية، إذ كانت بها بيوت أمهات المؤمنين، وكُنَّ ما يزَلْنَ يُقِمْنَ فيها، وفي بيت عائشة منها كان قبرا النبي وأبي بكر، وقد دخلت دار أبي بكر في هذه الزيادة لوقوعها في ناحية المسجد الغربية، ويقال: إن هذه الدار خرجت من ملك أبي بكر في حياته حين احتاج إلى شيء يعطيه بعض مَن وَفَدَ عليه فباعها حفصة بنت عمر أم المؤمنين بأربعة آلاف درهم، وإن جزءًا منها أُدخل في زيادة المسجد أيام عمر، وأُدخل جزء منها في زيادة عثمان.
لم يُحدِث عمر حين أنشأ هذه الزيادة في عمارة المسجد أكثر من أنه زاد في رقعته وزاد في عدد أبوابه، فقد بنى الجُدُرَ كما بناها رسول الله من قبله، جعل الأساس من الحجارة، وما فوقه من اللَّبِن، والعمد من الخشب، والسقف من الجريد، وجعل للمسجد ستة أبواب: اثنين منها في الجهة الغربية يحاذيان باب الرحمة وباب السلام الحاليين، واثنين في الجهة الشرقية يحاذيان باب جبريل وباب النساء، وبابين في الجهة الشمالية غُيِّرا من بعدُ في الزيادات التي حدثت.
لم يكن بناء عمر المسجد على هذا النحو حرصًا منه على احتذاء سُنَّة الرسول في العمارة وكفى؛ بل كان كذلك لأن الفكرة في فن العمارة عند هؤلاء العرب الصميمين كانت مُستمدَّة من الحاجة أكثر مما كانت مستمدة من المتانة أو الزخرف، وحاجة هؤلاء المسلمين الأولين كانت إلى سعة المسجد كي يجمعهم للصلاة، فلم يكن يدور بخَلَد عمر أمرٌ وراء ذلك.
هذا، ثم إن الصلاة عندهم كانت توجُّهًا خالصًا إلى الله يَطَّهَّرُ الإنسان له بالوضوء ويأخذ زينته عند كل مسجد، من غير أن يجعل منه وسيلة تأنق أو سبيلًا إلى فخر أو كبرياء؛ لذلك لم يكن الزخرف معروفًا في العمارة العربية قبل الإسلام ولا في الصدر الأول منه، كان بناء الكعبة قبل عهد النبي وقبل بَعْثِه أبسط صورة للبناء، وكان مسجد النبي بالمدينة كما كانت مساكنه ومساكن المسلمين جامعة إلى النظافة التقشُّف، وإلى الطُّهْر الرغبة عن الحياة الدنيا وباطل غرورها، فإذا كان الفتح الإسلامي قد امتد في عهد عمر وكانت غنائم المسلمين قد ملأت بيت المال بما سهل معه بناء بيت للعبادة له من الفخامة ما لكنائس الشام في ذلك العهد، فما كان الذهن العربي ليتَّجه يوم ذاك إلى هذه الناحية، ولا كان عمر ليبني المسجد إلا في هذه الصورة البسيطة البالغة في تقشفها والتي جعلها الرسول رمز المودَّة الجامع للمسلمين في تَحَابِّهم بنور الله بينهم حين قيامهم وركوعهم وسجودهم في حضرة ذي الجلال والإكرام.
على أن تطوُّرًا حدث يومئذٍ لا ينبغي أن نُغفله، ذلك أن عمر اتخذ مكانًا إلى جانب المسجد يدعى البُطَيْحَاء وقال: «مَن أراد أن يلغط أو يرفع صوتًا أو يُنشد شعرًا فليخرج إليه.» وسبب ذلك أن عمر سمع ناسًا من التجار يذكرون تجارتهم والدنيا في المسجد فقال لهم: «إنا بنينا هذه المساجد لذكر الله، فإذا ذكرتم تجاراتكم ودنياكم فاخرجوا إلى البقيع.» وسمع عمر رجلًا يرفع الصوت في المسجد فقال له مغضبًا: أتدري أين أنت؟! كأنه كَرِهَ الصوت، وتلاحى رجلان في المسجد فقال عمر: أفي مسجد رسول الله تقولان الهُجْر وما لا يصح من القول … وبينما هو في المسجد عشاء إذ سمع رجلًا يضحك، فأرسل إليه فقال: مَن أنت؟ قال: رجل من ثَقِيف من أهل الطائف، فتوعَّده قائلًا: لو كنت من أهل البلد لنكَّلْتُ بك! إن مسجدنا هذا لا ترفع فيه الأصوات، ومرَّ بحسان بن ثابت وهو يُنشد في المسجد فلحظ إليه، فقال حسان: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، فانصرف عمر وقد عرف أنه يريد النبي، وكان ما قال حسان حقًّا، روت عائشة أن رسول الله كان ينصب له منبرًا في المسجد يقوم عليه فيهجو الكفار، وذلك أن رسول الله حين نهى عن تناشد الأشعار في المساجد لم يَنْهَ عمَّا لا يشغل مَن فيها مما يتصل بالإسلام ويزيد الشعور به قوة، وفي المسجد أنشد كعب بن زُهَيْر رسول الله قصيدته: «بانت سعاد».
هذا التطور الذي أدَّى بعمر ليأمر من أراد أن يلغط أو يرفع صوتًا أو ينشد شعرًا أن يخرج من المسجد إلى البطيحاء يتفق مع روح الإسلام ونص الكتاب وتعاليم الرسول، فإن يكن قد حدث في عهد الرسول تجاوز بإنشاد الشعر، فلم يكن ذلك للإباحة وإطلاقها، وإنما كان استثناء في أحوال بذاتها، فكعب إنما أنشد «بانت سعاد» يوم جاء مستجيرًا بالنبي يعلن إليه إسلامه، وهجاء حسان الكفَّار بقصائده نوع من الجهاد في سبيل الله جائز في المساجد، والمسلمون في عهد النبي كانوا يتحدثون في غزواتهم وفي شئون خصومهم حين وجودهم بالمسجد فلا يعترض عليهم أحد؛ لأنهم يتحدثون في شئونهم العامة، فلما كثر عددهم تجاوزوا الشئون العامة، وأراد بعضهم أن يتخذ المسجد مجلسًا لأحاديثهم الخاصة في تجارتهم وشئون دنياهم، وخشية عمر أن يغلب الحديث في هذه الشئون الخاصة هي السبب في أنه أمر مَن شاء أن يلغط أو يتحدث في شئونه الخاصة بالخروج إلى البطيحاء.
ولما آلت الخلافة إلى عثمان بن عفان سنة أربع وعشرين من الهجرة كلَّمه الناس أن يزيد في مسجدهم وشكَوْا إليه ضيقه يوم الجمعة، فشاوروا أهل الرأي من الصحابة في ذلك، فأجمعوا على أن يهدمه ويزيد فيه، ولم يكن إحساس الناس بضرورة الزيادة في المسجد عجيبًا بعد أن امتدَّ الفتح الإسلامي وازداد سكان المدينة بامتداده زيادة عظيمة، وصعد عثمان المنبر يومًا بعد أن صلى الظهر بالناس، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «أيها الناس، إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله ﷺ وأزيد فيه، وأَشْهَد لقد سمعت رسول الله يقول: «من بنى مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة.» وقد كان لي فيه سلف وإمام سبقني وتقدمني عمر بن الخطاب، كان قد زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول الله فأجمعوا على هدمه وبنائه وتوسيعه.»
وحسَّن الناس يومئذٍ ذلك ودعَوْا إليه، فزاد عثمان بقدر زيادة عمر في الناحية الجنوبية من المسجد، وكذلك فعل في الناحية الغربية، أما في الناحية الشمالية فكانت زيادته دون زيادة عمر، وكانت تزيد على ما أحدثه في الناحيتين الجنوبية والغربية بما يعدل قرابة الضعف من كل من هاتين الزيادتين، لكنه أحدث من التطور في عمارته ما لم يحدثه عمر، فهو لم يجدده باللبن ولم يجعل عمده الخشب وسقفه الجريد أسوة برسول الله، بل بنى جدره بالحجارة المنقوشة والقَصَّة، وجعل عمده من حجارة منقورة أدخل فيها عُمُد الحديد وصب فيها الرصاص ونقشها من خارجها، أما سقفه فقد جعله من السَّاج، وهذا تطور عظيم في العمارة العربية، إن لم يخرج بها عن فكرة المسجد على ما صوَّره رسول الله، فقد أحدث فيها فكرة المتانة والبقاء، وقد أنكر جماعة من المسلمين يومئذٍ على عثمان ما فعل من ذلك، وأرادوا أن يبنوا المسجد على نحو ما بناه رسول الله؛ فلم يحفل بقولهم.
ولم يزد عثمان في المسجد من ناحية الشرق؛ لأن بيوت النبي كانت ما تزال قائمة، وكان مِن أزواجه مَن لا يزَلْنَ يُقِمْنَ بها، وكان أقرب هذه البيوت من المسجد بيت عائشة الذي دُفِنَ به رسول الله وخليفتاه أبو بكر وعمر؛ لذلك لم تكن الحُجْرة النبوية في المسجد، ولم يكن به موضع معين للروضة النبوية، بل كان كله مسجد الرسول تتساوى جوانبه جميعًا في ثواب الصلاة فيه.
وبقي المسجد على ما بناه عثمان إلى سنة ثمان وثمانين من الهجرة لم يُزَدْ في نظامه وبناء عمر إلا المقصورة التي اتخذها عثمان، والتي ما تزال تعرف بمحراب عثمان، وكانت صغيرة من لَبِن، وفيها كوة ينظر الناس منها إلى الإمام، وكذلك تعاقبت عهود عليٍّ ومعاوية ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان والمسجد على بناء عثمان لا يفكر أحد في الزيادة فيه ولا في تغيير عمارته، وكان مرجع ذلك إلى قيام الثورات عند مقتل عثمان، وإلى انتقاض أهل الحجاز على معاوية وخلفائه بالشام، واستمرار الحرب لذلك بين الأمويين والعلويين ومَن شايعهم من الصحابة وأهل بيت النبي ومَن انضمَّ إلى ممثلهم عبد الله بن الزبير من المسلمين حين لحق بمكة وتحصَّن بها بعد مقتل الحسين بن علي بالعراق، فلما قُتِل ابن الزبير في سنة ثلاث وسبعين من الهجرة وتم الأمر لبني أمية في عهد عبد الملك بن مروان انصرف تفكيرهم إلى تقوية الوحدة الإمبراطورية للدولة الإسلامية بعد أن كانوا منصرفين إلى نضال خصومهم، حتى لقد فكر عبد الملك زمنًا في اتخاذ قبة الصخرة مثابة لحج المسلمين من أهل مصر والشام والعراق إذا بقي الأمر لابن الزبير بمكة، ومنذ انصرفوا إلى تقوية الإمبراطورية الإسلامية امتد الفتح حتى بلغ الأندلس في عهد الوليد بن عبد الملك.
لم يقضِ انتصار بني أمية الحاسم على اعتقاد العلويين أنهم — وهم أهل بيت النبي — أصحاب الحق في الخلافة، ومتى قضى ظفر ملك بخصومه على إيمان المغلوبين بحقهم؟! ومتى قضى ظفر نظام بنظام على رجاء المغلوبين في أن يكون الظفر لهم من بعدُ؟! إن انتصار الجمهورية في فرنسا لم يقض إلى اليوم على أنصار الملوكية فيها، ولم ينزع الرجاء من نفوسهم أن ينتصر اعتقادهم بحقهم على باطل غيرهم، والظافرون يعرفون هذا ويجعلون عيونهم لذلك على خصومهم لكي لا تقوم لهم قائمة، فإذا أبطرهم الظفر وغفلوا، ثار هؤلاء الخصوم بهم وولوا الأمر مكانهم.
كان ذلك شأن بني أمية مع بني هاشم من العلويين والعباسيين، ظفروا بهم، فلم تنسهم نشوة الظفر أنهم خصومهم وأنهم يتربصون بهم الدوائر، كان أبناء فاطمة ابنة رسول الله وحَفَدَتُها يقيمون في بيت جدتهم إلى جوار المسجد النبوي، وذلك بعد مقتل الحسين، وبعد أن استقر الأمر لبني أمية، وكان الوليد بن عبد الملك قد استعمل عمر بن عبد العزيز على المدينة، وقدم الوليد حاجًّا بعد ولايته أمر المؤمنين، فزار المدينة، وفيما هو يخطب الناس يومًا على قبر رسول الله حانت منه التفاتة إلى ناحية بيت فاطمة، فإذا بحسن بن حسن بن علي بن أبي طالب في يده مرآة ينظر فيها، فلما نزل الوليد أرسل إلى عمر بن عبد العزيز وقصَّ عليه الأمر وقال: «لا أرى هذا قد بقي بعدُ، اشتر هذه المواضع وأدخل بيت النبي في المسجد واسدده.» رُوي أن حسن بن حسن وفاطمة بنت الحسين وولدهما أَبَوْا أن يخرجوا من البيت حين علموا بأمر الوليد، فأرسل إليهم إن لم تخرجوا منه هدمتُه عليكم، فلما أصرُّوا على إبائهم أمر بهدمه عليهم وفيه حسن وفاطمة وولدهما، ونزع العمال البيت وهم فيه وهدَّدوهم قائلين: «إن لم تخرجوا قوضناه عليكم.» فخرجوا، ونفَّذ عمر بن عبد العزيز أمر الوليد بضَمِّ بيوت النبي إلى المسجد.
وفي رواية أن الوليد كان يبعث كل عام رجلًا إلى المدينة يأتيه بأخبار الناس وما يحدث بها، فقال له الرجل يومًا: «لقد رأيتُ أمرًا لا والله ما لك معه سلطان ولا رأيت مثله قط.» قال الوليد: ما هو؟ قال: «كنتُ في مسجد النبي ﷺ، فإذا منزل عليه كِلَّة، فلما أقيمت الصلاة رُفعت الكِلَّة وصلَّى صاحبه فيه بصلاةِ الإمام هو ومَن معه، ثُمَّ أُرخيت الكِلَّةُ وأتي بالغداء فتغدى هو وأصحابه، فلما أقيمت الصلاة فعل مثل ذلك، وإذا هو يأخذ المرآة والكحل وأنا أنظر، فسألتُ فقيل: إن هذا حسن بن حسن.» وقال الوليد: «ويحك! فما أصنع؟ هو بيته وبيت أمه فما الحيلة في ذلك؟» قال: «تزيد في المسجد وتدخل هذا البيت فيه.» فكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يأمره بالزيادة في المسجد وشراء هذا البيت وإدخاله فيه، وأَبَى حسن بن حسن أن يأخذ الثمن، فكتب عمر إلى الوليد في ذلك، فأمر بهدم البيت، وهُدم وطُرح الثمن من بيت المال، فانتقل حسن وانتقلت فاطمة بنت الحسين إلى دار بالحيرة فابتنتها.
قرَّر الوليد بن عبد الملك أن يزيد في المسجد وأن يُدخل هذا البيت فيه، لكنه بعد أن فكر في الأمر مليًّا رأى أن يدخل فيه بيوت النبي جميعًا، وكانت هذه البيوت ممتدة من شرق المسجد حيث الحجرة النبوية، متجهة نحو الشمال إلى موضع ليس تعيينه اليوم بالأمر اليسير، وكانت موضع رعاية كبرى من المسلمين في ذلك العهد، ومذ خلت كلها من ساكنيها بعد أن اختار الله عائشة أم المؤمنين كان الناس يهرعون لصلاة الجمعة فيها مُؤْتَمِّين بإمام المسجد، ثم يحيطونها فيما وراء ذلك برعايتهم على اعتبار أنها الآثار التاريخية الباقية للنبي الكريم ولحياته في المدينة؛ لذلك حَزِنوا أشد الحزن حين علموا بأمر هدمها، روي عن نصار الخراساني قوله: «أدركتُ حُجرات النبي ﷺ من جريد على أبوابها المُسوح من شعر أسود، فحضرتُ كتاب الوليد بن عبد الملك يُقرأ ويأمر بإدخال حجرات أزواج النبي ﷺ، فما رأيت يومًا كان أكثر باكيًا من ذلك اليوم، وسمعنا سعيد بن المسيَّب يقول: والله لوددت أنهم تركوها على حالها.» ولعل منهم من فطن إلى أن الوليد أمر بهدم حجرة فاطمة غضبًا على أبنائها، ثم أمر بهدم سائر الحجرات حتى لا يُتَّهم بأنه هدم حجرة فاطمة انتقامًا من أبناء عليٍّ بغيًا بغير حق متخذًا من توسيع المسجد حُجة له، فقد سبقه عثمان وعمر إلى توسيعه فتركا حجرات أمهات المؤمنين لم يمسساها وزادا في المسجد من سائر نواحيه.
كيف يقيم الوليد المسجد: هل يكتفي بالزيادة في نواحيه الشرقية والشمالية والغربية، فقد بقيت الناحية الجنوبية لم تمسسها زيادة من بعد عثمان، أم يهدمه ويعيد بناءه؟ لقد شاده عثمان بناء متينًا قويًّا على الزمن، ولم يكن قد مضى على ذلك ستون سنة، لكن الوليد كان بالشام، وكان له في العمارة وزخرفها رأي غير رأي العرب، لم يكن رأيه في العمارة منتزعًا من فكرة الحاجة كما كان عند العرب يوم بنى النبي المسجد، بل كانت العمارة عنده فنًّا جميلًا مداره رضا النفس من طريق الحس والسمو بها في درجات هذا الرضا إلى حُسن المتاع بالحياة، وقد تأثر الوليد كما تأثر أسلافه الذين أقاموا بالشام بما رأوا من الآثار المسيحية التي أقيمت على طراز ما سبقها من الآثار الوثنية إذ تأنَّق مقيموها في تجميلها إرضاء لآلهتهم وتقربًا بها إليهم، وكان من أثر ذلك أن أقام عبد الملك بن مروان قُبَّة الصخرة ببيت المقدس على نحوٍ من البراعة في الفن المعماري عَنَتْ له كثير من الكنائس البارعة، وذلك بعد أن رصد لعمارتها خراج مصر سبع سنين، أما والأمر كذلك فلا بد للوليد من هدم المسجد النبوي وإعادة بنائه متأثرًا بالفكرة الفنية التي ملكتْ نفسه وكانت ذات سلطان عظيم عليها.
ولم يكن في بلاد العرب، ولا كان بين رجال المعمار المسلمين، من يكفي لإرضاء هوى الوليد وذوقه الفني في عمارة المسجد؛ لذلك كتب إلى ملك الروم يقول له: «إنا نريد أن نعمر مسجد نبيِّنا الأعظم، فأعِنَّا فيه بعمال وفسيفساء»، وبعث ملك الروم بأحمال من فسيفساء وبعمالٍ اختُلف في عددهم، فقيل: عشرة وقيل: أربعون من الروم وأربعون من القِبْط، وبأحمال من سلاسل القناديل، وبقدر كبير من الذهب، ذهب قوم إلى أنه ثمانون ألف دينار، وذهب آخرون إلى أنه ألف مثقال.
وهدم عمر بن عبد العزيز المسجد في سنة ثمان وثمانين، أو في سنة إحدى وتسعين — على اختلاف في الرواية — ثم أدخل فيه حجرات أزواج النبي، وبنى له أربع مآذن، وفرش أرضه بالرخام، ووشَّى حوائطه بالفسيفساء، وكسا سقفه بالذهب، وجعل أساطينه من المرمر، فلما صار إلى جدار القبلة دعا مشيخة من أهل المدينة من قريش والأنصار والعرب والموالي وقال لهم: «تعالَوا احضروا بُنيان قبلتكم، لا تقولوا: غيَّر عمر قبلتنا.» وجعل لا ينزع حجرًا إلا وضع مكانه حجرًا، وقد بالغ عمر في تجميل المسجد وعني بذلك حتى كان العامل إذا عمل الشجرة الكبيرة من الفسيفساء فأحسن عملها نفَّله عمر ثلاثين درهمًا، ولما تم بناء المسجد جاء الوليد وجعل يدور في المسجد مغتبطًا معجبًا ويبدي لعمر ما يَعِنُّ له من الملاحظات، وكان عمر قد عني بسقف المقصورة النبوية عناية جعلته بدعًا في الفن، فلما رآه الوليد قال لعمر: ألا عملتَ السقف كله مثل هذا! قال عمر: إذن يا أمير المؤمنين تعظم النفقة جدًّا — وكانت نفقة هذا السقف أربعين ألف دينار — قال الوليد: وإنْ، ولم يكن ما قاله الوليد من ذلك عجبًا بعد الذي زخرف عمر به المسجد في هذه العمارة من المحراب والشرفات والمنابر مما لم يكن للعرب به عهد، وإنما كان اقتباسًا مما في الكنائس أتمَّه العمال العرب بوحي ما رأوا في الشام، وعاونهم العمال الروم والقبط على إتقانه.
وكان أبانُ بن عثمان يطوف بالمسجد مع الوليد، فلما استنفد الوليد النظر إلى المسجد واطمأنت نفسه إلى عمارته نظر إلى أبانٍ وقال: «أين بناؤنا من بنائكم؟!» فكان جواب أبان: «إنا بنيناه بناء المساجد وبنيتموه بناء الكنائس.»
هذه الكلمة التي قالها أبان عميقة المغزى لمن يُنْعِم الرويَّة فيها، فهي تصور تطورًا في العمارة العربية يُقابله تطور من نوعه في التفكير الإسلامي، انتقلت العمارة في بناء الوليد المسجد من طرازها البسيط الذي أوحته الحياة العربية في بساطتها وقوة اتصالها بالطبيعة، وأوحته الفكرة الإسلامية في دعوتها إلى الصلة المباشرة بين المرء وخالقه على أساس من الإيمان الذاتي وتحابِّ المؤمنين بنور الله بينهم، إلى هذا الطراز المركب المليء بالزخرف، ركز الإنسان فيه صورة من جمال الطبيعة انتزعها خياله من كل ما يحس ويرى من مظاهر هذا الجمال، ثم تقرَّب بها إلى الآلهة في العهود الوثنية إرضاءً لهم بجلالها واتقاء غضبهم بجمالها، وقد أراد رجال الكنيسة المسيحية أن تقرِّب هيبة هذا الفن من النفوس صورة المعجزة التي تقوم المسيحية على أساسها.
أما الإسلام فكان في صفائه بريئًا من هذه المظاهر، فكان المسجد في بساطته صورة لبساطة الإسلام وقوته، وإنما كان هذا التطور مظهرًا لتأثر المسلمين بالتفكير الكَنَسِيِّ الذي أحاط بهم في الشام، والذي تسرع النفس الإنسانية إلى مثله حين لا تجد سندًا من الإيمان بالله يعصمها من الضعف لسلطان الطبيعة، فالنفس الإنسانية محتاجة في سذاجتها إلى مظاهر قريبة منها يدركها الحس وترى فيها صور الكون والحياة مجتمعين، وهي لا تستطيع السمو إلى الحقيقة المجرَّدة التي تمثل هذا المعنى، ولا تستطيع امتثالها في كل صفائها، ما لم تكن لها في ذلك أسوة كما كان للمسلمين الأولين في رسول الله أسوة، أو تبلغ من المعرفة التي تؤهلها للاتصال بالكون حظًّا عظيمًا، أما وقد انتهى عهد الأسوة واتصل المسلمون بجيرانهم من أهل الحضارات الأخرى، فكان من الطبيعي أن يتأثروا بما اتصلوا به، وأن يشغلوا عن تمحيصه بالمنازعات السياسية والثورات التي فرَّقت كلمتهم من عهد عثمان بعد أن مهدت لها أسباب سبقتها طوعت للإسرائيليات وغير الإسرائيليات أن تندسَّ إلى الإسلام وأن تشوب صفاءه.
بقي المسجد بعد زيادة الوليد على حاله إلى أن غلب العباسيون الأمويين على الملك وقاموا مقامهم في الخلافة، إذ ذاك فكر ثاني خلفائهم أبو جعفر المنصور في أن يكون له من فضل الزيادة في المسجد ما كان للأمويين، ودار يومئذٍ بأخلاد قوم أن يأخذ العباسيون بالثأر من بني أمية فيهدموا دار عثمان ويدخلوها في المسجد، كما هدم الوليد حجرات أمهات المؤمنين وأدخلها في المسجد، من أجل ذلك كتب الحسن بن زيد إلى المنصور ينصح له أن يزيد في رقعة المسجد وأن يجعل القبر النبوي في وسطه، وبذلك تدخل دار عثمان في المسجد لمجاورتها للحجرة، لكن المنصور لم يقبل هذا الرأي وكتب إلى الحسن بن زيد يقول: «إني قد عرفتُ الذي أرَدْتَ؛ فاكفُف عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفان.» وتُوفِّي أبو جعفر ولم يزد في المسجد شيئًا، ولما خلفه ابنه المهدي على الملك حجَّ سنة ستين ومائة للهجرة، وقدم المدينة منصرفه عن الحج، فاستعمل عليها جعفر بن سليمان، وأمره بالزيادة في المسجد، ولم يزد جعفر في نواحي المسجد من الجنوب والغرب والشرق شيئًا، وحصر الزيادة في ناحيته الشمالية حيث صحنه المعروف بالحصوة، وكانت الزيادة في هذه الناحية فسيحة بلغت نحو الثلث من مساحة المسجد كله، وأحيطت بأروقة من العمد والقباب من طراز ما صنع الوليد، فأما ما خلا هذه الزيادة فقد اقتصر عامل المهدي على التعمير والتجميل، متخذًا طراز الوليد إمامه، متأثرًا في الفن بفكرةٍ كفكرته.
واستقرت رقعة المسجد على زيادة المهدي من بعدُ، لكن بناءه أُعِيد غير مرة بعد ذلك، واستمر التعمير فيه إلى يومنا هذا، فقد احترق كله أول شهر رمضان من سنة ٦٥٤ للهجرة، إذ ترك موقد المصابيح مشتعلًا في مخازن المسجد فامتدت النار منه إلى ما حوله وتعلقت بحُصُر وبُسُط وأقفاص وقصب كان في المخزن، ثم امتد اللهب إلى سقف المسجد وسرى منه إلى المسجد كله، فلم يُبْقِ منه على خشبة واحدة كاملة، ونزل أمير المدينة واجتمع معه معظم أهلها فلم يقدروا على مقاومة الحريق، وأكلت النار جميع ما احتوى عليه المسجد من المنبر النبوي والأبواب والخزائن والشبابيك والمقاصير وما اشتملت عليه من كتب، وامتدت إلى كسوة الحجرة، وقد عزا القطب القسطلاني هذا الحريق إلى أن الزخارف التي بالمسجد لم تُرْضِهِ ﷺ، وإلى أن القلوب أحلَّت المساجد الثلاثة: الحرام والأقصى والنبوي، منها فوق قدرها، ونسيت أن عظمته — تعالى — فوق الجميع، وأنه الواحد القهار، فوقع الحريق في الكعبة وبيت المقدس قديمًا، ووقع هذا الحريق في المسجد النبوي، وقيل في هذا المعنى شعرٌ وُجِدَ منه بعد الحريق بيتان على جدران المسجد هما:
ولم يسلم من هذا الحريق سوى قُبَّةٍ كانت أُقيمت بصحن المسجد في القرن السادس الهجري لحفظ ذخائر الحرم من مثل المصحف العثماني وبعض صناديق أودعتها هذه الذخائر، أما عُمُد المسجد فبقيت قائمة كأنها جذوع النخل تتمايل إذا هبت الرياح، وذاب الرصاص من بعض الأساطين فسقطت، ووقع السقف الذي كان بأعلى الحجرة على سقف بيت النبي فوقعا جميعًا في الحجرة وعلى القبور التي بها، وكُتِب بذلك إلى الخليفة المستعصم وهو ببغداد فأرسل الآلات مع الصُنَّاع من العراق ولم يُبْدِ رأيًا فيما يصنعون، فقد كان منصرفًا إلى صدِّ التتار عن بغداد بعد أن استولوا على أعمالها؛ لذلك اضطرب الصُّنَّاع وأهل المدينة واختلفوا ما يصنعون بالحجرة، وهل يذرون بها ما سقط فيها أم يرفعونه جميعًا حتى يبلغوا سطح الأرض إلى التراب الذي فوق القبر، وقد انتهوا إلى ترك ما سقط ولم يزيلوه مهابةً لساكن الحجرة — عليه الصلاة والسلام.
يقول السمهودي: إنه كان يرى «أن الواجب في سلوك الأدب مع هذا النبي العظيم والقيام بما وجب على الأمة من تعظيمه وتعظيم قبره الشريف هو إزالة ذلك عنه وقَمُّه من حُجْرته الشريفة.» فلما حضر العمارة الثانية للمسجد شاهد بين الجدارين في الفضاء الذي خلف الحجرة أمرًا مهولًا من الهدم نحو القامة، فعلم أن القوم لم يتركوه إلا لعلمهم بأن إزالته لا تتأتى إلا بانتهاك الحرمة، فتوقفوا عنه ومدوا سقفًا فوقه على رءوس السواري التي حول الحجرة.
لم تكن بغداد ولا كان المستعصم شرًّا مكانًا من سائر أنحاء الدولة الإسلامية والقائمين عليها في ذلك العصر، فقد انتشر فيها الاضطراب واستولى عليها القلق، فلم تُبْدِ أيٌّ منها في عمارة المسجد رأيًا، وإن بَعَثَ أكثرُها من مواد العمارة ما أرضَى به هوى عقيدته، وصلت الآلات من مصر بأمر المتولي عليها الملك المنصور نور الدين علي ابن الملك المُعِزِّ عِزِّ الدين أيبك الصالحي، ووصلت الآلات والأخشاب كذلك من صاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن منصور، وجعل أهل المدينة والعمال فيها يقومون من العمارة بما يستطيعون القيام به ولا يلبثون إذ يتقدمون فيها حتى تبلغهم الأنباء بقتل هذا أو هزيمة ذاك من ملوك المسلمين وأمرائهم، استولى التتار على بغداد وقتلوا المستعصم، ثم عزل صاحب مصر وقام فيها مملوك ابن الملك المظفر سيف الدين قُطُز المُعزي، وقُتِل هذا فيما دون السنة من ولايته، وكان لهذه الأحداث أثر واضح في عمارة المسجد، فكانت تتقدم حينًا، وتسير دائمًا على غير خطة مرسومة، فلما تَوَلَّى الملك الظاهر بيبرس البندقداري أمْرَ مصر بعد ست سنوات من الحريق جهَّز الأخشاب والحديد والرصاص وجهَّز الصُّناع وما يمونهم وأرسلهم بذلك كله إلى المدينة، وصار يمدهم بما يحتاجون إليه من الآلات والنفقات حتى أتموا المسجد كما كان قبل الحريق.
لم يزل المسجد على ذلك حتى جُدِّد سقفه في سنتي خمس وسبعمائة وست وسبعمائة بأمر ملك مصر الناصر محمد بن قلاوون الصالحي، ثم زِيدَ في السقف بأمره في سنة تسع وعشرين وسبعمائة، وقد أصلح الملك الأشرف بَرْسَباي هذه الزيادة في سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة حين طرأ الخلل عليها، كما جدَّد الظاهر جُقمق بعض سُقُف أخرى في سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة، وفي سنة تسع وسبعين وثمانمائة قام الملك الأشرف قايتباي بعمارة في المسجد تناولت بعض سقفه وعمده وجدرانه ومآذنه.
لم يبق من أثر لهذه العمارات في وقتنا الحاضر، فقد انقضَّت صاعقة على مئذنة المسجد الرئيسية في سنة ست وثمانين وثمانمائة فلم تبق منها شيئًا، وانتقلت النار من المئذنة إلى سقف المسجد فالتهمتْه، وتخطت من السقف إلى المسجد فتهدمت جدرانه وتداعت أكثر أساطينه، واحترقت المقصورة والمنبر والكتب والمصاحف، ولم يسلم من الحريق إلا الحجرة والقبة التي بالصحن، لكن ما بقي من أنباء هذه العمارات يشهد بأن التطور الذي بدأ من عهد الوليد بن عبد الملك استمرَّ مطَّردًا في العمارة، وأكثر اطِّرادًا في التفكير، لم تكن للحجرة النبوية قبة قبل القرن السابع، فأقامها المنصور قلاوون سنة ثمان وسبعين وستمائة، ولم يكن ما بين الحجرة والمنبر النبوي يمتاز في عمارته عن سائر المسجد، فلما حدث الحريق من هذا القرن السابع، وأعيدت عمارة المسجد بعده، بدأ هذا الجزء من المسجد، وهو الروضة، يلقى من العناية حظًّا تزايد على الزمان، وبعد أن كانت الخصومات السياسية بين الأمويين والعباسيين ذات أثر ظاهر في تعديل رقعة المسجد والزيادة فيها، انصرف التفكير في عمارة المسجد عن السياسة إلى ناحية أخرى يقصد منها إلى المثوبة والزلفى، وإلى تصفيد التفكير الإسلامي على الإيمان بهذه المثوبة وهذه الزلفى من غير تمحيص أو اجتهاد.
وقد وقع الخلاف على ما حدث من هذا: أهو يتفق مع روح الإسلام؟ وبلغ الخلاف من الشِّدة في بعض الأحيان ما اقتضى تدخُّل ولي الأمر لقَمْعِه، لما بنى المنصور قلاوون القبة على القبر النبوي اختلف الناس رأيًا، فقال بعضهم: «قَصَدَ خيرًا وحصَّل ثوابًا.» وقال آخرون: «أساء الأدب بعلو النجارين القبر ودق الحطب.» وتفاقم هذا الخلاف حتى جعل الوالي عقوبة على من يقول: أساء الأدب، وذهب بعض أولي الرأي يومئذٍ إلى تحريم إقامة القبة لما رواه أبو داود في سُنَنِه عن أنس بن مالك أن رسول الله خرج فرأى قبة مشرفة أجابه أصحابه بأنها لرجل من الأنصار، فأعرض عن الرجل مرارًا حتى عرف الرجل الغضب فيه والانصراف عنه، ولما شكا إلى أصحابه إعراض رسول الله عنه وسأل عن السبب في ذلك قالوا: «خرج فرأى قُبَّتك.» فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سوَّاها بالأرض، وخرج رسول الله يومًا فلم يَرَ القبة فسأل عنها فقال مَن حوله: شكا صاحبها إلينا إعراضَكَ عنه فأخبرناه فهدمها، فقال ﷺ: «كل بناء وبالٌ على صاحبه إلا ما لا بد منه.» وهذا الخلاف هو الذي لا يزال قائمًا إلى يومنا هذا بين الوهابيين وغيرهم من سائر المسلمين، وقد كان النصر في القرون الخمسة الهجرية الأخيرة حليف الذين يقولون بإنشاء القباب تبركًا والتماسًا للمثوبة؛ لأن هذا الرأي أدنى إلى إدراك الجمهور، ولعل النصر يظل حليف هذا الرأي لاعتبار آخر، ذلك أن العمارة العربية بلغت من دقة الفن وبراعته في إقامة هذه القباب مبلغًا يدعو حُمَاة الفن الجميل إلى نصرها من غير نظر إلى اعتبار المثوبة أو التبرك.
كان التطور الذي أشرنا إليه أكثر وضوحًا في عمارة المسجد بعد حريق الصاعقة، لما بلغ خبر هذا الحريق الملك الأشرف قايتباي بمصر وجَّه الأمير سُنْقُر الجَمَاليَّ إلى المدينة ومعه أكثر من مائة صانع وما يلزم للعمارة، فبدءوا بالمئذنة، ووسَّعوا المحراب العثماني وجعلوا فوقه قبة أقاموها على رءوس الأساطين التي حوله، وجعلوا على جُدر الحجرة النبوية وفوق السقف الذي كان عليها قبة شادوا فوقها قبة أخرى أقيمت على الأساطين والدعائم التي زخرفوها، وبنَوْا باب السلام بالرخام الأسود والأبيض وزخرفوه، كما زخرفوا محرابًا مجوفًا للرسول في دعامة أقاموها بين المنبر والقبر على حدِّ مسجده الأصلي، وزخرفوا هذا المحراب بالرخام الملون، وأعادوا ما سوى ذلك من بناء المسجد على صورة تأنقوا فيها غاية التأنق، حتى بلغ ما أنفقه قايتباي على هذه العمارة نحو ستين ألفًا من الجنيهات، والله أعلم كم يعادل هذا المبلغ من نقدنا في الزمن الحاضر.
كانت مصر في الفترة التي انقضت بين حريق المسجد في القرن السابع إلى حريقه بالصاعقة في القرن التاسع هي القائمة بأمر عمارته، فلما انتقلت الخلافة إلى آل عثمان بالآستانة ودخلت بلاد العرب، كما دخلت مصر في سلطانهم، خَلَفُوا مصر في القيام على المسجد وعمارته، ففي سنة ثمانين وتسعمائة من الهجرة عمَّره السلطان سليم الثاني وشيَّد به محرابًا جميلًا هو القبلة القائمة اليوم غرب المنبر النبوي، وقد وشَّى هذا المحراب بالفسيفساء المنقوشة بماء الذهب، وكتب اسم السلطان سليم على ظاهره بخط الثلث الجميل، وفي سنة ١٢٣٢ بنى السلطان محمود القبة ثم أمر بترميمها في سنة ١٢٥٥ فرُممت ودُهنت باللون الأخضر، على أن العمارة الكبرى التي قام بها سلاطين آل عثمان هي عمارة السلطان عبد المجيد، فقد كتب إليه شيخ المسجد داود باشا بأن المسجد قد انقضى على عمارته أربعة قرون لم تحدث به أثناءها عمارة هامة حتى آل كثير منه إلى التخريب، فأرسل السلطان مِن قِبَله مَن فَحَص المسجد وعرف حقيقة حاله، ثم أمر بهدمه وعمارته، وتم ذلك بأن جعل المهندسون يهدمون جزءًا من المسجد ويقيمون مكانه ما يحل محله، ثم يهدمون بعده جزءًا غيره ويعيدون تشييده، حتى أتموا عمارة المسجد كله فيما بين سنة ١٢٦٥ وسنة ١٢٧٧ﻫ، وقد تناولت هذه العمارة المسجد كله خلا المقصورة وما فيها، وبعض الجُدُر المتينة البناء القوية الأساس، ولم يُنقض محراب عثمان لإتقانه وحُسن صنعه، أما العُمد القديمة فأُبدِل منها غيرُها، وأكثرها من قطعة واحدة، وأقيمت عليها عقود من الحجر الأحمر المنحوت شُيدت فوقها قبابٌ جُعلت فيها نوافذ يهبط النور خلال زجاجها الملون المحاط بشبابيك النحاس، وأُعيد بناء باب السلام بناء غاية في الفخامة، وجُعلت أمامه من الداخل قبة عظيمة، أما الجدار الشمالي للمسجد فزيد فيه ما كفى لبناء مخازن ومكاتب، وبنيت خارجه أحواض للوضوء بها صنابير، وشُيدت المئذنة المجيدية على طراز بالغ غاية الروعة والإبداع، وعلى الجملة بذَّت هذه العمارة كلَّ ما سبقها حتى بلغت نفقاتها ثلاثة أرباع المليون من الجنيهات المجيدية.
ومن خير الآثار التي سجلتها هذه العمارة وحافظت عليها ما كتب على جدران المسجد من سورة الفتح وقصيدة البردة وأسماء الله الحسنى وأسماء النبي — عليه السلام، فلقد نفى الإسلام عنه التماثيل والصور منذ حَطَّم محمد تماثيل الكعبة ومحا صورها، فلم يكن إلى بعثها بين الفنون الجميلة سبيل، على رغم ما رآه المسلمون منها بكنائس الشام وبيزنطة، فحرب الوثنية أساس العقيدة الإسلامية، والتماثيل والصور أقدم آثار الوثنية وأبقاها؛ لذلك أنشأت الحضارة الإسلامية فنًّا جميلًا يحل محل التماثيل والصور في التعبير عن الجمال كما يبدو للنظر، واستمدت هذا الفن من التفكير الإسلامي؛ لذلك كان الخط العربي والتفنن فيه والبلوغ به غاية البراعة في الجمال مما تفرَّدت به هذه الحضارة؛ ولذلك تقدم السلطان عبد المجيد إلى الخطَّاط العظيم عبد الله بك زهدي فقضى عشر سنوات في كتابة سورة الفتح وسائر ما كُتب على جدران المسجد مما لا يزال زينة جدرانه البديعة الأخَّاذة بالنظر.
بقي المسجد النبوي على هذه العمارة إلى اليوم، على أن محرابيه النبوي والسليماني رمما عام ١٣٣٦ﻫ كما رممت أرض المسجد بأمر الحكومة العربية السعودية الحاضرة عام ١٣٤٨ﻫ، وتقوم الحكومة المصرية بتعمير المسجد في هذا العهد الأخير منذ عدة سنوات.
حرصنا على استقصاء الأدوار التي مرت بها عمارة المسجد؛ لأنها تصور التطور الذي حدث في العمارة الإسلامية وفي التفكير الإسلامي، وهي أدق تصويرًا لهذا التطور؛ لأن المسلمين لم يبذلوا لمسجد من العناية ما بذلوا لمسجد المدينة، ولم يجعلوا للمسجد الحرام بمكة إلا بعض هذه العناية، كان ذلك شأنهم من عهد الوليد بن عبد الملك، وظل شأنهم في ذلك يزداد على العصور، حتى صار مسجد مكة لا يُنظر في عمارته إلا لما تقضي به الضرورة، ثم يخلع على مسجد المدينة من الترف الفنِّي ما رأيت، فإذا ذكرتَ ما أشرتُ إليه حين الحديث عن مسجد مكة ومغزى التطور في عمارته في فصل «الجمعة في الحرم»، تبدَّى لك هذا التطور الآن في مبلغ من الجسامة يلفت النظر ويستوقف الفكر لتدبره والنظر في أمره.
ربما وقف القارئ موقف الحيرة لذكري «العمارة الإسلامية» بديلًا من «العمارة العربية» حين الحديث عن المسجد النبوي، والواقع أن عمارة هذا المسجد لم تبقَ عمارة عربية بعد الوليد بن عبد الملك، فقد احتفظت العمارة العربية بطابع من البساطة ما يزال الإنسان يراه في الحرم المكي، أما مسجد المدينة فقد تعاقب عليه من ألوان العمارة ما اقتبسه المسلمون من مختلف الأنماط التي وجدوها في الآثار القائمة بالبلاد التي فتحوها، ولقد رأوا من هذه الأنماط شيئًا كثيرًا في الشام ومصر والروم والعراق وفارس منذ القرن الأول للهجرة، ثم رأوا كذلك شيئًا كثيرًا في الهند وصقلِّيَّة والأندلس وحيث امتد الفتح الإسلامي على توالي العصور، من هذه الأنماط اقتبس المسلمون طرازًا ليس بالعربي المستمد من فكرة الحاجة، فشيدوا العُمُد وقواعدها وتيجانها على طراز لا عهد للعرب به، وأنشئوا المحاريب المجوفة وكانت مُحَرَّمة في الإسلام، حتى كره عبد الله بن مسعود الصلاة فيها نزولًا على قوله ﷺ: «اتقوا هذه المذابح.» يعني المحاريب، وقوله: «ما تزال هذه الأمة بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى.» وجعلوا زخرف المساجد وسيلة إلى المثوبة بعد أن كان كعبٌ يقول لأسلافهم في الصدر الأول: «يكون في آخر الزمان قوم يُزينون مساجدهم ويتخذون بها مذابح كمذابح النصارى، فإذا فعلوا ذلك صُبَّ عليهم البلاء.» أما وذلك شأن هذه العمارة فلا حق في أن تسمَّى العمارة العربية.
وإنما تأثر المسلمون في نمط بنائهم بما رأوا من هياكل ومعابد؛ لأن الفكرة الإسلامية تطورت بحكم الحوادث وتقلُّبها، فسارت من البساطة التجريدية الأولى إلى تركيب وتعقيد ماديين أدى إليهما الاختلاط بالروم والفرس والنظر في عقائدهما، وما أكبر الفرق بين هذا التركيب وهذا التعقيد الماديين وبين بساطة الإيمان بالله وحده إيمانًا مصدره القلب والعقل، الأعمال في هذا الإيمان بالنيات، ونية المؤمن فيه خير من عمله؛ لأن النية متعلقة بالذات الإنسانية، والعمل خاضع لأحداث الحياة وأهوائها، أما التركيب والتعقيد الماديين فيجعلان من المظاهر المادية كل شيء في الحياة؛ قيام المرء وقعوده، ركوعه وسجوده، لباسه ومظهره … هذه وأمثالها من الأمور المحسوسة هي التي يقيم لها هذا التفكير من الوزن أكثر مما يقيم للنية التي صدرتْ عنها، ومِن ثَمَّ كان البناء المزخرف أدعى إلى التقرب إلى الله في رَأْيِ ذوي التفكير المادي، وإن أدَّتْ إليه نية الظفر بخصوم سياسيين، كما كان شأن الوليد يوم ضمَّ بيوت النبي إلى المسجد، أو دفعت إليه سياسة مرماها شَغل المسلمين عن التفكير والاجتهاد لخيرهم وغايتها حبسهم في حدود التفكير المادي حتى يسهل حُكمهم حُكم بَغْيٍ واستبداد، كما كان شأن الملوك والسلاطين منذ بدأت في العالم الإسلامي عصور الانحلال.
أين هذا من التفكير الصريح يدعو إليه الإيمان الصادق في مسجد بسيط العمارة مثل مسجد النبي كما بناه هو، وكما بناه عمر وعثمان؟! أين هذا من تفكير خالص لله يتصل فيه الإنسان ببارئه من غير وساطة إلا إيمانه الصادق به، وحرصه الخالص على التقرب منه بالعمل الصالح وبالتقوى؟! وحدثتني نفسي: أفكنتُ أفكر فيما تلا القارئ من هذا الفصل لو أن المسجد بقي بناؤه على نمط بناء النبي يُجاور قبره ويستضيء الناس فيه بنور الوحي الذي نزل عليه؟ وهل كنت ألتمس المغفرة لذنوبي بالعكوف على مكان في المسجد أعتقده أدنى إلى مغفرة الله ذنوب عباده؟! أم كنت أشعر بروحه الكريم يملأ المكان مهابة وجلالًا وقوة، ويمد المؤمنين من قوَّته بما يجعلهم يلتمسون المغفرة في العمل الصالح أكثر مما يلتمسونها في دعاء لا يعقبه عمل؟!
اللهم إني أعوذ بك من الزلل، وأتوب إليك من الخطأ، أنت العليم بأني إلى وجهك الكريم أقصد، ومِن حُبِّ إخواني المؤمنين حقًّا أستمِدُّ رضاك وأرجو عفوك، فاغفر لي وارحمني ولا تجعلني من القوم الخاطئين.