أَوْبَة الرِّضا
أصبحتُ بينبع مطمئنًّا سعيدًا، وهبطتُ إلى غرفة الاستقبال فألفيت بها قومًا من أهل البلد تفضلوا بزيارتي، فلما تبادلنا الحديث عجبتُ أن تكون لهجة أحدهم أدنى إلى المصرية، وحسبت السبب في ذلك محاذاة ينبع مصر، لكن الرجل أسرع فذكر لي أنه مصري المولد، وأن له بينبع بضع سنوات احترف فيها مهنة التعليم، وأن به إلى مصر هَوًى لولا ما يُمسكه من لُطْف أهل البلاد به ومن شغفه بالأماكن المقدسة، وشعرت لحديثه كأنما هزني إلى مصر شوقٌ زادني هوًى إليها، يا عجبًا! ألذلك سِرٌّ؟ لقد رأيت من أمثاله كثيرين بمكة وبجدة وبالمدينة فلم تُحرِّك لقياهم هذا الشوق في نفسي، تُرَى أفي نبرة هذا الرجل سلطان على هذه الناحية من النفس لم يكن للذين لقيتهم قبله، أم السر في هذه المدينة التي نتحدث فيها؟ إذ ذاك ذكرت ما يحرِّك اقتراب الأوبة إلى الوطن من حنين النفس إليه، وما يشتد بنا من الشوق إلى الأعزة فيه عند وقوفنا على شاطئ البحر الذي يصل بيننا وبينهم، وكأنما تحمل إلينا أمواجه من روحهم ما لا يحمل إلينا الأثير ونحن نضرب في الأرض، أم أن اقتراب اللُّقْيا يحرك في النفس لواعج تظل حبيسة لا تثور ما كان الأمل في اللقاء بعيدًا، فإذا تنسمنا ريح الوطن يدنو تمثَّلنا صدور الأعزَّة تقترب من صدورنا، وقلوبهم تمتزج بقلوبنا، فرفت في جوانحنا عواطف الوُدِّ والمحبة تريد أن تطير بنا إليهم وتخلف وراءها ما بقي بيننا وبينهم من أيام؟
وخرجتُ من الدار مع أصحابي لزيارة أمير ينبع، فعلمت منه أن «زمزم» رسَتْ في المرفأ وأنها قيد النظر، وشربنا القهوة النجدية والشاي واجتمرنا بذلك العود الذكي الرائحة والذائع اليوم في البيئات الرسمية بالحجاز، وتناول حديثنا سفر «زمزم» ومرفأ ينبع وما يجده المتنقل منه إلى البواخر الكبيرة من مشقة إذ تنقله الزوارق الصغيرة من الشاطئ إليها في بحر مضطرب الموج أكثر الأحايين، وتابعنا الحديث في اتصال البلاد التي تتكلم العربية جميعًا، وفي سهولة المواصلات بينها، وفيما أدى ذلك إليه من ارتباطها من قبل في الوحدة الإمبراطورية الإسلامية، وأسلفنا لجناية الدهر على هذه الروابط ولتفريط المسلمين في العمل على إعادتها، وانتهينا من ذلك إلى حلو الأماني، ولم يكن حديثنا في هذا كله ليتعمق في الأمور أو يقصد إلى شيء من الوقوف على أسرارها، فينبع بلد صغير، وأهله وأميره وحاشية الأمير فيه أكثر عناية بشئونه المحلية الخاصة منهم بشئون التاريخ وأطوار الحياة، وهم كأعيان ريفنا المصري كرمًا وترحيبًا وحُسن لُقْيا، ولقد غادرتهم شاكرًا لطفهم، شاكرًا للأمير ما أبدى من حرص على طمأنينتي حتى أبلغ الباخرة، ذاكرًا له أن مُضيفي وأهله قد بلغوا من هذا الحرص ما طوقوا به عنقي، وما جعل لهم عندي يَدًا لا تُنسي.
وانطلقنا في ميادين فسيحة من أرض ينبع نبتغي الشاطئ حيث ضربت البعثة الطبية المصرية خيامها، فشربنا قهوة مصرية وقضينا من الوقت ما بقي إلى الظهر، وعُدْنا إلى الدار فأقمنا بها، فلما اقترب المساء أقبل علينا فيها إخوان من المصريين تحدثوا في سفرنا ظهر غد، وكان حديثي معهم حديث طمأنينة ورضًا وشكر لله على توفيقه إيانا في سفرنا ومُقامنا مذ عزمنا الحج حتى أتممنا مناسكه، وزُرنا قبر رسوله الكريم فصلينا وسلمنا عليه، ورجونا الله واثقين من إجابته رجاءنا، أن يُيَسِّر عودتنا كما يَسَّر سفرنا، وأن يهدينا بفضله صراطه المستقيم.
وأصبحتُ فأعددتُ متاعي للسفر، وودَّعْتُ مضيفي شاكرًا، وذهبتُ ومَن صحبني إلى «الجمرك»، ثم أقَلَّنا زورق صغير إلى الزورق البخاري «السويس» ليُقِلَّنا إلى «زمزم»، ونحن في شوق أي شوق إلى ركوب ظهرها، ولقد كُنَّا السابقين إلى الزورق البخاري فلم يصله غيرنا إلا بعد ربع ساعة من مجيئنا له، ووقفتُ عند مؤخرته أحدق في الشاطئ وما عليه، ما أعظم هذا الحشد الهائل هناك! ما أشدهم تدافعًا بالمناكب، أولئك الحجاج المصريون الذين عزموا العودة على زمزم وعلموا أنها تُبحر بعد ساعات، فهم مشفقون أن تفوتهم؛ وهم لذلك يقتتلون يريدون النزول إلى البحر لإدراكها قبل أن تطلق لمحركاتها أعنتها، انظر إلى هؤلاء الجنود حولهم يريدون تنظيمهم فيأبى أقوياؤهم إلا أن يتقدموا الضعفاء، وكأنما نسوا الحج وما يجب عليهم بعده من حماية الضعيف وعدم الاعتداء على حقه! هذه معركة تقوم بين بعضهم وبين الجند، لكنها ليست حامية، إنها سرعان ما هدأت وعاد القوم إلى احترام النظام، ويجيء بعد ذلك إلى زورقنا بعض ذوي المكانة من العائدين إلى مصر فنلقاهم بالترحاب وقد عرفناهم جميعًا أو عرفنا أكثرهم بمكة أو بالمدينة، أما ذلك الجمع الحاشد على الشاطئ فقد أُعِدَّتْ لهم «صنادل» فسيحة الرحاب تتسع لهم جميعًا، ويسحبها زورقنا بعد أن يتم عليها جمعهم، ولو أدرك أقوياؤهم ذلك ما تدافعوا بالمناكب ولا اشتبكوا بالجند ما دام آخرهم سيلحق على الصندل بأولهم ثم يبلغون الباخرة جميعًا في وقت واحد، أم أن الناس درجوا على أن يتنافسوا وأن يستبقوا وإن في غير موضع لمنافسة أو سبق، وألِفوا أثناء تنافسهم أن يشتبكوا وأن يقتتلوا ثم لا يصيبهم من ذلك خير وقد يصيبهم منه الضر والأذى.
وإنَّا لفي موقفنا نشهد ما يجري على الشاطئ إذ أقبل علينا ممثل شركة مصر للملاحة البحرية ينبئنا بأن «زمزم» لن تُبْحِر اليوم بسبب هياج البحر، وأن من الخير أن نعود إلى ينبع نقضي بها إلى بكرة الصباح، وفيما هو يحاورنا ونحاوره في ذهاب «السويس» بنا إلى زمزم لنقيم بها، أبحرت اليوم أو أبحرت غدًا، أقبل مضيفي وطلب إليَّ أن أعود معه، وشكرتُ له دعوته واعتذرت إليه عن إجابتها بأني وقد ركبت البحر معتزمًا السفر فلن أعود إلى الشاطئ، ولن أذَرَ البحر حتى أبلغ غرضي أو يقضي الله قضاءه، وألحَّ الرجل في الدعوة حرصًا على راحتنا وطمأنينتنا، ورأيت بعض الذين معنا يميلون إلى العود لينبع حَذَرَ البحر وهياجه، أمَّا أنا فأصررتُ على البقاء ما دمت قد عزمت السفر، ولم أنزل عن رأيي، وذلك دَأْبي، ادْعُهُ عنادًا أو ادْعُهُ ما شئت، فهكذا خُلقت: لا أرجع عما بدأت حذر مشقة أو خوف عناء، فالمشقة لا قيمة لها عندي، وأنا اليوم أكثر استهانة بها بعد أن قضيت بالحجاز ستة أسابيع أصعد في الجبال وأجوب البادية وأقضي الليل بالمُسَيْجيد أو ببني حَصَان في منازل خير منها العراء، وليس في ينبع ما تهوى إليه النفس من أثر يُزار أو عِلمٍ يُستفاد، ومهما يبلغ البحر من هياجه فالمقام على ظهر «زمزم» والتمتع بنسيمه الجميل خير من كل ما يدعونني إليه، ولم يجد مضيفي بُدًّا آخِرَ الأمر من الإذعان لمشيئتي، وكل الذي صنعه فضاعف به لطفه وثنائي عليه أن ترك من السجائر ما يكفيني يومين كاملين.
وغادرنا مضيفي ومندوب شركة الملاحة إلى زوارقهم يصحبهم من آثروا العودة إلى الشاطئ انتظار الغد، وانتقلت أنا إلى قَمْرَةٍ على الزورق جلست فيها وحيدًا أفكر في هذا التأجيل لسفر «زمزم» من ينبع، وأذكر حادث «كوثر» إذْ نحن بمرأى من جدة أول ما بلغنا الحجاز، وألتمس في الحادثين آية من الله وعبرة لنا، ولم يطل بي التأمل إذ رأيت الحجيج على الشاطئ وما يزالون في تدافعهم بالمناكب وفي تنافسهم وحرصهم على السبق إلى «السَّنابك»، ألم يأتهم نبأ البحر وهياجه وزمزم وإرجاء سفرها؟ أم أنهم مثلي لا يريدون الرجوع عن أمر عزموه؟ وسألت رُبَّان زورقنا الذهاب بنا إلى «زمزم» كيما نقضي الليل بها، فاستمهلني حتى يرى ما يكون من أمر زملائي الذين يفدون إلينا، ولا يحول دون وفودهم إرجاء السفر، فلما أذَّن العصر لم يرَ بُدًّا من الذهاب إلى «زمزم» حتى لا يشق علينا المبيت بزورقه وليس فيه من أسباب العيش ما ألِفنا، ووقف في غُرفته التي كنت أرقب الشاطئ منها وصفر لينبه رجاله بصفيره إلى أنه سيُصدر إليهم أوامره، وبدأ يلقي بهذه الأوامر من بوق في الغرفة بلغةٍ لم أفهم أكثر ألفاظها؛ لأنها اصطلاحات فنية لا تُقَيِّدها مجامع اللغة في المعجمات ولا يفهمها لذلك إلا أهل الفن!
وبعد سُويعة انطلق الزورق ميممًا شطر زمزم، ورُبَّانه في موقفه يلقي أوامره ويمسك بيده عجلة القيادة، وبعدنا عن المرفأ ومبانيه وانكشف أمامنا البحر في جلاله ورهبته وجماله، وسرى إلينا نسيمه وارتفع إلينا رشاش موجه فبعث إلى النفس السرور والغبطة، وأية غبطة وأي سرور كاتصالنا بالكون في فسحته وعظمته، ننْهل من نوره وهوائه، ويشتمل نظرنا سماءه وماءه، ونندمج فيه بكل حواسنا، ونشعر بأننا ذرة منها سابحة في نظام أثيره سَبْحَ الكواكب والأفلاك وسَبْحَ الأحياء والخلائق كافَّة.
وإنَّا لفي منتصف الطريق إلى «زمزم» إذ بدأ الزورق يعلو مع الموجة يمنة ويسرة، ويشعرنا بتمايله وارتفاعه وهبوطه من شدة هياج البحر ما أرجأ سفرنا، هنالك أخذتني نشوة غلبت في نفسي عبث الموج بزورقنا وبطمأنينتنا، هي نشوة ساذجة كثيرًا ما يأبى الناس الإفصاح عن مبعثها، وهي التي تُحركهم مع ذلك في كثير من مواقف الحياة، تلك نشوة الظفر بالبحر واقتحام موجه على ظهر زورقنا الصغير، وإقدامنا بذلك على مغامرة خشيت «زمزم» الضخمة العظيمة أن يقدم الناس عليها، ها هي ذي أمامنا، وها نحن أولاء نقترب منها، واستعان الرُّبَّان بمنظاره الكبير ليرى رجالها على سطحها، وأطلق صفارة «السويس» في أنغام مختلفة لينبههم إلينا كيما ينزلوا السلم لنرقى عليه إلى الباخرة، والموج يزداد تقلبًا كلما ازددنا من الباخرة قربًا، فيزيد في تمايل الزورق وفي ارتفاعه وهبوطه على نحو يبعث إلى النفس الرهبة لولا أننا كنا مأخوذين بنشوة الظفر.
وإنَّا لكذلك إذ علا في الجو صفير «زمزم» في أنغام مختلفة كأنما تجيب بها أنغام زورقنا المختلفة، ولم نعن بالأمر بادئ الرأي وحسبناه تحية تبادلها الباخرة الكبرى زميلتها الصغرى، وتابعنا اندفاعنا نشق عباب الموج لا نحفِل هياجه، لكن ضجيج «زمزم» انقلب زئيرًا، وجعل يزداد عُلوًّا، وتتقطع أنغامه ويبدو فيها صوت النذير، ماذا يعنون؟ سألت الربان في ذلك فأجابني: إنهم ينذروننا بأمر البحر وشدة هياجه، قلت: فنحن أشد من البحر بأسًا، فلنقتحم ما بقي منه إليهم.
ولم نزل في اندفاعنا نحوهم نجيب صفيرهم بصفير مثله، وأنغامهم بأنغام ليست دونها نذيرًا، لم تبق هذه الأصوات التي ملأت جو البحر أصوات تحية إذن، بل انقلبت أصوات إرهاص كأنما تهاجم بارجةٌ بارجةً، أو كأنما نحن مدمرة تدنو من «زمزم»، وهبطت في الجو كِسَفٌ من السُّحب حجبت الشمس، واشتدت الريح فزادت زورقنا على الموج اضطرابًا، ويشتد في صفير «زمزم» صوت النذير فيبدأ رباننا يتردد ماذا يصنع على حُبِّه الإقدام والمغامرة؟ فأشجعه وأدفعه إلى مزيد من الإقدام وأصوِّر له الظفر وشيكًا يمد إلينا يده، ويزداد صفير «زمزم» عنادًا في النذير ولا ينزل القوم لنا سلمًا، هنالك غلب اليأس الربان، وكأنه ذكر النظام وأنه في إمْرة «زمزم» وليست زمزم في إمرته، فبدأ دورانًا يمهد به للنكوص مدبرًا، وثُرْتُ به، وذكرت له أنَّا إذا بلغنا «زمزم» لم يكن لرجالها بدٌّ من معاونتنا على الرقي إليها، لكن نذير «زمزم» المتصل كان أقوى في نفسه أثرًا فلم يُعقِّب، واندفع مسرعًا نحو موقفه الأول في المرفأ معتذرًا بأنه لن يجازف فيعرضنا لخطر تكون عليه تَبِعَتُه.
سُقِطَ في يدي حين فاتنا الظفر بغايتنا، مع ذلك لم آسف لهذه الموقعة الصغيرة التي غامرنا بها، فقد قضينا أثناءها أكثر من ساعة قطعنا بها هذا التشابه المملول الذي أظلنا مذ جئنا إلى الزورق قُبيل الظهر فثقل علينا ظله، وما كان أجملها ساعة وأشدها روعة وأكثرها إثارة لمختلف إحساسنا ومشاعرنا! ولم نكن أقل بها متاعًا أثناء عودنا بعد الموقعة، فسرعان ما اطمأنت النفس إلى حظها حين استدار «السويس» مدبرًا، وفتحت صدري أستنشق فيه هواء البحر الرقيق الصافي واشتملتني غبطة راضية عقبت ثورتي لفرارنا، ووقف الزورق مكانه الأول والنهار وشيك أن يولي، والسَّنابك الراسية عند الشاطئ قد امتلأت بالحجيج، فلم يبق منهم من ينزل إليها إلا نفر قليل.
وبدأ ربان «السويس» يفكر في أمر هؤلاء وما يصنع بهم، لقد أقبلوا لركوب «زمزم»، فإيواؤهم وإطعامهم فرض على أصحابها، استقر رأيه مع ممثل الشركة على أن يَجِيئوهم بالخبز من ينبع، وأن يسحبوا الصنادل إلى جوار «السويس» وأن يمدوا إليها النور الكهربي، وأن يفتحوا قاعاتها لينام هؤلاء الحجاج فيها، وفعلوا، وكان مشهدًا ظريفًا جَرُّ هذه السنابك الضخمة وعليها هذا الجمع الغفير وربطها بالزورق البخاري الصغير جدًّا بالقياس إليها، وأضاءتها من الكهرباء أنوار ساطعة أرتنا القوم فيها وهم المرح والغبطة والجذل والرضا، فهم لم يكادوا يطمئنون إلى مكانهم، وينعمون بالنور يلقي شعاعه عليهم، حتى أحسوا كأنما يبعث نور الوطن شعاعه إلى قلوبهم، وكأنما تسري إليهم من مصر العزيزة المحبوبة نغمة أُنس وهناءة، انفجرت شفاه الكثيرات من الحاجات عن أغاني الحجاج يرتِّلْنَهَا ويردِّدْنَها في صوت لا يخلو من رخامة الأنوثة وإن خلا من جمال النغم، يا ما أُحَيْلَى هذا الغناء! سَرَتْ إلينا منه ما اهتزت له الجوانحُ، لا من طرب بل من أشواق في النفس ثارت لواعجها وذكريات قريبة بمكة والمدينة انتشر أريجها، ونسمع إليهن يرددن: «إمتى نعود لك يا نبي؟» يقُلْنَهَا صادقات، تصدر من قلوبهن قبل أن تتحرك بها ألسنتهن، فتهتز قلوبنا وإن لم تتحرك ألسنتنا، وهل شيء أكثر هزًّا للعواطف من كلمة صادقة صادرة من قلب مخلص عن إيمان سليم!
ترك الربان غرفته تلطفًا منه، فقضينا بها ساعات الليل، وما إن تنفس الصبح حتى استيقظ هؤلاء المِئُون والألوف جميعًا وقد أذَّن فيهم مؤذن الفجر أن الصلاة خير من النوم، وتحرك «السويس» في الساعة الخامسة من بُكْرة الصبح يجر معه صندلين، وسار يقصد «زمزم» في بحر هادئ لا موج فيه بل لا حِرَاكَ به، وكأنه لمَّا يستيقظْ من هَدْأَة نومه، وبلغنا «زمزم» فأرسينا إلى جانبها وقد أنزلتْ سُلَّمها وأسرع الذين في الصنادل يَرْقَوْنها، فلما خلت الصنادل نزلتُ ومن معي بالسويس وتخطيناه إلى زمزم، وبادلتُ رجالها التحية ثم آخذتهم بما صنعوا حين صدونا أمس عن الصعود بصفيرهم المليء بالنذير، فاعتذروا بأن البحر بلغ هياجه ساعتئذٍ وبلغ اضطراب «زمزم» فوقه، فلم يكن اقتراب السويس منها ممكنًا، فإن أمكن حَفَّ صعودنا إلى الباخرة وهي فيما هي فيه من هذا الاضطراب خطرٌ لا قِبَل لأحد باحتمال تَبِعَته.
وما لبثتُ حين اطمأن بي المقام في غرفتي أن شعرت كأني عدت إلى مصر، فاستبدلت باللباس البدوي لباس المصري، أليس علم مصر خفاقًا على سارية هذه الباخرة، فلْأَعُدْ إذن كما كنت يوم غادرت مرفأ السويس، وكيف لا أفعل، ألست الآن في مصر؟! يا لرضا النفس وطمأنينة القلب! لقد غادرت مصر أبتغي أداء فريضة الحج فأديتها، وأبتغي زيارة الرسول الكريم في قبره فزرته، وأبتغي القيام بدراسات في منزل الوحي فقمت بها، كل ذلك وأنا بحمد الله في صحة موفورة وبنفس راضية، فماذا أبتغي وراء ذلك؟!
وها أنا ذا الآن تُقِلُّني جارية يرف عليها علم مصر وطني العزيز المفدَّى، والعلم هو الوطن، وليس رمزًا له وكفى، وإن يكن رمزًا فهو كذلك، كما أن اسمي رمز لي، واسمك رمزٌ لك، وأنا إذ أسمع اسمك ترتسم صورتك أمام بصيرتي وأحسبني أراك كما لو ناديتك فأجبتني، ذلك شأني إذ أرى العلم؛ ترتسم لرؤيته صورة مصر كاملة أمامي، مصر بحدودها المترامية، وبنهرها وواديها وصحاريها، مصر بسمائها الصافية ونسيمها العذب، وتربتها الخصبة، وأزهارها المنبعثة الأريج، وثمارها الحلوة الشهية، وترتسم أمامي مصر على التاريخ بحضارتها العتيدة وآثارها الخالدة، وبفنها وعلمها وبآمالها وآلامها، كيف لا أشعر بنفسي إذن في مصر وأنا على باخرة مصرية تحمل علم مصر؟! ألا لو أن هذه الباخرة جابت بحار الأرض شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، فبلغت بي القطب ودارت بي حول الأرض لَمَا شعرت يومًا على ظهرها أني غريب عن بلادي ووطني، ولرأيتني أتنقل عليها وكأنما أتنقل من بقعة في مصر إلى بقعة غيرها في مصر، ولكنت بذلك مغتبطًا دائمًا، سعيدًا غاية السعادة.
وتحركتْ «زمزم» مُبحرةً حين تكبدت الشمس السماء ساعة الزوال، تحركتْ مُيممةً أرض الوطن، مُوَدِّعة بلاد النبي العربي، وقلوب السَّفْر عليها يتنازعها الحنين إلى الوطن والأعزة فيه، والتعلق ببلاد النبي العربي والحرمين بها، وانقضت ساعة الغداء والقيلولة، وعاد الناس يتلقون جماعات يتحدثون عن حجهم وما رأوا أثناءه راضين شاكرين فضل الله عليهم، تُطوِّق ثغورهم جميعًا بسمات طمأنينة وفيض من نعيم، ويُسعدهم سكون البحر ورقة نسيمه، وأقبل الليل وأوينا إلى مضاجعنا، فإذا بي أستيقظ بكرة الفجر على أصوات جماعة جعلوا حلقتهم إلى جوار النافذة من غرفتي، ولقيت أصحابي بعد الإفطار وتحدثت إليهم في ذلك، فذكر كل منهم أنه استيقظ إذ سمع مثل ما سمعت، وزاد بعضهم أنه خرج إلى القوم يرجوهم أن يخفضوا من أصواتهم فابتسموا، وقالت سيدة: صَلِّ يا أخي على النبي! وأضاف أحد أصحابي: «لقد جئت من مصر على «زمزم» فلم يكن من ذلك شيء، بل لزم القوم الأماكن التي عُيِّنت لهم لم يبرحوها، فما لهم كذلك اليوم يفعلون، فيخرجون على النظام ولا يرعون ما لغيرهم في الدرجات الأخرى من حرمة؟!» وابتسمتُ لملاحظة صاحبي وعقبتُ عليها بقولي: «التمِسْ يا صاحِ لهم عُذْرًا، إنهم يوم غادروا مصر كانوا لا يزالون يذكرون النظام وسلطانه، والقانون وأحكامه، والطبقات وتفاوتها، ويرون ذلك كله ماثلًا في عمدة البلد وجندي البوليس وفي جبروت الأغنياء وذوي الجاه والمكانة، لم يكونوا بعدُ قد نسوا ما ألِفُوا سماعه من هيبة الحكومة ومن بطش القانون وشدَّة أحكامه، وكانوا يرون القانون منقوشًا بأحرف من بأس على بندقية الجندي في الطريق وسوط عذابه في السجن.
لم يكن أحد منهم يحسب المساواة التي تحدثهم عنها حقيقة لها في الواقع وجود؛ فكانت نفوسهم تغلي حفيظةً، وكانت صدورهم تضيق ثم لا ينطق لسانهم من العجز والخوف؛ لذلك كانوا يحافظون على النظام الذي رُسِم لهم لا عن رضا وطواعية، ولكن حَذَرَ العقاب الذي يحل بهم لمخالفته، فلما حجوا البيت كما حججناه، ولبسوا الإحرام مثلما لبسناه، وطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة كتفًا معنا إلى كتف، ثم لمَّا صعدنا جميعًا عرفات محرمين ملبِّين داعين، رأوا صورة في الحياة لم يألفوها، ولن يألفوها في غير الحج، رأوا أننا جميعًا سواسية حقًّا، إخوان حقًّا، وأنَّا جميعًا ضعاف غاية الضعف، صغار كالذرات أمام عظمة الله وجلاله ومهابته، هنالك أصغروا ما بينهم وبين غيرهم من تفاوت، وأيقنوا أن الفقر فخر لمن عرف أن يسمو فوق هوان الغنى، وأن الضعف قوة ما آزره فضل في النفس وخُلُق عظيم، وأن الشحناء ليست من طبع الكرام، بهذا الروح عادوا من حجهم، فإن كنت يا أخي في ضيق من حريتهم وكنت حريصًا على أن يعودوا لما ألِفوا في مصر من نظام، فأَنْظِرْهم أيامًا فسيرون بعدها من هيبة الحكومة وبطش القانون وسلطان النظام، وما يتمثل ذلك فيه من بندقية الجندي في الطريق وسوط عذابه في السجن، ما يردهم إلى حِمَى هذا النظام الذي يمقته الإسلام ولا يرضاه الله.»
وأمسك أصحابي عن القول بعد أن فرغتُ من حديثي، وإنا لفي هذه الفترة من سكوننا إذ حمل الهواء إلينا حُدَاء وترديدًا: «متى نعود لك يا نبي؟» وفي نبرتها من حلاوة الإيمان وعذوبة الصدق في التوجُّه ما جعل قلوبنا تهتف مع القوم: «متى نعود لك يا نبي؟» ترى هل غَيَّر هذا الهتاف من حبها النظام الذي ألِفتْ وتوجيهها النقد إلى الذين تغنوا فحركها غناؤهم إلى التوجه لله بالأمل الصادق في العودة إلى بيته وقبر نبيه حيث الناس سواسية إخوان، لا يفاوت بينهم مالٌ ولا جاه ولا سلطان؟
وفيما نحن سكون نسمع مَرَّ بنا طبيب السفينة فحيانا وجلس معنا ودعا الخادم ليجيء بقهوة، وأنبأنا أنَّا نرسو بالطور ظهر غد، وطمأننا إلى أن الحج نظيف هذا العام، وأنا لن نلقى لذلك بالطور عَنَتًا، ونقلنا الحديث عن الطور من صمتنا إلى الحديث عن مصر وما يجري فيها، وبذلك انتقلنا خطوة جديدة نحو حياتنا الأولى.
وأرسينا بالطور ظهر الأربعاء الثامن من أبريل، فتناولنا طعام الغداء على ظهر السفينة، ثم نزلنا إلى المحجر فذهبت وبعض أصحابي إلى حزاء (١٠) وجيء إلينا بمتاعنا بعد تبخيره، والحزاء لفظ لا تعرفه اللغة العربية بمعناه المعروف بالمحجر، فهو مكان قبيح مُحَاط بالأسلاك، به مبانٍ غاية في البساطة لمبيت الحجاج، أما الحزاء (١٠) فحزاء أمير الحج، ولأمير الحج به بيت ينزل فيه حين مرور المحمل بالطور، وهو بهذه المثابة أول مظهر للنظام والتفاوت يشعر به العائد من الحجاز.
وقضينا بالطور ثلاثة أيام، محجوزون في الحزاءات بحكم القانون، وعلينا من الحرَّاس أمثال حراس السجون، مع ذلك كانت أيام نَعْمة ورخاء، فقد كنا في حاجة إلى استجمام النفس بعد الذي صادفنا في الحج من هزات مختلفة الأطوار، وكنا في حاجة إلى راحة الجسم بعد مشقة السير والركوب في البادية والصعود في الجبال والانحدار عنها، وكنا في حاجة إلى استعادة صورة الحياة في مصر وما تضطرب به من منافع وأهواء حتى لا نعود إليها، وفي النفس نبوٌّ ظاهر عنها، وكان بعضهم في حاجة إلى هذه الأيام الثلاثة لينظم فيها مظهره حين عوده إلى بلده ومقابلة الناس فيها بوجه الحاج التقي النقي، ولقد حصلتُ من استجمام النفس والجسم على ما كنت في حاجة إليه، واتصلت بالحياة المصرية بمن لقيتُ من معارفي المصريين في المحجر، وما كان يرد لي كل يوم من الصحف به.
فلما آنَ لنا أن يُفرَج عنا وأن تقلنا «كوثر» من الطور إلى السويس، تفضل الدكتور هريدي مدير الحَجْر فدار بي أثناءه وأراني ما فيه من مواطن الماء الصالح، والمستشفيات، وغرف التحليل والمباخر، وما إلى ذلك من آثار العِلْم، وما يطوِّع لمصر أن تكون الحاجز الصحي بين الشرق والغرب، ولئن سرني أن يكون للعالم بمصر هذه الثقة، لقد ساءني أن تكون البلاد الإسلامية المقدسة هي سبب الحجر الصحي دون سواها من بلاد العالم، وألَّا تكون كذلك إلا في أعقاب أشهر الحج، كأنما العالم الإسلامي مُتهم في نظر الغرب بأنه حين الحج مثابة العدوى بالأمراض القتالة، فأما البلاد الأخرى في أواسط إفريقية وفي غيرها فلا خوفَ منها، وأما البلاد الإسلامية منفردة كل منها عن الأخرى فلا خوف كذلك منها، وإنما الخوف من هذه البلاد مجتمعة صادقة التوجه إلى الله وفي سبيل الله!
خرجنا من المحجر إلى «كوثر» ظهر السبت الحادي عشر من أبريل، فلما وقع نظري عليها وتخطيتُ رصيف المرفأ إليها هزني إحساس كذلك الذي يهزنا حين نلقى صديقًا، وتركناه والخوف يساورنا على حياته، ثم لقيناه يمرح في صحة وعافية، وجعلت أكرر وأنا في طريقي إلى غرفتي: «حمدًا لله على سلامتك يا كوثر!» فلما اطمأننتُ إلى متاعي عُدتُ إلى ظهرها أنعم بهواء البحر الجميل.
وبلغنا السويس صبح الأحد، وفي الساعة التي انقضت بين وقوف محركات الباخرة وإرسائها على الرصيف تولانا السأم الذي يتولى المسافر دائمًا في مثل هذه الحال، فلما قرُبنا من الشاطئ ألفيتُ قومًا من أهلي وألفيتُ والدي في انتظارنا، ونزلنا من «كوثر» وتخطينا الجمرك وركبنا السيارة، فانطلقت بنا في طريق السويس إلى القاهرة، ها أنا ذا على أرض الوطن، لك الحمد ربي ولك الثناء! وشعرت وقد رأيت أهلي مِن حولي برضا النفس وطمأنينة القلب إلى أني أديت واجبًا وقضيت فرضًا وعدت إلى الوطن سالمًا، ففاض القلب شكرًا لله على جميل رعايته وعظيم نعمته، وبلغنا مصر الجديدة فازداد القلب اطمئنانًا، وألِفت العين كل ما حولها من المناظر، فلما بلغنا الدار ألفيتُ أهلي وأبنائي وقوفًا في انتظاري وكلهم في لباس العيد، وألفيتُ لدى الباب عِجْلًا ينحره القصَّاب ساعة دخولنا ليوزَّع على الفقراء قربانًا إلى الله أن غنمنا السلامة.
هذه هي المرة الثانية لتي يلقاني فيها أهلي بمثل هذا الترحاب وهذه الحفاوة حين أَوْبتي من سفري، أما المرة الأولى فكانت سنة ١٩١١ حين عُدت من أوروبا لأول مرة بعد سنتين من مقامي بها طالبًا أدرس بجامعة باريس، ولقد سافرتُ فيما بين ذلك إلى أوروبا وإلى السودان وإلى الشام وإلى تركيا مرات كثيرة، وقضيتُ في بعض هذه الرحلات زمنًا يزيد على ضعف ما قضيته بالحجاز، مع ذلك كنت أعودُ إلى مصر فيخف أصحابي وأهلي للقائي، لكن في غير ضجة وفي غير قربان، ولا عجبَ؛ فقد كنت في المرة الأولى في فورة الصبا وبدء الشباب، وكنت قد اغتربتُ لأول مرة عن وطني، وطالت عنه غربتي، ثم عدتُ إليه وأهلي في شوق لرؤيتي، فرحون لذلك بمَقْدَمي، وكنت في هذه المرة الثانية قد قضيتُ لله فرضًا، ووقفت بين يديه تائبًا منيبًا، ضارعًا إليه أن يعفو عني، وأن يغفر ذنبي، ولي في الله كبير رجاء، وقد ذهبت إلى بيته المحرم خاشعًا خاضعًا متجردًا من زينة الدنيا مُقرًّا بضعفي وعجزي، أن يقبل توبتي ويعفو عن حَوْبَتي، ويدخلني بفضله في عباده الصالحين، وهم مِن أجْل هذا الرجاء يحتفلون بمقدمي فرحين متهللين، وهل الحياة إلا رجاء أن يُعيننا الله على أداء واجبنا في الحياة؟
ولو علم أهلي ما فتح الله به عليَّ حين سرت حيث سار رسوله، وحين وقفت حيث وقف، وما رأيت من آيات الله في مسيري وفي وقوفي، لزادوا بمقدمي تهلُّلًا وفرحًا، ولقد رأيت حقًّا من آياته الكبرى، فسَمَتْ هذه المواقف بنفسي إلى حيث لم تسْمُ من قبلُ قط، رأيت نور الله ماثلًا في كل دقيق وجليل من خلقه، ورأيت آية الهدى متجلية يشهدها كل مَن أراد أن يفتح لها قلبه وبصيرته، ورأيت سُنته في الكون تتبدَّى لكل من أخلص إلى الحق وجهه ثابتة لا تبديل لها، رأيت هذا كله رأي العين، وآمنت به إيماني بما يقع عليه حسي وما تلمسه يدي، وأيقنت أن العلم بهذا كله هو الحياة الراضية المرضية، نعم! كذب الظن مَن يحسبون التكاثر بالمال والجاه والسلطان شيئًا في وجودنا، إنما الشيء الذي هو كل شيء في الحياة فذلك إيماننا بالحق عن بيِّنة، وسمونا بهذا الإيمان فوق منافع الحياة جميعًا، وازدراؤنا هذه المنافع أن يصيب الحق من جرائها مساس، وهل يعدل كل ما في الكون من مال وجاه وسلطان قبسًا من نور الحق وضياء الهدى؟! وهل يبقى على الحياة غير الحق وضيائه؟! والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثوابًا وخيرٌ مردًّا.
ربنا لك الحمد على ما أنعمتَ وتفضلتَ، ربنا فاهدنا صراطك المستقيم، ربنا ثَبِّتْ إيماننا، واجعلْ تقواك رداءنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.