الجمعة في الحرم
المسجد الحرام مثابة المسلمين الذين يفدون إلى مكة من أقطار الأرض جميعًا في أشهر الحج؛ وهو مثابتهم ما أقاموا بأم القرى؛ يفدون إليه لصلاة الفجر وعند الظهيرة، ويعودون إليه لصلواتهم الأخرى، وللطواف بالبيت كلما هَوَتْ نفوسهم إلى التطوُّف به، وهم يقضون فيه الساعات الطوال يتحدثون أثناء النهار، ويستمعون إلى جماعة من الفقهاء يحدثونهم في الإسلام ويفَقِّهونهم في الدين قِطَعًا من الليل، وإنَّ منهم لَمَن يقضي فيه يومه يجاور البيت، ومنهم من ينصرف نهاره إلى شئون الحياة، فإذا أقبل الظلام قضى بالمسجد ليله يقوم إلا قليلًا، يذكر الله كثيرًا، ولا ينال من النوم إلا القدر الذي يكفيه لسعي النهار وتهجُّد الليل.
لذلك قلَّ أن يصلي بغير المسجد الحرام أحد من المقيمين بمكة على كثرة مساجدها، وما رأيت أحدًا قام بهذه المساجد مصليًا على كثرة مروري بها ووقوفي عندها، ولا تُقام بها صلاة الجمعة مطلقًا، ومن ذا الذي تطاوعه نفسه وهو بمكة على أن يصلي بمسجد غير المسجد الحرام والإجماع منعقد على أن مثوبة الصلاة به تزيد على مثوبة الصلاة بغيره أضعافًا مضاعفة؟ وهذا الإجماع صحيح أساسه، فالإسلام دين جماعة ودعوة للجماعة، ولا شيء يمقته الإسلام كالخروج على الجماعة في غير حق، ولا تجد الجماعة بمكة مكانًا كالمسجد الحرام مقام بيت الله لتقوم بفروض الله فيه.
وصلاة الجمعة بالحرم من أروع مظاهر الإيمان في الجماعة الإسلامية، هذا الإيمان القويُّ في بساطته، البالغ في قوَّته، الذي يجمع بين الحرية والنظام جمعًا لم أقف على ما يقرب من رفعته في أيٍّ من الملل والنِّحَل الحديثة أو القديمة التي اطَّلعتُ عليها، ولقد رأيت في أسفاري الكثيرة ببلاد يدين أهلها بغير الإسلام من شعائر العبادة ومن نظم الجماعة ما فيه مهابة ورهبة ونظام، ولقد حضرت صلاة الجمعة في بلاد إسلامية شتَّى، ولكني لم أر في شيء من ذلك ما قد يقرب في جلال مظهره وقوة روعته، وفي جَمْعِهِ بين الحرية والنظام، وبين الاعتداد بالذات والإسلام لله، مما رأيت في صلاة الجمعة بالمسجد الحرام، ولم يطبع شيء من ذلك كله من الأثر العميق في نفسي ما طبعته صلاة الجمعة بالمسجد الحرام من أثر بالغ في عمقه، فما أفتأ كلما أذكره أشعر به متغلغلًا في أطواء روحي، يسمو بها إلى ذروة الإيمان، ويرقى بها إلى ما فوق مستوى الإنسانية الذي نألفه.
قصدتُ إلى المسجد ومعي صاحبي، ودخلنا وما يزال بيننا وبين أذان الظهر فسحة من الوقت تزيد على ربع الساعة، مع ذلك وجدنا الأماكن الظليلة حينما دخلنا صحن المسجد قد اكتظت بالذين سبقونا إليها، وبقي صحن المسجد خاليًا إلا من حَمَام الحِمَى، وسرنا نتخطى الصفوف نلتمس لنا فرجةً للصلاة، فلا تقع العين بين الجالسين على موضع لواقف، ثم رأيت صاحبي وقف على قوم وتحدَّث إليهم، ثم أشار إليَّ فدنوت منه، فتَفَسَّح القوم حتى استطعت أن أقف بينهم، وانطلق هو بين الصفوف يلتمس لنفسه مكانًا آخر، وصليت ركعتين ثم جلست ما استطعت أن أجلس، وسرحت الطرف فيما حولي، وأسرع إليَّ جار يميني وجار يساري فمدَّ كل منهما يده مسلِّمًا عليَّ، بعد أن أتممت ركعتيَّ، سلام تحية فيه مودة وفيه إخاء، وتفرَّستُ أثناء السلام في وجه كل منهما فلم تهدني سيما أيهما إلى جنسيته، ولا دَلَّتْني على شيء إلا أنه ليس من أهل هذه البلاد، وعدت أسرِّح طرفي ناحية صحن المسجد فإذا الناس يَفِدون إليه في سيل دافق، يحاول السابقون منهم أن يكون مجلسهم أدنى إلى منبر الخطيب أو إلى أحد المكبريات حول الكعبة، وامتلأ الصحن في دقائق حتى لم يبق موضع لواقف، وجعل الوافدون إليه يتخطون صفوفه يلتمسون لهم مكانًا كما كنا نتخطى الصفوف في ظلال القباب نلتمس لنا مكانًا، ومنهم من إذا تَهَيَّأ له المكان جلس فيه، ومنهم من يؤدي للمسجد تحيته بصلاة ركعتين، ولما لم يبق بالمسجد موضع أقام الناس خارجه يأتمُّون لصلاة الجمعة بإمامه، مكتفين بصلاة الجماعة وثوابها، وإن لم يكن لهم ولا لكثيرين ممن وصلوا المسجد رجاء في سماع خطبة الإمام.
وعلا صوت المؤذن بالنداء للصلاة: الله أكبر، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، ما أجمل هذا النداء وأعظم وقعه في النفس! إنها لتهتز له وتفيض حين سماعه إكبارًا وتقديسًا، والقلب والروح وكل جارحة وكل عضو تتجاوب لسماعه وتردد صداه في إيمان وإسلام، وكلما ألقى المؤذن مَقطعًا منه دوَّى المسجد بالجواب عليه صادرًا من عاطفة قوية في صدق إيمانها بالله؛ فلا يكاد المؤذن ينادي: «الله أكبر، الله أكبر»، حتى يجيبه المسجد كله كتلة واحدة: «الله أعظم والعزَّة لله»، ولا يكاد ينتهي من ندائه: «حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح» حتى يدوِّي المسجد كله مجيبًا: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، ويربط هذا النداء وتربط هذه الإجابة بين قلوب المصلين برابطة تزيد إخاءهم في الله قوة على قوة، فتنهار الفوارق بينهم، ولا يبقى منهم قويٌّ وضعيف، ولا غنيٌّ وفقير، بل يصبحون رجلًا واحدًا وقلبًا واحدًا كله الإيمان بالله، والتوجه إلى جنابه — جل شأنه — توجه صدقٍ وإخلاص.
وأتم المؤذن أذانه، فقام من شاء يصلي ركعتين لله تعالى، وأقام القوم بألوفهم المؤلفة ينتظرون خطبة الخطيب ليؤمهم بعد ذلك في صلاة الجمعة، وسكن كل من في المسجد وما فيه حين بدأ الخطيب يتكلم، أما نحن البعيدين عنه فلم نسمع مما قال شيئًا، وما أحسب الأكثرين من الحاضرين كانوا خيرًا منَّا في ذلك حظًّا، أنَّى لصوت رجلٍ ينطلق في الفضاء فلا يحجزه جدار أن يصل إلى هؤلاء الذين جلسوا في مئاتٍ متلاصقة من الصفوف وكلهم متوجِّه إلى ناحية الكعبة من جهاتها الأربع؟ قلت في نفسي: أليس من الخير أن يستعين الخطيب بمكبر للصوت ينقل خطبته إلى جميع المصلين في المسجد وفيما وراء جدرانه؟ إن خطبة الجمعة ركن من أركانها، والغرض من خطبة الجمعة إرشاد الناس إلى ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم حسب الأحوال المحيطة بهم، وهي تتكرر في كل أسبوع؛ لأن الحوادث تتلاحق بما يحتاج الناس معه إلى من يرشدهم إلى الخير يسلكون سبيله، وأيُّ رشد إذا لم يسمع الناس لقول المرشد؟ وما أحرى هذا المرشد أن يهون عليه أمر خطبته إذا علم أن الناس لا يسمعونها! وما أحراه أن يُعيرها كل عناية متى علم أنهم جميعًا يسمعونها ويُفيدون منها! ولقد رأيتُ خطباء ذوي رأي وبصيرة يوجِّهون الناس في بعض مساجد القرى توجيهًا ينتظم حياة القرية كلها، فما أجدر خطيب المسجد الحرام أيام الحج أن يُحِيط خُبْرًا بأمر المسلمين كافة، وأن يصل إلى المصلين صوته؛ ليكون لهم هداية ورشدًا.
وفهمت أن الخطبة تمَّتْ حين نُودي للصلاة من فوق المبلِّغات — أو المكبريَّات إن شئت، وقام الناس جميعًا من أقصى المسجد إلى أقصاه يأتمون للصلاة، وكان كلٌّ يُكبر بعد نيَّة الصلاة ثم يقف خاشعًا مطرقًا ذاكرًا قوله — تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا، وإن لم يستمع إلى قراءة الإمام إلا الذين كانوا على مقربة منه، ساد هذه الألوف المؤلفة صمت خشوع كله جلال ورهبة؛ جلال النظام ورهبة الإيمان، فهم جميعًا يستمعون إلى الإمام يتلو «الفاتحة» في صمتهم المهيب كأنهم في ساعة الحشر إكبارًا وتقديسًا، فلما أتمَّ الإمام تلاوته انفرجت الصدور كلها عن «آمين» قيلت في خشوع وصوت خافض، ودوَّى المسجد بها فازدادت القلوب والمشاعر رهبة واهتزازًا، ثم انطلق كلٌّ يتلو الفاتحة، وصمت الإمام، فلما أتموها تلا هو ما تيسر من القرآن، ثم كبَّر وكبَّر المبلِّغون على أثره، وركع هذا الجمع الحافل كله يسبح بالله العظيم، وكبر المبلغون، فاعتدل الناس؛ ثم كبروا فسجدوا يسبحون باسم ربِّهم الأعلى، وكبروا للركعة الثانية، فتلا الإمام الفاتحة ودوى المسجد من بعده ﺑ «آمين»، وكبر الناس وركعوا، وكبروا وسجدوا وتَلَوا التحِيَّات ثم ختموا صلاتهم بتحية الختام: «السلام عليكم ورحمة الله» لافتين رءوسهم ناحية اليمين فاليسار.
لم تترك صلاةٌ لجماعة ولا تركت صلاةٌ لجمعة في نفسي من الأثر ما تركته هذه الصلاة في الحرم، ولطالما وازنت بين صلاة الجماعة يقوم بها المسلمون في مساجدهم وما رأيت من صلوات في الكنائس المختلفة، فألفيتُ صلاة المسلمين أعظم في النفس أثرًا؛ لأنها تَوَجُّهٌ لله الأحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ولأن المسلم هو الذي يصلي بنفسه، ويتَّصل بالله بقلبه، ويستغفر الله عن ذنبه، ليس للإمام عليه سلطان، بل يقف عمل الإمام عند تنظيم صلاة الجماعة، بلا قيد لحرية الفرد في صلته بربِّه إلا عمله وتقواه، أما صلاة الجمعة في الحرم فقد اهتزَّ لها كل وجودي، وقد أثارت أمام ذهني صورة مجسَّمة من المعاني السامية كنت أقدِّسها من قبل ولكني لم أكن ألمسها لمسًا ماديًّا، ولم أكن أراها بارزة بالوضوح الذي رأيتها به أثناء هذه الصلاة ولا إثرها، ولقد جلستُ مكاني والناس ينصرفون من المسجد أفكر فيما رأيت فلا أجد من مزيد التفكير فيه إلا مزيدًا في تأثُّري به وإكباري له، ولولا أن جاء صاحبي يدعوني لمغادرة المسجد إلى الدار لأقمت حيث كنت مسترسلًا في تفكيري ملتمسًا العبرة البالغة منه، وما أكبرها عبرة وما أبلغها عظة!
وأبلغ أثر تركته هذه الصلاة في نفسي هذا النظام الكامل لعشرات ألوف يُخْطِئُها العَدُّ عن إسلام به، وإيمان بوجوبه، وحبٍّ إياه، وإقبال عليه، فها هي ذي عشرات الألوف تقف وراء الإمام صامتة خاشعة متجهة بكل قلوبها إلى الله مؤمنة إيمانًا كاملًا بكل كلمة وكل حرف من هذه السبع المثاني التي يتلوها الإمام إذْ يتلو سورة الفاتحة، ثم تتلو هذه السبع المثاني من بعده؛ تحمد الله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا تعبد إلا إيَّاه، ولا تستعين إلَّا إياه، تستهديه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم فلم يغضب عليهم ولم يَضِلوا.
وها هي ذي عشرات الألوف من كل الأجناس والألوان واللغات ينتظمها إيمان واحد بهذا الذي تتلو، إيمان لا يتلجلج ولا يكبو، فإذا سمعت التكبير للركوع ركعتْ جميعًا مؤمنة تسبح بحمد ربها العظيم الذي تؤمن به وتقدِّسه، وإذا سمعت التكبير للسجود سجدتْ تسبِّح بحمده كرَّة أخرى، وها هي ذي تعيد في الركعة الثانية حمدها وتسبيحها واستغفارها ربَّها وعبادتها إياه واستعانتها به في مثل نظامها في الركعة الأولى، وتتوجه كل هذه الألوف في هذا النظام الذي يأخذ بالقلوب والأفئدة إلى بيت الله من جوانبه الأربعة.
أيُّ جيشٍ جيشُ الإيمان هذا؟! وأية قوة في العالم تستطيع أن تغلب هذا الجيش لو أنه عرف كيف ينظم الحياة مثل نظام الصلاة الجامعة، وأن يجعل الإيمان قوامًا لنظام الحياة كما أنه قوام هذه الصلاة، ألا لو أن ذلك كان واجتمع مَن في الأرض جميعًا لم غلب قومًا ذلك إيمانهم، وذلك نظامهم، وذلك سُمُوُّهم إلى الله، وهذه عبادتهم إياه وحده لا شريكَ له.
الإيمان قوام هذا النظام البالغ في كماله، الذي جمع الأوروبي والإفريقي والآسيويَّ وأهل الأرض جميعًا في صعيد واحد، والإيمان هو الذي جعلهم إخوة متفاهمين على تباين لغاتهم واختلاف أجناسهم، وإيمانهم له كل هذا السلطان؛ لأنه إيمان تجرد من كل ما سوى الفكرة السامية، لا تشوبها شائبة، ولا تندسُّ إليها غاية من غايات هذه الحياة الدنيا؛ الفكرة المجردة من كل مطمع ومن كل هوًى إلا رضا الله رضًا يستعذب المسلمون التضحية بكل شيء في سبيله، التضحية بالهناءة والطمأنينة، وبالمال والجاه، وبكل ما في الحياة، بل بالحياة نفسها، وهذه الفكرة السامية يؤمن بها عشرات الألوف هؤلاء، ويؤمن بها المسلمون جميعًا، تتلخص في كلمتين اثنتين هما أبلغ وأقوى ما عرفت الإنسانية منذ وُجدت، ولا يمكن أن تعرف أبلغ ولا أقوى منهما إلى أن يبيد الله الأرض وما عليها: «الله أكبر».
نعم! هاتان الكلمتان هما أبلغ ما عرفت الإنسانية، وما يمكن أن تعرف، هما مظهر السموِّ الإنساني على ما يتصل به الإنسان من سائر الكائنات، وهما مظهر سمو النفس وقوَّتها، فلا يعتريها ضعف ولا يزعزع منها سلطان، يكفي أن يحيط الإنسان بمعنى هاتين الكلمتين كاملًا، وأن يؤمن به إيمانًا صادقًا ليتصل بالله اتصالًا صحيحًا، وليرقى بهذا الاتصال فوق الألم، وفوق الأمل الخادع، وفوق الغرور الكاذب، وفوق كل ما في الحياة الدنيا، إننا — نحن المسلمين — لنسمع هاتين الكلمتين ولنقولهما في كل يوم عشرات المرات؛ نسمعهما مرات ساعة الأذان، ونسمعهما ونقولهما مرات حين الصلاة، ونرددهما في مناسبات كثيرة ونؤمن بهما حقًّا، لكن الكثيرين منا يؤمنون بهما ولا يحيطون بمعناهما إحاطة إدراك تام وشعور مُتَنَبِّه لهذا المعنى.
فما أعظم سلطان المال وما أكبر حكم أصحابه! نعم! لكن الله أكبر، وما أعظم سلطان هذا الملك الحاكم فوق العباد! نعم! لكن الله أكبر، وما كان أعظم سلطان رومية وامتداد إمبراطوريتها! نعم! لكن الله أكبر، وما أعظم سلطان الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب الشمس عن أملاكها! نعم! لكن الله أكبر، وما أعظم سُلطان أوروبا سلطانًا تحكم به الشرق وتتحكم به في مصير العالم كله! نعم! لكن الله أكبر، فإذا أنت اتصلت بالله وحده، وعبدته وحده، واستعنته وحده، لم يكن للمال ولا للملك ولا للإمبراطورية البريطانية ولا لأوروبا ولا لقوة من القوى بالغًا ما بلغ كبرها أيُّ سلطان عليك.
وما هذه القوى جميعًا وهي لا تساوي عند الله جناح بعوضة؟! وإن من التجديف حين نذكر أن الله أكبر من كل كبير وأعظم من كل عظيم أن نذكر هذه القوى الضئيلة في حياة الكون والتي تبدو اليوم وتختفي غدًا، وتَقْوَى اليوم وتضْعُف غدًا، وتوجد اليوم وتنعدم غدًا، يبتلع البحر من الأرض ما شاء الله أن يبتلع، ويذهب الأقوياء فلا يبقى لهم بعد ذهابهم إلَّا ذِكْر قُوَّتهم، لكن الأرض التي يسير عليها هؤلاء يعيشون ويأكلون وإلى ثراها يرجعون، ما أكبرها! لكن الله أكبر، والشمس ما أكبرها! لكن الله أكبر، والوجود كله من محسوس نشهده وغائب نتوَسَّمه ما أكبره! لكن الله أكبر، وسع كرسيه السموات والأرض ولا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وهو العليُّ العظيم.
وعبادة الله والاستعانة به تقتضيانك علم ما خلق، والسعي في مناكب الأرض، وإدراك أسرار الحياة، وأنت أعظم اتصالًا بالله كلما كنت من هذا العلم وهذا السعي وهذا الإدراك أكبر حظًّا، وإيمانك الحق بهاتين الكلمتين ينقلب إيمانًا آليًّا لا ينفع ولا يضر إذا لم تَسْع ولم تدرك ولم تتصل بنوره العظيم، إذا علمت هذا وعملت به ودَأَبْتَ لتدرك عظمة الله في خلقه ممَّا نرى وما لا نرى، وما نُحِسُّ وما يجاوز إحساسنا؛ إذن فلن يغلبك غالب وأنت فرد، فأما إن عَلِمَتْهُ أُمَّة وعملت به وآمنت عن إدراك صحيح بأن الله أكبر؛ فقد حقَّ لها أن تتولَّى هدى العالم إلى الحق في أسمى صوره وأرقى درجاته، هدًى يصل بالإنسانية إلى ما تبغي من مجد الإخاء في الله؛ إخاء هو وحده الجدير بالإنسانية حين تبلغ من التقدم درجة حُسْنَى.
ما بال هذه الألوف المؤلفة من المسلمين الذين يُصَلُّون الجمعة في الحرم؟! ثم ما بال إخوانهم الملايين من المسلمين المنتشرين في بقاع الأرض جميعًا، وهم يؤدُّون صلاتهم في هذا النظام البالغ ويسمعون هاتين الكلمتين ويكررون في صلاتهم: «الله أكبر» مرات وعشرات المرَّات؟! ما بالهم فيما هم فيه من ضعف وجمود وخضوع لسلطان الغير وحكمه؟! فكَّرت في هذا حين أويت إلى الدار واعتكفت في غرفتي، فكرت فيه متألمًا ثائرًا بهؤلاء الذين أوتوا أسباب القوة فضعفوا وهانوا، وأوتوا سبيل العزَّة فذَلُّوا واستكانوا، وكيف لا تثور النفس حين ترى هذا النظام البالغ ثم ترى ما هم فيه من هوان وفوضى، ومن شأن من ينتظمهم الإيمان السليم به أن يكونوا العزة والقوة؟! ولم ألقَ عسرًا في الوقوف على علَّتهم، فنظامهم هذا ينقصه الروح؛ ولذلك غاضت حياته، فانقلب آليًّا، فانقلبت على أهله غايته، وهذا هو السبب فيما هم فيه وما سيظلون فيه، حتى يغيِّروا ما بأنفسهم ليغيِّر الله ما بهم.
الروح ينقص هذا النظام — لا ريب؛ الروح المستمد من الإيمان الكامل، أليس رسول الله ﷺ يقول: «لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»؟ والكثرة من هؤلاء المصلين لا يفكر أحدهم في أخيه ولا يحب إلا نفسه، هو لم يحضر إلى مكة ولم يفرض الحج ولا يستوي مع الناس في صلاة الجماعة بالحرم؛ ليكون لإخوانه المؤمنين كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، بل جاء إلى مكة حاجًّا وحضر صلاة الجماعة ابتغاء المغفرة لنفسه والثواب لنفسه دون تفكير في المؤمنين ممَّن حوله، وليس هذا شأن المسلمين اليوم وفي هذا العصر الأخير وكفى، بل هو شأنهم — مع الشيء الكثير من الأسف — منذ مئات السنين التي خلت، منذ انتقل الأمر بينهم من الشُّورى إلى الاستبداد، ومن الاجتهاد إلى التقليد، ومن الاستهانة بالموت إلى حب الحياة، ومن عبادة الله وحده إلى عبادة المال وأرباب المال، من ذلك اليوم البعيد عنَّا، حينما كان تاريخ الأمة الإسلامية ما يزال مزدهرًا، بدأت الأَثَرة تبلغُ من المسلمين أن صار أحدهم لا يعرف إلا نفسه ولا يحب إلا نفسه، ويحسب مع ذلك أنه يستطيع الوصول إلى رضا الله باعتزال إخوانه المؤمنين وبالانقطاع عن التفكير في أمرهم إلى التفكير في أمر نفسه.
ومن يومئذٍ نَسِي المسلم أنه إذ يقول وهو يصلي لله: «إياك نعبد وإياك نستعين»، أنه يتحدث عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين، وكأنما خُيل إليه في غروره أنه بهذه الصيغة يُعظِّم نفسه وهو يخاطب ربه، وحيثما بلغت الأثرة من النفوس هذا المبلغ ضعف إيمانها وتزعزع يقينها وتعلقت بالحياة وأذعنت خاضعة لكل سلطان يملك عليها أسباب المادة في الحياة، هنالك تنزوي الروح ويضمحل سلطانها على النفس، وهنالك تتهلهل أواصر الاتصال بين المؤمنين وتضعف أُخَوَّتهم فيضعفوا جميعًا، وهنالك تصير حياتهم حياة أفراد تنتهي بالموت، لا حياة أمة تتصل على الزمان ولها في شهدائها وفي موتاها أعلام مجد وعِزَّة تتعلق بها وتضحِّي للاحتفاظ بما شادوا من هذا المجد ولإكباره والمزيد منه.
وذكرت وأنا أفكر في هذا وفي مثله أولئك المسلمين الأولين الذين كانوا يجيئون للصلاة عند الكعبة — كما نجيء نحن للصلاة عندها اليوم — فيصدُّهم المشركون ويؤذونهم ويبالغون في تعذيبهم، لم يكن يومئذٍ حول الكعبة مسجد معمور تحيط به هيبة الإسلام شأن المسجد الحرام اليوم، بل لم يكن حولها مكان مُسَوَّر، إنما كان حرمها متصلًا بالطريق ومُتصلًا بالمساكن اتصال المسعى بين الصفا والمروة في وقتنا الحاضر، مع ذلك كان المسلمون الأولون يذهبون إلى الصلاة مُتَّحدين متضامنين، وهم يعلمون أنهم معرضون للأذى وللموت، وأن تحابَّهم وتضامنهم يجعلانهم أكثر للموت وللأذى تعرُّضًا.
ولقد كثر عدد المسلمين بمكة قبل الهجرة، واعتزَّ الإسلام بحمزة بن عبد المطلب وبعمر بن الخطاب، وجعل عمر يدفع من أذى المشركين للمسلمين ما يستطيع دفعه، مع ذلك ظل المشركون على عداوتهم للنبي وأصحابه وإيذائهم إياهم، وظل المسلمون على تضامنهم وحبهم بعضهم لبعض في الله، وصبرهم على الأذى في سبيل الحق، وإيمانهم بأن النصر لهم ما صبروا، يذهبون إلى حرم الكعبة للصلاة مستهينين بالأذى وبالموت، مؤمنين بأنهم رجل واحد فلا يموتون ما بقي منهم من ينادي مؤمنًا: «لا إله إلا الله الله أكبر»، محبًّا إخوانه في الله، موقنًا أنه لا يكمل إيمانه حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه.
ولم يكن هذا الحب الصادق الذي يكمل به الإيمان حُبَّ عاطفة هوجاء يرى صاحبها في الإلقاء بيده إلى التهلكة استهانة بالموت، بل كان حب تعقُّل ورَوِيَّة، وحرص على معرفة الحياة وما فيها إلى غاية ما يبلغ المرء من معرفتها في ذلك العهد، كان المسلمون يجتمعون بالرسول في كل يوم يتشاورون، وكانوا يَتَنَطَّسون أخبار المشركين ليقفوا على دخائل نفوسهم، وكانوا ينافسونهم في العلم بالأمور ليدفعوا حجتهم بالحجة وقوتهم بما يستطيعون من قوة، لم يكن أحدهم يرى في الإسلام لله والتوكل عليه ما يصرفه عن التفكير ليومه وغده، ولِشَدِّ أَزْر ولِيِّه ودفْع عدوه، بل كانوا يرون في الإيمان بالله والإسلام له سموًّا على كل إذعان لغير الله واستهانةً بكل مجهود وكل مشقة لبلوغ هذا السمو؛ وبذلك كانوا حربًا على كل ضعفٍ في أنفسهم، كما كانوا حربًا على قوة خصومهم؛ من أجل ذلك استَلُّوا من نفوسهم كل سلطان للأَثَرة عليها، فقوي اعتداد الفرد منهم بنفسه وحبه لإخوانه، وبذلك كانوا الغالبين.
وكان لهذا الاعتداد بالنفس مع إنكار الذات أثره في أُولِي المواهب، وأهل الزعامة منهم، لم يكن أحد من هؤلاء يرضى إذا آمن بشيء أن يكتم إيمانه مخافة ما يجره إعلان هذا الإيمان عليه من أذًى، ولم يكن أحدهم ينتظر حتى يرى أين تكون منفعته ليكيِّف بوحيها رأيه أو عقيدته، بل كانوا جميعًا يؤمنون بأن العقيدة والرأي معًا ملك «مشاع» للجماعة، فيجب أن يطالعها الفرد بما يرى، وأن يحاول إقناعها به في صراحة وشجاعة وإيمان؛ لهذا نَجَمَ منهم القادة وأولو الرأي، وتوارى من جماعتهم المراءون والمنافقون الذين يريدون أن يتَّخذوا من كل شيء — حتى من الرأي والإيمان به — مطيَّة أهوائهم ووسيلة منافعهم؛ ولذلك آمنوا بأن الروح من عند الله، وأن الحياة الإنسانية متصلة بكلمة الله، وأن الله خلق الإنسان على صورته؛ فهو — مِن ثَمَّ — روح قبل أن يكون مادة، وحياته — من ثمَّ — فكرة متصلة بالروح، وليست حركة آلية، ولا حركة فطرية كحركة النبات، ولا حركة سَليقية كحركة الحيوان.
وحيثما آمن الإنسان بأن الحياة فكرة استهان بالموت في سبيل الفكرة، ومن استهان بالموت عَنَتْ له الحياة، وكلما ازدادت الفكرة سموًّا ازداد صاحبها استهانة بالحياة وسموًّا لذلك عليها، والجماعة التي تعيش من أجل فكرة إنسانية سامية ولا تخشى الموت في سبيلها، تصل من القوة إلى حيث لايغلبها غالب، كذلك كان شأن الجماعة الإسلامية الأولى، كان الإيمان بالوحدانية يملأ نفوس أهلها، حتى ليصغر كل ما في الحياة إلى جانبه، وكانوا يعلنون إيمانهم هذا ولا يكتمونه؛ لم يكن يصرفهم عنه وعدٌ ولا وعيدٌ، ولم تكن لتردَّ الصادقين منهم تضحية وإن عظمت وإن بلغت التضحية بالحياة؛ وبذلك نصرهم الله وفتح لهم فتحًا مبينًا.
وإنه ليأخذ مني اليوم العجب حين أرى قومًا ينادون بغير هذا الرأي أو يُعلِّمون الناس ما يخالفه، وأعجب هذه التعاليم وأشدها فتكًا بالقوى الإنسانية قولهم: إن الإنسان آلة، وأعضاء جسمه كأعضاء الآلة، ووجوده وروحه رهينان بسلامة هذه الأعضاء، رهن حركة الآلة ونشاطها بسلامة أجزائها، فإذا أصاب الإنسان الموت أصبح جثة هامدة كما تصبح الآلة ركامًا من أجزائها التي فقدت أسباب الحركة، ويزيد في عجبي ما يزعمه قوم من أن هذه الفكرة الآلية هي أساس الحضارة الغربية التي تحكم العالم اليوم، كأنما تستطيع المادة أو يستطيع شيء غير الفكرة أن يطور الحياة أو ينشئ فيها جديدًا.
وهذا القول: بأن حضارة الغرب تقوم على هذه الفكرة الآلية وهمٌ يدلُّ على سوء الفهم لحياة الغرب، فعلماء الغرب ومفكروه يُقرِّرون ما عرفته الإنسانية الحية في كل أطوارها من أن الفكرة أساس الحياة وأساس كل نشاط فيها، بل إن حياة العلم في هذا العصر لتستند إلى الكلمة التي قالها «ديكارت» في القرن السابع عشر: «أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود»، وليس يصح في الذهن أن يكون التفكير أساس الوجود، وأن يكون الوجود الإنساني آليًّا لا يساوي الوجود الفطري للنبات والحيوان.
وإنما أدى إلى فكرة الآلية في الحياة الإنسانية أن بلغ بعضهم بالفكرة الروحية مبلغًا أخرجها عن حُكْم العقل، ثم أراد مع ذلك أن يصورها في صور من المادة، فهَوَتْ بذلك فكرته فيها إلى دَرَك الجمود والتعصب، وحيثما قام التعصب ناضله تعصبٌ يضيق به ذرعًا؛ من ثَمَّ قامت الفكرة الآلية لنضال أوهام زَعَمَها أصحابُها صادرة عن الفكرة الروحية، فأما الحق في الغرب والشرق وفي كل زمان فإن الحياة الإنسانية روح قبل أن تكون مادة، وفكرة متصلة بالروح، وليست حركة آلية تنتظم حياة الجسم وحدها.
والنضال هو الذي نزل في الغرب بالمثل الأعلى إلى الرغبة عن النظر في الروح وفي اتصال الإنسان بالكون نظرًا طريقه العقل، ثم إلى التقيد بالمحسوسات المادية واستنباط سنن الكون منها بمنطق العقل وحده، على أن كثيرين من كبار علماء الغرب ومفكريه لم يلبثوا حين رَأَوْا ما في هذا التقيد بالحس من حدٍّ لحرية الفكر، أن دَعَوْا لتحطيم هذا التقيد، وأن عالجوا الظاهرات الروحية على الطريقة العلمية، طريقة الملاحظة والتبويب والاستنباط، آملين أن يصلوا من هذا الطريق إلى نتائج أَسْمَى أثرًا من ثمرات النظريات النفعية والمادية في الخلق وفي الحياة، وفي اتصال الإنسان بالوجود وبارئ الوجود، وما يحاول الغرب اليوم من سمُوٍّ هو ما حققه الإسلام منذ نشأته للذين دانُوا به.
لذلك كان الروح أساس ما دعا إليه من نظام ومن حرية؛ ولذلك كان المسلمون الأولون أشد حرصًا على حرية أرواحهم منهم على حرية أبدانهم، وكانوا يفتدون حرية الروح للفرد بكل قيد للبدن، ويفتدون نظام الروح للجماعة بما شَهِدتُ في صلاة الجمعة بالحرم، لم تكن المظاهر تغريهم عن الحقيقة، ولا كان الغلاف يحجب اللب عن أنظارهم، لم يَعْنِهم أن كان المسجد مما حول الكعبة غير مسوَّر، ولم يروا في بيت الله إلا أنه منارة روحية يتوجه إليها المسلمون جميعًا على أنه الجامع لقلوبهم ولإيمانهم وتوحيدهم ربهم، لم يتوجه أحد إلى الكعبة بالعبادة لأنها بيت الله، بل قصروا جميعًا عبادتهم على رب البيت، كان عمر بن الخطاب يقول وهو يُقَبِّل الحجر الأسود حين طوافه: «والله لولا أني رأيت رسول الله يُقَبِّلك ما قَبَّلْتُك»، وكذلك كان هداهم روحيًّا في كل شيء، وكانوا يلتمسون هذا الهُدَى في كل ما يقع عليه الحس ليروا فيه سنة الله لا تبديل لها، وآية الله شهيدة بربوبيته جلَّ شأنه.
ولم يفكر المسلمون في أن يُسوِّروا ما حول الكعبة ليتخذوا من سياجه قدسًا لصلواتهم إلى أن اختار الرسولُ الرفيقَ الأعلى وطيلة خلافة أبي بكر، وعلى عهد عمر امتدَّ الفتح الإسلامي وكثر الذين يشهدون الحج، وضاق الفضاء المحيط بالبيت بهم حين الصلاة؛ إذ كانوا يدخلون إليه من الأبواب القائمة بين الدُّور المُحْدِقة به، عند ذلك اشترى عمر دُورًا حول الكعبة وهدمها وأدخلها في حرمها وأحاطها بجدار قصير، ولقد أبَى بعضهم يومئذٍ أن ينزل على إرادة عمر، فأجلاهم عن دورهم ووضع لهم ثمنها في خزانة الكعبة، وقال لهم: إنما نزلتم على الكعبة فهو فناؤها، ولم تنزل الكعبة عليكم، وازدادت رقعة الفتح الإسلامي في زمن عثمان، وازداد الذين يشهدون الحج عددًا، فاحتذى عثمان مثال عمر وأضاف إلى الكعبة دورًا اشتراها.
كان المسجد الحرام يومئذٍ محاطًا بجدار قصير وكان غير مسقَّف، وكان الناس يجلسون حول البيت وحول جدران المسجد بالغداة والعشي يتفيئون الظلال، فإذا تَقَلَّص الظل تفرقت المجالس، ولم يفكر أحد من خلفاء المسلمين ولا من رجال هذا الصدر الأول في زينة المسجد ولا في فخامته، فبساطة الإسلام الحق تنأى بالمؤمن عن هذا التفكير، وعبادة الله لا تعرف الزخرف ولا تتصل به، إنها ابتهال خالص بالقلب إليه — جل شأنه، وتوجُّهٌ ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ويسمو بالنفس على غرور الحياة الدنيا؛ لذلك لم يزد عمر حين ضم إلى المسجد من المنازل المحيطة به ما ضمَّه على أن أقام جدارًا لا يرتفع إلى قامة الرجل، وكذلك فعل عثمان، ويذكر بعضهم أن عمر وضع على الجدار مصابيح تضيء المكان للذين يصلُّون العشاء، أما قَبْلَ عمر فلم تكن ثمَّة مصابيح، بل كان الناس يقصدون إلى فناء الكعبة ليصلُّوا وهم في غير حاجة إلى نور يهتدون به، اكتفاء بنور بصائرهم وهُدَى قلوبهم.
في هذه الأيام الأولى كانت صلاة الجمعة بالحرم يدعو إليها روح مبعثه الإيمان، ونظامٌ قوامُه الأُخُوَّة، والإيمان والأخوة يسموان بطبيعتهما على الزينة والزخرف؛ لذلك لم يفكر عمر ولا فكر عثمان في أكثر من توسيع رقعة المسجد ليسع المصلين حين الحج، وإضاءته ليهتدي في أرجائه مَن لا عهد له به؛ ولم تُغْرِ عثمانَ أموالُ الفتح التي كانت تتدفَّق من الأقطار الجديدة التي رفرف عليها العلم الإسلامي، فلم يصنع بالمسجد ما صنع قومه في الجاهلية بالكعبة حين كشف عبد المطلب عن زمزم بعد أن بقيت مطمومة ثلاثة قرون، فلقد أخرج من بئر إسماعيل غزالتين من الذهب كان الجُرْهمي الذي طمَّها قد أخفاهما بها، فضربهما في باب البيت الحرام حليةً له، لم يصنع عثمان صُنْعَ مَن سلف؛ لأن الإسلام جعل التقوى قربان الإنسان إلى ربه، ولم يجعل من مساجد الله هياكل آلهة تعبد ويتقرَّب إليها المتقربون بالأموال، كما كانوا يتقرَّبون إلى هُبَل وإلى غيره من الأصنام قبل أن يطهر النبي الكعبة منها.
ولما انقضى عهد الخلافة وشبَّتْ نار الحرب الأهلية بين المسلمين باسم الثأر لعثمان من قَتَلَتِهِ، بدأت الشوائب تشوب قلوب طائفة من المسلمين وقد حرَّكتها مطامع هذه الحياة الدنيا، فغَشَتْ فيها طُهْرَ دين الله وصفاءه، على أن الذين أقاموا إلى جوار بيت الله من عِتْرَة النبي كانوا أبعد أن تشوب هذه الشوائب قلوبهم، وكانوا أشدَّ لبيت الله ولحرم البيت إكبارًا وتعظيمًا، أقام عبد الله بن الزبير بالحجاز حفيظًا على التقاليد الأولى، فلما كانت سنة أربع وستين من الهجرة اشترى دُورًا وسع بها المسجد الحرام على نحو ما صنع عمر وعثمان من قبلُ، ولم يزد على أن أحاط الزيادة بجدار المسجد.
لكن بني أمية كانوا قد اتصلوا في الشام بأهل البلاد التي دخلت في الإسلام بحكم الفتح، ورأوا من عناية النصارى بكنائسهم وعمارتها وزينتها ما جعلهم يفكرون في القيام للمسجد الحرام بشيء من هذا الذي رأوا، وكان عبد الملك بن مروان أول من سنَّ هذه السُّنة حين حج في السنة الخامسة والسبعين من الهجرة، فهو لم يجد المسجد في حاجة إلى زيادة فيه، فأمر فرفعت جُدره، وسُقف بخشب الساج الداكن اللون المتين، وجعل في رأس كل أُسطوانة خمسين مثقالًا من الذهب، وفي ذلك عَوْدٌ لتقاليد الجاهلية، لم يعترضه يومئذٍ من المسلمين أحد؛ لأن أمير المؤمنين هو الذي أمر به، وزاد الوليد بن عبد الملك في عمل أبيه بعد أن نَقَضَه، فوسع المسجد، وزخرف الساج الذي سقفه به وأزَّر أسفل جدرانه بالرخام، وجعل له شُرفًا، ونقل إليه أساطين الرخام وجعل على الذهب في رأسها صفائح من النحاس، وزخرف أعلى أبواب المسجد بالفسيفساء، وإنما صنع الوليد ذلك؛ لأنه كان إذا شيَّد المساجد زخرفها كما يزخرف النصارى كنائسهم.
ودَالَتْ دولة بني أمية، وقام بنو العباس على إمارة المؤمنين، وبنو العباس يمُتُّون إلى بيت النبوة بآصرة قريبة، وقد جعلوا من صلتهم به أساس دعوتهم، فلا عجب أن يتَّجه نظرهم إلى البيت الحرام وإلى الزيادة فيه وإعظامه، وإن لم يفكر أحد في الرجوع به إلى البساطة الأولى، فلما اطمأن لهم الأمر أصدر ثاني خلفائهم أبو جعفر المنصور أمره إلى زياد بن عبد الله الحارثي وَالِيه على مكة، فزاد في المسجد الحرام وجعله ضعف ما كان عليه، وزيَّنه بالذهب وأنواع النقوش، وبنى مئذنة بني سهم، وأتم ذلك فيما بين سنة سبع وثلاثين ومائة وسنة أربعين ومائة، وفي هذه السنة حج المنصور ورأى حجارة حِجْر إسماعيل بادية، فأمر زيادًا أن يغطيها بالرخام، ونفذ زياد الأمر ليلًا، وأصبح المنصور فرآها كما أراد، وزاد المهدي بعد أبيه المنصور ما جعل المسجد قرابة ما هو اليوم.
وكانت الكعبة في جانبٍ من المسجد؛ لأن ما أضافه إليه عمر كان يتجه إلى الناحية التي لا يُخْشَى انحدار السيل إليها؛ وكره المهدي أن تكون الكعبة في ناحية من المسجد وأراد أن تكون في وسطه، وقال المهندسون حين استشارهم: إن وادي مكة له سيول قوية العزم، ونخشى إن حولنا الوادي عن مكانه ألَّا يتم لنا ما نريد، قال المهدي: لا بُدَّ لي من سعة المسجد حتى تكون الكعبة في وسطه ولو أنفقت فيه جميع ما في بيوت المال، وأحكم المهندسون أمرهم، وترك لهم المهدي المال وعاد إلى العراق، واشتطَّ أصحاب الدور التي تدخل في هذه الزيادة في أثمان دورهم، حتى بلغ ثمن الذراع مما دخل المسجد خمسة وعشرين دينارًا، أي: اثني عشر جنيهًا ونصف الجنيه، وأتم المهندسون العمل في عهد الهادي بن المهدي بعد أن جُلبت أساطين الرخام لهذه الزيادة من مصر ومن غيرها، وحُملت على العَجَل من جدة إلى مكة.
لم يُضَف إلى المسجد بعد ذلك غير إضافتين جزئيتين تمَّتا في عهد الناصر والمقتدر من العباسيين، على أن عمارته جُدِّدت مرات من بعد، وكان لملوك مصر وأمرائها حظ من ذلك عظيم، وكانوا لا يقفون من العمارة عند الترميم أو البناء، بل كانوا يضاهون العباسيين في تزيين المسجد وزخرفته، وإن لم يبلغوا من ذلك ما بلغوا في تزيين حرم المدينة وزخرفته مما سنَقُصُّه عليك، ومع ما كان من انتقال الخلافة من مصر إلى آل عثمان بالآستانة، ومن عناية آل عثمان بالحرمين، لقد ظلت مصر أشد البلاد الإسلامية حرصًا على عمارة الأماكن الإسلامية المقدسة، وأكثرها سخاءً في الإنفاق على هذه العمارة.
كان المعلم محمد المصري هو الذي استصحبه شيخ المهندسين أحمد بك المصري لعمارة المسجد الحرام حين أصدر السلطان سليم أمره إلى حاكم مصر سِنَان باشا للقيام بهذا العمل، وكان لمصر نصيب وافر من النفقة على هذه العمارة التي بلغت خمسة وخمسين ألفًا من الجنيهات عدا مائة ألف من الذهب الإبريز، وعدا ما دخل من مصر من مواد العمارة كالخشب والحديد وأهلَّة القباب المطليَّة بالذهب، على نحو ما يرى الإنسان بالمسجد إلى يومنا هذا، وفي هذه العمارة عُنِي المهندس بخفض أرض الطريق المنحدر إلى وادي مكة لتنحدر منه السيول إذا دخلت المسجد، وكثيرًا ما كانت هذه السيول سببًا في توهين بنيان المسجد من قبلُ.
ليس غرضي مما قدمت تفصيل عمارة المسجد ومَن قام بها؛ لذلك لا أقف عند عمارة داخل المسجد من مقام إبراهيم، وحِجْر إسماعيل، وبئر زمزم، ومقامات الأئمة الأربعة، إنما سُقْتُ ما ذكرت لأُبَيِّن ما أدَّتْ إليه صلاة الجمعة في الحرم من توسيع المسجد على مرِّ السنين ليسع المصلين، وعناية خلفاء المسلمين وأمراء المؤمنين بذلك عناية بدأت من عهد عمر واستمرت على القرون بعده، وما أدى إليه تطور التفكير الإسلامي من البساطة القوية الأولى، بساطة الإيمان والنظام للفرد والجماعة، إلى الترف والزخرف في العصور التي سبقت الانحلال في الحضارة الإسلامية، فقد رأيت أن الخلفاء الأولين لم يَعْنِهم من أمر الحرم وتوسيعه إلا أن ينفسح المكان للمسلمين في أيام الحج ليصلوا حول بيت الله، ثم آل الأمر إلى تزيين المسجد وإلى زَخرفته شيئًا فشيئًا حين أصبح الإيمان فنًّا والنظام حوارًا وجدلًا، فقد بدأ الإيمان يتزيا في أزياء ويتصور في صور تجعل الإنسان درجات تتفاوت بتفاوت ما يتقرَّب به صاحبه إلى الله من مادة الحياة بعد أن كان أمره روحيًّا خالصًا، يتصل تفاوته في الدرجات بمبلغ سمو الروح به إلى الله، كان هذا السمو الروحي دأب المسلمين الأولين، وكانوا يقِرُّون لفقراء لا يملكون قوت يومهم أنهم أقرب إلى الله؛ لأنهم أكثر به إيمانًا وله إسلامًا، وأن من الأغنياء الذين ينفقون في التقرُّب إلى الله بإقامة المساجد وما إليها من لا يبلغ في الإيمان درجة هؤلاء الفقراء.
فلما شابت السمو الروحي الشوائب خُيل إلى الأغنياء وذوي الأمر والسلطان أن من درجات الإيمان ما يبذلون من مال في توسيع الحرم أو زخرفته، ثم تطور أمر الإيمان إلى التقرب إلى الله عن طريق الأولياء والصالحين، ثم ضعف هذا الإيمان وصار إلى ما صار إليه في زماننا تقليديًّا يكفي صاحبه أن يقول ألفاظ الإيمان وإن لم يؤمن منها بشيء، ثم يحسب بعد ذلك أنه أرضى الله، ولعله لا يعنيه من هذا الرضا أكثر مما يعنيه من حقيقة إيمانه.
هذا التطور وما انتهى إليه هو علة ما قدمنا عن النظام في صلاة الجمعة بالحرم وأن الروح ينقصه، على أن هذا الحرم، حرم الكعبة، كان له في نفوس المسلمين جميعًا من التقديس ما حال دون غلبة التطوُّر في بنائه على روح الإسلام القوي ببساطته، فلم يبلغ ما رأيت من جهود الملوك والأمراء أن جعل من هذا الحرم هيكل عبادة على صورة هياكل العبادة في غير الإسلام من الأديان، ولم يبلغ أن جعله على صورة مساجد المسلمين مما تراه في غير مكة من بلاد العالم الإسلامي، بل ظلَّ الحرم تطبعه بساطة تجمع بين الصراحة والمهابة، وتجعلك ترى الفقير المعدم يقف إلى جانب الغني المُترف ويصلي وإياه كتفًا إلى كتف، وهما يتجاوران في هذا الحرم المقدس تَجَاوُر إخاء واتساق، كما تتَّسق فيه الحصباء إلى جانب الحجر المرصوف به ما يجاورها من صحنه، ويظلهما إيمانهما بالمحبة والسلام وهما يريان في حَمَام الحِمَى رمزًا يدل على المحبة؛ إذ يجاوره المصلون فلا يطير ولا يخاف؛ لأنه في حمى الله وفي حرم بيت الله.
لم يغلب التطور في بناء الحرم على روح الإسلام القوي ببساطته، لكن هذا التطور كان له أثره في النفسية الإسلامية منذ بدأ الانحلال بعد ازدهار الحضارة إبَّان العصر العباسي، وقد رأيت مبلغ ما هوت إليه هذه النفسية، حتى نسي المسلم أن إيمانه لا يكمل حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وحتى صار المسلم أَثِرًا لا يعرف إلا نفسه، ولا يفكر إلا في نفسه، يصلي رجاء التوبة لنفسه والمغفرة لذنبه، لا انتهاء عن فحشاء ولا عن منكر، ويقف في صفوف الجماعة وهو لا يفكر إلا أن يعود عليه من ثواب صلاة الجماعة ما يعادل الثواب الذي يعود عليه من صلاته وحيدًا أضعافًا مضاعفة، وهو يؤدي فريضة الحج ليغفر الله له ذنبه وليعود نقيَّ الصحيفة، وسِيَّانِ عنده بعد ذلك ما يحلُّ بسواه، حتى البِرُّ — وهو عماد التقوى — قد تضاءل في نفسه ما لم تتحقق لديه المثوبة عنه، لم يَعُدْ يفكر في أن يَخْرُج من ماله عن حظ معلوم للسائل والمحروم ابتغاء وجه ربه، لا رغبة ولا رهبة، ونسي أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين، لا يفكر في دار عِلْمٍ يقيمها، ولا في مكتبة ينشئها، ولا في مستشفًى أو مصلًّى ينفق عليه، غاية هَمِّه أن يستغفر عن الخطايا، كأن حياته كلها خطيئة يريد أن يكفِّر عنها، وكأنما يعجز عن أن يجعل من الحياة عملًا صالحًا يكون به عند الله راضيًا مرضيًّا.
وإنما هوت النفسية الإسلامية في عصور الانحلال إلى هذه المكانة؛ لأن من المسلمين من اتخذ إلهه هواه، ورفعه تدهور الجماعة إلى مكان الزعامة منهم والحكم فيهم، وقد أَلِفَ كثيرون أن يقولوا: «الناس على دين ملوكهم»، فجرت الجماعة مجرى هؤلاء الملوك والحكام، وجعلت إلهها هواها، واقتصرت من عبادة الحق على ما ترى فيه مغفرة وِزْرها والتخفيف من إثمها، ولم تقصد وجه الحق — جل شأنه — لذاته، إياه تعبد وإياه تستعين، ووقفت عبادتها عند ألفاظ تتلوها، وفاتها أن العمل عبادة، والعلم عبادة، والسعي عبادة، ومعرفة سُنَّة الله في خلقه بالاجتهاد والجد أسمى معاني العبادة.
مَن لي بأن يُدرك المسلمون هذا الذي فاتهم، وأن ينفضُوا عنهم جمود الأَثَرة، وأن يجعل كل منهم إلهه الله لا يشرك به هواه ولا يشرك به أحدًا، وأن يذكروا أنهم إخوة، أخوَّة إيمان وعبادة؟! إن يفعلوا فقد آن للزمن أن يرتفع بهم إلى السِّماك كما ارتفع بهم من قبلُ، وأن يجعلهم هداة الإنسانية، ويومئذٍ يتم وعد ربك فينصر دينه على الدين كله.
ما عسى أن تكون صلاة الجمعة بالحرم يومئذٍ؟! فيومئذٍ يؤمه حين الحج أضعاف من يؤمه اليوم من المسلمين، ويومئذٍ يؤمه أولو الرأي والعلم منهم ومَن يريدون أن يشهدوا في الحج منافع للأمم الإسلامية كافة، ويومئذٍ يؤمونه والروح مبعث إيمانهم وقوام نظامهم، والمحبة الصادقة رباط وثيق بينهم، هؤلاء جميعًا إذ يقفون في الحرم منادين: الله أكبر، يحمدون الله، وإياه يستعينون، يكونون قلبًا واحدًا وجَنانًا واحدًا وقوَّة واحدة، أية قوة في الأرض لا تُحَدِّق إلى هذه القوة مطأطئة إكبارًا وإعجابًا؟! بل أية قوة في الأرض لا تسير وراء هذه القوة في الخير والحق والجمال والسعادة والسلام؟!
هل لي أن أرى ذلك اليوم؟! لشد ما أسعد به إن رأيته! فإن مِتُّ قبله فما أسعد روحي به يوم يتحقق، وما أشد ما تهتف روحي يومئذٍ: الآن عاد للإسلام مجده!
والمجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام.