بدر وشهداؤها
خرجنا إذن من المدينة عصر الجمعة، الحادي عشر من شهر المحرم، الثالث من شهر أبريل، نقصد المُسَيْجِيد لقضاء الليل «بأوتيلها» والقيام بكرة الصباح إلى بدر، لقد فاتني السير في أثر الرسول إلى خيبر، ولم يكن في المقدور أن أذهب إلى حيث ذهبتْ جيوش المسلمين بأمره إلى مُؤتة وإلى تَبُوك ما دامت سكة الحجاز الحديدية معطلة، وسير القوافل إلى هذه الجهات غير منتظم، وصُحبة القوافل التي تَطَّرد أحيانًا مغامرة لا أطيقها، فلأختم جولاتي خلال الحجاز بزيارة بدر والوقوف على آثارها وعلى قبور شهدائها، فبدر هي الغزوة الأولى في الإسلام، التقى فيها الإيمان والشرك، فنصر الله الإيمان بجنده وعزَّزه بأَيْدِه، ووقف فيها رسول الله يستنجز ربه النصر الذي وعده ويقول في دعاء وابتهال: «اللهمَّ هذه قريش قد أتتْ بخُيَلَائِها تحاول أن تكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وَعَدْتَني! اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد.» فلما أتم الله النصر للمسلمين فيها على خصومهم كان ذلك الفتح الأول الذي استقر به الأمر للمسلمين من بعد، فكان مقدمة الوحدة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية، ومقدمة الإمبراطورية الإسلامية في العالم كله.
ومررنا إذ خرجنا من المدينة ببئر عروة فملأت من مائها «ترامسي»، وافتقدتُ في هذه اللحظة الخرائط التي أهداها إليَّ المستر فلبي فإذا بي نسيتها بدار مضيفي، ففكرتُ في العودة لأحضرها، لكن صاحبي آثر أن نبقى حيث نحن وأن يعود حسن بالسيارة فيردها عليَّ، وبقينا نتفيأ ظل الجبل بظاهر المدينة وننعم من هواء الصحراء الجاف الرقيق بما كنت في حاجة إليه أشد الحاجة بعد أن قضينا بالمدينة عشرة أيام كاملة.
وعاد حسن بالخرائط وعُدنا إلى انطلاقنا فبلغنا المسيجيد بعد العشاء، فألفينا جماعة من مواطنينا قد سبقونا إليها، أولئك أعضاء البعثة الطبية المصرية الذي غادروا المدينة يبتغون يَنْبُع ليدركوا الباخرة المصرية الأخيرة العائدة إلى أرض الوطن، وقضينا شطرًا من الليل أتحدث وإياهم عن الحج والحجاز، وسألت بعضهم: ألا يريدون أن يروا بدرًا معي؟ وكان جوابهم أن ابتسموا معتذرين، قال أحدهم: «لو أن الطريق إلى بدر كان مُعَبَّدًا لفكرنا في الاستجابة إلى صُحبتك، أما وأنت أدنى أن تكون مكتشفًا في ذهابك إليها فأَعْذِرنا، وسنقرأ يومًا ما تكتبه عنها، فيكون لك ثواب المشقة ولنا متاع القراءة، وسنجد في وصفك بدرًا غِنًى عن الضرب في تيهاء الطريق إليها.»
إذ ذاك ناجيتُ نفسي، أين نحن اليوم من المسلمين الأولين! أولئك كانوا يذهبون إلى بدر وغير بدر لا تصدهم مشقة ولا يقعد بهم تكاسُل، وكانوا يذهبون لا يعنيهم أواجَهَهُم الموت فواجهوه، أم أقاموا حين موسم بدر — وكانت من مواسم العرب — فنحروا الجُزُر، وسقوا الخمر، وعزفت عليهم القيان، أما نحن فنرغب عن بدر وزيارتها حذر مشقة الطريق، وإن ذهبنا إليها في السيارة؛ لأن بدرًا لم تبقَ موسمًا؛ ولأن الكتب لا تذكر لزيارة شهداء بدر والسلام عليهم — ادِّكارًا لعِبْرتهم وتأسِّيًا بمثلهم — ثَوَابًا نقتضيه كما يقتضي المرابي ربا ماله، والفرق في ذلك بيننا وبين السلف الأول أنهم كانوا ينفقون من جهدهم ويبذلون حياتهم ابتغاء رضا ربهم يرجون ثوابه ويخشون عقابه، وعند الله حسن الثواب، وأننا لا نبذل جهدًا، ونضن بحياتنا إلا على أهوائنا، فإذا دعينا لخير أو بِرٍّ اقتضينا المثوبة عنه معجلة، أو اقتضينا بهذه المثوبة على الله صكًّا يسجله عالم في كتابٍ من كُتبه، نزعم أنه يكون حجتنا على الله يوم الحساب.
وقضينا بفندق المسيجيد ليلة كليلتنا بفندق آبار بني حَصَان، فلما تنفس الصبح قمنا وقام أصحابنا، فأعاد كلٌّ متاعه إلى سيارته، وذرَّ قرن الشمس ونحن على الطريق إلى الحمراء، والطريق يجري في واد فسيح تنبت فيه بين حين وحين أغراس من أشجار شتى، تلك خُيُوفٌ منثورة بين المدينة وينبع على طريق بدر، «وقد تواضع القوم في بلاد العرب اليوم على أن الخَيْف مجموع بساتين تأخذ وجبتها من الماء كل أربع وعشرين ساعة ثم يقطع الماء عنها ليصرف إلى خَيْف غيرها، والخَيْفُ فيما تروي المعجمات: ما انحدر عن غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء»، ويمر الإنسان في ذهابه إلى الحمراء بخيف الحزامى وأم ديان.
ومن الحمراء يسير الذين يقصدون في طريقٍ عُبِّدَ للسيارات يؤدي إلى منطقة نقب الفار، وقد سُمي الطريق باسمها، أما ونحن نقصد بدرًا فلنا طريق آخر، أين هو؟ وكيف يتجه؟ سألت الجندي الدليل الذي أوفده أمير المدينة معنا فلم يكن أكثر علمًا بالأمر مني، لا سبيل إذن إلا أن نسأل أهل المنطقة، وفي أمثالنا المصرية: «مَن سأل لا يَضِل»، وسألنا صغيرًا هناك هدانا طريقًا لم نلبث حين سرنا فيه أن رأينا من مَوْج رماله ما ذكَّرنا بليلتنا بين بئر الشيخ وآبار بني حَصَان، ولم يكذبنا حدسنا، فسرعان ما غاصت السيارة واضطررنا إلى النزول منها وإلى التعاون على دفعها، وفيما نفعل مر بنا بدوي خاطبه الجندي النجدي في لهجة الآمر فجاء يُعاوننا، ثم ذكر لنا أن هذه الطريق تؤدي إلى بدر حقًّا، ولكنها طريق أفسدها السيل ولم تمر بها طول العام سيارة واحدة.
نبتت في هذه الرمال أشجار وحشائش دلتنا على أن الماء منها قريب، لكن ما عسى يجدي الماء واقترابه إذا لم يستعن به الإنسان على حاجاته، ومنها تعبيد الطرق؟! على أن للحكومة العذر ألا تُعَبِّد طريقًا قلَّ مَن يمر به، وإنا لنتبادل هذه الملاحظات ونتعاون على دفع السيارة إذ مر بدوي يتبع بعيرًا له، فلما علم أنا نقصد بدرًا بدت على وجهه الأشعث شبهة ابتسامة، ثم قال في لهجة غريبة قولًا لا أفهم إلا قليلًا منه، فَسَّرَه أصحابي بأنَّا نغامر باختيار هذا الطريق للسيارة وللبكس، ووقعت عين بعيره على نبات في الأرض فأقام يرعاه، ووقف البدوي في جانبه صامتًا لا يشترك في معاونتنا ولا يدفع بعيره ليسير، وعجبتُ لأمره، ورأى صاحبي عجبي، فابتسم وقال: وما تَعَجُّبُك ومرعى بعيره أثمن ما في الحياة عنده؟! فهو يحمل عليه الحاج ومتاعهم ويرتزق مِنْ حمله وهو يقف إلى جانبه كلما وجد البعير مرعًى ينال منه رزقه، وأمسك صاحبي هنيهة ثم أردف: تلك حياة البادية!
«تلك حياة البادية!» أثارت هذه الكلمة في نفسي صورة العيش في هذه البلاد منذ القدم، وصورة العيش في البادية حيثما وُجدت من أرض الله، ولطالما رأيت البدو في مصر يجيئون إليها من الشام أو من المغرب ويرتحلون عنها أو يقيمون بها ولا تتغير في الحالين عاداتهم ما بقي الارتحال في طبعهم، فالجلوس في خيامهم إذا أقاموا، والارتحال وراء دوابهم إذا تحمَّلوا، والحديث المتصل ما اجتمعوا، يقص كلٌّ أثناءه من مبالغات الخيال ما لا يجد في الطبيعة المترامية أمامه حدًّا، أليست الطبيعة المترامية مصدر الإلهام الوجداني للمهذب، وهي مصدر المبالغة الحمقاء للجاهل الذي يرى بعين خياله من الجن في أطوائها ما لا تقع عليه عين بصير؟! وفيمَ عسى أن يفكر هذا البدوي الواقف الآن إلى جوارنا إذْ يقضي الأيام وحيدًا مع بعيره ثم لا يجد مَن يخاطبه إلا أن يَلْقَى إنسانًا مصادفة كما لقينا؟! إنه — لا ريب — يدع لهواجس خياله العنان تسعده حينًا فتمد أمامه حبال الأمل، وتشقيه آخر فتضيق عليه نطاق اليأس، ثم لا يجد متنفسًا ليأسه ولا لأمله إلا في مناجاة نفسه، والتحدث في خياله إلى مَن لا يراهم من أحبته وأعدائه، وذلك هو الشعر عند أهل البادية الأقدمين، وهو هذه المقاطيع التي سمعت منها بالطائف الشيء الكثير؛ والتي تصوِّر النظم الشعري عند أهل هذا الجيل في شبه الجزيرة.
وأنقذ تعاوننا السيارة من ورطتها في الرمال كي تقف بعد قليل من مسيرها أمام أشجار متشابكة في الطريق، وقطع أصحابي من فروع الأشجار ما أتاح لنا المرور ثم إذا بنا نقف بعد دقائق أمام غدير لا مفر للسيارة من عبوره علَّها تسير بعده في طريق خلناه مستقيمًا، وخاض دليلنا مياه الغدير وجهل يتحسس قاعه ليرسم للسيارة المكان الذي تمر به، وبعد لَأْيٍ قذفنا في الأمكنة التي أشار إليها أحجارًا ترتكز عجلات السيارة عليها حين انحدارها إلى الغدير، وبذلك نجحنا في التغلب على هذه العقبة الثالثة، وانطلقنا نسير فوق أرض صلبة لقربها من الجبال، ويرى الدليل ما بي من سخط لهذه العقبات التي تصادفنا والتي كنت أعزوها لجهله الطريق، فلا يضيق ذرعًا ولا يبدو عليه التأثر، بل يهون عليَّ الأمر فيذكر أنَّا اجتزنا أشق الطريق ولم يبق أمامنا إلا أيسره، ونمر بين آنٍ وآنٍ بخَيْفٍ من الخُيُوف وبخضرته الناضرة وشجره النامي، فيهدأ لمرأى الخضرة والماء سخطي، وأكاد أصدق الدليل وأقتنع بأن المشقة انتهت، وزاد في أملي أن طال بالسيارة المسير دون أن يقفها موج الرمال أو أن يعترضها شجر أو غدير.
وإنا لكذلك في وادٍ بين جبلين إذا السيارة تغوص إلى بطنها ولا يبقى لها إلى حركة من سبيل، وما أدري لماذا استشطتُ غيظًا هذه المرة، وبلغ الغيظ مني أن قلت: فلْنَعُدْ إلى المسيجيد أو إلى الحمراء لنسلك طريق نقب الفار إلى ينبع حتى لا تفوتنا الباخرة بعد غد، فلما رأيت الدليل ورأيت أصحابي منهمكين في إخراج السيارة من مغرزها أمسكتُ عن القول وإن استمسكتُ بعزمي على العودة من حيث أتينا، فقد زالت الشمس ومالت إلى الغرب وما نزال نضرب في طُرق لا يعلم إلا الله أيان منتهاها، وقضى القوم ما يزيد على نصف ساعة حتى أخرجوا السيارة، ثم التفتَ إليَّ الدليل في هدوئه وقال: لم يبقَ من الطريق إلا أقله، وبلوغ بدر أيسر من العودة إلى الحمراء وكنت قد سكن روعي، وقد حمدتُ للقوم ما بذلوا من جهد شاق فلم أجادل، وانطلقنا فإذا بنا بعد قليل أمام منحدرٍ وَعْرٍ لم أُدْرِك كيف يهبط السائق بالسيارة منه، وكيف يتبعه صاحبه بالبكس، على أن حسنًا لم يتردد، وكل ما طلبه أن نغادر السيارة وأن نهبط هذا المنحدر على أقدامنا مخافة أن ترتطم رءوسنا بسقف السيارة فيصيبنا من ذلك أذًى، وفعلنا وهبط بعدنا والسيارة تكاد تنقلب به ظهرًا لبطن، وعدنا وإياه، فإذا نحن على طريق صخريٍّ معتدل، وإذا أمامنا أشجار عالية ما لبث حسن حين رآها أن دفع بالسيارة إلى غاية سرعتها وخلفنا البكس وراءنا، فلما طال بنا السير ولم نبلغ بدرًا بدأت المخاوف تعاودنا، ووقفنا مترددين عند أشجار عالية، ثم تخطينا خلالها فإذا ضيعة مطمئنة بينها، وسألنا أهلها عن بدر فقالوا: إنها منا قريب، فرجوناهم إذا ما رأوا البكس أن يهدوه السبيل، وعدنا منطلقين حتى اجتزنا منطقة الأشجار إلى البادية الجرداء، آنذاك بدا لنا عن بُعْدٍ سراب لم أحسبه شيئًا، ولكن الدليل أشار بإصبعه إلى ناحيته، وقال: هذه بدر.
وهدأ حسن لعل البكس يدركنا، ورميتُ ببصري إلى الناحية التي أشار الدليل إليها ألتمس في أطواء جوها صورة غزاة بدر من المسلمين الأولين، ورسول الله ﷺ على رأسهم، وألتمس كذلك جمع المشركين بجَحْفَلِه وبعَدِيدِه وعُدَّته، وقلت لصاحبي: «هل تُرى سلك النبي — عليه السلام — بجيش المؤمنين هذه الطريق التي سلكنا من المدينة إلى هنا؟» وسكت صاحبي هنيهة يفكر ثم قال: «لا أدري! ولكنني لا أحسبهم سلكوها، وأكبر ظني أنهم جاءوا من ناحية آبار بني حَصَان وبئر الشيخ، على أني لا أقطع بشيء من ذلك، بل لا أرجحه، فالطرق في هذه البادية بين المدينة وينبع كثيرة، وقد اختلفت في الأزمان الأخيرة غير مرة، فتعيين الطريق الذي سلكه رجال بدر الكبرى ليس أمرًا ميسورًا.» وأجبتُ بعد أن فكرتُ مليًّا: «إنك لعلى حقٍّ، وراوية التاريخ تشهد بأن هذه المنطقة من الحجاز كانت كثيرة الثمر على عهد الرسول، وكانت لذلك مقام قبائل كثيرة اتخذت منها حضرًا وموئلًا، وما أحسبنا نصادف اليوم فيها هذه البطون والقبائل التي كان النبي يُوادعها أو يُحالفها كلما خرج إلى سرية من سراياه أول عهده بالمدينة، فقد جَنَتِ الأحوالُ السياسية والاجتماعية على هذه البلاد وحضارتها وطرقها، فما يكاد شيء مما بها اليوم يشبه ما كان بها في صدر الإسلام، أما وذاك شأنها فحسبنا أننا بلغنا بدرًا، ولعلنا نجد بها للاستشهاد الحق في سبيل الله ذكرًا حسنًا.»
وبدأت منازل بدر تتضح معالمها للنظر، فلم أُصَدِّق من أمرها ما رأيت، لقد أحيينا بمصر ذكرى بدر منذ عام، فبدت لنا يحيطها التاريخ بهالة من جلالٍ وإكبار، هذا إلى أنها كانت قبل الغزوة الكبرى سُوقًا من أسواق العرب وموسمًا من مواسمهم، وفي غزوة بدر نزل قوله — تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ. أَلَا يجدرُ بمكان ذلك شأنه في الإسلام، وكان في الجاهلية سوقًا وموسمًا أن تهوي إليه الأفئدة وأن يجتمع الناس حوله وأن يكون مدينة ذات شأن؟! فما هذه المنازل التي نرى، وهي أدنى إلى الأكواخ منها إلى المنازل، بل إلى الآثار الدارسة منها إلى الربوع المأهولة؟!
لم تضن الطبيعة على بدر بما يُصلحها للمقام والحضر، فالماء بها وعلى مقربة منها وفير، وهذه المنطقة بين بدر وبين المدينة تكاد تعدل منطقة الطائف خصبًا، لقد مررنا بين الحمراء وبدر بخَيْف الخرمان، وخيف الواسطي، وخيف دغْبَجَ، وخيف الحسينية، وخيف الفارعة، والخيف الجديد، وكلها ذات مياه ونبات وشجر، وبها ضياع تُحدِّث عن شيء من النعمة وخفض العيش، فما بال بدر تبدو دونها جميعًا حياة ونضارة؟! أم بلغ من إكبار الناس للغزوة الكبرى أن آثروا ترك المكان الذي حدثت به لا يقربونه؟! إن يكن ذلك فلعل لهم فيه بعض العذر، فللاستشهاد مهابة وقداسة، وفي طبيعة المهابة أن تباعد بيننا وبين ما تمتلئ له نفوسنا إعظامًا وإكبارًا.
وناجيتُ نفسي: «ترى أية صورة لذكرى بدر أقامها أهل هذه البلاد حيث وقعت؟» وأراد خيالي أن يتمثل هذه الصورة، لكنني ما لبثت أن ابتسمت حين ذكرتُ ما مررت به من المواقف الجليلة في تاريخ الرسول مما لم يخلِّد سوى التاريخ ذكرها، أم تُرى أقام الخلفاء والملوك ببدر مسجدًا تُحَدِّث قبابه ومآذنه الذاهبة في السماء عن بعض ما حَدَثَ يوم التقى الجمعان: جمع المؤمنين وجمع المشركين؟ إنني لا أرى أمامي قبابًا ولا مآذن، فلأنتظر ففي هنيهة سأرى.
استدارت السيارة حول المنازل المبعثرة ها هنا وهناك، فهي بذلك أدنى في نظامها إلى الآثار الدوارس منها إلى مقام الأحياء، ولم يطُل بنا السير إذ وقفنا أمام بناء متواضع قيل لنا: إنه زاوية السنوسي، ولقينا هناك رجلًا عَرَفْنَا أنه سَادِنُ الزاوية والموكل بأمورها جميعًا، فسأله صاحبي عن أمير بدر، وعلمنا منه أنه غائب عنها، وعجبت لاسم الأمير يُطلق على رَجُلٍ في قرية، بل ضيعة شأنها ما رأيت، لكني عجبي زال حين علمت أن كلمة الأمير تطلق في بلاد العرب على كل والٍ لمدينة أو قرية أو ضيعة، لو أن هذه التسمية طُبقت في مصر لقيل لعمدة القرية: إنه أميرها، ولشيخ العزبة: إنه أميرها، ولكان في مصر ألوف وعشرات الألوف من الأمراء، ولفقدَ هذا اللقب ما له في نفوس المصريين اليوم من إجلال، وهل للألقاب والأسماء قيمة إلا بقيمة مسمياتها وما تبعثه في النفس من أثر؟!
وسألنا سادن الزاوية: «أنبغي وكيل الأمير؟» وأرسل في طلبه حين أجابه أصحابي بالإيجاب، وألحَّ على الرسول في استعجاله حين رأى دليلنا الجندي الوهابي ينبهه إلى واجب أمير بدر ووكيله، وفتح السادنُ زاوية السنوسي فتخطينا بابًا في مِثْلِ تواضع البناء وقلَّة ارتفاعه إلى فناء ضيق امتدَّ بهو الزاوية عن يمين الداخل إليه، وبهو الزاوية مستطيل يكاد يبلغ طوله خمسة عشر مترًا، وعرضه خمسة أمتار، وقد فُرش بحصيرٍ قديم هو أكثر ما كان في المكان تواضعًا.
وجلسنا أول ما رأينا الحصير وطلبتُ إلى أصحابي أن يجيئونا بالطعام، فقد أذَّن العصر ولم نتناول مُذْ تركنا المسيجيد وَجْبة، وقد أجهدنا ما لقينا في سيرنا من مشقة مرهقة، ولا شيء ألذ من طعام السفر البسيط ولا أَصَحَّ منه، ثم توضأنا بالزاوية، وقمتُ أدور حولها لعلِّي أجد في ناحية منها ما يصلح رمزًا لها أوجه إليه عدسة «الفوتوغرافيا»، فلما لم أجد ما يصلح لذلك وقفتُ عند ركن أسرح الطرف منه إلى ما حولي، وأفكر وأنا بموقفي في هذه الزاوية ومَن بناها، وفي تصوُّره وأمثاله الرواقيين المسلمين للحياة، وفي بُعْد هذا التصور عما أفهم من روح الإسلام، فهذا الدين يدعو إلى عدم الاكتراث بالدنيا ومادتها، لكنه لا يدعو إلى الرغبة عنها، بل هو يدعو إلى السَّعي للرزق وإلى الجد في العمل، يقول الله — جلَّ شأنُه — في كتابه العزيز: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، فالذين يبتغون الدار الآخرة وينقطعون لذلك عن الحياة وما فيها ينسون نصيبهم من الدنيا ولا يسعون في مناكب الأرض ليأكلوا من رزق الله وليحسنوا كما أحسن الله إليهم، أم تُرى الذين ينقطعون إلى العبادة ويدْعُون إلى الفقر يبتغون بهما التطهُّر إنما يفعلون ذلك على أنه خير نصيب يناله الإنسان من الدنيا، وأن إحسان هؤلاء إلى الناس كإحسان الله إليهم إنما يكون بدعوة الناس إلى الفقر والعبادة؟ هذا رأي له قَدْرُه واحترامُه، لكني أراه بعيدًا عن روح الإسلام كما أفهمه من كتاب الله الكريم.
وانطلقنا نبتغي ميدان بدر وقبور شهدائها، وليس يحول بين الزاوية وهذا المكان حائل من بناء، بل يفصل بينهما فضاء فسيح منبسط هَبَطَتْ عليه هذه الساعة من موليات النهار ظلالٌ لم أُعَنِّ نفسي أكان سببها غمام حجب الشمس، أما أن الشمس توارت وراء الآكام؟ وفيما نسير في هذا الفضاء الفسيح نبتت أمام النظر أحجار قائمة في صفوف متراصة، قال صاحبي: «هذه قبور الذين قُتِلُوا ها هنا في الموقعة التي حدثت بين الأشراف والسعوديين من عشر سنوات.» فجأني هذا النبأ فوقفتُ هنيهة مشدوهًا أسائل: «أغزوةٌ في هذا المكان بين طائفتين من المسلمين؟! يا للعار! إن بدرًا لَحَرِيَّة أن تكون حرامًا على المسلمين جميعًا كحرمة مكة وكحرمة البيت العتيق، وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ولم يجدوا مَن يُصْلِح بينهما ويُقاتل التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فحق عليهما أن يجتنبوا القتال في مكان له على التاريخ من الحرمة أنه أول مكان انتصر فيه الإيمان على الشرك وحقَّت فيه كلمة الله على الكافرين.» قلت هذا والغضب لما فعل الوهابيون والأشراف آخذٌ مني مأخذه، فلم يجد صاحبي بدًّا من أن يقرَّ رأيي، وإن كنت أحسبه قد تولَّاه العجب أن يثير الأمر من حماستي ومن غضبي ما أثار.
وزاد في عجبي وفي غضبي أنهم يطلقون على هذه الغزوة بين الأشراف والنجديين اسم غزوة بدر، وكأنها وقعت كما وقعت بدر الكبرى بين المؤمنين والمشركين! قال صاحبي: «هوِّن عليك! فالوهابيون الغُلاة الذين غزوا الحجاز غزوه باسم العقيدة، مُدَّعين أن من خالف مذهبهم مشرك كافر، أما وذاك رأيهم فلا تثريب عليهم أن يغزوا في بدر، وأن يذهبوا إلى أن الله نصرهم فيها كما نصر الرسول على أعدائه.» وصَمَتْ هنيهة ثم أردف: «ولم يكن بدٌّ أن يدافع أبناء الحجاز عن أنفسهم وقد هاجمهم خصومهم في هذا المكان وشنوا عليهم الغارة فيه.»
وتخطينا مصعدين هضابًا تقع عندها قبور الشهداء الأولين، شهداء بدر الكبرى، وما لبثتُ حين اقتربت من هذا المكان أن نسيت الوهابيين والأشراف وغزوتهم، وأن هان عندي أمرها، فقد تعلق كل حِسِّي بهذا المكان الذي طالما رسمته من قبل أمام ذهني، واستيقظت في ذاكرتي أدق التفاصيل من هذه الغزوة الأولى بين محمد وخصومه، وكدتُ أرى أبا بكر وعمر وحمزة وعليًّا حافِّين من حول الرسول، وتابعْنَا تقدُّمنا وتصعيدنا حتى كنا عند هضبة حفرت أمامها في الأرض فجوة أُحيطت بسياج من بناء، هنالك وقف القوم جميعًا حول السياج، وقال سادن زاوية السنوسي: «هنا قبور شهداء بدر رضي الله عنهم.» وسَادَنَا لسماع هذه الكلمات صَمْتٌ رهيب شعرت من هيبته بأن قلبي يزداد خفقًا، وأن جوارحي كلها تزداد تنبُّهًا، ثم رأيتني أُحدِّق في قاع الفجوة، كأنما أرى هؤلاء الشهداء رأي العين وأقول: «السلام عليكم شهداء بدر، رضي الله عنكم، وغفر لنا ولكم!» وانطلقتُ أتلو الفاتحة ويتلوها أصحابي جميعًا، ثم انطلقت ألسنتنا بالدعاء والاستغفار صادرين من قلوب صادقة في دعائها، مخلصة في استغفارها، أُشْربَتْ للراقدين في هذا المكان حُبًّا وإعظامًا، وللذين جاهدوا في سبيل الله إكبارًا وتكريمًا.
وبعد فترة لا أدري أطالت أم قصرت تحدَّث أحد أصحابي مشيرًا إلى لوحة ثُبِّتَتْ في الصخر حيث كان يقف وقد كُتبت عليها هذه الآية الكريمة: يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا.
يا للعجب! لقد سمعنا هذه الكلمات قبل اليوم عشرات المرَّات، وكنا في كل مرة نسمعها في إكبار وتقديس كإكبارنا وتقديسنا كلما سمعنا آي الذكر الحكيم، أما اليوم فكان لها في نفوسنا من عظيم الأثر ما اهتز له كل وجودي من شعر رأسي إلى أخمص قدمي، وتمنيتُ صادقًا لو كنتُ قد أبلَيْتُ مع الذين أبلَوْا في بدر فاستشهدتُ مثلهم وثويتُ في قبر من هذه القبور معهم، ما أعظمه في الحق فوزًا وفخرًا! وما أجلها غاية يهنأ الإنسان بها أن يستشهد في سبيل إيمانه بالله! فما الحياة إذا غاض منها الإيمان وتضعضعت فيها العقيدة؟! إنها تفقد إنسانيتها ويصبح الشخص فيها حيوانًا شأنه شأن سائر الحيوان، همه أن يأكل ويشرب ويتناسل إجابة لدواعي الغريزة ودوافع الاحتفاظ بالنوع، وإذا استوى الإنسان والحيوان فلا خير في الحياة، فإنما يتميز الإنسان على الحيوان بحياته المعنوية، والعقيدة والإيمان هما سر هذه الحياة المعنوية وقوامها، فإذا غاض هذا السر وضمر ضمرت إنسانيتنا حتى تغيض، ورُددنا بذلك حيوانًا كل الفرق بينها وبين غيرها من الحيوان أنها تنطق، ولكن كنطق الببغاء، نطق تقليدي لا اجتهاد فيه، وأنها تسير على قدمين بدلًا من أن تزحف أو تسير على أربع.
العقيدة والإيمان سِرُّ الحياة الإنسانية وروحها ومظهرها، بل هما الحياة الإنسانية وسبب وجودها، ولولاهما لما كان لهذا الكون بالإنسان حاجة، ولما كان لوجود الإنسان فيه سبب، وقيمة الحياة الإنسانية أن يتحققا فيها، أو تصبح هذه الحياة عبثًا يجب أن يتنزه مبدع الكون عنه، والعقيدة والإيمان أعظم قوة في الحياة، أمامهما تنْدَكُّ الجبال وتضطرب الرواسي وتَخِرُّ تيجان الملوك ساجدة وتتحطم تحطمًا، وهما اللذان سارا بالكون والحياة إلى ما بلغنا من تقدُّم؛ وهما لذلك الجديران دون سواهما بأن يُضَحَّى بالحياة في سبيلهما، أما ما سواهما في الحياة فأهواء ومطامع لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولا قيمة لها في التقدير الإنساني السليم، فالمال والجاه والحكم والسلطان أوهامٌ باطلة وضلال يُمليه الغرور؛ لذلك لا بقاء لها على الحياة.
وماذا خلف الإسكندر للإنسانية بملكه الطويل العريض؟ وماذا خلف قارون بماله إلا المثل المأثور يطلقه الناس على المال المتكاثر فيقولون: إنه مال قارون؟ وماذا خلف أولو الحكم والسلطان؟ فأما أرباب العقيدة والذين ملأ الإيمان قلوبهم فخلَّفوا تراثًا تتناقله أجيال الإنسانية، ضخمًا كان هذا التراث أو ضئيلًا، ولا يزال الناس يتذاكرون حتى اليوم آراء سقراط وأفلاطون وأمثالهما من حُكماء اليونان وفلاسفتها كما يذكرون أولي الرأي المؤمنين برأيهم في غير اليونان من الأمم القديمة، وأصحاب المذاهب الأربعة الإسلامية أبقى في الحياة أثرًا من ملوك المسلمين وأمرائهم جميعًا، وأولو الرأي هؤلاء لم يجاهدوا في سبيل آرائهم ولم يبذلوا لها روحهم وحياتهم، أما الذين آمنوا وافتدوا إيمانهم بحياتهم من شهداء بدر ومَن إليهم، وأما الذين جاهدوا في سبيل الله بأرواحهم لنصر كلمة الحق، فأولئك جميعًا أحياء عند ربهم يُرزَقون، وأولئك تذكرهم الإنسانية في إجلال وإكبار، ويقول كل واحد من أبنائها البررة كلما ذكرهم: «يا ليتني كنتُ معهم فأفوزَ فوزًا عظيمًا.»
وشهداء بدر القدوة والمثل في افتداء الإيمان بالحياة، وفي قوة المؤمن بإيمانه وفي سمو الإيمان بالحياة إلى المثل الأعلى، فهؤلاء ثلاثمائة من الرجال جاءوا بدرًا لا يريدون حربًا، بل يريدون أن يأخذوا عِير أبي سفيان لقاءَ ما أخرجتْ قريشٌ صفوتَهم من مكة بعد أن آذتهم وأبعدتهم عن أموالهم وأهليهم، فإذا أبو سفيان فاتهم ونجا بنفسه وبِعِيره، وإذا قريش خرجت إلى بدر بقَضِّها وقَضِيضِها وألقتْ إلى قتال المسلمين بأفْلَاذ أكبادها، حتى لم يبق بمكة بعد خروجها مُتخلف قادر على القتال، أفيُقاتل المسلمون هذا الجيش ورجاله ثلاثة أمثالهم عددًا وعُدَّة، وليس لهم من وراء هذا القتال بعد نجاة أبي سفيان مأرب؟ لكن قريشًا جاءت تُناجزهم، فلم يبقَ الأمر أمر أبي سفيان وعِيره، بل صار أعظمَ من ذلك وأجلَّ خطرًا، صار الإيمان والشرك يلتقيان، ولقد أدرك المسلمون هذا الموقف مذْ عرفوا خروج قريش تحمي تجارتها، وأدركوا أنهم إن تقاعسوا أو تضعضع ركنُهم علَتْ كلمة الشرك وعادوا مِن أذى قريش إلى شرٍّ مما كانوا فيه بمكة، فهان على يهود يثرب أمرهم، ولم يبقَ للدين الذي بعث الله به رسوله أَيْدٌ ولا قوة.
لذلك تمثلت كلمة المهاجرين حين شاورهم النبي في قول المِقْدَاد بن عَمْرو: «يا رسول الله، امضِ لما أراك الله فنحن معك، والله، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون.» وتمثلت كلمة الأنصار في قول سعد بن مُعاذ محدثًا النبي: «لقد آمنَّا بك وصدَّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثقنا على السمع والطاعة، فامضِ لما أردتَ فنحن معك، فوالذي بعثك، لو استعرضت بنا هذا البحر فخُضْتَه لخُضْنَاه معك وما تخلَّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلْقَى بنا عدُوَّنا غدًا، إنَّا لَصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ في اللِّقاء، لعل الله يُريك منا ما تقرُّ به عينُك، فسِرْ بنا على بركة الله.»
لم يكن موقف المسلمين من قريش أمرَ مالٍ وغنيمة إذن، بل كان الإيمان والشرك يلتقيان؛ لذلك لم يلبث القوم حين نظموا صفوفهم وأخذوا للقتال عُدَّتهم أن بدت بينهم قوة الإيمان وضعف الشرك؛ بدت قوة الإيمان المتصل بالله وحده سامية على كل قوة، فلا يغلبها في الأرض غالب، ولقد استعرضتُ أمام ذهني وأنا بموقفي من قبور الشهداء هذا المنظر الفذَّ من مناظر التاريخ، فبهرني ما للإيمان من قوة لا تُغلَب.
نزل الفريقان منازل القتال، والمسلمون فيما رأيت من بأس وعزم، وقريش ما يزالون مترددين، يقول لهم عتبة بن ربيعة: «يا معشر قريش! إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدًا وأصحابه شيئًا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجلٍ قَتَلَ ابن عَمِّه أو ابن خاله أو رجلًا من عشيرته، فارجعوا وخَلُّوا بين محمد وسائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك لم نتعرض منه لما تكرهون.» ولولا حِدَّةُ أبي جهل ودَفْعُه عامرَ بن الحضرمي ليأخذ بثأر أخيه الذي قتله المسلمون في سرية عبد الله بن جحش، ولولا أن اندفع الأَسْوَدُ بن عبد الأسد المخزومي من صفوف قريش إلى صفوف المسلمين فعاجله حمزة بن عبد المطلب بضربة أطاحت بساقه فسقط إلى ظهره تشخب رجله دمًا، فلم يبقَ بعد الدم من القتال مَفَرٌّ، إذن لغلب التردد قريشًا ولارتدوا على أعقابهم كاسِري الطرف في غير قتال خاسئين.
والآن تبدأ المعركة، انظر! إنني أراها بعيني في هذا الوادي المنبسط أمامي تحيط بها الهضاب والكثبان من كل جانب، فهذا عتبة بن ربيعة الذي كان يهيب بقومه منذ لحظة أن يرجعوا قد خرج في سلاحه بين أخيه شَيْبة وابنه الوليد يدعو المسلمين للمبارزة، ويخرج إليه فِتْيانٌ من المدينة فيأبَى قتالهم وينادي المنادي: «إنما نريد أكْفَاءَنا من قومنا.» فيخرج حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعُبَيْدة بن الحارث، ألا تراهم! ما أشدَّ ما ترمي عيونهم بالشرر! وا عجبًا! هؤلاء قوم لا يريدون قتالًا بل يريدون استشهادًا، لقد انقضَّ حمزة على شَيْبة وانقضَّ عليٌّ على الوليد كما ينقضُّ البازي على فريسته، فإذا المشركان مُجَنْدَلان ضرَّجَتْهما دماؤهما، أما عتبة فيحاول أن يَثْبُت لعُبَيْدة، فإذا حمزة وعليٌّ قد فرغا من خصميهما يُجْهِزان عليه كما أجهزا على أخيه وابنه، يا لعَار هذا الجَحْفَل اللَّجِب! أفقُدِّر لهؤلاء الذين أجلتْهم قريش عن مكة أن ينتصروا عليها وأن يهزموا جموعها؟ فلتزحف هذه الجموع إذن حتى لا يبقى لمحمد ولأصحابه باقية.
رفقك اللهمَّ! هذه جموع قريش تزحف، وهذه جموع المسلمين تزحف، رفقك ربي ورحمتك! ماذا يصنع ثلاثمائة من المسلمين بألف من قريش؟ وهذا رسول الله بين المسلمين يعدل صفوفهم، لكن زحف قريش يزيدها بأسًا، وتفوق عديدها على المسلمين يجعلها تحيط بهم وتكاد تغرقهم في لُجَّتِها، ربِّ ماذا كتبتَ في لوحك المحفوظ مصيرًا لهذا اليوم العصيب؟! هذا رسول الله يعود إلى المؤخرة ويقف في العريش الذي بناه له أصحابه قبل الموقعة، وهو أشد ما يكون إشفاقًا من هذا المصير ومن خاتمة المعركة، أين وعد الله النصر إذن؟ وهل أثِمَ المسلمون فجزاهم الله بإثمهم هذا الموقف الرهيب؟
انظر كَرَّةً أخرى! فالآن يتخذ كل فريق في زحفه مواقف الاشتباك بخَصْمه ويكادان يلتحمان، والآن يقف رسول الله وَجِلًا مشفقًا مستقبلًا القبلة، متجهًا بكل نفسه إلى ربه يناجيه ويخاطبه: «اللهم هذه قريش قد أتتْ بخُيَلَائها تحاول أن تُكذِّب رسولك، اللهم فنصرَكَ الذي وعدتني! اللهم إن تهْلِكْ هذه العصابةُ اليومَ لا تُعبَدْ!» ألا تراه! إنه يمُدُّ كلتا يديه ويهتف بربه مستغفرًا تائبًا داعيًا مبتهلًا، وهذا رداؤه يسقط عن منكبيه لشدة توجهه إلى ربه وهتافه به، ويرُدُّ أبو بكر الرداء على منكبيه على منكبيه ويهيب به: «يا نبي الله! بعضَ مناشدتك ربَّك! فإن الله منجز لك ما وعدك.» لكن نبي الله لا يزال يتضرع إلى الله ويستعينه، ها هو ذا جلس في العريش صامتًا وأغمض عينيه كأنه نام، انظر إلى وجهه! إن أساريره لتنبسط وثغره لتضيئه ابتسامة الظَّفَر، إنه لا شك يرى في هذه الساعة ما لا يراه غيره، لقد كشف الله عنه الحجاب فرأى نصر الله منه قريبًا، والمعركة تدور هناك في الميدان رحاها لا يدري أحد عَمَّ تنكشف؟ إنَّ قريشًا لَعَلَى ثقة بعددها وعدَّتها، فهي تحسب النصر وشيكًا أن يتم، والمسلمون يزيدهم الإيمان في كل لحظة قوة على قوتهم فهم يبطشون بكل مشرك تصل إليه أيديهم بطشَ عزيزٍ مُقْتَدِر.
وعُدْ بنظرك الآن إلى العريش، لقد انتبه رسول الله من نومه، إنه يخرج إلى الناس فينادي فيهم: «والذي نفس محمد بيده، لا يُقاتلهم اليوم رجل فيُقتل صابرًا محتسبًا مُقبلًا غير مُدْبر إلا أدخله الله الجنة.» ألا ترى إلى وجوه المسلمين ساعة طرق سمعهم صوت الرسول ونداؤه إياهم بهذه العبارة، ومَن مِنَ المؤمنين مَن لا يريد الجنة؟! مَن منهم مَن لا يريد نعيم الرضوان في رحاب الله بديلًا من هذه الحياة الدنيا وكاذب غرورها؟! والجنة للصابرين على البأساء والضراء وحين البأس، والجنة لمن أحسن البلاء في سبيل الله ومَن غمس يده في العدو حاسرًا، والله ولي الصابرين والذين يستشهدون في سبيله، يمدهم بالملائكة يبشرونهم ويزيدونهم تثبيتًا وإيمانًا.
لا أرى أمامي إلا غبارًا ثار نَقْعُه فحجبَ الميدانَ وما فيه، وكأنما اقتطعه من نطاق الزمان والمكان ليجعله على الدهر آية لقوة الإيمان المتصل بالله، له الملك وله الأمر كله، وهذا هو الجو الآن ينكشف فأرى، نعم! أرى الواحد من المسلمين إذْ يرفع سيفه ويهوي به على عنق عدوه إنما تُحرِّك قوةُ الله يدَه، وإذ يُحدِّق بنظره إلى شرذمة من المشركين في إقبالهم عليه يردهم على أعقابهم فيتلقاهم مؤمن من إخوانه يحزُّ رقابهم حزًّا، ويُرديهم في حفرة الموت هَلْكَى، وأرى رسول الله يأخذ حَفْنَة من الحَصْبَاء يستقبل بها قريشًا وينفحهم بها وهو يقول: «شَاهَتِ الوجوهُ». فيُوَلُّون أمام الحصباء فِرارًا، ويمتلئون من رميها رعبًا، وكيف لا يولُّون وقد تجسَّمت أمامهم قوة الإيمان فهم لا يعرفون لها مَدًى ولا حَدًّا! ويرون إخوانهم في الكفر صَرْعَى فيأخذهم الهول ويلتمسون النجاة هربًا! وتتمُّ كلمةُ ربِّك ويُنْجِزُ رسولَه وعدَه، فتفرُّ قريش، ويُطاردهم المسلمون ويعودون بالأسرى وقد امتلأت نفوسهم طمأنينة ورِضًا.
رأيت هذا كله وأنا بموقفي أُجِيل الطرف في ميدان بدر، فلما تم للمسلمين النصر تنفَّستُ الصُّعَدَاء وملأ الرضا قلبي، ثم رجَّعتُ بصري إلى ناحية الهضبة التي تحتضن قبور الشهداء وانفجرت شفتاي عما سمعه أصحابي: «يا ليتني كنتُ معهم فأفوزَ فوزًا عظيمًا.»
وعاد لي بعد هنيهة هدوء نفسي، فسرتُ الهُوَيْنَى حتى استوقفني رجل من بدر عند مكان ذَكَرَ لي أنه القَلِيب الذي دُفن المشركون مِن صَرْعَى بدر به، وأضاف: «إن لون الرمال فوقه داكن لما يلفحه من نار جهنم، وإنك تحسه دافئًا أبدًا في الصيف وفي الشتاء.» ولم أُرِدْ أن أُمسك هذه الرمال بيدي وإن مَدَّ مُحدثي إليَّ يده بحفنة منها؛ لأنني خشيتُ ألَّا أشعر بدفئها فيتهم القوم حِسِّي؛ ولأني كنت شَغِلًا عن ذلك بتعرف ميدان بدر وحدوده ومواقف المتقاتلين منه وموضع اشتباكهم فيه.
فأما العريش الذي بناه المسلمون لرسول الله ففي مكانه الآن مسجد يُسمى مسجد العريش، وهو قد بُني على طراز مساجد مكة بساطة وضيق رُقعه، مع أن موقف الرسول فيه من أجَلِّ مواقف حياته، والمسجد يقع اليوم بين دُور بدر، كما يقع مسجد عَدَّاس بالطائف بين دُور المَثْنَاة.
وآنَ لنا أن نعود إلى زاوية السنوسي لنستقل السيارة إلى يَنْبُع، وفيما نحن في الطريق سألتُ سادن الزاوية: أيجيء إلى بدر زُوَّار يقفون عندها؟ وأجابني: إن الذين يجيئون إليها قليلون، وإنهم لا يقفون عندها غير ساعات كما فعلنا، وإن منهم من يكتفي بزيارة قبور الشهداء للتبرك بها وقراءة الفاتحة، وقليلون يسألون عَمَّا سألتَ عنه من أمر الغزوة وميدانها ومواقعه فيجيبونهم بما أجاب كثيرون به.
وتبسمتُ من قوله وذكرتُ ميدان «واترلو» حيث كانت الموقعة بين نابليون وولنجتون، وكيف صور القوم نموذجًا مصغرًا للميدان ومواقف الجيوش المتحاربة منه وأطوار الموقعة فيه تصويرًا بارزًا يسهل معه لمن شاء أن يحيط بدقائق الموقعة خُبْرًا، وليس لموقعة «واترلو» في حياة الإنسانية بعض ما لغزوة بدر من أثر، لكنه العلم وما يُكبره من عبرة التاريخ قد أدى بأهل الغرب إلى تصوير هذا النموذج البارز لموقعة «واترلو»، وهو الجهل الذي خيم على العالم الإسلامي منذ عصور الانحلال هو الذي أدَّى بهم إلى ألَّا يفعلوا من مثل شيئًا يرسمون به لزوار البلاد الإسلامية المقدسة صورة صحيحة لما حدث في عهد الرسول النبي العربي.
ليس لموقعة «واترلو» ولا لأية موقعة غيرها بعض ما لغزوة بدر من أثر في حياة الإنسانية، فغزوة بدر رمز صادق للاستشهاد الصريح في سبيل العقيدة استشهادًا مبرأ من كل غاية أو غرض إلا الدفاع عن هذه العقيدة والإيمان بها والدعوة إليها، وهو استشهاد صريح؛ لأنه يتم في ميدان الشرف بين جموع المؤمنين الذين يواجهون خصومهم، ليس يذهب طالبه في غسق الليل ولا في غفلة الناس ليغتال إنسانًا أو طائفة من الناس؛ لأنهم خصوم إيمانه وعقيدته، بل يدعو ثم يدعو ويستعذب الأذى، ويُضَحِّي بمنافع الحياة في سبيل دعوته، فإذا اجتمع حوله قوم أنِسُوا في نفوسهم القوة على الدفاع عن عقيدتهم في وجه خصومهم، وَهَبُوا حياتهم في سبيل هذا الدفاع ومَشَوْا إلى الموت حريصين عليه، ومَن حَرَص على الموت وُهبت له الحياة، حياة خالدة في نعيم الرضا لمن استشهد، وحياة راضية سعيدة مطمئنة لمن لم تكن الشهادة نصيبه، بدر هي الرمز الخالد السرمدي لهذا المعنى السامي، أبلغ المعاني الإنسانية سُموًّا وأعظمها جلالًا، أما وذلك شأنها فليس «لواترلو» ولا لأية موقعة غيرها بعض ما لها في حياة الإنسانية من أثر.
تردَّدَتْ هذه العبارةُ الأخيرة في نفسي والسيارات تنهب بنا الأرض إلى ينبع، فقد خرجنا من ملتويات الطرق ومنعرجاتها إلى بيداء منبسطة ذاهبة في انبساطها إلى حدود الأفق، ولم تكن رمال هذه البيداء منحلة يخشى أن تغور فيها العجلات، بل كانت رمالًا شاطئية تتسرب إليها مياه البحر إلى أميال بعيدة فتكسبها تماسكًا وتجعلها صلبة صلابة الأسفلت، وإن بقيت تحت عجل السيارة أكثر لينًا ومرونة، ولم تكن هذه البيداء مطروقةً، فلم يخط عجل السيارات فيها دروبًا واضحة للسائرين، ولم يقلب بعض الأماكن القليلة التماسك منها ظهرًا لبطن، كيف لنا أن نُعَيِّن اتجاهنا فيها حتى لا نضل الطريق إلى ينبع؟ ما كان هذا الأمر ليعنيني لولا أن «زمزم» تبرح هذا المرفأ بعد غد، لكني ما لبثت أن اطمأننت حين رأيت دليلنا الجندي النجدي يذر مجلسه من البكس ويتخذ لنفسه مجلسًا في سيارتنا ليهدي السائق طريقه، وأشهد لقد رأيت من مهارته ما أعاد إلى ذاكرتي صورة ما كنا نحفظه من الأدب العربي القديم عن دِقَّة العرب في قَصِّ الأثر، بدأ فصور لنفسه موقع ينبع وجعل يصدر أوامره للسائق بالسير إلى اليمين أو إلى اليسار — كما يفعل رُبَّان السفينة إذ يصدر الأوامر من مجلسه فوقها إلى الذين يديرون المحركات في قاعها — والسائق يسير بأمره منطلقًا في هذه البيداء المترامية مطمئنًّا إلى أنه لم يضل طريقه، وبعد ساعة وبعض الساعة من خروجنا من بدر، بدتْ على الرمال آثارٌ مبهمة لم أحسبها شيئًا، وأيقن دليلنا أنها الدروب إلى ينبع، وأقرَّ «حسن» رأيه فزاد في سرعة السيارة إلى غاية ما تُطيقه، ومِمَّ نخشى وليس في طريقنا إنس ولا أثر لحياة، وليس فيها شبهة حجر تمر السيارة فوقه؟ واطمأن الدليل إلى أنه أدَّى واجبه فألقى إليَّ بنظرات راضية من عيون دعجاء شديدة البريق، وكأنما يسألني العفوَ عَمَّا سلف في طريقنا بين الحمراء وبدر، وشكرْتُهُ، وأبديتُ عظيم إعجابي بمهارته، ونسيت له ما قال عن أهل بدر ممن يقيمون اليوم بها.
فقد ذكرت إذ عدنا من ميدان الغزوة الكبرى إلى زاوية السنوسي متخطين مقابر الأشراف والنجديين ممن دنسوا هذا المكان بالقتال فيه، أن هذا البلد يجب أن يكون حرامًا، ويجب أن يعرف المسلمون لأهله من الحرمة مقامهم عند الشهداء، فنظر النجدي إلى سادن السنوسي وإلى أفراد من القرية جاءوا إلينا وانضموا إلى جمعنا نظرة كلها الازدراء لهم وعدم الاكتراث بهم، وقال: «أهل بدر قوم ضعفاء.» يريد بذلك أن الضعيف غير جدير بحُرمة، وإنما الجدير بها من يقدر على الدفاع عنها، ولم أُعَقِّب على عبارته هذه، وانتظرت تعقيبًا ممن وُجِّهت إليهم فإذا هم سكون لا يَنْبِسُون، ومع ما دلني ذلك عليه من أن الرجل على حقٍّ حزَّ في نفسي أن تُصيب أهلَ بدر هذه المهانةُ وقد شهدت أرضهم فوز الإيمان على الشرك في غزوة بدر الكبرى.
أنستني مهارتُه قالَتَهُ، وأنسانيها هذا المساء المقبل البديع، فقد بدأت الشمس تتوارى بالسحب ناحية الغرب، وبدأت هذه البيداء تكسوها ظلال رقيقة تزيد بسطتها بهاء وروعة، وتزيدنا بها وبصحبتها متاعًا وسعادة، وقال صاحبي مشيرًا إلى ناحية اليمين: «هذه جبال رَضْوَى.» لم أرَ أنا بالعين المجردة إلى ما وراء الأفق جبالًا، ولم أفكر في الاستعانة بالمنظار المكبر، فقد كنت سعيدًا بأننا على هُدًى في طريقنا، وكنت أشد حرصًا على أن أرى طلائع ينبع مِنِّي على أن أرى أشباح رَضْوَى وما يثيره في النفس من ذكريات.
«هذه الآن طلائع ينبع.» كذلك قال الدليل مشيرًا بيده إلى ناحية اليسار فيما أمامنا، وأسرعتُ إلى المنظار المكبر فصدَّق الدليلَ وكشف لي عن موج البحر، وانطلقت السيارة تنهب الأرض في سرعة كأنما جُنَّ جُنُونُها، وفي دقائق تبدَّى البحر وتبدت طلائع الثغر للعين المجردة، وبعد دقائق أخرى كانت السيارة تدور حول أسوار المدينة تبتغي مدخلها لتبلغ بنا دار مُضيفنا.
وتلقاني القوم في هشاشة وترحيب، وأشفقوا مما لقيت طيلة نهاري من وَصَب حين وصف أصحابي طريقنا من الحمراء إلى بدر، لكنني لم أكن أشعر بمشقة ولا بتعب، لقد كنت سعيدًا بما رأيت، وبما أثار في نفسي من المعاني البالغة غاية السمو، فلما آنَ لي أن أطمئن إلى مضجعي زدتُ بما انتشر أمام ذهني من ذلك سعادة ورضًا، رَضِيَ الله عن أهل بدر وغفر لهم، فهم جديرون حقًّا بقوله ﷺ: «لعل الله قد اطَّلَع إلى أهل بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم.»
يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا!