جَنَّة البَقِيع
إنْ تَعْجَب فقد عجبتُ قبلك من عنوان هذا الفصل، عجبتُ حين قرأتُ الكلمتين اللتين تؤلِّفانه على صورة شمسية للقباب التي كانت قائمة بالبقيع ثم هدمها الوهابيون، وإنما هوَّن من عجبي أن الذي أطلق على المكان جنة البقيع ووضعه على الصورة رجل من الأتراك في عهد بني عثمان، فلما انقضى العجب وعُدْتُ أتدبَّر الكلمتين رأيتهما تعبران عن معنًى دقيق، فاخترتُهما عنوانًا لهذا الفصل من الكتاب.
فالبقيع، أو بقيع الغَرْقَد كما تسميه كتب السيرة، هو مقبرة المدينة، كان مقبرتها في الجاهلية وفي صدر الإسلام، وما يزال مقبرتها إلى اليوم، ولم يَعْنِ التركي صاحب الصورة الشمسية هذا البقيع كله في جاهليته وإسلامه، وإنما عَنَى جزءًا منه هو الذي بقي موضع عناية الناس به وزيارتهم إياه، وهو موضع حديثي الآن، ففي هذا الجزء من البقيع مقابر أزواج النبي وقبر ابنه إبراهيم وقبور بناته، وقبر عثمان بن عفان، وقبر جعفر الصادق، وقبر مالك بن أنس، وقبور شهداء واقعة الحَرَّة التي هاجمت فيها جيوش يزيد بن معاوية المدينة سنة ثلاث وستين من الهجرة، هذا إلى كثير من صحابة رسول الله ﷺ ذكرت المؤلفات القديمة عددًا كبيرًا من أسمائهم، وأغفلت مع ذلك ذكر أسماء أكثرهم.
المسلمون جميعًا على اتفاق أن أصحاب هذه الأسماء التي أسلفناها من أهل الجنة، وأن كثيرين غيرهم، لم أذكر أسماءهم، من أهل الجنة كذلك، فمنهم جماعة من أهل بدر الذين قال فيهم رسول الله ﷺ: «لعلَّ اللهَ قد اطلع إلى أهل بدر يوم بدر فقال: اصنعوا ما شِئْتُم فإني قد غفرتُ لكم.» ومنهم جماعة وهبوا حياتهم لله ولإخوانهم المسلمين فاستشهدوا في سبيل الحق، وشهد الناس لهم في حياتهم بالتقوى، فلهم عند ربهم مغفرة وأجر كريم، ومن بينهم جماعة من العلماء الذين توفروا حياتهم على العلم مخلصين له وجوههم لا يبغون به غير الحق مرضاةً لله؛ من هؤلاء مالك بن أنس صاحب المذهب المالكي وعالم المدينة العظيم، والعلماء ورثة الأنبياء ما أرادوا بعلمهم الحق وهداية الناس له، أما وذلك شأن الثاوين في هذا المكان فلم يَغْلُ من سمَّاه جنة البقيع، ولم يَغْلُ من رفع القباب على قبور أصحابه لو أنه قصد منها إلى الإشادة بذكرهم لتكون للناس على كَرِّ العصور مُدَّكَرًا وعِبْرة.
هذا ما يصف به الحاج عبد الله برخارت جَنَّة البقيع، ولقد زرتُها بعد خمس وعشرين ومائة سنة من زيارته إياها فلم أجد بها بقية لبناء أو قبة على الأجداث، مما حمل التركي على أن يسمي هذا المكان جنة البقيع، ولم أجِدْ بها أكوامًا من التراب ولا حُفَرًا ولا حثالة، إنما وجدتُ قبورًا مُسوَّاة بالأرض يحيط بكل قبر منها أحجار صغيرة تُعْلمه، فقد أُزِيل في هذا العهد الحاضر كل ما بقي من أثر لقُبة أو بناء وسُوِّيت القبور بالأرض، فلولا أنك تعرف أن هذا المكان هو البقيع وأنَّ به رُفاتًا خَلَّف أصحابُها على التاريخ أعظم الذكر، ولولا هذه الأحجار المحيطة بكل قبر، لخلتها فضاءً مُسَوَّرًا لا شيء البتة فيه، لكن ما تعلمه عن الثاوين بها يجعلك تقول مع برخارت: «لقد بلغت المدينة مع الغِنَى برُفات القديسين العظماء حتى لقد كان كل من هؤلاء يفقد جلال العناية بذاته، على حين تكفي بقية من رفات أي من المدفونين بالبقيع لتجعل لأيَّةِ مدينة إسلامية أعظم الشهرة.»
زرتُ البقيعَ وتخطيتُ أثناء القبور، ووقفت على كل قبر وصَلَّيْتُ على صاحبه واستغفرت الله له، ثم وقفت متأملًا أتدبر ما أمامي وتناجيني نفسي: «أَوَيموت الذين يسبقوننا إلى القبور؟! أم أنهم يُنقلون من عالمنا هذا إلى العالم الآخر فتنحل أجسامهم إلى عناصرها الأولى وتبقى أرواحهم بين يدي بارئها يُحاسبها على ما قَدَّمَتْ؟ وما قَدَّم الذين قبلنا لا يزول بزوالهم بل ينتقل إلينا ويصبح ميراثنا عنهم، تتأثر به حياتنا حتى لكأنهم بيننا، وحسبي أن أذكر ما في نفسي أنا المصري من ميراث هؤلاء المؤمنين المدفونين بهذا البقيع ليُثبت يقيني باتصال الوحدة بيننا وبين الذين سبقونا، ليكن مذهبي الإسلامي شافعيًّا أو حنفيًّا أو حنبليًّا، فأنا قد تأثرتُ وتأثر أمثالي لا ريب بمذهب هذا الفقيه العظيم مالك بن أنس الراقد في هذا البقيع، وليكن هواي السياسي في الحياة الإسلامية عَلَوِيًّا أو أُمَوِيًّا فأنا تأثرت بلا ريب بهذا الخليفة الكبير عثمان بن عفان، وبزوج هذه الراقدة ها هنا فاطمة ابنة النبي وبابنيها الحسن والحسين، وهذه الأسرة الكريمة أسرة رسول الله، وها هنا منها رُفات زوجاته وبناته وعمَّاته، قد تركت من الأثر في حياتي أبلغه وأعمقه، تغيَّر اتجاه تفكيري على السنين غير مرة ولم يتغير ما ترك هؤلاء جميعًا في النفس من أثر آيتُه أنني كنتُ وبقيتُ أحْنِي الرأس إكبارًا وإجلالًا لدى ذكرهم وحين الحديث عنهم.
كم مرة جاء رسول الله ﷺ إلى هذا المكان؟ عشرات المرات، فقد كان يجيء إليه كلما مات صاحبٌ من أصحابه يُصَلِّي عليه ويقف حتى يواري جثمانه التراب، وكان يجيء وحده أحيانًا ومع أصحاب له أحيانًا أخرى، لغير شيء إلا للصلاة على مَن في البقيع والاستغفار لهم ومناجاتهم، فقد كان يرى الحق من أن الموت انتقالٌ من حياة الدنيا إلى حياة الآخرة، وأن الذين ينتقلون من بيننا يبقى اتصالهم بنا حتى ليسمعوننا وإن كانوا لا يتحدثون فلا يستطيعون أن يجيبونا؛ لذا سمعه أصحابه جوف الليل بعد أن نصر الله المسلمين ببدر يُناجي المشركين الذين قُتلوا في المعركة ودُفنوا في القَلِيب الذي حفره المسلمون لهم وهو يقول: «يا أهل القليب! يا عتبة بن ربيعة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام، يا … (واستمر يذكرهم بأسمائهم) يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا؟! فإني وجدت ما وعدني ربي حقًّا.» قال المسلمون: «يا رسول الله، أتنادي قومًا جَيَّفوا؟!» فكان جوابه: «ما أنتم بأسمعَ لما أقوله منهم، لكنهم لا يستطيعون أن يُجيبوني.»
وكثيرًا ما ناجَى أهل البقيع من أنصاره الذين استُشهدوا في سبيل الله، وكان آخر ذلك حين مرض مرضه الذي اختار الرفيق الأعلى على أثره، فقد أرِق ليلةً أول ما بدأ يشكو فخرج ومعه مولاه أبو مُوَيْهِبة وذهب إلى البقيع فوقف بين المقابر وقال يخاطب أهلها: «السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلتِ الفِتَنُ كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شَرٌّ من الأولى …» ثم استغفر الله لهم.
وهذه آية من رسول الله في السمو بالتفكير على الزمان والمكان، وفي مقدرة مَن وهبه الله ما وهب رسوله أن يتصل بمن شاء الله أن يتصل بهم ممن يحجبهم الزمان والمكان، ولقد يسَّر لنا العلم أن ندرك اليوم شيئًا من هذا حين يسر لنا أن نصل على المكان بمن شئنا عن طريق الأثير والإذاعة، وما يزالُ علماء يحاولون حل مشكلة الزمان بالاتصال بأرواح الذين سبقونا، ومَن يدري! فلعل العلم يطوِّع لنا أن نتصل بهم يومًا في يُسْر كما نتصل اليوم بمن في أقصى الأرض، وأن نراهم طَيَّ القرون كما نرى عن طريق «التلفزيون» مَن تحجب البحار والجبال والقارات بيننا وبينهم.
ومع تسوية قبور البقيع بالأرض اليوم وعدم إعلامها إلا بهذه الأحجار الموضوعة حولها، لقد شعرتُ إذ وقفت أمام بعضها بهِزَّة نفسية كأنما بيني وبين ساكنيها أقرب الأَوَاصِر، وكأنهم دُفنوا لأمْسهم ولما تجفَّ العَبْرة عليهم، من هذه القبور قبر إبراهيم ابن الرسول — عليه الصلاة والسلام، فلقد وقفتُ لديه وأطلتُ الوقوف، وذكرتُ عنده هذه الفترة الوجيزة من حياة محمد مذ وُلد هذا الطفل إلى أن مات ولمَّا تنتصف السنة الثانية من عمره، كان الله قد فتح أم القرى مثابة بيته العتيق على المسلمين، وقد أمنهم جانب الروم، وكان النبي قد جاوز الستين بعد أن اطمأن إلى نصر الله إياه، تَفِدُ عليه القبائل من أنحاء الجزيرة كلها تعلن إليه إسلامها وتستظل بلوائه الروحي وبأخوَّة المؤمنين.
كان إلى ذلك قد فقد أبناءه وبناته فلم يبقَ له منهم إلا فاطمة، وقد أقام عشر سنوات بعد وفاة خديجة وبعد زواجه من عائشة وسائر أمهات المؤمنين لا يَعْقِب، فلما وَلَدَتْ له ماريَّةُ القبطية المصرية إبراهيم فاضت بالمسرَّة نفسه، ووجد في هذا الطفل أُنس قلبه وزينة حياته، فجعل يمر كل يوم بدار أمه يمتِّع بابتسامة الطفل البريئة الطاهرة، ويُغَذِّي بضمِّه إلى صدره شعوره الإنساني الذي بلغ من السمو أن شمل الناس جميعًا، وهو يجد مع ذلك في توفره على هذا الطفل نعيمًا وغبطة، وتأخذ الغَيْرة أُمهات المؤمنين لهذا الحُبِّ الذي رفع أم إبراهيم عن مقام السراري إلى مقام الزوجات، فيأتَمِرْن بالنبي ويخرج بهن الغضب إلى ما لم يُعَوِّدْنَه، فلا يصرفه ذلك عن الطفل، بل يزداد به تعلقًا كلما ازداد نموًّا، وكلما رأى في ابتسامته وفي ضحكته ما تَسعد به أبوَّته وتستريح له نفسه من عملها العظيم المُضْنِي.
ويترعرع الطفل وينمو ويزداد شبهه بمحمد وضوحًا فيزداد له حبًّا وبه تعلقًا ويرمقه من العطف بما لا عطف بعده، وإنه لكذلك إذ مرض الطفل وأسرع فيه المرض، فذبلت نضارتُهُ وذهب لونه، ولم ينفعه تمريض أمه، ولم يبعث عطف أبيه إلى جسمه النحيل الشفاء، ويشتد الألم بمحمد لما يرى من حاله، ويبلغ منه الألم أن يأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف يعتمد عليه في مسيرته من المدينة إلى النَّخل بجوار العالية من ضواحي المدينة حيث تقيم مارية تُمَرِّض ابنها، وتُعينها أختها سِيرين في تمريضه، وتواسيها في بأسائها، ويرى النبي الطفل في حِجْر أمه [يجود] بنفسه، فيملأ الألمُ قلبه وتَنْدَى بالدمع عينه، ويجلس إلى جوار مارية الملهوفة وهو أشد ما يكون وَجَلًا وخوفًا وجزعًا، ويأخذ الطفل إلى حجره وينظر إليه بعينين مُلِئتا ألمًا ويقول: «إنَّا يا إبراهيم لا نُغْنِي عنك من الله شيئًا!» فتصيح الأم وتصيح أختها والطفل في غيبوبة الموت لا يوقظه صريخ أمه ولا تنبهه الدموع الحارة المنهلة من مآقي أبيه!
ويُقبض هذا الروح البريء وينطفئ بموته أملٌ تفتحت له نفس النبي زمنًا، فتزداد عيناه تَهْتانًا ويأخذ منه الحزن كل مأخذ، ويقول والجثة الصغيرة الهامدة ما تزال في حجره: «يا إبراهيم، لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزِنَّا عليك بأشدَّ مِن هذا.» ثم تخنقه العَبْرة فلا يستطيع أن يتابع القول فيعلوه الوجوم وقد ارتسم الحزن على قَسَمات محيَّاه في أبلغ صورة للهفة اللاذعة العميقة، ويشعر بأنه مفارق هذه الفلذة من كبده فيهز رأسه ويقول: «تَدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يُرضي الرب، وإنَّا يا إبراهيم عليك محزونون.»
ويحس محمد ما به من جَوَى الحزن وما يلفحه من حُرقته، ويُقَدِّر بما بمارية وأختها منه، فتأخذه الرأفة بهما، فيكفكف من دمعه ويتوجه إليهما يريد تعزيتهما فيذكر لهما إن له لَمُرْضِعًا في الجنة، ويقوم ومعه عمه العباس وطائفة من المسلمين يشيعون إبراهيم بعدما غسَّلوه وحملوه على سرير صغير، ها هم أولاء قد جاءوا به إلى هنا ووقفوا به حيث أقف، ولعله ﷺ كان واقفًا مكاني حين صلَّى عليه، وحين سَوَّى على قبره بيده بعد دفنه، وحين رَشَّ الماء على القبر وأعْلَمَ عليه بعلامة وقال: «إنها لا تضرُّ ولا تنفع، ولكنها تُقِرُّ عينَ الحي، وإن العبد إذا عمل عملًا أحب الله أن يُتْقِنَه.»
وحدثتني نفسي وأنا بموقفي: كيف يبلغ الحزن من محمد هذا المبلغ وقد حمل في الحياة ما ينوء به مَن لم يؤته الله من فضله ما آتى نبيَّه ورسوله، وقد حمله قويًّا صابرًا مستهينًا بالأذى والموت؟! وذكرت إذ ذاك أنه ﷺ بشرٌ مثلنا، وأن لنا فيه الأسوة والمثل، وأنه في حزنه على إبراهيم قد كان الأُبَوَّة البرَّة والعاطفة السامية التي ركَّبها الله في الناس إبقاءً على الحياة وصورة لوحدتها المتنقلة على الأجيال، وهل في الحياة كعاطفة الأبوة البرة نعمة وسعادة وزينة؟! وهذه العاطفة التي نسعد بها هي التي تبعث إلى قلوبنا حُبَّ الغير، وتخفِّف من أَثَرَتِنا وتعلمنا الإيثار وتدعونا إليه، وهي التي تدفعنا بذلك إلى السعي في الحياة ابتغاء الرزق لبنينا ومَن يلوذ بنا وابتغاء الخير بعد ذلك للناس جميعًا، ولولا هذه العاطفة لَقَضَت الأثرة على الحياة ولأسرع الفساد إلى الكون.
ويخرج الناس من البقيع بعد موت إبراهيم فإذا الشمس تَكْسِفُ، وإذا آية النهار تُمْحَى، فيحسبون ذلك معجزة شارك الكون بها رسول الله في حُزْنِه، لكنه ﷺ ما يلبث حين يسمعهم يتهامسون بذلك أن يقول لهم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تُخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله بالصلاة.» ويهرع المسلمون إلى المسجد يصلُّون وقد زادتهم كلمة رسول الله إيمانًا بأنَّ الله — جلَّ شأنُه — لا يُغير سُنته، وأن كل ما يقع في الحياة إنما هو من أمره.
وقفت على كل قبر بالبقيع وصليت على صاحبه واستغفرت الله له، وكذلك كان يفعل الذين رأيتهم يزورونه ساعة زيارتي إياه، على أني عجبتُ لقوم رأيتهم يُطيلون الوقوف عند قُبور أهل البيت ويبكون أحَرَّ البكاء، فإذا مروا بقبر عثمان استحثوا الخُطا فلم يقفوا عنده، قال أصحابي حين سألتهم في ذلك: أولئك جماعة الشيعة، فهم ما يزالون يذكرون أن دم عثمان هو الذي أذْكَى الفتنة بين علي ومعاوية، وبين بني أمية وآل البيت، وأنه الذي أدى إلى مقتل عليٍّ والحسين؛ وهم لذلك يمرون بهذا القبر سراعًا لا يصلُّون على صاحبه ولا يستغفرون الله له، وزاد في عجبي أن أهل بيت النبي أنفسهم لم يبلغوا من المَوْجِدة على عثمان بعد موته هذا المبلغ، لقد رأيت كيف أراد الحسن بن زيد أن ينتقم من بني أمية لإدخالهم حُجرات أزاوج النبي في رقعة المسجد، فكتب إلى المنصور أن يزيد في رقعة المسجد وأن يجعل الحجرة النبوية في وسطه لتدخل دار عثمان في رقعته، وكيف أجابه المنصور: إني قد عرفتُ الذي أردت فاكْفُفْ عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفان، ولم يخالف أحد من العباسيين المنصور في تفكيره هذا على طول مُلكهم، أفتبقى الموجدة في نفوس الشيعة أكثر مما بقيت في نفوس بني العباس وهم أقرب الناس إلى عليٍّ وإلى الحسين نسبًا؟! أم أنها ليست المَوْجِدة ولكنها العقيدة التي يتوارثها الأجيال من غير تفكير في سببها ومنشئها، والتي تنشأ أول أمرها متأثرة بأهواء شُعوبية أو سياسية أغلب الأحيان؟!
تُرى أفيبقى البقيع كما هو اليوم مسوَّاة قبوره بالأرض لا يقوم على قبر منها قبة، ولا يُقام للعظماء والصحابة المدفونين به أَثَر يُذكَرون به؟ لعلك تحسب الأمر يبقى كذلك ما بقي الوهابيون بالحجاز، وقد يكون في التاريخ ما يرجح ظنك، فقد غزا الوهابيون الحجاز في أوائل القرن التاسع عشر المسيحي فحطَّموا قباب البقيع كما حطموا غيرها من القباب بمكة والمدينة وغيرها من بلاد الحجاز، في هذا الوقت زار السويسري «برخارت» الحجاز ووصف البقيع بما رأيت، فلما أجْلَتْ جنود مصر الوهابيين عن الحجاز وعاد الأمر فيه إلى بني عثمان أعادوا بناء كثير من القباب وشادوها على صورة من الفن التي تتفق مع ذوق العصر، ولقد ذكر صاحب «مرآة الحرمين» من هذه القباب ما لأهل بيت النبي، والقبة التي بناها السلطان محمود سنة ١٢٣٣ للهجرة على قبر عثمان، ونشر صورها الشمسية، فلما عاد الوهابيون إلى الحجاز بعد ذلك بأكثر من مائة سنة هدموا هذه القباب كرَّةً أخرى، أفيُعيد التاريخ نفسه، فإذا جلا الوهابيون من الحجاز ودخل في حُكم أهله أو في حُكم غيرهم ممن لا يرون بإقامة القباب في الدين بأسًا أعادوا تشييدها، وإذا عاد الوهابيون بعد ذلك إلى الحجاز هدموها، أم يظل البقيع كما هو اليوم بَقِيَ الوهابيون في الحجاز أو جَلَوْا عنه؟ أم ترى يبلغ الأمر بين الوهابيين وغيرهم من طوائف المسلمين إلى التفاهم على إقامة أثر يُذْكَر به هؤلاء الأبطال الذين دُفنوا بالبقيع، على ألَّا يكون هذا الأثر موضع تبرُّك وألا يُتخذ إلى الله زُلفى؟
ولا أريد أن أجازف بحكمٍ، فأمر ذلك للمستقبل، والمستقبل غيب، والغيب لا يعلمه إلا الله، لكني مع ذلك أرجو ألَّا يظل هذا البقيع وليس به أثر يذكر به أصحابه، ويذكر به أعلام من دُفنوا طيَّ صحائفه، فلقد دفن به أكثر من عشرة آلاف من كرام الصحابة كان لهم في الإسلام وتاريخه وتعاليمه أثر أيُّ أثر، وإن قلت: الإسلام وتاريخه وتعاليمه قلت: الحضارة الإنسانية في الشرق والغرب، ونحن لا نقيم الآثار لمن سبقونا متاعًا لهم بها، فمتاعهم في عالمهم بما قدَّموا من عمل صالح، وإنما نقيمها ذكرًا ومعتبرًا للأجيال في تعاقبها حثًّا لأبنائها على أن يجدوا في السابقين الأولين الأسوة والمثل، وأنَّا إذ ندخل «البانتيون» في باريس أو كنيسة «وستمنستر» في لندن، أو أيًّا غير هذين من مدافن العظماء لا تجول بخاطرنا عبادتهم، ولا يدور بخَلَدنا تقديسهم، إنما يدفعنا ذكرهم إلى الوقوف على أخبارهم وما خَلَّفوا من أثر جليل وعمل صالح، وفي هذا خير مشجِّع على متابعة هذا العمل، وهو خير مظهر للصلة بين الحاضر والماضي صلة لا قيام لأمة ولا قيام للإنسانية إلا بتوثُّقها.
وما لنا نذكر باريس ولندن وبالمدينة من آثار الإسلام ما رأيت؟! ما أعظم الأثر الذي تثيره دار أبي أيوب الأنصاري في النفس! وما أعظم الموعظة في قبة خالد بن الوليد وشهادتها على ضيق رقعة داره! وما أشد ما تهتز مشاعرنا حين نقف على قبر حمزة عند سَفْح أُحُد! دع عنك موقفًا كله الإجلال والعظة أمام قبر الرسول ومثوى صاحبيه أبي بكر وعمر في الحجرة النبوية، أيَّة نفس لا تُحِسُّ في هذه اللحظات الباقية الأثر على الحياة أصدق الرغبة في السمو إلى غاية ما تؤهِّلها ملكاتها أن تسمو إليه، تشبُّهًا بهؤلاء الذين تركوا على الحياة أثرًا أخْلَدَ الأثر وأبقاه! وإذا صدقت الرغبة واستقر العزم وامتلأت به الإرادة لم يكن لقوة أن تصدَّنا عن بلوغ ما نبغي، فالإرادة الصادقة أعظم قوة في الحياة، ومن عرف كيف يريد قَدَرَ على بلوغ ما يريد.
وإنما قعد بالمسلمين عن إدراك هذه المعاني ودعاهم أن يتخذوا من القباب مواضع للزلفى إلى الله توسلًا إليه بأصحابها ما هَوُوا إليه من جهل حجَب عنهم جلال ما صنع الذين تُخلِّد القباب أو تُخَلِّد الآثار ذكرهم، وماذا يذكر سَوادُهم عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليٍّ؟ وماذا يذكر هذا السواد عن خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجرَّاح وحمزة بن عبد المطلب وغيرهم من أبطال المسلمين؟ ثم ماذا يذكر من عمل علمائهم وذوي الفضل والكرامة منهم؟ ليس يذكر من ذلك شيئًا؛ لأنه يجهل ذلك كله، وغاية ما يتصوره أن هؤلاء رجال اصطفاهم الله بكرامته، أو نساء أكرمهنَّ الله بمن أعقبن من ذرية صالحة، فهم بذلك أولياء الله؛ ومن ثَمَّ يتخذهم هذا السواد إلى الله زلفى ويسبغ عليهم من صفات ما فوق الإنسانية ما يسوِّغ عنده هذه الزلفى.
فإذا أراد المسلمون ألا يكون للقباب ولا لغيرها ما يدعو الوهابيين إلى هدمها وما يجعلهم يتهمون غيرهم من المسلمين بعبادتها فليست الوسيلة إلى ذلك هدم هذه القباب، وإنما الوسيلة إليه هدم ما في النفوس من حُجُب الجهل وقِبابه، وتفتيح مغالقها بإظهارها على ما صنع السلف وما خلفوا من علم وفن وحضارة، فالعلم هو النور الكشاف الذي يهتك حجب الزمن ويُرينا ما خلفه آباؤنا وأسلافنا للإنسانية من أسباب المعرفة، وما تؤدي إليه المعرفة من فضل وخير، وما تنير به سبيل الإنسانية لمستقبلها على هدى الماضي وما تم فيه، يومئذٍ لا يعبد الإنسان الإنسانَ ولا يتخذه إلى الله زلفى، وإنما يعبد الإنسان الله وحده لا شريك له، ويتخذ من علمه ومن عمله ومن تقواه الزلفى إلى الله.
فكرت في هذا إذ عُدتُ من البقيع مارًّا بدار عثمان، فأويت إلى غرفتي وجعلت أُقَلِّب في بعض كتب ألتمس فيها للبقيع وأهله ذكرًا، ولم أجد من ذلك سوى أن الذين دفنوا به يزيدون على عشرة آلاف من كبار الصحابة، لا تُعرف قبور أكثرهم وإنما يعرف من هذه القبور ما لإبراهيم ورقية وفاطمة أولاد النبي، وفاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وسعد بن زرارة، وخُنَيْس بن حُذافة السَّهمي، والحسن بن علي، وابن أخيه زين العابدين بن علي بن الحسين، وأبي جعفر الباقر محمد بن زين العابدين، وجعفر الصادق ابن الباقر، والعباس بن عبد المطلب، وأخته صفية، وابن أخيهما أبي سفيان بن الحارث، وعثمان بن عفان، وسعد بن معاذ الأشهلي، وأبي سعيد الخُدْري، وزوجات رسول الله — خلا خديجة التي دُفنت بمكة وميمونة التي دُفنت بِسَرِف — وهؤلاء جميعًا وألوف الصحابة الذين دُفنوا معهم يَثْوُون في بقعة ضيقة من الأرض لا يزيد مسطحها على مائة وخمسين مترًا في الطول، ومائة متر في العرض، ترتفع عما حولها، ويحيط بها سور لا شيء من الجمال في بنائه.
قلت في نفسي: أوَلا يهدي الله رجلًا من المسلمين إلى كتابة تاريخ لهذه البقعة والذين دفنوا بها ينشر فيه ما عملوا ويحلله تحليلًا علميًّا، ويرده إلى أصوله ويُبَيِّن ما كان له في الوجود من أثر؟! إن في قصص ما صنعوا وما كانوا عليه لأبلغ العبرة، وهو بعدُ يكشف من تاريخ هذا العالم عن شيء كثير ما أحوج العالم إلى أن يقف عليه، فهؤلاء جميعًا من أصحاب رسول الله، وهم عَرَب من أبناء شبه الجزيرة، فما اتخذوه في حياتهم من عمل أدنى إلى تصوير الروح الحق لهذا الدين الحنيف وإلى هداية الناس لهذا الروح، وما أشد حاجة الناس إلى هذه الهداية.
أَلَا لو أن عملًا ضخمًا كهذا العمل أتمه رجل أو رجال لأسدَوْا إلى الإسلام وإلى التاريخ وإلى الإنسانية خدمة جُلَّى، ولمهَّدوا لأولي الفن أن يقيموا في هذا المكان أثرًا خالدًا يصوِّر هذا الروح روح الإقدام في سبيل الحق والإرادة الصادقة في سبيل الله.
ما أقصرَ سِنِي الحياة! فلو أن لي من القدرة على القيام بشيء من هذا العمل الجليل أمهد به الطريق لإتمامه لأقدمتُ غير مبتغٍ إلا رضا الله وحسن ثوابه، وكفى بالله وليًّا ونصيرًا.
ولكن، مَن لي بأن أقوم — أنا الضعيف العاجز — فأجمع من شتيت الأسفار ما يؤرخ البقيع ورجاله من أصحاب رسول الله؟! فلْأَذَرْ هذا الأمر يهيئ الله له من شاء من عباده، ولله الأمر من قبل ومن بعد.