أيام التشريق
يقف الناس إذ يُفيضون من عرفات عند المشعر الحرام يذكرون الله عنده، ثم ينحدرون إلى منًى ليقيموا بها أيام النحر ثلاثة أو أربعة يرمون أثناءها الجمرات، وكان العرب قبل الإسلام يسمون أيام النحر هذه أيام التشريق، ولم يمح الإسلام هذا الاسم وإن غلَّب عليه أيام النحر، وفي المعجمات أسباب مختلفة لتسمية التشريق هذه، فبعضهم يذهب إلى أنها تطلق؛ لأن الضحايا تُنْحر بعد شروق الشمس؛ ويذهب آخرون إلى أنها سميت كذلك من تشريق لحم النحور، أي: تجفيفه، ومهما يكن السبب في إطلاق اسم التشريق على هذه الأيام فقد بقي هذا الاسم لم يمحه الإسلام؛ فما تزال كتب السيرة على اختلافها تذكر أن بيعة العقبة الثانية وقعت في أوسط أيام التشريق، وقد وقعت هذه البيعة بعد ثلاثة عشر عامًا من بعث الرسول، أي: قبيل هجرة المسلمين إلى يثرب.
وبيعة العقبة الثانية، بل بيعتا العقبة الأولى والثانية، علمٌ مضيء في تاريخ الإسلام كغزوة بدر الكبرى، أما وكتب السيرة تجمع على أنهما — أو كبراهما — وقعتا في أيام التشريق فإني أوثر أن أحتفظ بهذا الاسم، وأن أطلقه على أيام النحر في منًى، وأن أجعله لذلك عنوان هذا الفصل من الكتاب.
أفضنا إذن قبيل منتصف الليل من عرفات يسعدنا النسيم الرقيق، ويضيء لنا ساهر السموات ما حولنا ويبهر نور السيارة الطريق، وبلغنا المشعر الحرام، فنزلنا وذكرنا الله عنده، ثم جَمَعْنا جِمَارَنا؛ كي نرجم بها الصخرات بمنًى، ورأيت على مقربة منا أنوارًا عرفت أنها بعض المقاهي القريبة منَّا، وأن الحجيج الذين أفاضوا أول الليل يقضون ليلهم بالعراء عندها؛ ليكونوا على أبواب منى قبيل الفجر، أما نحن فقد انتظرتنا سيارتنا حتى أتممنا ذكر الله وجمع الجمار، فلما كنا في النصف الأخير من الليل أقلَّتنا إلى منًى فكنا على أبوابها قبيل الفجر.
ولمنًى أبواب كالتي نعرفها في الحضر، فهي ليست بطحاء جرداء كعرفات، وليست مسجدًا قائمًا في عزلة كالمشعر الحرام، إنما منًى قرية بها مبان ومنازل، ألا يكن أكثرها عامرًا في غير أيام الحج، فبعضها مملوك لفخذٍ من قريش يقيمون به طوال عامهم، ويؤجرونه أيام الحج لمن يأوي إليه، وبعضها مملوك لجماعة من أهل مكة يقيمون به أيام النحر، أو يؤجرونه لمن شاء من الحجاج أن يستأجره.
وقابلنا عند أبواب منًى مخفرًا للشرطة وقفنا عنده، وقدم إليه سائقنا جواز مرورنا، فلما جاوزناه في طريق فسيح تقوم المنازل على جانبيه قابلتنا صيحات عالية فيها ترتيل يسترعي السمع، تلك صيحات الباعة الذين قضوا ليلهم في انتظار الحجيج بعد إفاضتهم؛ كي يعرضوا عليهم سلعهم من طعام وفاكهة، ومن سُبَح وما إليها ممَّا يتبرك به قُصَّاد الأماكن المقدسة، ومرت السيارة بنا خلالهم حتى وقفت عند جمرة العقبة الكبرى، هنالك نزلنا فرجمناها، ثم عدنا إلى منزلنا بمنًى، وقد آن لنا أن نتحلل التحلل الأصغر، على أنني آثرت بعد أن فكرت مليًّا أن أبقى محرمًا حتى أطوف وأسعى وأتحلل التحلل الأكبر، وسحبت من متاعي سجادة صلاة فرشتها، وألقيت بنفسي إليها ألتمس إغفاءة تعدُّني لإتمام مناسكي.
وما أحسب أحدًا من الحجيج زار النوم أجفانه تلك الليلة إلا لمامًا؛ فقد أقام الباعة يصيحون حتى ارتفعت الشمس فوق الجبال، ولعل الذين أوَوْا إلى مضارب في صحراء منًى لم يكونوا أسعد بالنوم حظًّا، وإن كانوا عن صياح الباعة أكثر بُعْدًا، فقد نال أكثرهم إغفاءته بالمزدلفة، فلما بلغوا منًى وأتموا شعيرة التحلل الأصغر كان النهار قد نشر في الأرجاء نوره، وأنَّى لإنسان أن ينام في قبة يسري الضوء في فرجاتها؟! وأنَّى له أن ينام هذا اليوم، يوم النحر والعيد الأكبر! وقد بلغ منًى ليصلي الفجر وليصلي العيد وهو في غبطته ونشاط نفسه لقضاء الفريضة في عرفات، وذكر الله عند المشعر الحرام؟
ومرَّ بي مضيفي كيما أعد نفسي لنهبط إلى مكة نطوف ونسعى، وكان رجاؤنا أن ندرك ابن السعود في طوافه وسعيه، وأقلتنا السيارة وانطلقت بنا على هون بين قوافل الإبل، فرأيت هذا الطريق من منًى إلى مكة لأول مرة في ضوء النهار، ولم أستبن منه كثيرًا ونحن في زحمة من هبطوا يقصدون إلى ما نقصد إليه من الطواف والمسعى، وإن حرص مضيفي على أن يذكر لي أنه طريق جديد شقته الحكومة القائمة في الجبال، وأقامت إلى جانب قسم طويل منه سورًا يمنع السيول أن تطغى عليه، ولم يطل بنا السير حتى كنا على مقربة من مكة، إذ ذاك اجتمع هذا الطريق بطريق الإبل، ولم يكن للسيارة بدٌّ من التمهل والوقوف أحيانًا، فلما بلغنا قصر الملك لفت مضيفي نظري إلى الجبل القائم عن يميننا بين جبال عدة وكأنه منها في عزلة الناسك، وقال: هذا جبل النور، وصادف لفته نظري وقوف السيارة لمرور قافلة أمامها، فتوجهت ببصري إلى هذا الجبل الذي اختاره النبيُّ العربي ليتعبد فوقه قبل أن يبعثه الله نبيًّا، توجهت ببصري إليه فاسترعى كل انتباهي بهذه العزلة التي تفرَّد بها عمَّا حوله من الجبال، وبهذه الاستقامة المخروطية في انطلاقه إلى السماء استقامة تجعله أدنى إلى برج شَادَهُ الإنسان لغاية خاصة، منه إلى جبل قائم بين عشرات من الجبال حوله، لا يميزه عنها إلا الحادث الفذُّ الذي جعله القدر نصيبه، حادث هبوط الوحي الأوَّل على رسول الله فوقه.
ودخلنا مكة وقصد مضيفي إلى دار أحد معارفه لنتوضأ قبل أن نطوف ونسعى، وكانت الدار في طريق يجاور المسعى، فلم يكن بدٌّ من أن نخترق صفوف الساعين إليها، وأجلت بصري أتفرَّس في وجوه هؤلاء وأتحرَّى أمر هذا المكان الذي يؤدي المؤمنون اليوم فيه مَنْسكًا كان إخوانهم يؤدونه فيه منذ مئات وألوف من السنين خلت، ولقد كنت في حاجة إلى الدقة في تعرُّفه؛ فلم ترتسم منه لديَّ صورة حين سعَيْت فيه سعْيَ العمرة قبيل الفجر أول ما حللت مكة؛ لأنني كنت في شغل بالسعي والدعاء؛ ولم أقف صبح الغد من ذلك اليوم على كل ما أردت منه، وألفيت وجوه الساعين في هذا الصباح من يوم النحر أكثر طمأنينة، وأصواتهم في الدعاء أدنى إلى السكينة، وكأنما شعروا بعد أن أتموا فرض الله بعرفة أنهم أدنى إليه، فدعاؤهم إياه أدنى أن يستجاب، ويحصرهم هذا المكان الظليل بسقفه المهلهل وبالمباني الرفيعة القائمة على جانبيه في غير انتظام رغم فخامة بعضها، فلا يرون ما كان يراه أسلافهم من زرقة السماء وفسيح الصحراء، وهم يهرولون أوَّل سعيهم أثناءه ثم ينبعثون سائره بخُطًى مطمئنة، ولا يفترون أثناء ذلك عن ذكر الله ولا عن التلاوة والدعاء.
وانعطفت وراء مضيفي في زقاق ضيق قذر متصل بالمسعى، ثم صعدنا بعد خطوات فيه درجًا يشهد بأن الدور تقوم على ربوة قديمة، ودق مضيفي بابًا فتحه أهله واستقبلونا بالتحية والترحيب رغم مجيئنا على غير انتظار، وتناولنا القهوة وتوضأنا وصلينا، ثم قصدنا إلى المسجد الحرام نطوف طواف الحج؛ لنسعى من بعد ذلك سعيه، ودخلنا المسجد فعلمنا أن الملك سبقنا إليه فطاف وسعى من بكرة الصباح، وألقيت بنظري أوَّل ما دخلت من ناحية الكعبة فألفيتها نصف عارية من كسوتها، وألفيت القسم الذي لا يزال مكسوًّا منها عليه ثياب بيض وضعت قبيل يوم عرفة إيذانًا بإحرام البيت العتيق، واليوم، يوم عيد النحر تنزع عن الكعبة ثياب العام الذي ودعنا لتوضع مكانها ثياب العام الذي نستقبله.
وأبدى عُريها أحجار الجرانيت الأسود الذي بنيت منه دالة على صلابة وقوة على الزمان، والناس يطوفون بها، ومنهم من حل إحرامه في منًى، ومنهم من لا يزال محرمًا، وانبسطت أشعة شمس الصباح في صحن المسجد الفسيح وأضاءت بنورها كل أرجائه، والموكَّلون بإلباس الكعبة كسوتها ينزعون عنها الثياب البيض، ثياب الإحرام، وينزعون كسوة العام الماضي ليسدلوا مكانها كسوة هذا العام، ويفرغ الناس من طوافهم فينحرفون إلى مقام إبراهيم وإلى حِجر إسماعيل يصلون فيهما، ثم يقصدون إلى البناء القائم فوق زمزم يلتمسون عنده شربة من مياه بئر إسماعيل، أما نحن فقد يممنا زمزم منذ دخلنا المسجد، ودقَّ مضيفي باب مقامها ففتحه لنا الموكولون بها، فتوضأنا من مائها ولبسنا خفافًا وخرجنا نطوف بالكعبة، ولم يكن معي في هذه المرة مطوِّف أتلو من بعده ما يتلو من الأدعية؛ لذلك تركت نفسي على سجيتها تتجه إلى الله كما أفهم أنا كيف يجب أن يتوجه الإنسان إلى الله، فإذا مررنا بالركن اليماني سمَّيْنا الله وكبَّرنا وتلَوْنا قوله — تعالى: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وعدنا إلى تسمية الله وتكبيره قبالة الحجر الأسود، وانطلقنا بعده نتم الطواف ونحن ندعو ونستغفر، والطائفون طواف الحج يسيرون سيرتنا، يسمون الله كما نسميه، ويكبرونه كما نكبره، ويتلون من الأدعية ما يلقيه المطوف عليهم أو ما تجيش به خواطرهم وما يريدون الاستعانة عليه بالله في أمرهم وفي أمر من يحبون من ذويهم وأهلهم.
وأتممنا الطواف وصلينا في مقام إبراهيم وفي حِجر إسماعيل، ثم انتحينا إلى فيء قباب المسجد، فجلسنا وتناولنا شربة من زمزم وصلينا، وأقمت مكاني هنيهة محدقًا ببيت الله وبالطائفين به وبالركَّع السجود، وإني لكذلك إذ مرَّت بخاطري صورة الرسول الكريم — عليه السلام — في عمرة القضاء، يومئذٍ ظنت قريش به الظنون، وحسبته وأصحابه في عسرة وجهد أوهناهم وضعضعا من عزمهم، ألم يجيئوا ليعتمروا قبل عام من ذلك اليوم فلما صدتهم قريش عن مكة وحالت بينهم وبين البيت كفى محمدًا أن يعقد معها عهد الحديبية وأن ينصرف إلى يثرب؟! ولولا العسرة والجهد لما فعل، ولما ارتضى أن يؤجل عمرته وعمرة المسلمين عامًا كاملًا، ذلك ما خُيِّل يومئذٍ إلى قريش.
فلما انقضى العام وأقبل المسلمون إلى مكة ومحمد على رأسهم، وانصرفت قريش عنها إلى الجبال المحيطة بها، أراد الرسول أن يريهم كيف وهموا فيما ظنوا من ضعف المسلمين ووهنهم، فلم يلبث حين دخل المسجد ونادى بنية الطواف أن أخرج ذراعه اليمنى من ردائه، وأن صاح بأصحابه: «رحم الله امرأً أراهم اليوم من نفسه قوة!» ثم استلم الركن عند الحجر الأسود وهرول، وهرول أصحابه من ورائه، حتى بلغ الركن اليماني، هنالك مشى إلى الحجر الأسود مُسبحًا الله مكبرًا إياه، ثم هرول من جديد وأصحابه يهرولون حتى أتمو ثلاثة الأشواط الأولى ومشوا سائر الأشواط السبعة، ورأى المشركون من قريش كذب أوهامهم؛ إذ رأوا محمدًا والألفين من المسلمين معه أقوياء لم يصبهم نَصَبٌ ولا لُغُوب، والمسلمون لا يزالون إلى اليوم يهرولون في الثلاثة الأشواط الأولى اتباعًا لسنة الرسول، وإن لم يعرف أكثرهم حكمة هذه الهرولة، وإن لم يدُر بخاطر أكثرهم ما يدل عليه هذا المظهر من أن الإسلام دين بأس وقوة ونظام.
والمسلمون اليوم يطوفون لا يؤمهم أحد؛ وهم لذلك تختلف أثناء الطواف صفوفهم، لا يهرولون في نظام، ولا يتَّئِد سيرهم في نظام، وشتان في ذلك ما بينهم وبين المسلمين الأوَّلين، شتان ما أرى اليوم وما كان في عمرة القضاء أو حجَّة الوداع، كان محمد يؤم ألفين في عمرة القضاء، ومائة ألف في حجة الوداع، يسيرون كلهم سيره، ويتبعونه، في نظام أدق نظام، هرولة ومشيًا واستلامًا للركن أو للحجر الأسود، وهذا النظام المتصل بروح الإسلام سبب من أسباب القوة، بل هو مصدرها وملاكها، وهذه الإمامة يقوم بها رجل مطهَّر يؤمن أصحابه بصدقه هي روح هذه القوة وقوامها، ولو عاد المسلمون إلى الإمامة والنظام في الحج وفي غير الحج، ولو أنهم واءَمُوا كما يوائم دينهم بين حرية تامة أساسها الإيمان بالله وحده وإباء الخضوع لكل من سواه، وألا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، وبين هذا النظام الكفيل بحرية الجماعة وحياتها — إذن لاستطاعوا أن يؤدوا في العالم رسالة الإسلام كَرَّةً أخرى، ولسعد العالم بهذا الدين كما يجب أن يسعد به.
مرَّت هذه الخواطر بنفسي وأنا في مكاني من فَيء المسجد، فانطلق ذهني على أثرها يفكر فيما يجب أن تكون الإمامة والنظام في العالم الإسلامي الحاضر، وكيف يجب أن يكونا في الطواف والسعي وسائر فراض الحج ومناسكه، وإني لفي تفكيري إذ نبهني مضيفي إلى القيام لنسعى، وأتممنا السعي بين جماعة الساعين، يزحمنا هذا، ويدفعنا ذلك، ويعترضنا بين آن وآخر صف من النجديين شبكوا أيديهم بعضهم ببعض، فإذا صادفهم ساع صاحوا به: طريق! طريق! وانطلقوا في سعيهم ينادون ربهم بلغتهم: «رب اغفر، حتمًا تغفر، إن لم تغفر من ذا يغفر؟!» وذكر بعض أصحابي أنه سمعهم يقولون: «رب اغفر، حتمًا تغفر، إن لم تغفر جنتك تصفر»، ويمر بين هذه الصفوف كما يمر بين صفوف الطائفين بالبيت ما بين حين وحين جماعة يحملون محفَّة عليها شيخ أو عجوز أو مريض لم تستطع قدماه حمله ليطوف ويسعى، فطاف به هؤلاء وسعوا، والمطوِّف يسير إلى جانبهم يدعو والمحمول في المحفة يدعو معه.
وكما يسعى الناس رجالًا وفي المحفَّات يسعى بعضهم ممتطين جيادًا أو مستقلين السيارات، وهؤلاء يرون أن لا جُنَاح عليهم وقد سعى رسول الله في عمرة القضاء راكبًا بين الصفا والمروة، وإن رأى بعض الفقهاء في السَّعي على الأقدام مزيدًا في المثوبة، وكان الشيخ عبد الله بن بليهد عالم نجد يسعى ممتطيًا جوادًا، ولقد كان يحدثنا ساعة نزلنا معًا من مِنًى أنه يريد السعي في سيارة؛ لأنه لا يطيق السعي ماشيًا، ولا يحب السَّعي في محفة؛ ولهذا العالم النجدي عذره، فهو عالم تقدَّمت به السن فتضعضعت صحته بعد أن لوَّح وجهه هواء الصحراء في أسفاره بين نجد والحجاز، فهو أشعث أغبر، وهو رجل ناحل الجسم، يعلو عنقه الدقيق رأس عريض الجبين، ذكي النظرة، تلمع عيناه ببريق لم تطفئه السنون ويدل على حيلة واسعة وبصيرة نافذة، وهذا الرجل خليفة محمد بن عبد الوهاب الحنبلي مجدِّد المذهب في نجد، والذي خلع اسمه على الوهابيين الذي اقتدوا به في اتباع ابن حنبل، وابن بليهد هو لذلك روح الحركة الوهابية في هذا الدور الحديث من أدوار حياتها، وهو موضع التبجيل والاحترام من النجديين جميعًا، من مليكهم عبد العزيز بن سعود إلى أصغر صغير فيهم، وهو مع ذلك وعلى ما رأيته، من أشدِّ الناس زهدًا في الدنيا وزخرفها وغرور متاعها.
وأتممنا السعي سبعًا، وآن لنا أن ننصرف وأن نتحلل التحلل الأكبر، على أنِّي وقفت هنيهة قبل منصرفنا أمام مقهى من المقاهي القائمة وسط المسعى وقلت لصاحبي: أَفَيليق أن تقوم أمثال هذه المقاهي والحوانيت على حافة هذا المكان المقدَّس؟! قال: إنها ليست على حافته، بل هي قائمة داخل حرمه، والذين أقاموها لم يتقوا الله ولم يرعوا حقه، بل اعتدوا عليه عدوانًا مبينًا، والعجب أن منهم من اجترح هذا العدوان تبركًا بأرض هذا المَنْسَك، ناسيًا أنه يؤثر بها نفسه ويحرم منها ملايين المسلمين على تعاقب الأجيال.
ولقد ثارت نفسي حقًّا لمنظر هذه المقاهي وهذه الحوانيت التي تتجر في السُّبَح والمنسوجات وما إليها مما يتبرك الحجيج به، وزاد نفسي ثورة منظر صيارفة النقود الذي يصكون الآذان بصرير ريالاتهم السعودية إعلانًا بها عن أنفسهم، ما لهذا المكان الذي يتوجه فيه الناس إلى الله بالتوبة والاستغفار وصرف النقود والجلوس إلى المقاهي وتبادل التجار؟ وما لهذا المكان الذي ينسى الناس فيه تجارة الحياة؛ ليتصلوا فيه ببارئهم وهذه الحماقات من تجارة الحياة؟! أليس من الخير أن تظل لهذا المكان حُرْمَته كاملة وأن تكون الحوانيت في طريق غيره قريب منه، إن لم يكن بد من أن ينصرف الناس بعد استغفار ربهم إلى شرب القهوة وشراء السُّبْحة والمُكْحُلة وإلى صرف النقود للتبادل؟
وليس ذلك كل ما يثير النفس لحال المسعى، فقد بلغ من إهمال شأنه وهو منسك من مناسك المسلمين حدًّا بعيدًا، واجتياز بعض الطرق إياه، ومرور الدواب والعربات والسيارات في هذا الطريق بين الساعين بعض مظاهر هذا الإهمال، فإذا أنت تحدثت في ذلك قيل لك: وما عساك كنت تقول من عهد قريب، وقبل أن ترعى الحكومة الحاضرة هذا المنسك بعنايتها؟ فقد كان حرمًا للكلاب تقيم في ظلاله نهارها وليلها لا يزعجها من مرقدها أحد وكأنها حَمَام الحِمَى.
لقد كان المسعى إلى صدر الإسلام طريقًا مستقيمًا يصل بين ربوتي الصفا والمروة، متصلًا بما حوله من فسيح الصحراء وهضابها، وتطل عليه الجبال المحيطة بمكة، أما منذ مئات السنين فقد بلغ من طغيان الدور التي أقيمت في حرمه أن اعوج اعوجاجًا يحول دون رؤية الصفا من المروة أو رؤية المروة من الصفا، كما حال سقفه بين الساعين وفسحة الجو وبهاء السماء، وأحيلت كل من الربوتين درجًا أحيطت جوانبه الثلاثة بالجدران؛ أما أرضه فقد رصفت بالحجر رصفًا غير منتظم.
تثور النفس لهذه الحال التي عليها المسعى، ولولا أن الناس يحسبونه كذلك منذ وجد، ولولا أنهم إذ يرونه يشغلهم السعي عما سواه، لقام بينهم من يدعوهم إلى الثورة لإصلاحه، ولإزالة هذا المساس بحرمة مكان يجب أن يحاط بكل تقديس وإجلال، ذلك كان شعوري ساعة منصرفي من المسعى، وما زال هذا الشعور يحزُّ في نفسي، فلعلني أجد من يشاركني في دعوة المسلمين إلى إصلاح منسك من شعائر الله، ولعلني أجد من الحكومات الإسلامية استباقًا للخيرات وإجابة لهذه الدعوة.
انصرفت من المسعى إلى الدار بمكة، فحللت إحرامي ولبست العقال والعباءة العربية — أو المشلح، كما يسمونها — وأقلتني السيارة عائدة إلى منًى، ولا يكاد من يراني يشك في أني عربي من أهل البلاد، فلما حاذت السيارة حراء استوقفت سائقها لأمتع النظر بهذا الجبل كرَّة أخرى، فلقد شعرت له في نفسي بهوًى أي هوًى، ووددت لو استطعت أن أحيط خُبْرًا بكل ما جلَّ أو دقَّ من أمره.
وبلغنا منًى قرابة الظهر، وأويت إلى الدار فيها، ودور منًى غاية في البساطة، وليس بها من الأثاث إلا ما يحمله الحاج من مكة إليها؛ لذلك كان سرير الميدان من نوع ما رأيت عند صاحبي «المسلماني» بعرفات ذا فائدة بها أكبر الفائدة، وهذه الدور بعد معدودة لا تسع من الحجيج إلا عددًا محدودًا، وهي تقع بين سلسلتي الجبال المتحاذيتين المارتين بمنًى، ويمر من بينهما الطريق الرئيسي إلى مكة، فإذا كنت مقيمًا بإحداها رأيت من نافذة الدار المطلة على الطريق كل ما في منًى من حياة أيام التشريق، ورأيت الدور المقابلة لدارك مطمئنة في أحضان الجبل الشامخ عليها، ثم رأيت من النافذة الخلفية سلسلة الجبال الأخرى تحدُّ نظرك عن تبيُّن ما وراءها كما تحدُّه سلسلة الجبال الأولى.
وقد خلع أهل الحجاز على جبال منًى من بهاء الأساطير ما لا يكاد يترك حجرًا منها إلا جعل له قصة من الأقاصيص المتصلة بحياة الأنبياء، فهذا الطريق الصاعد في الجبل هناك والذي نراه قُبالتنا من نافذة الدار، هو مَجَرُّ الكبش الذي ذبحه إبراهيم الخليل فداء لابنه إسماعيل، وهذا الحجر الناتئ في الجبل المقابل له هو طاقية النبي حين اختفى يومًا من قريش أو غير قريش فلاذ بهذا المكان، والطاقية هي هذه الفجوة التي دخل فيها رأس النبي إذ لان حجر الجبل لاختفائه فيها، وهناك هناك في موضع لا يحدِّده العرَّافون من الجبل مكان أرادت الشياطين فيه أن تعبث بنبيٍّ من الأنبياء فانتهرها، وأكثر هذه الأساطير لا سَنَدَ له في كتب السيرة أو كتب التاريخ المحترمة، وأهل مكة يقرون بذلك لمن سألهم عنه، والأذكياء منهم لا يسلمون بصحة ما يقصونه، مع ذلك يتبرك أكثر الحجاج من الأقطار الإسلامية المختلفة بهذه المواضع ويُروُون ظمأهم الروحي بمشاهدتها، وما لهم لا يفعلون وكثير من هذه الأساطير مدَوَّن في كتب متأخرة أراد أصاحبها بها سحر الجماهير السريعة إلى تصديق الخوارق، والتي لا تعنى من الروايات إلا بما يتفق مع هواها.
تقع دور منًى على جانبي الطريق الفسيح المؤدي إلى مكة، وتقوم في هذا الطريق الصخرات الثلاث التي يَحصِبُها الحجيج بجمارهم؛ ولذلك صارت تسمَّى الجمار الثلاث، كبراها جمرة العقبة، وعلى مقربة منها الجمرتان الوسطى والصغرى، وهذه الصخرات أو الجمرات هي اليوم قوائم من الحجر ناتئة من الأرض إلى ما فوق قامة الرجل الفارع الطول، أحيط كل قائم منها بسور من الحجر يقف الناس عنده ويحصبون هذه الأحجار قضاء لمنْسَك منًى، والجمار لا تلقى يوم النحر، إنما يحصب الحاجُّ جمرة العقبة أول بلوغه من بعد الإفاضة من عرفات ليتحلل التحلل الأصغر، أما الجمرتان الوسطى والصغرى فتُرجمان في اليومين التاليين ليوم النحر، فإذا تم هذا المنسك تم الحج، وهبط الناس إلى مكة ليعودوا منها بعد طواف الوداع إلى أوطانهم؛ أو ليذهبوا لزيارة مدينة الرسول، وأكثر الناس يهبطون إلى مكة ثالث أيام النحر، ويهبط بعضهم رابعها.
ويطلق أهل الحجاز على هذه الصخرات اسم الشياطين، فإذا أراد أحدهم أن يدلَّك على منزل شخص معيَّن من منًى قال: إنه إلى جانب الشيطان الكبير، أو على مقربة من الشيطان الصغير، أو بين شيطانَيْن معينين من الثلاثة، وترجع هذه التسمية إلى ما ترويه بعض الكتب عن إبراهيم الخليل — عليه السلام، وأن الله بعث ملكًا يُريه مناسك الحج حين أمره أن يؤذن في الناس به، وطاف الملك معه بالبيت، وسعى به بين الصفا والمروة، ثم صعد وإياه متجهًا إلى الجبل، فلما كانا بمنًى تبَدَّى الشيطان لإبراهيم يغويه فحذفه إبراهيم بالحصى فولَّى هاربًا، ثم تبدَّى له كرَّة أخرى فحذفه فولَّى، ولما حذفه للمرة الثالثة ولَّى مدبرًا ولم يعقب، وتذهب الرواية إلى أن الشيطان تبدَّى في كل من هذه المرات الثلاث عند صخرة من هذه الصخرات الثلاث؛ ولهذا أطلق أهل الحجاز اسم الشياطين عليها، وانطلق الملك بإبراهيم من منًى إلى المشعر الحرام وسار وإياه حتى بلغا عرفة، هنالك قال له: الآن عرفت مناسكك، وسُمِّي هذا الجبل عرفة أو عرفات؛ لأن إبراهيم عرف عنده مناسك حجه.
والجمرات مناسك منًى، والناس يرجمونها؛ لأنها تتقمص الشياطين فيما يقول أهل الحجاز؛ وهم لذلك يرجمونها ناقمين عليها أشد النقمة، ولقد بلغ من نقمة أحدهم أن قذفها بحذائه، وأطلق بعضهم على أحدها «مسدسه» آملًا أن يقتل الشيطان بقذيفته، أما وهذه عقيدة الناس فيها فليس طبيعيًّا أن يلتمسوا البركة منها، إنما يتلمسون البركة من منازل الأنبياء والقديسين فيما ترويه الكتب، كما أنهم يذكرون الله ويتلمسون مغفرته وثوابه في مساجده.
وبمِنًى مسجدان يقعان في سفح ثَبِير، وأحدهما أقرب إلى طريق مكة من الآخر، فأما الأول فمسجد الكوثر، وهو مسجد صغير يقوم في مكان يروى أن النبي — عليه السلام — كان به حين أوحى الله إليه سورة الكوثر، والناس يتبركون لذلك بهذا المسجد، ويؤمه كثيرون من الزَّمْنَى يتمرَّغون في ترابه ثقةً منهم بأنه يشفيهم من أمراضهم، أما الآخر فمسجد الخَيْف، وهو أكبر مسجد بين مكة وعرفات بعد المسجد الحرام، وكان أكبر من المسجد الحرام في الصدر الأول من الإسلام.
ومسجد الخيف قديم العهد، حتى لتروي بعض كتب التاريخ أن أربعين أو خمسة وأربعين نبيًّا صلَّوْا فيه، ويذكر بعضهم حديثًا عن الرسول — عليه السلام — أن هذا المسجد هو الذي تبايعت فيه الأحزاب من العرب واليهود على قتال محمد والمسلمين بالمدينة، وأن الأحزاب خرجوا منه لغزوة الخَنْدَق، وبمسجد الخيف صلى رسول الله في حجة الوداع حين مقامه بمنًى أيام التشريق، ولا يزال المسلمون يصلُّون به يوم النحر وأيام الجمرات، فهو وحده الذي يتسع لعشرات الألوف منهم إذ يجتمعون للعبادة والتعارف.
وقلَّ أن يصلي بمسجد الخيف أحد في غير أيام الحج حين تكون الصلاة به سُنَّة يجتمع لها ألوف المسلمين وعشرات ألوفهم؛ وهو لذلك البساطة كل البساطة في عمارته التي لا تزيد على جدران أربعة تحيط بمساحة فسيحة من الأرض، تتوسطها مُبَلِّغة — أو «مكبرية» — لصلاة الجمعة أو الجماعة، على أن الجانب المتصل منه بجدران القبلة مسقوف بقباب قائمة على عمدٍ متينة البناء، وبابه الكبير معقود على عمد أربعة عقدًا قويًّا يبعث في الذهن صورة الآثار القديمة، وللمسجد أبواب أخرى يسلك المصلُّون أثناء الحج طريقهم إليها؛ لأن الباب الكبير لا يتسع وحده في هذه الفرصة لألوفهم الكثيرة.
وإن بمنًى لمكانًا يثير الذكرى ويستوقف النظر، وإن لم يكن في فسحة مسجد الخيف ولم تكن له عمارة كعمارته، والمسلمون يؤمُّون هذا المكان أول إفاضتهم من عرفات، وقلَّ من يذكر منهم حين وقوفه أمامه أكثر من أنه منسك من مناسك الحج تؤدَّى شعائره، ذلك مكان العقبة الكبرى حيث تقوم الجمرة التي يلقيها المسلمون ليتحللوا التحلل الأصغر، هذه الجمرة وعلى مقربة منها مسجد العقبة يثيران في النفس ذكرى البيعتين اللتين تمَّتَا بين أهل يَثرب ورسول الله، فمهَّدتا لهجرته، وكانت بذلك مبدأ الفوز وأذانًا من الله بأن يفتح لرسوله وينصره نصرًا مبينًا.
قلَّ من المسلمين من يذكر هاتين البيعتين حين يلقي الجمرات على صخرة العقبة، أما أنا فوقفت عند العقبة وعدت إليها من بعد كما عدت إلى مسجد البيعة، ووقفت عنده طويلًا باحثًا عن الشِّعْب الذي احتمى الرسول والمسلمون من أهل المدينة به حين بايعوه، وإن من الواجب أن يذكر المسلمون يوم إفاضتهم وحين وقوفهم أمام جمرة العقبة هذا الموقف الفذَّ في التاريخ من مواقف النبي العربي، فهو من المواقف التي وجهت التاريخ وجهة جديدة، والتي وجهت الإنسانية كلها إلى النور والهدى.
لا يؤدِّي الناس أية شعيرة من شعائر الحج بمنًى طول يوم النحر ولا صبح غداته؛ إنما يتزاورون يهنِّئ بعضهم بعضًا بالعيد، ويُفْضي بعضهم إلى بعض بخَلَجَات نفسه، ويذهب كثيرون منهم في صحوة الصباح من ثاني أيام النحر ليشتركوا في تشريفة الملك ابن السعود وفي تشريفة كل من ولديه سعود ولي عهده، وفيصل نائب الملك بالحجاز ووزير خارجية المملكة العربية وأمير مكة.
ولقد ذهبت مع جماعة من أصحابي نحضر هذه التشريفة للملك وولديه، وتشريفة الملك تقع في قصر أُقيم له بمنًى منذ سنوات قليلة، وفي نَعْت هذا المكان بالقصر شيء غير قليل من التجوُّز، فهو أبسط في أثاثه وفي بنائه من أن يسمَّى قصرًا وإن اتسعت أرجاء غرفه، والذين يذهبون لحضور التشريفة ينتظرون قبل الدخول على الملك في خيام أقيمت أمام القصر، وليس في هذه الخيام دفاتر يكتب الناس أسماءهم فيها، ولا يسأل أحد من الجند ولا من حاشية الملك أحدًا من الذين قصدوا إلى التشريفة عن اسمه أو جنسه أو أي شيء من أمره، ويقوم الناس من الخيام فوجًا بعد فوج دون اعتبار للطوائف أو لغير الطوائف، فإذا بلغوا القصر ارتقوا أربع درجات تؤدي إلى بابٍ هو باب الغرفة التي يستقبل الملك فيها، ويمر الناس به ويحيونه، فيدعو ذوي المكانة منهم إلى الجلوس في المقاعد المجاورة له.
ولم يكن يرضى أول ملكه على الحجاز عن تقبيل أحد يده؛ لما في ذلك من مخالفة عقيدته الوهابية، ومن مخالفة قواعد الإباء والشمم العربية، على أن أهل الحجاز أصرُّوا على تقبيل هذه اليد، فصار في السنوات الأخيرة لا يحول بينهم وبينها، أما النجديون فلا يزالون كما كانوا يهزُّون يد عاهلهم ويسمونه باسمه ويحيونه بتحية الإسلام، فيقول له أحدهم: كيف حالك يا عبد العزيز؟ فإذا أرادوا المبالغة في التحية أطلقوا عليه لقب «طويل العمر»، ويمر المهنئون بالملك، ويشرب المقربون قهوته النجدية، ويلقي بعضهم أمامه القصائد والخطب، كل ذلك في بساطة بدوية تطأطئ أمامها الديمقراطية إكبارًا وإجلالًا.
أما سعود وفيصل فيستقبل كل منهما في خيمة فسيحة لا مقاعد فيها، ويجلس كل منهما على فراش بسيط، فإذا دعا أحدهما بعضَ ذوي المكانة للجلوس إلى جانبه جلسوا على البساط المفروش في الخيمة.
خرجت بعد التشريفة أطوف بمنًى لأرى بعض الصحاب وزملاء الحج، وخيمتا سعود وفيصل تتصلان بمضارب الخيام القائمة في مَسِيل الوادي الفسيح بين جبلي مِنًى، وهذه المضارب أشد من مضارب عرفات تشابكًا؛ لأن بطحاء عرفات أكثر فسحة، وحبال الخيام تلتقي وتشتبك بعضها ببعض حتى ليتعذر على الإنسان أن ينتقل بينها دون مشقة، وما أدري كيف يهتدي إليها أصحابها ولا كيف يُعلِّمونها، على أن لإخواننا المصريين من اليسر في ذلك ما ليس لغيرهم، فهم يتخذون مضاربهم إلى جانب السبيل المصري أو على مقربة منه، فلا يتعذَّر عليهم أن يجعلوا من هذا السبيل منارًا للاهتداء به.
والسبيل المصري هو وحده الواحة الباسمة وسط هذه الجبال والرمال العابسة الجرداء، بَنَتْه مصر في عهد الملك فؤاد الأوَّل بناءً أنيقًا على الطراز العربي، كبناء مساجد القاهرة أو دار الكتب المصرية، تراه من بعيد فيتعلق به نظرك، وتسير إليه فيلقاك سور محيط بحديقة فسيحة أمام البناء، تتخطى الباب فإذا أنت بين خضرة باسمة ونبات وزهر، وإذا عن يمينك مجلس صُفَّت على بسطه وسائد يستند إليها الجالسون فيه، ويستقبل الموظفون المصريون كلَّ مسلم قصد إلى السبيل في أيٍّ من أيام العيد بكل إكرام وتَجِلَّةٍ، هذا وإن وجد أولئك القاصدون سبيل مصر في المياه الصالحة التي يشربونها به غاية ما يطمعون فيه.
دلفتُ بعد التشريفة إلى السبيل، فكان لنفسي مسرةً أي مسرة، إنه فلذة من وطني قامت في هذه البقعة المقدسة فتحدثت عن وطني خير حديث، إنه مصر تنتظر أبناءها الذين جاءوا مُلبين ربهم ليكون مثابتهم للقاء إخوانهم المسلمين ممن ينظرون إلى مصر نظرة تقدير ومحبة وإخلاص، إنه المأوى لمن شاء أن يتخذ من الحج فرصة اجتماع للتحدث في شئون المسلمين كافة، كان به ساعة دخلته طائفة من بني وطني ومعهم مسلمون أحدهم هولندي وآخر صيني من أقصى الشرق، وبين هذا وذاك من مختلف الأمم ألوان شتَّى، ولم يطل بي المقام ولا الحديث حتى رأيتنا جميعًا نحس إحساسًا واحدًا وتحرِّكنا عاطفة واحدة هي عاطفة الأخوة الإسلامية الصادقة، فالهولندي الجالس إلى جانبي، والمغربي الجالس قبالتي، والجاوي الذي يجاورني، نحن جميعًا عبادُ ربٍّ واحد لا إله إلا هو، لا نعبد إلا إياه، ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دونه، فأرض الله أرضنا جميعًا، وسماؤه سماؤنا جميعًا، وما خلق — جل شأنه — في السموات والأرض هو لنا جميعًا، والله — جل شأنه — يورث ذلك من يشاء من عباده الصالحين.
سمعنا جميعًا في خشوع وإنابة إلى قارئ يرتل القرآن ترتيلًا حسنًا بصوت جميل، ثم تناول حديثنا الحج وشئون المسملين في مشارق الأرض ومغاربها، عند ذلك ذكرت قول رسول الله: «لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، فازداد شعوري بإخاء المسلمين في أقطار الأرض جميعًا عمقًا وقوةً، وجعلت أنصت إلى حديث المجتمعين معي بهذا السبيل المصري وأنا أشد ما أكون تعلقًا بهم ومودةً لهم.
وتركت السبيل أبتغي زيارة بعض معارفي في الخيام المتصلة به، وبعد لأْيٍ في السير بين خيام يقصر الطرف دونها ألفيت أصحابي جلوسًا بها تحت سقوف واطئة يَتَلظون بحر الشمس وما نزال في الشتاء، ترى ما حال أمثالهم إذا استدارت أشهر الحج إلى أيام القيظ، وأرسلت الشمس من أشعتها شواظًا ولهبًا! أوَلَا يجمل بأهل البلاد وبحكومتها أن يقيموا بدل الخيام مساكن قليلة النفقة يجد الحاج فيها من طمأنينة الحياة ما لا يجده في الخيام؟ وأفضيت بهذا السؤال إلى بعضهم، فعجب منه وظن فيه تيسيرًا لمشقة الحج يذهب بالكثير من ثوابه؛ لأن الأجر على قدر المشقة، وعجبت لما قاله صاحبي وسألته: أفلا يشجِّع التيسير الناس على أداء الفريضة فيزداد عدد الذين يؤدونها وينالون ثوابها آلافًا مؤلفة؟
وأويت إلى الدار ممتلئ القلب بقوله ﷺ: «لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وشغل ذهني أمر المنازل في مِنًى حين الحج، أوليس حقًّا على الذين آتاهم الله من فضله أن يعملوا لمزيد من الطمأنينة لإخوانهم الذين يحجون البيت، كما يفكرون في طمأنينة أنفسهم؟ لقد كان النبي وأصحابه يقيمون بالخيام أيام منًى؛ لأن الخيام كانت منازل ذلك العصر في شبه الجزيرة، فلم يكن أحد من أهلها ليضيق بالخيام ذرعًا، أما اليوم فهذا عاهل شبه الجزيرة ابن السعود، وهو بدويٌّ شديد الولع بالبداوة، وهؤلاء أبناؤه وأهله ووزراؤه وذوو اليسار من عشيرته، يقيمون في منًى بمنازل توفِّر من الطمأنينة ما لا توفر الخيام، وإن كانت البساطة كل البساطة ولم يكن فيها من الترف شيء، فمن الحق علينا لكمال إيماننا أن نوفر مثل هذه الطمأنينة لكل من نستطيع أن نوفرها لهم ممن يفرضون الحج ويجيئون إليه من أقصى الأرض.
عدتُ غداة يوم النحر من رجم الجمرة الوسطى ومعي صاحب يسألني عن رجم الجمار ما حكمته وأية مثوبة فيه؟ وتمثل لي وأنا أسمع لقوله صاحب عرفات إذ يقول: إن مناسك الحج فروضٌ نؤديها ولا نعرف حكمتها، كما ذكرت ما يقوله أهل الحجاز من أنهم إنما يرجمون الشيطان بالجمرات حتى لا يعود فيوسوس إليهم ليردهم إلى المعصية والإثم، لكن صاحبي لا يقتنع بهذا القول ولا بذاك، وإنما يريد أن يعرف رأي المجدِّدين من مفكري المسلمين، قلت له: إن هؤلاء العلماء يرون في إلقاء الجمار إعلان المشيئة على طرح ما في النفس من زَيْف، وصدق الإرادة لدوام طهرها بعد أن غفر الله بالحج ماضي حَوْباتها، وإشهاد ملأ المسلمين على ذلك كله، قال صاحبي: «هذا كلام أدنى إلى تصور العقل، وإن يكن كلام أهل الحجاز أكثر اتفاقًا مع ما يقصُّه الرواة الأقدمون في بطون الكتب، لكني أحسب حكمة الله أبلغ من هذا ومن ذاك.»
وتداولنا الحديث في الأمر، وانتهينا إلى رأي لعله أكثر اتفاقًا مع ما جاء في القرآن من حكمة الحج، فأول اجتماع للمسلمين في الحج بعرفات، وهم يومئذٍ يجتمعون مُحرمين ملبِّين مستغفرين ربهم مستمعين إلى خطاب أمير المؤمنين أو من ينوب عنه، وفي ذلك كله ما يشغلهم عن التعرف والتشاور وشهود المنفعة المشتركة التي تربطهم بعضهم ببعض؛ لذلك وجب عليهم، متى أفاضوا من عرفات ونزلوا منًى، أن يجتمعوا وأن يتعارفوا وأن يشهدوا منافع لهم، واجتماع ألوفهم المؤلفة ساعات معدودة لا يحقق هذا الغرض؛ لذلك فُرضت أيام النحر الثلاثة ليحسنوا التعارف والتشاور وشهود المنافع، ولإتمام ذلك بما يتفق وروح الإسلام وجلال موقف الحج سُنَّت لهم مناسكُ يؤدُّونها إلى الله لتظل نفوسهم نقيَّة وأرواحهم طاهرة، وأي منسك خيرٌ من أن يشهدوا العقبة التي شهدها الرسول — عليه الصلاة والسلام، وأن يُلقوا بسواعدهم جمرات يعلنون بإلقائها أنهم على عهده في بيعة العقبة، ينفع بعضهم بعضًا، ويذود بعضهم عن عقيدة بعض، ويكفل الكل بذلك حرية العقيدة الإسلامية وحرية الدعوة إليها، ويشهدون على أنفسهم إذْ يلقونها أنهم على استعداد لإلقاء مثلها في وجه عدوِّهم إذا حاول فتنتهم عن دينهم أو حاول إخضاعهم وقهرهم؟
لعلَّ هذا الرأي أدنى من غيره إلى روح الإسلام وحكمة الله فيه، فهذا الدين كله البأس والقوة على الحياة، وكله النظام الذي يضاعف هذه القوة أضعافًا مضاعفة، ولقد جمع الإسلام بين النظام والحرية ما لم يجمع بينهما دين غيره، هو يصل بالحرية إلى غاية حدودها، وبالنظام إلى غاية حدوده، فلا عبادة إلا لله، والأمير ورجل البادية سواسية في التزام حدود الله، ومن يتعدَّ منهم حدود الله فقد ارتكب إثمًا وبهتانًا عظيمًا، هم في هذا سواء وإن تفاوتوا في الثروة وفي الجاه وفي كل مظاهر هذه الحياة الدنيا، والحرية أعزُّ ما يحب الإنسان لنفسه، ويجب أن تكون أعزَّ ما يحب لأخيه إذا أراد أن يكمل إيمانه. وحرية الفرد ملاكها قوة الجماعة، ولا قوة لجماعة إلا بالنظام يبلغ من دقته أن يكون كنظام جسم الفرد في تألف ذرَّاته وفي اتساق عملها جميعًا تمام الاتساق، كلُّ اضطراب في هذا الاتساق يفسد حياة الفرد ويجعله عرضة للأمراض والعلل، وكل اضطراب في نظام الجماعة يُضعفها ويجعلها عُرضة لتسلط الغير عليها ولتحكُّمه فيها.
ومظهر النظام في الإسلام بالغ غاية الدقة من غير أن يجني مع ذلك على الحرية أو أن يمسها، وهو يقوم على أساس من المساواة الصحيحة والتعاون الصادق، ذلك شأنه في أركان الإسلام جميعًا، في صلاة الجماعة، وفي الصوم، وفي الحج، ومظهره في الحج أوضح جلالًا وأعمق في النفس أثرًا، واجتماع المسلمين بمنًى وإلقاؤهم الجمرات ختام شعائر الحج بعد الوقوف بعرفة والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، أمَّا وغاية الحج اشتراك المسلمين من أقطار الأرض في التفاهم على منافعهم واشتراكهم في ذكر الله، فيجب لنجاح هذه الغاية أن يبلغ نظامهم أثناء الحج غاية الدقة، ويجب لذلك أن يكون إلقاء الجمرات والتعارف والتشاور خيرًا مما هي اليوم نظامًا.
والمسلمون يشعرون اليوم بواجبهم في تحقيق هذه الغاية أكثر مما كانوا يشعرون به من قبل، دعا الشباب العربيُّ السعودي ذوي المكانة من الذين جاءوا يؤدون فريضة الحج من أهل الأمم المختلفة إلى اجتماع بمنًى للتعارف والتشاور، وقد اجتمعنا في الموعد المضروب، وجاء مجلسي بين هندي وتونسي، وبادل الدَّاعون ضيوفهم التحيات، وأحدثوا بينهم من التعارف ما يستطاع إحداثه في مثل هذه الحفلة، ثم دعوا بعضهم ليتحدثوا إليهم، وكم تمنيت لو كان بين من يؤدُّون فريضة الحج من أهل المكانة والرأي والكلمة المسموعة في بلادهم من يحضرُ مثل هذا الاجتماع؛ لتتم حكمة الحج؛ ولتكون مكة مقرًّا لعصبة الأمم الإسلامية تسمع كلمة أهلها، ويكون لهم في العالم رأي معدود. لكنَّ ذوي الكلمة المسموعة ممن حضروا لم يكونوا يمثلون من العالم الإسلامي إلا أقله، ولم يكونوا يقصدون باجتماعهم إلى غاية وراء الاجتماع؛ لذلك ضَعُفَ الرجاء في أثر ما ألقوا في هذا الاجتماع من أقوال لم تتعد الدعوة العامة إلى إخاء المسلمين وتحابهم، ولو اجتمع ذوو الكلمة المسموعة لغاية يريدون تحقيقها لكان لاجتماعهم أثر يدوِّي في العالم كله.
أزمعتُ الانصراف عن منًى عصر اليوم الثالث من أيام النحر، ومررنا بالجمرات فرجمناها، ثم أقلتنا السيارة تؤم مكة، واسترعى «حراء» نظرنا ساعة مررنا به، وأذكرني تحنُّث النبي العربي فوقه، ونزول أول الوحي وأول الرسالة عليه بعد سنوات من تحنُّثه، فلما أويت إلى الدار واشتملني مُخدعي بها جعلت أفكر: لقد أتم الله لي فريضة الحج، وها أنا ذا الآن بمكة مسقط رأس محمد، أفأغادرها إلى المدينة لأزور قبره ثم أعود إلى وطني؟! … وأطرقتُ هنيهة إذ تمثَّل لي حراء، وامتثلت محمدًا فوقه في عزلته، ثم امتثلته يوم الوحي الأول عائدًا إلى خديجة يقول: «زمِّلوني زمِّلوني»، ولمَّا تمثل لي في حياته كلها آليتُ على نفسي أن أبقى لأسير حيث سار؛ ولأتبع خطواته قبل هجرته من مكة وبعد عوده إليها فاتحًا، علِّي أتزود من ذلك بما ينفعني قبل أوْبتي إلى قومي، فإذا عدتُ إليهم عدتُ وفي يدي قبضة من أثرِ الرسول.