خاتمة الكتاب
أما وقد شهدت من مظاهر الحياة الروحية حيثما سرتُ في أثر النبي العربي ما شهدت، ورأيت كيف فعل الإيمان الأعاجيب في مواطن لولاه ما كان للإنسان بها طاقة، فما بال قوم في عصور وبلاد مختلفة جحدوا الحياة الروحية وكفروا بفضل الإيمان؟! أفكان ذلك عماية منهم وجهلًا، أم أنهم أضلهم هواهم وغرهم باللهِ الغَرُورُ؟! ولولا ذلك لرأوا من آيات الله ومن فضله على عباده المؤمنين ما لا يغيب عمَّن تأمل في خلق الله ومَن ألقى السمع وهو شهيد.
حق علينا إذ نلتمس لهذا السؤال جوابًا أن نذكر أمرًا نعرفه جميعًا وينساه أكثرنا، فقلَّ من الناس من ينكر وجود الله، وأشد الملحدين غرورًا وإمعانًا في الضلال يقولون بالطبيعة وسننها أو بالدهر وأحكامه، هؤلاء يمسكهم غرورهم حين تأملهم في الكائنات دون أن يحيطوا بالكون الذي لا يُعرَف للزمان ولا للمكان فيه بدء ولا نهاية، وإن عرف الناس جميعًا أن الكون يحول ويتطور إلى ما نعرف أقله، وما يغيب عنا أكثره، أما مَن خلا هؤلاء الطبيعيين والدهريين فأولئك يؤمنون بالله وإن أقروا كلهم مُسَلِّمين بأن عقلنا المحدود أضيق من أن يدرك كنهه تعالى، وسع كُرسيُّه السموات والأرض، مِن هؤلاء في عصرنا كثيرون يثورون بتعاليم أورثتنا إياها عصور الانحلال؛ لانصراف الحظ الأوفر من هذه التعاليم إلى الجانب المادي من الحياة؛ ولأنها تُلْبس الجانب الروحي ثوبَ المادة، وتنحدر لذلك به إلى حيث تأبَى العقول التي تثَقَّفَتْ بالعلم فآمنتْ وزادها العلم إيمانًا، هؤلاء جديرون بأن تسمو حياتهم الروحية فوق حدود المادة وقيودها، وبأن يكونوا لذلك من أشد الناس إيمانًا بالله، لا يشركون به شيئًا، ولا يلتمسون الثواب أو المغفرة إلا من فضله.
انصرف الحظ الأوفر من تعاليم عصور الانحلال إلى الجانب المادي من الحياة وإلى تنظيمه، وإلى اعتبار هذا التنظيم من قواعد الإيمان، فكيف نسير، وكيف نستحم، وكيف نأكل، وكيف نشرب، وكيف نلبس، وما اللباس الحلال وما اللباس الحرام، وكيف نعاشر أزواجنا، وكيف نعالج مرضانا، وكيف نعلِّم أولادنا، وكيف ندبر أموالنا؟ هذا وما إليه قد صار في هذه التعاليم مُقَدَّمًا على الإيمان وعلى الحياة، وهذه التعاليم تذهب إلى أن مخالفة ما جاءت به معصية يأثم مجترحها؛ لأنها من أمر الله، وليست رأيًا لأصحابها، ولا نصيحة للناس من حق الناس أن يَزِنُوها بالعقل وبما توجبه المنفعة في العصر الذي يعيشون فيه، كأنما نسي الذين أورثونا هذه التعاليم أن الله يريد بالناس اليُسر ولا يريد بهم العُسر، وأن الخلفاء الأولين والصحابة والتابعين كانوا يختلفون في الأمر الواحد رأيًا ثم لا يطعن هذا الخلاف في إيمان أحدهم ولا في عقيدته؛ لأنه لا يمس جوهر العقيدة ولا يخالف ما جاء في كتاب الله.
والواقع أن المسلمين في عصور اجتهادهم وتقدمهم وسيادتهم حضارة العالم لم يختلفوا إيمانًا ولا عقيدة، وإنما اختلفوا رأيًا ومذهبًا في شئون الحياة الدنيا، هم جميعًا يؤمنون بالله وما جاء من عنده، لكنهم اختلفوا في أحكام ما يجري بين الناس من معاملات، لم يمنعهم من الخلاف رأيٌ رآه مَن سبقوهم في أمْرِ هذه المعاملات.
فالناس تختلف أحوالهم من عصر إلى عصر، ومن مصر إلى مصر، وقد تختلف في العصر الواحد والمصر الواحد باختلاف طبقاتهم وأسباب كَدِّهم وعيشهم، فإذا اختلف الأحكام في شأنهم فلا جناح في ذلك ولا عجب فيه؛ ولذلك اختلف الأئمة الأربعة مذهبًا وهم مع ذلك الأئمة المؤمنون أولو الورَع والتقوى، واختلف مع الأئمة أصحابهم في كثير من الرأي، فأخذ أهل العصر في بعض الأمور برأي الصاحب وتركوا رأي الإمام، وخالف الأئمةَ وأصحابَهم مجتهدون لم يقيموا مذهبًا وإنما عرضوا لمسائل بذاتها اجتهدوا فيها، فلم يطعن ذلك في إيمانهم ولم يُخرِجهم من عالم البَرَرَة المتقين.
كان ذلك حين كان الناس يقدرون العلم ويحترمونه لذاته، ويحترمون لذلك رأي صاحبه ما قصد به وجه الحق، وكان ذلك والأمة الإسلامية في أَوْجِ مجدها وعظيم سلطانها تُدَوِّي كلمتها في الشرق والغرب ويحسب العالم كله لها حسابًا، فلما حَلَّتْ بالأمة الإسلامية نكبات الشقاق وقام الثائرون في أنحائها يبتغي كلٌّ مجدَ نفسه وسلطانها بدأ الجهل يفتك بالعقول، والجمود يفتك بالأرواح، وبدأ الناس يرتابون في مقصد صاحب الرأي ويحسبونه لا يدين به عن عقيدة حرصًا منه على خير إخوانه المؤمنين، وإنما يبديه دعاية لنفسه، ويتخذ من النداء به وسيلة إلى السلطان، هنالك عمَّ الناسَ الفزعُ من اجتهاد هؤلاء المجتهدين وقعد بهم هذا الفزع عن تبيُّن الحق في آرائهم، فرمَوْا الاجتهاد بالمنقصة، وطرحوه وراءهم ظِهْرِيًّا، وقالوا: لا رَأْيَ إلا ما رَأَى الآباء، إنَّا وجدنا آباءنا على أُمَّة وإنا على آثارهم لمهتدون.
نشأ عن الجهل والجمود أن جهل الناس الحياة الروحية وغاب عنهم معناها فصوروها صورة مادية لا يزيد مداها عمَّا يقع عليه الحِسُّ وينحصر في حدود إدراكه، وفي هذه الحدود أجرَوْا عليها الأحكام التي أجرَوْها على الحياة المادية وقضَوْا في أمرها بما يوجبه تصوُّرهم للمادة وشئونها، هذا مع ما هوى إليه تصورهم لشئون المادة بما يتفق مع جهلهم حقيقةَ أمرها وسنةَ الله فيها.
دار الزمن دورته، ولم يكن مفرٌّ من أن تنتج الأسباب نتائجها؛ خضعت الأمم الإسلامية لغيرها، وأَذْعَنَتْ لسلطان مَن آتاهم العلم مفاتيح السلطان، وبدأ هؤلاء يُعَلِّمون الناس مبادئ العلم في الحياة المادية نقيض ما أورثتهم عصور الانحلال، عَلَّموهم أنَّ الأرض كُرَوِيَّة، وكانوا قد ورثوا من تلك العصور أنها مسطحة مستوية، وعلموهم أن الأرض تدور حول الشمس وكانوا قد أورثوا أن الشمس تدول حول الأرض؛ تشرق من المشرق وتغيب في المغرب، وتنخسها الشياطين حتى لا تقف سيرها، وعلموهم أن كسوف الشمس وخسوف القمر من سنن الكون سببهما تعرُّض القمر في دورته بين الشمس والأرض، أو تعرُّض الأرض في دورتها بين الشمس والقمر، وكانوا قد ورثوا أن الخسوف والكسوف من آيات رضا الله وغضبه، وعلموهم أن لا شيء مما يقع في الكون إلا له سبب يدركه العقل إذا استوت لديه أسباب العلم لإدراكه، وكانوا قد ورثوا أن ما يقع في الكون أبعد من أن يدركه العقل؛ لأنه متعلق بإرادة الله، وأن إرادة الله لا تخضع لسُنَّة يقع عليها إدراكنا، وعلموهم أن لصحة الأفراد والجماعات ولأمراضها أسبابًا، وأن التماس هذه الأسباب يطوِّع معالجة الأمراض والمتاع بالصحة، وكانوا قد ورثوا أن الصحة والمرض من عند الله، وأن مِن إسلام الأمر لله ألَّا نناقش قضاءه، هنالك بدأ كثيرون يتساءلون: ما قيمة ما أورثتنا عصور الانحلال؟ أوَلا يجب علينا لعقولنا أن نجادل فيه وأن نسأل أهل العلم عن أسبابه ودواعيه؟!
رأى جماعة ممن يعلِّمون الناس الدين في هذا العصر الأخير أن الناس يجب أن يُخَاطَبوا بلغة زمانهم، وأن ما كان الجاهل يقنع به من قبلُ لم يبقَ مُقْنِعًا لمَن نالَ من العلم في عصرنا الحديث حظًّا، والأمر كذلك، خاصة بعد أن أصبحت كلمة العلم الحديث صاحبة السلطان في الأمم التي توجِّه مصاير غيرها وتتحكم في شئونها، أولئك رأوا حقًّا عليهم أن يلتمسوا حكمة الله في الأشياء، وأن يلتمسوا حكمته في أوامره ونواهيه، وأن يعلموا الناس هذه الحكمة، وأن يجادلوهم بالتي هي أحسن، لم يبقَ كافيًا في نظرهم وفي نظر المتعلِّمين أن يقولوا للناس: إن الله فرض الصلاة والصوم والزكاة والحج وفرض العقاب على مَن لا يؤديها، بل رأوا أن يعلموا الناس لماذا فرض الله الصلاة والصوم والحج؟ وما هي الحجج العقلية الدامغة التي تقوم هذه الحكمة عليها، ومِن ثَمَّ يترتب الجزاء العادل لمخالفتها؟ ولم يبقَ حقًّا عندهم أن الحكم في أمور هذه الحياة الدنيا — ما جَلَّ وما دَقَّ منها — قد نزل الوحي بصيغة الأمر فيها، بل أصبح الحق عندهم أن ما جاء في كتاب الله من أمر لا ريب في أنه الأمر القاطع، لا النصيحة ولا التفضيل، هو وحده الذي يجب أن يأخذه المسلمون على أنه الأمر، فأما ما وراء ذلك من منافع الحياة الدنيا فهم أعلم بما يصلح لهم في العصر الذي يعيشون فيه؛ ولذلك وجب عندهم التفريق بين شئون الحياة ما تعلق منها بالروح والإيمان، وما تعلق بالخلق، وما تعلق بالحياة المادية ومعاملات الناس فيها مما يجري لهم في أمور دنياهم.
وهذا تقسيم يتفق مع مباحث العلم الحديث وما يُقِرُّه، فهذا العلم يرى ميادين المعرفة الإنسانية فسيحة لا يكاد يحدها أفق، وأنها مع ذلك ضيقة محصورة بالقياس إلى الكون وما يترامى إليه إلهامنا من مداه الذي يتجاوز الزمان والمكان، وأنَّا لن نستطيع، وإن بلغنا من العلم أبعد المدى، أن نظفر بهذا الغيب الذي تتمثله أرواحنا وتتمثله أرواح البعض وتعجز أرواح الكثرة عن امتثاله؛ لذلك فرَّقَ العلم بين ما تقع عليه المعرفة العلمية وما لا تقع عليه، وجعل ما وراء المادة مما لا تقع عليه هذه المعرفة العلمية، على أنه لم يحدد المادة التي تقع عليها المعرفة وإن قسم العلوم إلى بسيطة مستقلة بذاتها، ومركبة تحتاج إلى ما تقرره العلوم التي تسبقها من قواعد وسُنَن، وهو كذلك لم ييأس من أن يمتدَّ يومًا إلى بعض أنحاء الحياة النفسية، بل إلى بعض أنحاء الحياة الروحية، مع التسليم بأن ما سيظل غيبًا لا يخضع لقواعده سيظل أفسح أمدًا بمقدارٍ لا سبيل إلى الإحاطة به عن طريق الإدراك، وإن سبق إليه الإلهام الإنساني في حرصه على أن يعرف مكان الإنسان من هذا العالم في فسحة مداه؛ إذ لا يُعرَف للزمان ولا للمكان بدءٌ ولا نهاية.
وكانت النظرية السائدة في العلم إلى ومن غير بعيد تنكر حاجة الإنسان إلى ما وراء مقررات العلم، وترى فيما لا يمتد العلم إليه خيالًا لا يستقيم مع تنظيم العلم الحياة، لكن أكثر العلماء في هذا العصر قد عدلوا عن هذا الرأي وأصبحوا يرون في مقررات الإلهام مما لم يصل العلم بعدُ إليه ما لا غِنى للإنسان عنه؛ ذلك بأنهم رأوا الحياة المادية وَحْدَها أقصر من أن تبلغ بالإنسان غاية ما تصبو الإنسانية إليه من كمال ونعيم، فالحياة المادية وثنية بطبعها، والوثنية أنانية يغلب لذلك فيها الخوف والفزع، الوثني يخشى صنمه وهو يملكه، ويخاله قديرًا على نفعه وضره وهو قادر على تحطيمه وإبادته، وإنما يمسكه الوهم والخوف وتقعد به الأنانية فلا يفعل، والوثنية لا تقف عند عبادة الصنم الذي تصوره أيدينا، بل تتناول كل عبادة المادة في أي مظهر من مظاهرها، فعبادة المال وثنية، وعبادة السلطان وثنية، وعبادة القوة المادية وثنية، وما تجر إليه الوثنية من أنانية ومن خوف وفزع قد كان مصدر شقاء العالم ومصدر الحروب المدمرة التي تنشب فيه بين حين وحين، فما لم تلتمس الإنسانية في غير الحياة المادية وفيما وراء ما يقع عليه الحس وإدراكه مثلًا أعلى تصبو إليه، فستظل فيها الحروب المدمرة وسيظل نصيبها الشقاء.
أما ولم يبقَ في ذلك ريب فلا مَفَرَّ من تضافُر مقررات العلم ومقررات الإلهام لتنظيم الحياة، ولا مفر من الإحاطة عن طريق العلم والإلهام جميعًا بحياة الكون إلى غاية ما ندركه من مدى الزمان والمكان؛ لنعرف موضع الإنسانية منهما وما تطيقه من نشاط فيهما؛ لتؤدي رسالتها في الكون على خير وجه، بأن تبذل في الإنتاج العقلي والروحي أخصب مجهود وأحكمه وأعظمه؛ ولتؤدي هذه الرسالة عن إيمان بها هو الحافز الصحيح للعمل المثمر، وتعاليم الإسلام تقتضي صاحبها أن ينظر في خَلْق الله ليكمل بهذا النظر إيمانه، فواجب علينا أن نقف على كل ما بَلَغَه العلم وأن نحيط به إحاطة معرفة وتدقيق؛ لنُرْشد الناس عن بيِّنة ولنُمِيطَ لهم عن وجه الحق، حتى يؤمنوا على عِلْمٍ؛ وليكون علمهم هاديًا لهم إلى هذا الإيمان، أما أن نقول لهم: إن الله أمر أن تؤمنوا به فآمنوا وليس لكم أن تناقشوا أو تجادلوا، فذلك ما لا يتفق مع ما قام الإسلام على أساسه من النظر في الكون ومشاهدة آيات الله فيه وتأملها والوصول من ذلك إلى الإيمان به — جلَّ شأنه.
والإسلام صريح في هذا، فهو يقتضي الناس جميعًا أن ينظروا في الكون ليؤمنوا عن بينة ومن غير إكراه، لم يُفَرِّق في هذا الأمر بين الرجل والمرأة، ولا بين العربي والأعجمي، ولا بين العبد والحر، ولم يجعل لأحد فضلًا في ذلك على غيره إلا بمقدار ما أُوتي من العلم، وما يطوِّع العلم من إرشاد إلى الحق والهدى، ولا يعرف الإسلام نظام الكنيسة، ولا يعرف الرؤساء الروحانيين، ولا يعلق إيمان أحد على كلمة غيره، ولا يجعل المغفرة لغير الله، وهل كأبي بكر الصِّدِّيق في حُسن إيمانه ودقة معرفته بما جاء الرسول من عند الله به، وهو يقول للمسلمين يوم اختاروه خليفة رسول الله: «أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإنْ عصيتُ الله ورسوله فلا طاعةَ لي عليكم!»
الإحاطة بالعلم في أحدث ما وصل إليه واتخاذه وسيلة للنظر في آيات الله، ذلك سبيل الهدى إلى الإيمان الحق، وذلك سبيل الحياة الروحية الصحيحة، فالروح تنكر العقل إذا قُيِّد النظر وقيد العقل معه؛ مِن ثَمَّ كان الجمود العقلي عدو الحياة الروحية؛ لأن هذه الحياة لا تتفتح لتمتثل الكون إذا فُرِض عليها قيدٌ أيًّا كان نوعه، وهي لا تستطيع أن تمتثل الكون إلا أن يكون العقل حرًّا والحواس حُرَّة في الإلمام بكل ما فيه، وملاك حرية الحواس سلامتها، والحواس المريضة يضطرب ما تقع عليه، فتنتقل منه إلى العقل صورة فاسدة، فإذا أسلمت الحواس السليمة ما تُلِمُّ به إلى عقل سليم ينتظمه ليبلغ منه غاية ما نستطيع لمعرفة سنة الكون، كان ذلك خير مِعْوَانٍ للحياة الروحية في تطلعها إلى آفاق أسمى من هذه التي تحدُّ حواسَّنا وإحساسنا، عند ذلك يتضافر العقل والقلب والوجدان وكل ما في الإنسان من قوة مدركة ليمد الروح بعرفانه، وليستمد من الروح ضياءه.
وضياء الروح يهدينا إلى وحدة الكون ووحدة الحياة فيه، وإن تعددت المظاهر التي نحسبها مستقلة لنسبية إدراكنا، مِن ثَمَّ كانت الحياة الروحية السليمة في تطلُّعها إلى الحق تصبو دائمًا إلى الوحدة؛ إلى الوحدة بالحب، والوحدة بالرجاء في الله ونوره الذي يضيء الكون كله، وإلى وحدة الزمان والمكان، وهذه الصَّبْوَة الروحية هي التي تصور لنا وحدة الخالق — جل شأنه — وتجعلها أمامنا حقيقة ملموسة نؤمن بها عن يقين إيمان كلِّ إنسانٍ بما يقع عليه حسه، أما الحياة المادية فانفصالية بطبيعتها، ومهما يعمل قانون الجاذبية لضمها وحدةً مؤتلفة الأجزاء، فما فيها من طبيعة التوالد يدعوها إلى الانقسام والتقسيم؛ ولذلك جعل التفكير المادي وجعلت الحياة المادية من الانقسام والتقسيم أساس الحياة وأساس السعي فيها، وعلى هذا الأساس صورت المثل الأعلى للطوائف والأمم والشعوب، والانقسام داعية النضال والحرب؛ وهو مِن ثَمَّ سبب الشقاء.
فأما صبوة الحياة الروحية إلى الوحدة فتجعل المثل الأعلى مثل تعاون وتضامن ومحبة، وهذا المثل لا يعرف النضال ولا الحرب، وكيف يعرفهما والغاية التي يتوجه إليها — وهي رضا الله — تَسَعُ الجميعَ وتفيضُ عنهم على تعاقب أممهم وأجيالهم؟! لا خوف من أن يضيق هذا الرضا بمَن هو أهله، كما تضيق الأرض بسكانها، وكما تضيق المواد الأولية دون إمداد الصناعة، وكما تضيق أسباب الترف في العالم بمتاع أهله جميعًا بهذا الترف؛ ولذلك يدعو الداعي إلى الحياة الروحية الناس كافة بلا تفاوت بينهم، ويدعوهم إليها في حِمَى السلام والإسلام والرضا، لا فرق بين شرقي وغربي، ولا فرق بين أبيض وأسود وملوَّن، ولا فرق بين أُمَّة وأُمَّة، بل هم في هذا الحِمَى سَواسِيَة، جزاؤهم بعملهم وعملُهم بنيَّتهم، وأحبهم إلى الله أشدهم حبًّا للناس، وأمْتَنُهم إيمانًا أكثرهم معرفة لخلق الله وعرفانًا لسُنته في الكون، وعلمًا بكل ما يهيئ الله لنا أسباب العلم به.
والناس يستجيبون بطبيعتهم إلى الدعوة الروحية؛ لأنهم يبتغون الحق بفطرتهم، ولولا ما يمُدُّ لهم فيه دُعاة المادة من أسباب الضلال — إذْ يُغْرُونهم بمُتَع الحياة ولذاتها — لانهارت فوارق كثيرة ليس يبقيها إلا هذا الضلال، ولآمن كلٌّ بأن واجبه الأول أن يهدي غيره طريق الحق، ولتقاربت الأمم بدل أن تتباعد، ولأخلصت القصد في سعيها إلى الإسلام بدل أن تجعل من نُذُر الحرب هياكل عبادتها، ولكانت خُطَا الإنسانية في سبيل التقدم ناحية الكمال أسرع وأهدى سبيلًا، ولو أن الناس لم يتنكبوا طريق الهدى لنَعِمُوا اليوم بما يلتمسونه من سعادة، ولعلهم تنكبوا هذا الطريق لأنهم لا يزالون بعدُ في جهالتهم، ولأن ما بلغوا من العلم لا يزال قاصرًا دون هداهم، والعلم الناقص داعية ضلال.
وحسبك لتدرك الحق في ذلك أن تصوِّر لنفسك أن المسلمين الأولين لم يختلفوا بينهم شيعًا، وأنهم تابعوا وَثْبَتَهم الأولى إلى غايتها، وأنهم نشروا التوحيد في ربوع العالم كله على أساس من النظر في خلق الله ومن معرفة سنته، وأن الناس جميعًا التمسوا العلم في حِمَى التوحيد ليزدادوا إيمانًا، وأن هذه الاثني عشر قرنًا التي انقضت منذ خلافهم قضتها الإنسانية في التماس حقيقة الكون ومعرفة أسراره، أية إنسانية كانت تعمر الأرض اليوم لو أن ذلك حدث؟ إنسانية بالغة من السمو ما لا أحسبنا نُدرك مداه ونحن فيما نحن فيه من فُرقة وتنازع على أسباب العيش، ومن حروب لا تهدأ ثائرتها، منشؤها هذه الفُرقة وهذا التنازع.
أليس جديرًا بنا — وذلك ما تدعونا الحياة الروحية إليه وما بَلَغَه سلفُنا في ظلالها — أن ننهل من وِرْدها، وأن نشهد من آثارها في بلاد النبي العربي ومنزل الوحي إليه — عليه السلام، لعلنا نعود سيرة السلف فنَثِبُ وثبتهم هُدًى لإخواننا بني الإنسان؟ لقد شهدتُ من ذلك ما سطرتُه في هذا الكتاب، ويعلم الله أني أوَدُّ لو أنهل من هذا الوِرْد في كل حين، وأن أقف حيث وقف الرسول وأن أسير حيث سار، ملتمسًا في سيرته وفي مواقفه الأسوة والعبرة، فإنني لعلى يقين من أن التأمل في السيرة ومواقفها، وفي التعاليم التي جاء بها الرسول، خير ما يهدي الإنسانية سبيل الحق والخير والجمال، وما ينهض بها من دَرَك أمسكتها المادية فيه عن السمو إلى مراقي الروح حيث العيش إخاء ومحبة وحرص على العلم بما في الكون؛ ليضيء العلم بنوره إخاءنا ومحبتنا، ويزيدهما إنسانية وسموًّا، ويصل بنا في ظلهما إلى حِمَى السلام.
لقد حالت الحوائل دون مسيري في أثر الرسول إلى الشام حيث ذهب صبيًّا، وإلى خيبر حيث ذهب نبيًّا، فلعل الله يهيئ لي من بعدُ أسبابَ هذا السير فأستكمل به غرضًا هو اليوم أجَلُّ أغراض الحياة عندي، وأزداد به إيمانًا وتثبيتًا، وأنعم به في ظلال الحياة الروحية الوارفة، وأبلغ من ذلك ما سَعِدتُ به من الرضا حين جاورتُ البيت الحرام، وحين زرت قبر النبي — عليه الصلاة والسلام.
إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.