ابن السعود بمكة
كنت أسمع اسم ابن السعود عاهل العرب منذ زمان طويل، فلما بدأ يغزو الأشراف، وعلى رأسهم الحُسَين بن علي ملك الحجاز، كنت أتتبع أنباء النزاع بين الملكين العربيين دون أن أقف طويلًا عندها، فلما انتهى الأمر إلى فرار الحسين وإلى قيام علي ابنه مقامه، ثم إلى استقرار السُّلطان في الحجاز لابن السعود، بدأ الحديث عن هذا الفاتح النجدي لبلاد العرب يتردَّد في صحف الغرب والشرق، وقد لقيت إذ ذاك غير واحد من الصحفيين المشهود لهم بالاتزان وبدقة الحكم على الأشياء والأشخاص، فما كان أشد عجبي حين سمعت من أحدهم «فون فيزل» الألماني المعروف، مبالغة في الثناء على ابن السعود إلى حد نعته إياه بأنه «بَسْمَرك الشرق».
هذا وكان «فون فيزل» قد لقي ابن السعود، وتحدث إليه وعرف مرامي سياسته، فلما اختلفت مصر والحجاز بسبب حادث المحمل في سنة ١٩٢٦، حين اضطرَّ أمير الحج المصري أن يأمر بإطلاق الرصاص دفاعًا عن نفسه — فيما قيل يوم ذاك — بدأت الأنباء ترد بأن ابن السعود ورجاله يقيمون بالحجاز نوعًا من الحكم لا يطيقه أهل السنة ولا غيرهم من المسلمين، وأن حكم الوهابيين بالحجاز سينتهي لذلك بعدول الأكثرين عن الحج، وأن حكومة الحجاز ستلقى من جراء ذلك شدة أي شدة.
لكن الحج استمر، وبدأت أنباء جديدة تغالب الأنباء القديمة وتتغلب عليها، فالحجاز قد أصبح مضرب المثل في الأمن بعد أن كان مضرب المثل في الفوضى، وبعد أن كان الحاجُّ لا يأمن فيه على نفسه وأهله ولا يأمن على ماله، وطرق الحج قد بدأت تمهد وتجري فيها السيارات بما يكفل راحة الحجاج وطمأنينتهم، وقد أصبح الحج بسبب الأمن وإصلاح الطرق ميسورًا قليل المشقة بعد أن كان المشقة والعسر، وقد دعت حكومة الحجاز الصحفيين في شتاء سنة ١٩٣٠ إلى حفل تتويج الملك عبد العزيز، فعادوا يلهجون كلهم بالثناء على الأمن والنظام هناك، وسئلوا عن شدة الوهابيين في معاملة من لا يُرخون لحاهم ومن يدخنون، فهوَّنوا الأمر غاية التهوين، وكذلك اختفت الأنباء القديمة وجعل قُصَّاد الحجاز يصوِّرون الملك عبد العزيز بن السعود صورة خلابة تحببه إلى النفس وتدعو إلى الإعجاب به.
وقد ذهبت إلى قصره يوم دعيت لمقابلته غداة وصولي مكة، وفي نفسي منه صورة غير واضحة المعالم، لا تستبين فيها قسمات محياه ولا جِلسته أو وقفته، ونزلت من السيارة أمام باب القصر، فتخطيته إلى حديقة غرست فيها نباتات صغيرة وأزهار، ورفعت طرفي فإذا أمامي درج فسيح لم أكد أثبت نظرتي فيه حتى التفت الذي يتقدمني إلى اليمين، وسرت وراءه، فتخطينا بابًا استدرت عنده في دهليز فرش بالحصباء، ثم ألفيت إيوانًا أشار مضيفي إليَّ أن أدخله، وتلقاني وزير المالية على بابه، وأردت أن أُسرِّح بصري في المكان المفروش بالسجاد كي أجتلي منه صورة كاملة، لكن وزير المالية التفت إلى الناحية المقبلة للباب، فالتفتُّ معه فألفيتُ رجلًا ضخم الجِلْسة على مصطبة مفروشة بالسجاد وقد لبس عَباءة — أو مشلحًا على التعبير الحجازي — من الصوف البني اللون، واعتجر بصمادة مخططة بالأحمر والأبيض من فوقها عقال مُذَهَّب، وتقدم الشيخ عبد الله السليمان فأسر له شيئًا، وتقدَّم من ورائه الشيخ عباس قطان، ثم تأخرا وتقدَّمت، فوقف عاهلُ العرب ومد إليَّ يده الضخمة فحيَّاني، وأشار إلى مقعدٍ بجانبه فجلس وجلستُ، وانصرف الرجلان، وبدأ جلالته الحديث بقوله: لم أقابلك من قبل ولكني أعرفك.
واغتبطت لهذه التحية الرقيقة التي لم تكن تتفق مع ما يبدو على وجه الرجل في هذه اللحظة من اشتغال باله، وأجبت: جئتُ أقدم التحية وأعرض الرجاء في تعاون المسلمين لرفعة هذه الأماكن المقدَّسة.
وكأن لم ينس الرجل ما كان بينه وبين مصر خلال السنوات العشر الأخيرة من خلاف، ولم ينس النزاع الذي استحال حربًا بينه وبين إمام اليمن من سنتين، ولم ينس المناوشات التي كانت تقع على حدود العراق، ولم ينس هذه الخصومات تثور بين الأمم العربية والأمم الإسلامية آنًا بعد آن؛ لذلك أسرع في الجواب على ما أبديت من رجاء بقوله: نحن لا نبتغي من الدول الإسلامية غير امتناع أذاها، ويكفينا صدقُ مودَّتها معنا، ونحن ها هنا في هذه البلاد — بفضل الله لا بإرادتنا نحن — القرآن في رقابنا، وسيوفنا في جنوبنا، وأكبر ما نغتبط له أن تجتمع كلمة المسلمين، فالمسلمون أكثرهم عرب، بل كلهم عرب، واجتماع الكلمة هو أول واجب على الدول الإسلامية.
لما رأيت هذا التحفظ من جانب الرجل، وذكرت إلى ذلك أنه سيذهب إلى منًى على ركاب بعد ظهر ذلك اليوم، يوم التروية، أي: بعد ساعة أو نحوها، آثرت أن أقتحم الحديث إلى غايتي دون تمهيد لها فقلت: ونحن المسلمين نحرص على أن تكون مكة من الدول الإسلامية كجنيف من الدول الأوروبية، وأن نتعاون جميعًا لرفعة هذه الأماكن المقدَّسة.
وأجاب وما يزال في تحفظه: لقد عرفت رأيك في مكة وما يجب أن تكون عليه، وهذه الحكومة تشاطرك الرجاء في أن تكون مكة مقرَّ عصبة الأمم الإسلامية، ومكان الإصلاح بين المسلمين إذا اختلفوا، أما من أراد إحسانًا إلى حجاج بيت الله فله أجره عند الله وله شكرنا، ونحن نعلم أن الشعوب الإسلامية تؤيدنا بعواطفها، فأما الدول الكبرى كلها فتبغي رضانا.
سرَّني أن أفضى وزير المالية إلى الملك بالحديث الذي دار بيني وبينه عن مكة، وأن أبدى جلالته موافقته على رأيي، ودار بخاطري أن أوضحه، لكني حرصت على وقته فقلت: وفق الله الحكومة لإعلاء شأن العرب.
وكان جوابه: نحن قد جئنا هنا فوجدنا أمنًا مضطربًا فوطَّدناه، ووجدنا شيوخًا لهم عاداتهم وشبانًا لا سُلطان لهم، فعالجنا أمر الشيوخ لننزع بالحسنى ما خالف الدين من العادات، وأتحنا للشباب الفرصة لتأييد الفِكَر الإسلامية الصحيحة.
وأمسك الرجل من القول عند هذا الحد على سعة الموضوع الذي استفتحه، إذ ذاك قلت: أخشى أن تحول مشاغلكم الكثيرة بسبب الحج دون طول الحديث، وتحرك الرجل إلى ناحيتي حين سمع مني هذا القول وقال مبتسمًا: أرجو أن نلتقي بعد الحج.
وودعني فانصرفت، وشغلت منذ وصلت الدار بالتهيؤ لعرفات وصعوده، ولكني بقيت بعد ذلك أعود إلى التفكير في هذا الرجل المديد القامة، المفتول العضل، القوي الساعدين، الحاد النظرة، الضخم في كل شيء، وأفكر في هذا الذي قاله أثناء حديثنا وفي شدة تحفظه، فلما ذهبت ثاني يوم العيد إلى تشريفته بمنًى وألفيته يقابل الناس جميعًا، من عرف منهم ومن لم يعرف، ويقابلهم ببساطة بدوية لا شيء من التكلف فيها، ازددت عجبًا منه وإعجابًا به، وأفضيت بخواطري عنه إلى بعض السوريين من موظفي الحكومة العربية وإلى بعض الشباب العربي من أهل مكة، راجيًا أن أجد في حديثهم ما تكمل به في نفسي صورته، لقد فهمت منهم أنه رجل محبٌّ للإصلاح، ميال بكل نفسه إليه، وأنه — وهو السياسي العليم بشدة قومه — يحاول ما استطاع التوفيق بين مذهبه في الدين وبين الأمر الواقع، ويحاول هذا التوفيق بمقدرة وذكاء يبدو بهما طبيعيًّا موفقًا.
لما اشتد رجاله النجديون في تحريم التدخين على المقيمين بمكة جميعًا، سواء منهم أهل البلد ومن جاءوا إليها حاجين البيت، بدأت إيرادات المكوس «الجمارك» من الدخان تهوي سريعًا وتهبط هبوطًا تأثرت به ميزانية الدولة التي تعتمد على المكوس بقدر عظيم، وتحدث إليه رجاله في هذا الأمر من ناحيته المالية، ومن ناحية الدعاية به ضد حكومته بالحجاز بأنها تغلو في تحريم ما لا تحرمه أكثر المذاهب الإسلامية، إذْ ذاك أسرعت الحكومة بموافقته فنادت في الناس أن لا إكراه في الدين، وأن الذين يجيئون للحج من أهل المذاهب المختلفة لا جُناح عليهم أن يدخنوا أو أن يحفوا لحاهم أو أن يفعلوا ما تبيحه لهم مذاهبهم ما دام لا يُحل ما حرم الله في كتابه، والتمست الحكومة الفتوى بذلك عند عالم نجد الشيخ عبد الله بن بليهد، فأفتى بأن الدخان لا يسكر كثيره ولا قليله فهو غير محرَّم وإن كان مكروهًا، وبذلك أبيح التدخين لمن شاءه من الحجيج، وعادت موارد المكوس منه إلى مثل ما كانت من قبل تحريمه.
وكان النجديون أشد الناس طعنًا على «التليفون» و«الراديو»، وكانوا يزعمون أن الشياطين هي التي تتكلم فيهما، فكانوا لذلك يحرمون استعمالهما، ولما كانت الحاجة إلى هذه المنشآت ماسة ولم يكن الاستغناء عنها ممكنًا، فقد دعا ابن السعود كبار المشايخ وسألهم: أتستطيع الشياطين أن تتلو القرآن؟ فلما أنكروا ذلك طلب إليهم أن ينصتوا لما في سماعة التليفون فإذا هو قرآن يتلوه قارئ جميل الصوت، فلم يبق لديهم ريب في حلِّه، وكان ذلك شأنهم أمام الراديو، وكل ما استطاع غُلاتهم بعد ذلك أن يقولوه: إن هذه الآلات تصلح لنقل السيئ من الأخبار ولإذاعة المحرم من الغناء وأسباب الطرب، لكن الرد على هذا القول كان ميسورًا، فكل ما أحل الله قد يكون ذريعة لأمر محرم، الخمر بنت الكَرْم، ومن كروم الطائف كان بعضهم يصنع الخمر في البلد الحرام، فلم يكن عملهم سببًا لتحريم زرع العنب أو غيره من الفاكهة التي يصير عصيرها خمرًا إذا عُتِّقَ، وأدوات القتل هي بذاتها أدوات الصيد وأدوات الدفاع عن النفس وأدوات صد المغير على الوطن، وإنما الإرادة والتمييز عند الإنسان هما اللذان يفرقان بين الخير والشر، يبيحان الحلال ويحرمان الحرام.
قصَّ عليَّ من تحدَّثت إليهم بعض هذه الأنباء ومثلها، مما دلَّني على حيلة الرجل وسعتها، وعلى دقة إدراكه لعقلية أهل بلاده والسبيل التي يسلكها لإقناعهم وتوجيههم نحو ما يراه الخير والحق، وإن قومًا من أهل الحجاز لا يحبونه قد أرادوا يومًا أن يدلوا على مبلغ قسوته، فكان ما ذكروا دليلًا على دقة الإدراك والقدرة على التفريق بين المبادئ الواجبة الاتباع والضرورات التي تبيح المحظورات، سمعني هؤلاء أذكر ابن السعود وحكومته وأقول: لو لم يكن من أثرهم إلا أنهم أقروا الأمن في ربوع الحجاز بعد الذي كان من فساده واضطرابه لكفاهم فخرًا، قال أحدهم: لو عرفت أنهم لم يبلغوا ذلك إلا بمظالم ارتكبت لمَا أضفيت عليهم كل هذا الفخر، فلقد كانوا يأخذون البريء بجريرة المذنب، ويلقون تبعة جريمة تقع على قبيلةٍ بأسرها فيستأصلون القبيلة استئصالًا، ولولا ذلك ما تمَّ لهم ما يفاخرون به من أمنٍ مُستتب يرى الناس اليوم استتبابه ولا يذكرون كيف كان الاستتباب ولا الأرواح التي أُزهقت في سبيله.
قلت: وكم من القبائل استُؤصِلوا أخذًا للبريء بجريرة المذنب؟
وأجاب مُحدثي: المعروف عندنا قبيلة واحدة، لكني لا أستطيع ولا يستطيع غيري أن يجزم بأن غيرها من القبائل لم تُستأصل كذلك، وما تزال الشدة دَيْدَن الحكام النجديين، وإنك لتسمع اليوم عن أمير المدينة عبد العزيز بن إبراهيم ما يدل عليها، وستراه وستقف من أخباره حين تزور المدينة على ما يقطع عندك بصحة هذا القول.
قلت: والقبيلة أو القبائل التي عوقبت؛ لأن أفرادًا منها كانوا يعيثون في الأرض فسادًا، ألم تكن على علم بما يجترحه هؤلاء الأفراد؟ أو لم يكونوا هم يشعرون بحمايتها إياهم؟
وسكت محدثي هنيهة ثم قال: الحق أنهم كانوا يشعرون بهذه الحماية، وقبائلهم كانت تعرف أمرهم، لكنهم لا يزيدون في ذلك على شقي من أبناء الأسر الكريمة يجدُ في جاه أُسرته الحماية مما يأتيه من أعمال شقاوته، أفعدل أن تؤخذ الأسرة بذنبه؟! إن الله — تعالى — يقول: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ، وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ.
قلت: فإذا تعدَّت شقاوة الشقي إلى الغير، فأنذر الأسرة أن تنزع منه حمايتها فلم تفعل، وظل يأتي المنكر وهو لها جار، أفليس من حق الغير أن يُحَمِّل الأسرة وزره وأن يُنزل بها عقابه؟
لم يجد محدثي ما يحيب به عن سؤالي، وأردفت: إن كثيرًا من الأمم لتصنع ما صنع ابن السعود هنا، فحماية الأمن واجبة على الأفراد وجوبها على الحكومة، ونحن جميعًا مُطالبون بأن نعاون أولي الأمر عليها، فإن لم نفعل ثم لم نقف عند التقصير، بل شعر الجاني بحمايتنا إيَّاه، حق لصاحب الأمر أن يؤاخذنا بتقصيرنا، وأن يؤاخذنا أضعافًا مضاعفة بحماية هذا الجاني، وهذه شدة واجبة ما تعلق الأمر بالسكينة التي يجب أن يفيد الجميع منها، وإذا جاز لصاحب الأمر أن يتسامح في انتفاض سياسي يوم ينتصر على خصومه، فليس من حقه أن يتسامح في العبث بالأمن مع من يريدون كسب المال حرامًا كما يفعل أولئك الذين يعتدون على حُجاج البيت، فالحاج ضيف الله، وأولى الضيف بالكرامة ضيف الله، ذلك كان الشأن في الجاهلية، وكذلك كان يقول جد النبي، أفلم يكن من الواجب على المسلمين من أهل هذه البلاد أن يُكرموا الضيف ما كان يكرمه العرب في الجاهلية؟ فإن لم يفعلوا وعاقب ابن السعود جُناتَهم وحُماة الجناة فلا تثريب عليه، بل ذلك واجبه؛ ولذلك يشكر المسلمون جميعًا في مختلف أقطار الأرض هذا الذي جعل الطريق إلى البلد الأمين أمنًا وإلى بيت الله مهادَ سكينة وسلام.
ولقد صدَّقت أحاديثي مع ابن السعود هذا الذي سمعت من حصافته وحسن رأيه، لما تم الحج وعدنا إلى مكة اجتمع قوم من بلاد مختلفة يتحدثون فيما يجب لهذه الأماكن المقدَّسة على المسلمين — وكنا من مصر ومن العراق ومن سوريا ومن فلسطين ومن إيران — ووضع القوم قرارات لتمهيد طرق الحج وجلب الماء إلى منًى أيام الفريضة وغير ذلك مما شعرنا جميعًا بضرورته حين أداء الشعائر، ووكل القوم إلى جماعة منا أن يقابلوا ابن السعود وأن يحدثوه فيما اجتمع عليه رأي الذين تحدَّثوا في الأمر، وأفضينا إلى فؤاد بك حمزة وكيل الخارجية بما حدث؛ كي يضرب لمقابلتنا الملك موعدًا، وقابلناه مساء ذلك اليوم وقرأ أحدنا ما وقعه المجتمعون، وشرحت ما دار في الاجتماع.
فلما أتممنا حديثنا استوى الرجل في مجلسه وكان في غرفة القصر العليا، وقال: إنني شاكر لكم تفكيركم في أمر هذه الأماكن المقدسة، مقتنع بأن اجتماعكم ستكون له نتيجة متى عُدتم إلى بلادكم، وغاية رجائي أن يبقى اتصالكم بعضكم ببعض من بعدُ ليتيسر الاستمرار في القيام بشيء مما فكرتم في القيام به، ورجائي الأجلُّ من هذا أن تكون هيئتكم أكثر تمثيلًا للشعوب الإسلامية، فأنتم — على ما فهمت — تمثلون أربعة شعوب أو خمسة، ومن الشعوب الإسلامية من ليس ممثلًا معكم، ومن له من المكانة ومن الآثار في هذه البلاد في الماضي ما لا ينساه أحد، فالهند مثلًا لم يمثلها في اجتماعكم أحد، ولم يمثل أحد المغرب الأقصى ولا الصين، ثم إن في كل أمة من الأمم الإسلامية، وبينها أممكم، رجالًا سبقت منهم إلى الحجاز وإلى الأماكن المقدسة فيه أياد وأعمال برٍّ، وخير أن ينوب هؤلاء عن بلادهم، فأسماؤهم اللامعة في هذا الموضوع مدعاة للنجاح، وأذكر بنوع خاص طلعت حرب باشا في مصر، لقد عمل هذا الرجل لتيسير الحج ما استطاع، وهو على رأس مؤسسات كثيرة ذائعة الصيت في البلاد الإسلامية كلها، فلا إخالكم إلا تريدون أن تجعلوه في مقدمة الذين يشاركون في هذا العمل، والحكومة هنا ترحب بكل إصلاح يريد المسلمون القيام به لخير المسلمين جميعًا ولخير أهل هذه البلاد.
وخرجنا بعد تحيات بادلنا ابن السعود مثلها، وسألني بعض إخواني رأيي فيما حاز مشروعهم لدى الملك من القبول، فأجبت بكلمات مُطمئنة، لكني كنت أعلم أن الأمر ليس هينًا بمقدار ما ظنوا، ولقد لفتُّ نظرهم ونحن في اجتماعنا قبل أن نلقى الملك إلى أن إصلاحًا يراد إشراك العالم الإسلامي فيه، لا بد لنجاحه من تحديد أعماله ونفقاته ووسيلة تحصيل هذه النفقات واليد الأمينة التي تتولى الإنفاق منها، لكنهم كانوا متأثرين بروح الحج ولمَّا يمض على إتمامهم فرضه غير أيام، فلم يأبهوا طويلًا للاعتبارات العملية، وحسِب بعضهم أن الأمر لا يزيد على أن يُكتَتَب بقدرٍ من المال تتولى حكومة الحجاز إنفاقه في الإصلاح، ناسيًا أن اكتتابًا يتم في وقت كوقت الحج من غير أن يوضع نظام إنفاقه، لا يمكن أن يؤدي إلى الأغراض التي يقصد إليها منه، أو يزيد على صدقات تُعطى وتتولى الحكومة توزيعها في حدود المبالغ المكتتب بها توزيعًا لا يتصل بالإصلاح في شيء.
ولم يكن ما لفتُّ نظرهم إليه وليد تفكيري أو ملاحظتي وحدي، فقد اتصلتُ قبل سفري إلى الحجاز بأشخاصٍ لهم تجارب في الأمر، وتحدثت إليهم فيه واقتنعت وإياهم بما أسلفت، وكان هذا اقتناع حكومة الحجاز من جانبها هي كذلك، فقد تقابلتُ بعد يومين من حديث الملك وإيانا مع بعض رجال الحكم من الوزراء وغيرهم وتحدثنا، فأنبئوني بأن مثل هذا الاجتماع يقع في كل عام على أثر الحج، ثم تُقدَّم مثل هذه الاقتراحات إلى الحكومة، وينصرف الناس بعد ذلك إلى بلادهم، فَتُنسيهم مشاغل الحياة ما اجتمعوا فيه، وتنسيهم ما تحتاج إليه البلاد المقدسة من إصلاح، على أن هؤلاء من رجال الحكم الذين حدثوني كانوا مع ذلك كبيري الرجاء في قيام حركة الإصلاح من ناحية مصر بعد الذي أبدته حكومتها، والذي أبداه طلعت باشا حرب — كما أبداه غير واحد من رجالها — من صادق الحرص على إتمام أعمال لا مفر من إتمامها لخير المسلمين جميعًا في هذه الأماكن التي يقصد المسلمون جميعًا إليها.
مع ما أبداه ابن السعود من الحصافة في مقابلة هذا الوفد الذي ذهب إليه، فإنني لم أفز منه بصورة أقدر بها مبلغ ذكائه ودهائه، وإنما فزتُ منه بهذه الصورة عشية سفري من مكة إلى المدينة، فقد استأذنت في مقابلته لأشكر له ولحكومته ما لقيته من مُعاونتهم إياي في بحوثي أثناء مقامي بمكة وبالطائف، ولأستأذن في مغادرة مكة إلى المدينة لأعود بعد زيارتها إلى يَنْبُع فمصر، وكان ذلك في يوم السبت ٢١ مارس، وقد أخبرني مضيفي أمين العاصمة أن وزير المالية سيكون في انتظارنا بداره بجرول في الساعة الثانية والربع بالحساب العربي، أي: نحو الثامنة والربع مساء، وأننا سنذهب من هناك إلى قصر الملك كي أقابله في الموعد الذي حدده، وذهبنا إلى دار وزير المالية، فأقمنا بها ريثما تناولنا الشاي والقهوة، ثم غادرناها إلى قصر الملك فبلغناه قبيل الساعة الثالثة.
وسأل ابن السليمان فقيل له: إن القراءة انتهت، ذلك أن الإمام الذي يصلِّي بابن السعود يقرأ له بعد العشاء من كل مساء شيئًا من تفسير القرآن في تفسير ابن كثير، أو شيئًا من الحديث في ابن كثير كذلك، ويشترك الحاضرون في تبادل الرأي فيما يستمعون، وكثيرًا ما يشارك الملك في الحوار ابتغاء الحقيقة، فهذا كتاب الله وهذه سنة رسول الله، لكل مسلم منهما حظ ونصيب، فيهما هدى لكل مسلم، وهما سبيله إلى الله، فالكل متساوون أمامهما لا تفاوت بينهم بسبب مناصبهم أو جاههم أو مالهم، ويحضر الحاج عبد الله فلبي — أو سانت جون فلبي إن شئت — هذه الجلسات، وقد يأخذ في الحديث بنصيب، فهو قد درس أمور الإسلام دراسة دقيقة، وبلغ منها مبلغًا جعله يفضلها، باعتبار أنها نظام يسمو على الديمقراطية وغير الديمقراطية من نظم الاجتماع المعروفة اليوم، كذلك ذكر لي حين زُرته بداره بظاهر مكة، فإذا تمَّت القراءة انسحب الملك إلى مَخادِعه وانصرف الحاضرون الذين يجتمعون في كل مساء حوله يصلون معه ويشاركون القارئ الرأي فيما يقرأ.
أما في هذه الليلة فقد جعل الملك موعدي بعد تمام القراءة ليخلو لنا الجو، وقد دخلت عليه في هذا البهو السماوي الكبير الذي كان فيه حين قابله الوفد من أيام، فلقيني هَشًّا بَشًّا من غير تحفُّظ، وسقانا الخادم القهوة ثم انسحب، وبقيت أتحدَّث وأستمع ساعةً شعرت أثناءها أنني انتقلت على الزمن إلى عهود العرب الأقدمين، لولا ما كان يتناوله الحديث من شئون متصلة بحياة العالم الحاضر.
ولقد غادرت الرجل بعد هذه الساعة شاكرًا رقة عواطفه مقدرًا هذه الثقة التي انعقدت بيننا أواصرها بعد الذي كان من تحفظه أوَّل ما لقيته يوم التَّروية، راجيًا أن تحقق الحوادث ظني فتزيل ما بين مصر وبينه من جفاء، فلقد كنت لقيت رئيس الوزارة المصرية قبيل سفري، وأفضيت إليه بما يتردد في خاطري من الأسف للجفوة بين مصر وحكومة البلاد الإسلامية المقدسة، ولما بادلني علي ماهر باشا الرجاء أن تزول هذه الجفوة، على رغم ما في نفس الملك فؤاد من الاعتقاد بعدم صراحة هؤلاء العرب وصدق إخلاصهم فيما يقولون، تحدثتُ في ذلك إلى وزير المالية السعودية وإلى وكيل الخارجية فؤاد بك حمزة، كما أفضيتُ به إلى رجال القنصلية المصرية بجدة، ولقد ترك الحديث الذي دار بيني وبين ابن السعود تقديرًا للرجل في نفسي أكتفي عن بيانه برواية ما وقع تاركًا لمن شاء أن يُبدي فيه من الرأي ما يشاء.
بدأتُ حديثي بشكر جلالته وشكر حُكومته على معاونتهم إياي في بحوثي، وأبديت له عظيم إعجابي لما تم في الحجاز، وخاصةً في أمر الأمن، ورجوتُ له ولحكومته دوام التوفيق فيما أخذوا أنفسهم به من إصلاح هذه الأماكن المقدَّسة، وما يعتزمون فيها من مشروعات لخير أهلها وخير المسلمين الذين يقصدونها جميعًا، هنالك قال جلالته: نحن لا فَضْلَ لنا في شيء من هذا، وإنما الفضل كله لله، وأنا لم أفكر يوم تركت نجدًا إلى هذه البلاد في حُكمها أو في الإقامة بها، ولقد بقيتُ معتزمًا العَوْد إلى بلادي متى تمَّ لي مقصدي من تأمين حدود نجد والحصول للنجديين على حرية المجيء إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، لكن إرادة الله كانت غالبة فلم يكن بدٌّ من نفاذها ومن أداء ما فرض الله عليَّ أداءه.
لما فكرتُ منذ خمس وثلاثين سنة في القيام ضدَّ ابن الرشيد؛ كي أسترد منه حقوق آبائي لم يكن حولي يومئذٍ من يؤازرني، ولقد عمل آبائي منذ عشرات السنين ليقروا التوحيد الصحيح وحكم الكتاب الكريم في هذه الربوع التي انبعث منها نور التوحيد، فرأيت هذه الدعوة خير ما أقوم به وما أقيم على أساسه جهادي، وعاهدتُ أربعين رجلًا من أهلي فأقسموا لينصرُنَّني فيما أريد أو نموت جميعًا، وخرجنا نبغي «الرِّياض» وسيوفنا معنا واعتمادنا على الله، وغامرنا مخاطرين، والظفر يحالفنا حينًا وتدور علينا الدائرة حينًا آخر، ثم استقرَّ لنا الأمر بالرياض، والتفَّ حولنا من العشائر ما كان ملتفًّا حول أجدادنا، ولما استتب لنا الأمر في نجد رأيت الشريف وأبناءه من حولي، ورأيت الملك حسينًا في الحجاز يحاول أن يصدَّ قومي عن بيت الله ويأبى أن يتصالح وإيانا في مؤتمر الكويت، عند ذلك طلبت إلى رجالي أن يذهبوا إلى الطائف وأن يحتلوها، وأن يقفوا عندها حتى أعرف ما يئول إليه الأمر من بعد.
ولقد قدَّرت يومئذٍ أن إنجلترا لا يرضيها أن نتقدم في الحجاز، وأنها ستقف منا ما وقفت من قبل صديقةً وحامية للملك حسين، وكنت حريصًا على استبقاء ما بيني وبين الإنجليز من علاقات المودَّة، ولكني رأيت حسينًا ينقض كل عهوده معنا ومع غيرنا ولا يعبأ بعلاقات الصداقة يربط بها بينه وبين الأمم الإسلامية المختلفة، فلم أر بدًّا من إقناعه بضرورة الاعتدال، واحتلال الطائف خير وسيلة لهذا الإقناع، وأقام رجالي ببادية الطائف زمنًا، انهزم أثناءه رجال الحسين وتضعضعت قوتهم، وعز على الملك حسين أن يتصالح وإيَّانا وقد كان يحسب في مؤتمر الكويت أنه قدير أن يفرض علينا إرادته، فآثر الانسحاب من مكة إلى جدة والنزول عن الأمر لابنه علي.
وتوسطت إنجلترا أثناء ذلك تريد الصلح، على أن حادثًا وقع دعاها أن تترك الأمر في الجزيرة لمن يتمُّ له الغلب، ذلك حين طرد الأتراك الخليفة العثماني من بلادهم وتلقته إنجلترا حامية إيَّاه، فقد ارتجَّ العالم الإسلامي لهذا الحادث، إذ قامت جمعية الخلافة في الهند تنادي بأن الخلافة من أمر المسلمين دون سواهم، وتنادَى الناس من البلاد المختلفة أن أمر المسلمين في شئونهم الدينية يجب ألا تتدخل فيه دولة مسيحية، من أجل ذلك آثرت إنجلترا أن تترك المسلمين يفعلون ما يشاءون، حتى لا تُتهم بأنها تنصر فريقًا منهم على فريق لأغراضها السياسية، وشجعني ما حدث بعد ذلك على التقدم، فحاصرت جدة ونقلت ميدان جهادنا إليها، كما ذهبت قوات نجدية إلى المدينة.
إلى يومئذٍ لم يكن حُكم الحجاز قد دار بِخَلَدي، وكل ما كنت أبتغيه أن أجلي عنه جماعة الأشراف فأخلِّصه بذلك من مظالمهم ومن عبثهم، فإذا فرغت منهم جعلتُ الأمر فيه للمسلمين كافةً يرون في أمره رأيهم، ولقد أذعت على العالم الإسلامي كله رسالة صارحته فيها بهذا العهد أن يكون الأمر له في مصير الأماكن المقدسة، وكنت كلما تحدَّثت إليَّ إنجلترا أو تحدث إليَّ غيرها في الصلح كان هذا العهد جوابي لهم، وهذا العهد هو ما كاشفت به الأستاذ الشيخ المراغي حين جاء في سنة ١٩٢٥ مع عبد الوهاب بك طلعت موفدين من قبل جلالة ملك مصر للبحث في أمر الحجاز، ولقد زدت عليه أنني لا أبتغي ملكًا ولا خلافة، وأنني أرحب بملك مصر ملكًا للحجاز برضا أهله، وكان عزمي متجهًا إلى عقد مؤتمر لتنظيم شئون الحجاز بمشورة ذوي الرأي في العالم الإسلامي يكون له اختيار ولي الأمر فيه، وأذعتُ منشورًا بذلك على أهل الحجاز كي يخلدوا إلى السكينة حتى ينعقد المؤتمر لينظر في مستقبل الحجاز ومصالحه.
لم أكد أذيع هذا المنشور حتى جاء إليَّ وجوه أهل الحجاز، وجاء إليَّ رؤساء العشائر من نجد، وكلهم غاضب يحتج على هذا المصير الذي أُريده لهم، قال أهل الحجاز: كيف يقرر المسلمون من مختلف أقطار الأرض مصيرنا وطريقة الحكم في بلادنا؟! والحجاز لنا ونحن أهله وأولى الناس بالرأي في أمره وباختيار الحاكم الذي يتولى شئونه، وليس للمسلمين أن يشاركونا في غير الحج وما يتصل منه بشأن مكة والمدينة، وقال رؤساء العشائر من أهل نجد: نحن فتحنا هذه البلاد وطهرناها من الأشراف واخترناك قائدًا لنا وأميرًا علينا، فإن شئت أن تنزل عن القيادة والإمارة فإنما يعود أمرها لنا لا للمسلمين من الهند والجاوة والصين ممن لا يعرفون من شئون هذه البلاد شيئًا، وقال أهل الحجاز: إنك هنا منذ سنين عرفناك أثناءها وعرفنا أغراضك وطريقة حكمك، فنحن نختارك ملكًا علينا، وقال رؤساء العشائر من أهل نجد: أنت أميرنا المختار ما لم تنزل — على رغمنا — عن هذه الإمارة، وألحَّ هؤلاء وأولئك وأعادوا القول في أيام متعاقبة؛ فلم يكن لي بدٌّ من النزول على إرادتهم بعد أن رأيت الشعوب الإسلامية لا تبدي بأمر المؤتمر الذي دعوت إليه أية عناية، وكذلك بايعني أهل الحجاز ملكًا عليهم.
قلت: لعل هذا ما أحفظ ملك مصر، فقد فهم من حديثكم مع الأستاذ المراغي أنكم جعلتم أمر الحجاز له، وأنكم كنتم على أهبة معاونته في تحقيق هذا الغرض، فلما بايعكم أهل الحجاز ملكًا عليهم عدَّ الملك فؤاد هذا الأمر نقضًا لعهد عاهدتموه عليه.
هذا ما لم يخفَ عليَّ يومئذٍ، ولقد فكرت طويلًا في كلام أهل الحجاز ورءوس العشائر من نجد قبل أن أقدم على قبول ملك الحجاز مخافةَ ما قيل، لكنَّ الأمر كان قد تحرَّج؛ إذْ بلغ القلق من نفوس أهل الحجاز على مصيرهم ما خشيت معه اضطراب الأمر إن لم أقم بعملٍ حاسم، ولم يكن العمل الحاسم ممكنًا بقوة السيف وقد كان موقف رؤساء العشائر من نجد ما شرحت لك، ولو أنني حاولت يومئذٍ شيئًا من ذلك لازداد الأمر اضطرابًا، ولقامت الفتنة بين عشائر نجد، وانقلب الأمر إلى نقيض ما أبغي ويبغي كل مسلم محب لهذه البلاد.
ولقد دعوت إلى المؤتمر، واجتمع ها هنا بمكة بعد ذلك الحادث بأشهر، ووضع قرارات لم ينفذ منها شيء؛ لأن المطامع في ملك الحجاز انكمشت فلم تحرك المؤتمرين عاطفة لها في نفوسهم سلطان هذه المطامع، على أنني بقيت عند رأيي من أنني لا مطمع لي في الخلافة، ولقد دعا جلالة الملك فؤاد بمصر إلى مؤتمر للنظر في مسألة الخلافة بعد أن انفضَّ مؤتمر مكة، وكان من رجالي من دعي إليه، وقد بعثت يومئذٍ إلى جلالة الملك برسالة رقيقة ذكرت فيها مؤتمر الخلافة ودعوة رجالي إليه، وقلت: إنني أوَّل من يبايع بها إذا بايع أهل مصر بها مليكهم، وأبديت الأسف ألا يستطيع رجالي الذين دعوا إلى المؤتمر أن يشتركوا فيه؛ لأنهم لم يدعوا عن طريق حكومتهم، وأنهم وقد بايعوني ملكًا عليهم، يبايعون معي بالخلافة مَن يبايعه أهل مصر بها.
مع ذلك ظلت الحكومة المصرية حانقة علينا، ولما جاء المحمل في تلك السنة التي كان فيها مؤتمر الخلافة لم يحفل رجاله بعقائد أهل نجد الدينية، ومع أننا رجوناهم أن يحتاطوا لكي لا يقع احتكاك بسبب هذه العقائد، وعملنا جهدنا لضبط عواطف رجالنا، فقد حدث ما تعرفونه من إطلاق حامية المحمل نيران المدافع على المسلمين من النجديين، وقمت بنفسي أول ما بلغني الخبر وقام معي أبنائي، فعملنا جهدنا حتى حصرنا الشر في أضيق حدوده، ولم أرد أن أُكَبِّر من شأن الحادث، فلم أذع أنه قتل فيه خمسة وستون رجلًا وخمس وثلاثون امرأة من عشائر نجد، وإنما فعلت ذلك إبقاءً على ما رجوتُ بقاءه من علاقات المودَّة بيني وبين مصر، لكن حكومة مصر عاملتنا معاملة أدى بنا الحذر إلى توقعها، وإن لم يجر بخاطرنا أن تبلغ ما بلغت، فقد أبدت حكومة مصر أنها سترسل كسوة الكعبة أيًّا كان الرأي في المحمل وإرساله، وبقينا ننتظر مجيء هذه الكسوة إلى أواخر ذي القعدة، إذْ جاء النبأ بأن حكومة مصر لن ترسلها، وهذه مسألة لا ضرر منها، فنحن قادرون على القيام بها، ولكنك تقرُّني على أنها مسألة تَغِيظ، فأمرت رجال حكومتي فعملوا ليلًا ونهارًا حتى كسونا الكعبة في العاشر من ذي الحجة على سابق العادة، ومن يومئذٍ أنشأنا دار الكسوة بمكة، فأنشأنا بذلك صناعة لم تكن متداولة في هذه البلاد من قبل.
قلت: إنني أعتقد أن الوقت قد حان لحلِّ المسائل المعلقة بين مصر والحجاز جميعًا؛ فقد أثبت الزمن أن لا خير لأيهما في بقائها من غير حَلٍّ، وما بذل من المجهود في هذا السبيل أثناء السنوات الماضية كان يعترضه قرب العهد بهذه الحوادث التي تركت من الأثر في النفوس ما لم يتيسر التغلب عليه، ولقد فهمتُ قبل حضوري إلى هنا من حديث جرى بيني وبين رئيس الوزارة المصرية أنهم يرحبون بإعادة النظر في كل اقتراح مقبول يُعرَض عليهم، وفهمت من محادثاتي مع رجال حكومتكم هنا أنهم حريصون — من جانبهم — على حلِّ هذه المسائل، خصوصًا وقد حل الزمن غير واحدة منها كمسألة الجنسية، هذا وعواطف الشعب المصري إزاء الحجاز عواطف مودَّة صادقة، وشعب الحجاز يبادل هذه العواطف بمثلها فيما رأيت، وهذا — في نظري — خير عربون لتسوية حالة معلقة يوَدُّ الجميع تسويتها.
قال جلالته: لقد جاءني قنصلكم حافظ عامر من خمس سنوات يحدثني مثل هذا الحديث، وقلت له يومئذٍ: اسمع يا حافظ! إنكم تقولون: إنكم أكثر منا حضارةً وعلمًا، وإننا قوم من البدو، وبيننا وبينكم في ذلك مراحل، وأنا أوافقكم على هذا، إذا كان ذلك شأنكم وكنتم ترون أننا نطمع في مسألة صغيرة كالاعتراف بنا؛ كي تكون مقدمة لتسوية مسائل ترون في تسويتها خيرًا لكم وللمسلمين وللبلاد المقدسة، فلم لا ترضوننا بهذه المسألة الصغيرة؛ مسألة الاعتراف؛ لتأخذونا في كَنَفكم وتحت جناحكم؟! إن عدم اعترافكم بملكي على الحجاز لن ينزع هذا الملك عني بعد أن اعترفت به إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وكل الدول العظمى، فالمُلْك أمر واقع لا ينزعه إلا أمر واقع يتغلب عليه، وما بيننا وبينكم من المصالح قد اقتضاكم إنشاء قنصلية لكم بجدة، واقتضانا أن يكون لنا وكيل لديكم بالقاهرة، يرعى هذا وذاك ما لا سبيل إلى إنكاره من هذه المصالح، أليس عجيبًا أن يكون ذلك واقعًا، ثم نتجاهله وتتجاهلونه؟!
ولقد أبدى حافظ عامر اقتناعه بأقوالي وما عرضه فؤاد حمزة عليه من حُلول للمسائل التي بيننا وبين مصر، ووعد أن يُقنِع الحكومة المصرية برأيه، لكنه لم يعُد بعد ذلك إلى الحديث في هذه المسائل.
ولم يفتني في وقت من الأوقات أن أعمل ما استطعت لتقريب مسافة الخلف بين هذه البلاد ومصر، فقد أرسلت حافظ وهبة في سنة ١٩٢٨ إلى مصر فعرض حلولًا كثيرة، ولكنه لم يجد استعدادًا من لدن مصر لقبول ما عرضه، وإنني لسعيد بما ذكرته من حسن استعداد الحكومة المصرية الآن؛ فإنني أُكِنُّ لجلالة الملك فؤاد كل احترام ومحبة، وأعتبره في منزلة والدي عبد الرحمن.
شكرت لجلالته هذه العواطف نحو مصر ومليكها، وشعرت بأنني استنفدت غير قليل من وقته، فقلت: لقد سعدت بما اتصل بين جلالتكم وبلاد العراق من حسن العلاقة، وسعدت كذلك بما كان من ترحيبكم بوساطة المسلمين بينكم وبين إمام اليمن، ويسعدني أن يتصل هذا العمل في توثيق أواصر المودَّة بين هذه البلاد العربية والإسلامية المتجاورة، وإني أستأذن جلالتكم في مغادرة مكة شاكرًا، راجيًا لكم ولرجال حكومتكم كل التوفيق.
وحسبت الرجل يتحرك فيأذن لي بالانصراف؛ لكني رأيته استدار قليلًا إلى ناحيتي وتوجَّه إليَّ أكثر من ذي قبلٍ وقال: اسمع يا أخي! إنَّ هذا الكلام الذي تقوله حَسَن، وهذه البلاد العربية والإسلامية المتجاورة ترتبط منذ مئات السنين بروابط قوية إذا تعهدها من يعنيه أمرها ازدادت متانة وقوة، وليس أحبَّ إليَّ من أن تتَّحِد هذه البلاد كلها في أغراضها مع بقاء كل منها محتفظًا بكيان سياسي له وحده الخيار في تغييره، لكنَّني أقول لك: إن الدعوة إلى هذه الوحدة لا يجوز الاعتماد فيها علينا معشر الملوك، ولا يجوز الاعتماد فيها على الحكومات؛ فنحن مرتبطون مع أسلافنا بماضٍ له فينا أثر لا نستطيع الفكاك منه، ونحن مرتبطون كذلك باعتبارات سياسية لها عندنا وزنها، ثم إن للملوك مطامع تجعلهم يحيدون، حرصًا على تحقيقها، عن الفكرة التي لا يُضطرُّ أمثالك أن يحيدوا عنها لمثل هذه الاعتبارات، والحكومات خاضعة للأحوال المحيطة بها، مضطرة لمجاراة ظروفها، ويوم علمت أن سعد زغلول قَبِل تولي الوزارة في مصر لم يخامرني ريب في أنه سيضطر إلى النزول على حكم الظروف في أمر الغرض الذي ندب نفسه كي يحققه لبلاده، فأما الرجال الذين يؤمنون بفكرة ويهَبُون لها حياتهم، لا يبتغون من ورائها حكمًا ولا سلطانًا، وإنما يريدون لها أن تتحقق، فأكثر أمرهم أن يصلوا إلى غايتهم، وفكرة الإخاء الإسلامي فكرة سامية بلا ريب من غير حاجة إلى سند لها من وحدة سياسية تُؤازرها، وإني لأرجو لك ولأمثالك ممن يدْعُون إليها التوفيق والنجاح.
واعتدل ابن السعود ووقف بقامته الطويلة ومدَّ إليَّ يده الضخمة وصافحني بحرارة، ورجا لي الخير قائلًا: اعتمد عليَّ يا أخي واعلم أنني دائمًا أخوك. فشكرت له هذه العواطف وودعته راجيًا أن أراه من بعدُ بالحجاز وبنجد حين أعود إلى هذه البلاد.
خرجت من عنده وهبطت الدرج يتقدمني حاجبه، وألفيت وزير المالية وأمين العاصمة بالطابق الأوَّل، فلما رأياني ذكرا لي والغبطة بادية عليهما أنني قضيت مع الملك ساعة كاملة، وبادلني وزير المالية التحية، وعدت مع مضيفي أمين العاصمة إلى داره وأنا أفكر في هذا الملك البدوي وحديثه، وأذكر ما قاله لي أولئك الصحفيون الغربيون الذين أعجبوا بذكائه ومقدرته على كسب محدِّثه، وأذكر حديث أولئك الحجازيين الذين كانوا خصومه أول دخول النجديين مكة، والذين بلغت خصومتهم أن هجر أكثرهم بلاده، فذهب منهم إلى الهند من ذهب، وذهب إلى جاوة من ذهب، ثم عادوا بدعوة منه وأصبحوا اليوم في مقدمة العاملين مع رجال حكومته من أهل نجد.
من هؤلاء شاعره اليوم الأستاذ إبراهيم الغزاوي، فقد هجر هذا المكي الحجاز وذهب إلى الهند وأقام بها، واحتمل لفراق أهله وذويه أشد الألم، ثم لم يعُد إلا بدعوة من ابن السعود وإلحاح من أهله أن يرجع إليهم ليرى بعينه أن الأحوال بالحجاز صارت إلى خير مما كانت عليه في كل عهد سلف، ومنهم الشيخ طاهر الدباغ الذي يتولَّى اليوم إدارة المعارف، والذي سافر مع الغزاوي إلى الهند وظل مقيمًا بها إلى ما بعد عودة الغزاوي منها، وغير هذين كثيرون كانوا كلهم يتمنون أن تكون حكومة الحجاز للحجازيين، وأن يكون ملك الحجاز رجلًا من أهل الحجاز، لكنَّهم جميعًا يقرون بأن أحوال الحجاز اليوم خير مما كانت في أي عهد عرفوه.
ولقد أقر هذا القول كثيرون من غير أهل الحجاز، ومنهم جماعة من بني وطننا المصريين، فقد تحدثت إليهم وسألتهم فيما يشكو بعض شبان الحجاز منه من إنفاق أموال الدولة في أمور ليست جليلة الخطر في حياة الدولة، ومن إسناد أعمالها إلى غير أبنائها، فقيل لي: إن كثيرًا من الأمور في حاجة إلى الإصلاح هنا، ومن المستطاع أن تُوزَّع ميزانية الدولة على نحو أكثر فائدة وجدوى مما يحدث اليوم، فأما ما لا مِرْيَة فيه فهو أن الحجاز لم يتمتع منذ مئات السنين بما يتمتع به اليوم من أمن، وأن الأخلاق العامة في المدن أرقى كثيرًا مما كانت، وأن ما يُنْفَق في التعليم وما إليه من مرافق الإصلاح أكثر مما كان ينفق في العهود السالفة جميعًا، قال لي طبيب مصري أقام بمكة سنوات طويلة: «إنني لم أر فيما رأيت أو سمعت عهدًا كهذا العهد بالنسبة للحجاز، وحسبي أن أذكر لك أن أمَّ القرى هذه كانت مثلًا في الاستهتار الخُلقي قبل حكم النجديين، حتى لقد كان الرجل لا يأبى أن يسير وفي صحبته غلام يعرف الكل صلته به، وأن كل شيء فيها كان مباحًا في رأي أهلها؛ لأن الحج إليها مصدر المغفرة، أما اليوم فلا يقع شيء من ذلك في العلن، وما يتصل أمره بأولي الشأن مما يقع خفية يعافه الناس فلا يجد مشجِّعًا عليه، ولو أن الحكومة وجدت أموالًا أكثر مما تجد، ورجالًا أقدر وأكثر كفاية ممن عندها اليوم، لاستطاعت أن تقوم بأضعاف ما قامت به من إصلاح.»
ولقد أبدى مثل ملاحظة الطبيب المصري بعض رجال الحكومة العربية السعوديَّة حين ذكروا أن ابن السعود قد شُغِل منذ فتح الحجاز بحروب خارجية، وثورات داخلية استنفدت الكثير من جهده ومن مال الدولة، ولولا ذلك لكان الإصلاح أشمل وأوضح. ويرجع بعض الثورات إلى أن قومًا من رءوس العشائر الذين أخلصوا للدعوة الوهابية ما أخلص ابن السعود، كانوا يبالغون في إخلاصهم، حتى ليعتبرون غيرهم من المسلمين كفارًا ومشركين؛ لذلك لم يرضهم أن يتصالح ابن السعود مع غيره من المسلمين على المذهب، أو يتهاون فيما يرون التهاون فيه إقرارًا للكفر، ومن ثم لم يستطع ابن السعود أن يوجِّه من الجهود إلى الإصلاح غاية ما يرجو؛ لأن الاستقرار الواجب للقيام بالإصلاح ما يزال معرضًا لهزات الثورات، والحروب تستنفد من أموال الدولة أكثرها.
أما عن الرجال وكفايتهم فلابن السعود فيهم رأي لم يضنَّ عليَّ به أثناء هذا الحديث الذي رويته، قال: لقد فكرتُ في الاستعانة برجال من المشهود لهم بالقدرة والكفاية من أهل البلاد الإسلامية المختلفة، لكنني قدَّرت أن يكون لهؤلاء الرجال من المطالب في الإصلاح ما قد تنوء به موارد هذه البلاد، فإن أن أجبتهم إلى إصلاح لا أشك في فائدته اضطررت إلى اقتضاء أموال لا يهون على الناس دفعها فتعرَّضت لامتعاضهم، وإن أنا لم أجبهم إلى ما يطلبون من هذا الإصلاح خلقتُ لنفسي منهم خصومًا، وما أشد حاجتي إليهم أعوانًا ومؤازرين! لذلك أكتفي بما تطيقه موارد البلاد وما يطيقه أهلها من تدرج بطيء، وقديمًا قالوا: «في الأناة السلامة.»
لست أريد في ختام هذا الفصل أن أحكم لابن السعود أو عليه، وحسبي ما قصصت من هذا الحديث الذي رويته عنه، وهذه الأنباء التي يقصها الناس عن آثار حكمه، وإنما أضيفُ إلى ما سبق أن الرجل خرج بنجد من عُزلة كانت فيها بعيدة عن العالم، وأتاح لهؤلاء البدو أن يتصلوا من طريق المخترعات الحديثة بعالمنا السريع التغير والتطور، فهذا النجدي الذي كان لا يعرف غير بعيره أو جواده من عشر سنوات مضت قد أَلِف السيارة والطيارة والإذاعة اللاسلكية، وأدرك أنها من عمل الإنسان، وكان يحسبها من قبل من عمل الشيطان، وهو اليوم يفيد من مزاياها ما يقربه من العصر وأهله وما يُعِدُّه لتطور سريع لعلنا نراه بأعيننا قريبًا.
روى بعضهم حديثًا لطبيب أوروبي يقيم بالأحساء أو بالكويت يدعى الدكتور «ديم» قال في أثنائه: «لقد غزا أهل نجد الحجاز بقوة سواعدهم وثابت يقينهم، ولم يجد الأعرابي القليل الحاجات والمطامع مشقة في الانتصار على ابن الحجاز الذي أَلِف رخاء العيش وطمأنينته، لكن أهل الحجاز غزوا نجدًا في حياة أهلها وفي عاداتهم غزوًا أعمق أثرًا، فهذه الصِّمادة الحجازية البيضاء النظيفة قد بدأت تحل عند النجديين محل صماداتهم ذات المربَّعات الحمراء، وأهل نجد يشربون الشاي اليوم أكثر مما يشربه أهل الحجاز، وكانوا قبل الغزو لا يعرفونه ولا يعرفون القهوة، ومن طريق العيش ورخائه بدأت أخلاق أهل نجد تعرف الهوادة والتسامح، وكانت من قبل متعصبة لا يطيق أحدهم أن يضع يده في يد من لا يدين بمذهبه ولا يعتقد عقيدته.»
مدلول هذه العبارة من كلام الدكتور «ديم» أن تبادل الغزو بين أبناء نجد وأبناء الحجاز قد مهَّد الطريق لوحدة في شبه الجزيرة أدنى إلى الاتصال بحياة العالم الحاضر، وأدنى كذلك إلى انتشار قوَّة جديدة في حياة هذا العالم لم تكن معروفة من قبل.
وابن السعود هو الذي مهَّد لهذه الوحدة، وهو الذي لفت أنظار المسلمين في مختلف أنحاء العالم إلى البلاد العربية وأهلها، ولم يكن يفكر أحد فيها من قبلُ إلا من جهة أنها البلاد المقدسة.
تُرَى هل لهذا البعث من مغزى في حياة العالم الإسلامي؟ لا يزال الجواب عن هذا السؤال مطويًّا في ضمير الأيام.