النجوم الطائرة
كان فلامبو، بعد أن يتَقدَّم به العمر، ويزداد حِسه الأخلاقي، سيَحكي قائلًا: «كانت هذه هي أجمل جريمة ارتكبتُها، وكانت كذلك الأخيرة نتيجةً لصدفةٍ فريدة. لقد ارتكبتُها وقت عيد الميلاد المجيد. فلِكَوني فنَّانًا، كنت أحاول دائمًا أن تكون جرائمي مناسبةً للمناسبات الخاصة، أو الأماكن التي أكون فيها؛ فأختار هذه الشُّرفة أو تلك الحديقة مسرحًا لكارثة، كما لو كنتُ أختار مكانًا لعرض مجموعة تماثيل؛ ومن ثَمَّ، كان لزامًا عليَّ أن أنصب على الإقطاعيين في غُرفٍ طويلةٍ مكسوَّةٍ جدرانُها بخشب الصندل، بينما يجدُ اليهود، على الجانب الآخر، أنفسَهم وقد أصبحوا مُفلِسين بلا سابق إنذار بين أضواء وفواصل مقهى ريش. وهكذا إذا أردتُ، في إنجلترا، أن أُجرِّد أحد الأساقفة من أمواله (وهو ليس بالأمر السهل كما قد تظن)، أحب أن أفعل ذلك، إذا كنتَ تفهم قصدي، وسط المروج الخضراء والمباني الرمادية في بلدةٍ بها كاتدرائية. وبالمثل في فرنسا، حين أستولي على أموال أحدٍ من الفلاحين الأغنياء الفاسِدين (وهو أمر شبه مستحيل)، أشعر بالرضا عندما يسند رأسه الفائر غضبًا بمحاذاة خط رمادي من أشجار الحور المُقلمة، وتلك السهول المهيبة فيما كان يُعرف ببلاد الغال التي تحوم فوقها روح الفنان الجليل ميليه.
كانت آخرُ جريمة لي تَحمل روحَ عيدِ الميلاد المجيد، جريمةً مرحة ودافئة، تَحمل طابعَ الطبقةِ المتوسطة الإنجليزية؛ جريمة على طراز الجرائم التي يعرضها تشارلز ديكنز في أعماله، ارتكبتُها في أحد منازل الطبقة المتوسطةِ القديمة بالقرب من مقاطعة بوتني، والذي كان له ممرُّ عرباتٍ هلاليُّ الشكل، وعلى أحدِ جانبَيْه إسطبلٌ، واسمُه مكتوبٌ على بوَّابتَيه الخارجيتَين، وبه شجرةُ أروكاريا. أنت تعلمُ ذلك النوعَ. أعتقدُ حقًّا أن تقليدي لأسلوب ديكنز كان ماهرًا وأدبيًّا. خسارةٌ أنني تُبْتُ في مساء اليوم ذاتِه.»
سوف يبدأ فلامبو في سَرْدِ القصةِ من الداخل؛ لكنْ حتى من الداخل كانت القصةُ غريبةً. إذا نظرتَ إليها من الخارج، ستبدو غيرَ مفهومةٍ على الإطلاق، وإن كانت تلك هي الطريقة التي ينبغي لشخص غريب أن ينظرَ إليها. ومن ذلك المنظور، يمكن القول إن المأساة بدأت عندما فُتحت الأبوابُ الأمامية للمنزل ذي الإسطبل، كاشفةً عن الحديقة التي تَحوي بين جنباتِها شجرةَ الأروكاريا، وخرجت فتاة تَحمل خبزًا لإطعام الطيور عصرَ عطلةِ يومِ الصناديق. كانت جميلةَ الوجهِ، ولها عينان بُنِّيتان جريئتان، ولكنْ كان من الصعب تمييزُ بِنيَتِها؛ فقد كانت مُلتحفةً بفِراء بُنيٍّ لدرجةٍ جعلت من الصعب تمييزَ الفِراء عن شعرها. ولكنْ من وجهها الجذَّاب قد تظنُّ أنها دُبٌّ صغير يمشي ببطء.
كانت سماءُ العصر الشتوية تميلُ إلى الحمرة مع اقتراب المساء، وكان ثَمة ضوءٌ أحمر داكن قد بدأ بالفعل يزحف فوق مراقدِ الأزهار الذابلة، ويملؤها بأشباح الأزهار الميتة. على أحد جانبَي البيت كان الإسطبل، وعلى الجانب الآخر كان ثَمة ممشًى أو ممرٌّ مغطًّى تحفُّه شجيراتُ الغار يؤدِّي إلى حديقة أكبر في الخلف. وبعد أن نثرتِ الفتاةُ الشابة الخبزَ للطيور (للمرة الرابعة أو الخامسة ذلك اليوم؛ لأن الكلب كان يأكلُه)، عَبَرَت الممرَّ المحفوف بالغار، دون أن تلفِتَ الأنظارَ حتى وصلت إلى مزرعة خلفية من نباتات متلألئةٍ دائمة الخُضرة. هنا أطلقت صيحةَ دهشة، حقيقية أو نابعةً من العادة، ونظرتْ إلى أعلى سُورِ الحديقة العالي لترى جسدًا غريبًا يمتطيه، محاولًا تجاوزَه على نحوٍ مذهِل.
صاحت بشيء من الانزعاج قائلةً: «لا تقفز يا سيد كروك، الارتفاعُ كبير جدًّا.»
كان الشخص الذي يمتطي السورَ كحصان طائر شابًّا طويلًا ونحيلًا، شعرُه الأسود يبرُز لأعلى مثلَ أسنانِ الفرشاة، وقَسَماتُ وجهِه مميزةٌ وتنمُّ عن الذكاء، لكنْ بشَرتُه شاحبةٌ وذات ملامحَ أجنبية. بدا ذلك أكثرَ جلاء؛ لأنه كان يرتدي رابطةَ عنُق شديدةَ الحُمرة، وهي الجزء الوحيد من ملابسه الذي يبدو أنه أولاه عناية. ربما كانت رمزًا لشيءٍ ما. لم يلتفت إلى استجداء الفتاة المذعورة، وقفز مثل الجُندبِ إلى الأرض بجوارها، وكان من الممكن أن تنكسرَ ساقاه.
قال بنبرة هادئة: «أعتقد أنني كان من المفترض أن أكون لصًّا، ولا شك لديَّ أنني كنتُ سأصيرَ لصًّا لولا أنني وُلِدت بذلك البيتِ اللطيف المجاوِر لكم. لا أرى ضررًا في ذلك على أيِّ حال.»
احتجَّتْ قائلةً: «كيف لك أن تقول أشياء كهذه؟!»
قال الشاب: «حسنًا، إذا وُلدتُ على الجانب الخاطئ من السور، فلا أرى ضَيرًا في تسلُّقه.»
قالت: «لا أعلم أبدًا ماذا ستقول أو تفعل بعد ذلك.»
رد السيد كروك قائلًا: «أنا أيضًا في بعض الأحيان لا أعرف نفسي، ولكني على الجانب الصحيح من السور الآن.»
تساءلت الفتاةُ الشابة ضاحكةً: «وأيُّهما هو الجانب الصحيح؟»
ردَّ الشاب المسمى كروك قائلًا: «الجانب الذي تكونين أنتِ فيه.»
بينما كانا يسيران معًا بين نباتات الغار باتجاه الحديقة الأمامية، انطلق صوتُ بوق سيارةٍ ثلاثَ مرات، وفي كل مرة كان يقتربُ أكثر وأكثر، ودخلت سيارة غاية في الأناقة ذاتُ لون أخضر فاتح إلى الممر بسرعة كبيرة مثلَ طائر، ووقفتْ تختلج أمام الباب الأمامي.
قال الشاب: «مرحبًا، مرحبًا! هاك شخصٌ وُلد على الجانب الصحيح من السور على أي حال. لم أكن أدري يا آنسة آدامز أن سانتا كلوز خاصتك عصريٌّ إلى هذه الدرجة.»
«هذا أبي الروحي، السير ليوبولد فيشر. إنه يأتينا دائمًا في يوم الصناديق.»
ثم أضافت روبي آدامز، بعد وقفة بريئة، كشفتْ دون قصدٍ منها عن الفتور وانعدام الحماس: «إنه طيب جدًّا.»
كان جون كروك الصحفي قد سمع بتلك الشخصية البارزة في المدينة، ولم يكن خطؤه أن تلك الشخصية لم تَسمعْ به؛ فقد تناولت بعضُ المقالات في جريدة «ذا كلاريون» أو «ذا نيو إيدج» سيرةَ السير ليوبولد بفظاظة. لكنه لم يقلْ شيئًا ووقف متجهِّمًا يراقبُ عملية إفراغ السيارة التي استغرقتْ وقتًا طويلًا جدًّا. خرج سائقٌ ضخمٌ أنيق يَتَّشِحُ بملابسَ خضراء من المقعد الأمامي، وخادمٌ ضئيل الحجم أنيق يرتدي ملابس رمادية من الخلف، وبينهما سار السير ليوبولد حتى الباب، ثم بدءوا بإزالة الأغطية عنه كأنهم يفتحون طَردًا مغلَّفًا بعناية شديدة. خلعوا عنه بطانيات تكفي لملء بازار، وفِراءً من جميع أنواع الحيوانات البرية، وأوشحة بجميع ألوان الطَّيف، قطعة تلو الأخرى، حتى ظهَر من تحتها ما يُشبه هيئة الإنسان؛ رجلٌ عجوز ذو ملامح وَدودةٍ ولكنها أجنبية، له لحيةٌ رَمادية كلِحَى الماعز وابتسامةٌ متألقة، أخذ يَفرُك يدَيه، اللتين تُغلِّفهما قفازاتٌ كبيرة من الفرو، معًا.
قبل اكتمالِ هذا المشهد بفترة طويلة، كان البابان الكبيران للرُّواق الأمامي قد فُتحا من منتصفهما وخرج منهما الكولونيل آدامز (والد الفتاة المتَّشحة بالفِراء) ليدعوَ ضيفَه المرموق إلى الدخول بنفسه. كان رجلًا طويلَ القامة، صامتًا للغاية، سفعتْه الشمسُ بسمرتها، يرتدي قبَّعةَ تدخين حمراء مثل الطربوش جعلتْه يبدو كسردار إنجليزي أو باشا مصري، وكان معه شقيقُ زوجتِه الذي عاد مؤخَّرًا من كندا، وهو مزارعٌ شاب ضخمُ الجثة، وصاخب له لحية شقراء واسمه جيمس بلاونت. وكان معه أيضًا قِسُّ الكنيسة الكاثوليكية الرومانية المجاوِرة ذو البِنية الأكثر ضآلة؛ لأن زوجة الكولونيل الراحلة كانت كاثوليكية، ونشأ أبناؤهما على مذهبها كما هو معتادٌ في مثل هذه الحالات. كان كلُّ شيء بخصوص القس يبدو غيرَ مميَّز، حتى اسمه الذي كان براون؛ ولكن الكولونيل كان يجدُ فيه دائمًا ما يدعو للأُلفة، وكان يدعوه باستمرار إلى تلك التجمُّعات العائلية.
كانت رَدهةُ البيت الأمامية واسعةً، وكان بها متسعٌ حتى للسير ليوبولد وعملية إزالة الأغطية من عليه. كان الرواق والردهة واسعَين بدرجة كبيرة بالنسبة لأبعاد المنزل، وكوَّنَا معًا غرفة كبيرة في أحد طرفيها الباب الأمامي وفي الطرف المقابل بداية الدرج. وأمام مِدفأة الردهة الكبيرة، المعلَّق فوقها سيفُ الكولونيل، اكتملت العملية وقُدِّم ذلك الجمعُ ومعهم كروك العابس للسير ليوبولد فيشر. غيرَ أن رجل الاقتصاد الجليل كان لا يزالُ يصارع مع أجزاء من ملابسه المبطَّنة بعناية، وبعد وقتٍ طويل أخرج من جيبٍ داخلي بمِعطفه ذي الذيل علبةً بيضاوية سوداء، وقال بسعادة: إنها هديةُ عيدِ الميلاد المجيد لابنته الروحية. وبخُيَلاء طبيعية شابها الغرورُ وإن كان بها ما يُثير الإعجابَ، أمسك العُلبةَ أمامهم جميعًا، وبلمسةٍ منه فتحَها وأصابَهم بعمًى نصفيٍّ. كان الأمرُ وكأنَّ نافورةً بلورية قد تدفَّقت في أعينهم. ففي عُشٍّ من المخمل البرتقالي رقدَتْ مثل البيض ثلاث ألماسات بدت وكأنها تشعلُ النار في الهواء من حولهم جميعًا. وقف فيشر مبتسمًا بلُطف مستمتعًا بالدهشة والفرحة العارمة التي ظهرت على الفتاة، ونظرات الإعجاب العابسة وكلماتِ الشكر الجافة التي خرجت من الكولونيل، واستغراب الجمع كله.
قال فيشر معيدًا العُلبة إلى أغوار مِعطفه: «سوف أعيدُها إلى مكانها الآن يا عزيزتي. كان يجب أن أكونَ حذرًا وأنا أحضرها إلى هنا. هذه ثلاثُ ألماسات أفريقية عظيمة تُسمَّى «النجوم الطائرة»؛ لأنها سُرِقت كثيرًا من قبلُ. جميعُ المجرمين العتاة يَقتفون أثرَها؛ ولكن حتى الرجال الغِلاظ في الشوارع والفنادق لا يستطيعون مقاومةَ سرقتِها. كان يمكنُ أن أفقدَها في طريقي إلى هنا. كان ذلك محتمَلًا جدًّا.»
تذمَّر الرجل ذو رابطة العنق الحمراء قائلًا: «أعتقد أن هذا أمرٌ طبيعي تمامًا. لم أكن لأَلومَهم لو كانوا أخذوها. عندما يتسوَّلون الخبزَ ولا تُعطيهم حتى حجرًا، أظن أن لهم كلَّ الحق في أن يأخذوا الحجر بأنفسهم.»
صاحت الفتاةُ في انفعال حماسيٍّ غريب قائلةً: «لن أسمحَ لك بأن تتحدَّثَ بهذا الأسلوب، أنت تتحدَّثُ كذلك منذ تبنَّيتَ هذا الاتجاه البغيضَ الذي لا أذكر اسمَه. أنت تعرفُ قصدي. ماذا تُسمِّي رجلًا يريد أن يَحتضنَ مُنظِّفي المداخن؟»
قال الأب براون: «أُسَمِّيه قدِّيسًا.»
قال السير ليوبولد بابتسامة متعجرفةٍ: «أعتقدُ أن روبي تقصدُ أنه اشتراكيٌّ.»
رد كروك بنفاد صبرٍ: «الراديكالي ليس شخصًا يستمعُ طوال الوقت إلى الراديو، والمحافظ ليس شخصًا يحفظ المربَّى. وأؤكِّدُ لكم كذلك أن الاشتراكيَّ ليس شخصًا يريد أن يُشاركَ مُنظِّفي المداخن أُمسيةً اجتماعية. إنما الاشتراكي شخصٌ يريد أن تُنظَّفَ جميعُ المداخن ويريد كذلك أن يتلقَّى جميعُ منظِّفي المداخن أجرًا مقابلَ ذلك.»
قال القسُّ بنبرةٍ خافتة: «ولكنه لن يسمحَ لك بامتلاك سُخامِ مِدخنتِك.»
نظر إليه كروك نظرةَ اهتمام واحترامٍ، وتساءلَ: «وهل هناك من يرغبُ في امتلاك السُّخام؟»
أجابه براون بنظرة شكٍّ قائلًا: «قد يرغبُ أحدُهم بذلك. لقد سمعت أن البستانيِّين يستخدمونه. وقد أدخلت السرور ذاتَ مرة على قلب ستة أطفال في عيد الميلاد، عندما لم يأتِ الساحر، بأن دهنتُهم بالسُّخام.»
صاحتْ روبي: «هذا رائع، أتمنَّى لو تفعل ذلك في هذا الجمع.»
كان الكندي الصاخب، السيد بلاونت، يهمُّ برفع صوته المرتفع بالإطراء، وكذلك رجل الاقتصاد المندهش (في استنكار بالغ)، عندما سُمِع صوتُ طرقٍ على الباب الأمامي المزدوج. فتح القسُّ البابَ، وظهرت من خلاله مرة أخرى الحديقةُ الخضراء الأمامية وشجرة الأروكاريا وباقي المشهد، وقد بدا مُظلمًا الآن وسط غروبٍ بَنفسَجيٍّ خلَّاب. كان المشهد البارزُ عبرَ الباب، وكأنه داخِلَ إطارٍ، ملونًا وجذَّابًا، مثل منظر خلفي في مسرحية، مما جعلهم ينسون لوهلة الشخص التافه الواقف أمام الباب. كان متربًا يرتدي مِعطفًا باليًا، وبدا واضحًا من مظهره أنه ساعي بريد عادي. تساءلَ وهو يمدُّ يدَه بخطاب في تردُّدٍ: «أيوجدُ بينكم أيها السادة شخصٌ يُدعَى السيد بلاونت؟» همَّ السيد بلاونت ليصيح بالموافقة، ولكنه أنهى صيحتَه قبل اكتمالها. فتحَ الخطاب وقرأه باندهاش واضح، وأظلم وجهُه قليلًا ثم صفَا، والتفت إلى زوج أخته ومضيفه قائلًا بأسلوب مُواطنِي المستعمرات المَرِح:
«أكره أن أكونَ مصدرَ إزعاجٍ يا كولونيل، لكن هل يُضايقُكَ إن مرَّ بي صديقٌ هنا الليلةَ في زيارة عمل؟ في واقع الأمر، ذلك الصديق هو فلوريان، لاعب الأكروبات والممثل الكوميدي الفرنسي؛ لقد تعرفتُ عليه منذ سنوات وقتما كنت في الغرب (هو فرنسي كندي)، ويبدو أنه يريدني في عمل، مع أني أجد صعوبةً في تخمين ماهيته.»
رد الكولونيل دون أن يعير الأمر اهتمامًا: «بالطبع، بالطبع، أيُّ صديق لك هو موضع ترحيب يا ولدي العزيز. لا شك أنه سيكون إضافة رائعة للجمع هنا.»
صاح بلاونت ضاحكًا: «لن يُمانعَ في طِلاء وجهه باللون الأسود إذا كان ذلك هو قصدَك. لا أشكُّ في أن منظره سيُزعج الجميع. لكن لا يهمُّني ذلك؛ فأنا لستُ نِيقًا. فأنا أحبُّ العُروض الإيمائية القديمة المرِحة، التي يجلسُ فيها رجلٌ فوق قُبَّعته العالية.»
قال السير فيشر بوَقار: «أرجو ألا يجلسَ فوق قُبَّعتي.»
قال كروك بمرَح: «حسنًا، حسنًا، دَعونا لا نتشاجر. توجد دُعاباتٌ أكثرُ دناءةً من الجلوس فوق قُبَّعة عالية.»
دفع كرهُ فيشر للشابِّ ذي رابطة العنق الحمراء النابعُ من آرائه الهجومية وقُربِه الواضح من ابنته الروحية الجميلة لأن يقول بأقصى ما لديه من السخرية والتعالِي: «لا شك في أنكَ عرفتَ ما هو أكثرُ دناءةً بكثير من الجلوس فوقَ قُبَّعة عالية. هلَّا أخبرتَنا ما هو؟»
ردَّ الاشتراكيُّ قائلًا: «أن تدَعَ قُبَّعةً عالية تجلِسُ فوق رأسِك على سبيل المثال.»
صاح المزارع الكندي بطيبته العفوية: «مهلًا، مهلًا، دعونا لا نُفسِد أُمسيةً مُبهجة. أعني، لنَقُمْ بشيء لهذا الجَمعِ الليلةَ؛ شيءٍ لا يتضمن طِلاءَ الوجوه باللون الأسود أو الجلوسَ على القُبَّعات إذا كنتم لا تُحبُّون ذلك، ولكن لِيكُن شيئًا من هذا القبيل. لِمَ لا يكون ذلك مسرحية إيمائية إنجليزية أصيلة، بها المهرج هارلي كوين وحبيبته كولومبين وما إلى ذلك؟! لقد شاهدتُ إحدى تلك المسرحيات قبل أن أغادر إنجلترا وأنا في الثانية عشرة، وعلِقتْ بذهني منذ ذلك الحين كالنار التي تُضرم في الهواء. وعُدتُ إلى البلاد العام الماضي فقط لأجدها قد اختفت. ولم يَعُد هناك سوى المسرحيات الخيالية الحزينة. أريد مسرحيةً يكون بها مِسْعَر محْمِي ورجلُ شرطة يتحول إلى نَقانِق، ثم يُقدِّمون أميراتِ تُلقين المواعظ تحت ضوء القمر، وطيورًا زرقاء، أو ما شابه. أرى مسرحية «ذو اللحية الزرقاء» أقرب إلى ذوقي، وأكثرُ ما يعجبني فيها عندما يتحول ذو اللحية الزرقاء إلى شخصية بانتالون.»
قال جون كروك: «أنا أميلُ أكثر لتحويل رجل شرطة إلى نقانق. هذا تعريف أفضل للاشتراكية مما ظهر مؤخرًا. ولكن الأزياء ستكون مسألةً صعبة.»
صاح بلاونت بحماس شديد: «على الإطلاق، إن المسرحياتِ الإيمائية الكوميدية هي أسرعُ شيء يمكننا القيامُ به لسببين: الأول هو أننا سنضحك مِلءَ فمِنا، والثاني هو أن جميعَ الأشياء المطلوبة هي أدواتٌ منزلية، كالطاولات وحاملاتِ المناشف وسِلالِ الغسيل وما شابه.»
وافقه كروك وهو يُومئُ برأسه في لَهفةٍ ويجولُ قائلًا: «هذا صحيحٌ، لكن أخشى أنني لا يمكنُني الحصولُ على زيِّ رجل الشرطة؛ فأنا لم أقتل أيَّ رجل شرطة مؤخَّرًا.»
قطَّب بلاونت حاجبيه مفكِّرًا لبعض الوقت، ثم ضرَب على فخِذِه، وصاح: «بل يُمكنُنا ذلك! لديَّ عنوان فلوريان وهو يعرفُ جميعَ مصمِّمِي الأزياء المسرحية في لندن. سوف أُهاتفُه لأطلبَ منه أن يُحضر معه زيَّ رجل شرطة عندما يأتي إلى هنا.» ثم اتَّجه إلى الهاتف وهو يتقافز في حماس.
صاحت روبي وهي تتراقصُ فرحًا: «هذا رائع يا أبي الروحي. سوف ألعب دَورَ كولومبين، ويمكنُك أن تكون بانتالون.»
تصلَّب المليونير في مكانه مثلَ إله وَثَنيٍّ، وقال: «أعتقدُ يا عزيزتي أنَّكِ يجبُ أن تستعيني بشخص آخرَ لدور بانتالون.»
أخرج الكولونيل آدامز السيجارَ من فمه وتحدَّث للمرة الأولى والأخيرة قائلًا: «سوف ألعبُ أنا دَورَ بانتالون إن أردتِ.»
صاح الكندي في طريق عودته بعد انتهائه من المكالمة مبتهجًا: «تستحقُّ أن يُنصبَ لك تمثالٌ، بذلك نكون قد وزَّعْنا الأدوارَ علينا. سوف يقوم السيدُ كروك بدَور المهرِّج؛ فهو صحفيٌّ ويعرفُ جميع الدُّعاباتِ القديمة. يمكنني أن أقوم بدور هارليكوين؛ فذلك لا يتطلَّب غيرَ ساقَين طويلتين والتقافُزَ هنا وهناك. لقد اتصل صديقي فلوريان، وقال إنه سيُحضِرُ معه زيَّ رجلِ الشرطة، وسوف يُغيِّرُ ملابسَه في طريقه إلى هنا. يمكنُنا أن نؤدِّيَ المسرحية في هذه الرَّدْهةِ، بينما يجلس المتفرجون على تلك السلالم العريضة المقابلة في صفوف متتالية. ويمكنُنا أن نستخدمَ هذين البابين الأماميَين كمنظرٍ خلفيٍّ سواء مفتوحَين أو مغلقَين. لو أبقيناهما مغلقين، سيكون لدينا ديكورٌ داخلي ذو طابع إنجليزي. أما إذا فُتحا، سيكون لدينا حديقةٌ يُنيرها ضوءُ القمر. إنه شيء أشبهُ بالسحر.» ثم أمسك بقطعة من طبشور البلياردو وجدها بالصدفة في جيبه، ورسَم بها خطًّا بعرض الرَّدْهةِ في منتصف المسافة بين الباب الأمامي والدَّرَج لتمييز خطِّ أضواء المسرح.
ظلَّ إعدادُ هذه المأدبة الهزلية في هذا الوقت القصير لغزًا غامضًا. ولكنهم مضوا في الأمر بمزيج الاندفاع والحماس الذي يظهر عندما يكون الشباب حاضرًا في بيت، وكان هناك بالفعل شبابٌ في البيت تلك الليلة، مع أنه كان من الصعب على البعض تمييزُ الوجهين والقلبين اللذين نبعَ منهما هذا الشباب. وكما يحدث دائمًا، ظل الإبداعُ يزداد جموحًا ويخرج عن طَور الأُلفة المعهودة لأعراف الطبقة المتوسطة التي خرجت منها الأفكارُ. بدت كولومبين ساحرةً وهي ترتدي تنورةً رائعة تُشبه إلى حدٍّ كبير غِطاءَ المصباح الكبير الموجودِ في غرفة الاستقبال. ودهَن المهرِّج وهارليكوين نفسَيهما بالأبيض مُستعينَين بالدقيق الذي حصَلا عليه من الطبَّاخ، وبالأحمر مستخدمَين أحمرَ الشِّفاه الذي حصَلا عليه من أحد سكان المنزل، لم يُرد الإفصاحَ عن هويته (كجميع المتبرعين المسيحيين المخلصين). بصعوبة، مُنِع هارليكوين الذي غطَّى نفسَه بالورق الفضيِّ الذي جاء به من علب السيجار من تكسير الثريات الفيكتورية القديمة المتلألئة لكي يُزيِّنَ نفسَه بكريستالاتها اللامعة. في الواقع، كان سيفعل ذلك بلا شك لولا أن روبي أخرجتْ بعضَ المجوهَرات المُقلَّدة الخاصة بالمسرحيات الإيمائية، التي ارتدتْها في حفلٍ تنكُّريٍّ عندما تنكَّرت في زيِّ ملكة الألماس في أوراق اللعب. وكاد خالُها جيمس بلاونت يخرج عن السيطرة حقًّا من فرط حماسته؛ كان يتصرَّف كطفل صغير. وضَع رأس حمارٍ ورقيٍّ فجأةً على رأس الأب براون، الذي تحمَّلها بصبر، حتى إنه وجدَ طريقةً خاصة لتحريك أُذنَيه. بل حاول أن يلصَقَ ذيلَ حمار ورقيٍّ بذَيل مِعطف السير ليوبولد فيشر، إلا أن ذلك قُوبل بالرفض. صاحَتْ روبي قائلةً لكروك وهي تُثبِّتُ حول كتفيه سلسلةً من النقانق في جدِّيَّة: «إن خالي في غاية السخافة. لماذا يتصرَّف بهذا التهور؟»
ردَّ كروك قائلًا: «إنه يؤدي دورَ هارليكوين حبيب كولومبين. أما أنا، فلستُ سوى المهرج الذي يُلقي الدعابات القديمة.»
فقالت: «كنت أتمنَّى أن تقومَ أنت بدور هارليكوين.» ثم تركتْ سلسلة النقانق تتدلَّي.
على الرغم من أن الأب براون كان على دراية بجميع تفاصيل ما دار خلفَ الكواليس، حتى إنه نالَ قِسطًا من التصفيق عندما حوَّل وِسادةً إلى طفل رضيع عبْرَ الحركات الإيمائية، فقد ذهب إلى مقدمة الصفوف، وجلس بين الجمهور بترقُّبٍ كطفل صغير ليحضرَ حفلَه النهاري الأول. كان عدد المُتفرجين قليلًا، منهم بعض الأقرباء، وصديق أو اثنان من الجوار، والخدم؛ جلس السير ليوبولد في المقعد الأمامي، حاجبًا المشهدَ بجسده الممتلئ وعنقه الذي كان لا يزال مزيَّنًا بالفِراء عن القس الضئيل الحجم الجالس خلفه، ولكن لم يحسم خبراءُ الفنون إن كان القس قد فاته الكثيرُ. كانت المسرحيةُ فوضويةً تمامًا، إلا أنها لم تكن مبتذَلةً، وكان يتخلَّلُها الكثيرُ من الارتجال كان مصدرَه الأساسي كروك المهرج. كان رجلًا ذكيًّا بوجهٍ عام، وفي تلك الليلة كانت تُحرِّكُه معرفةٌ غيرُ محدودة، حماقةٌ تفوقُ حكمةَ العالم مجتمعة كتلك التي تنزل على شابٍّ لمَحَ للحظة تعبيرًا بعينه ارتسم على وجهٍ بعينه. كان مفترضًا أن يؤديَ دورَ المهرج، ولكنه فعليًّا كان يؤدي جميعَ الأدوار الأخرى، كان بمنزلة المؤلف (إذا افترضنا أن هناك مؤلِّفًا)، والمُلقِّن، ومنسق المشاهد، ومبدِّل المناظر، وفوق كل ذلك الفرقة الموسيقية. فقد كان يقفزُ بكامل ملابسه في الفواصل المفاجئة خلالَ العرضِ المسرحي الشنيع أمام البيانو، ويعزفُ مقطوعةً موسيقية مشهورة غريبةً وملائمة في الوقت ذاتِه.
وجاءت ذِروةُ هذا المشهد، وجميعُ المشاهد الأخرى، عندما فُتِح البابان الأماميان في خلفية المشهد لتظهر الحديقةُ الجميلة التي يُنيرها ضوءُ القمر، ولكنَّ الأبرزَ كان الضيفَ المحترف المشهور، الممثل القدير فلوريان، في زي رجل شرطة. عزَف المهرج الجالسُ أمام البيانو اللازمة العسكرية من أوبريت «قراصنة بيزانس»، ولكنَّ عزْفَه غَرِق وسطَ أصوات التصفيق الحاد؛ فكلُّ إيماءة من الممثل الكوميدي القدير كانت تقليدًا دقيقًا لأسلوب وطريقة رجال الشرطة لدرجةٍ تُثير الإعجابَ على الرغم من كونه مقيدًا. قفز هارليكوين نحوه وضربَه فوق خُوذته، وعلى أنغام أغنية «من أين لك هذه القبعة؟» التي كان يعزفُها عازفُ البيانو، التفتَ مجسِّدًا على وجهه دهشةً مثيرة للإعجاب، ثم ضربه هارليكوين المتقافز مرة أخرى (وعازف البيانو يَعزِف مقطعًا من أغنية «ثم تلقَّينا ضربةً أخرى»)، ثم اندفع هارليكوين محتضنًا رجل الشرطة وسقَط فوقه وسطَ عاصفةٍ من التصفيق الحاد. بعدها قام الممثل الغريب بتلك المحاكاة الشهيرة للميت، والذي لا تزال شهرتُه باقيةً في بوتني حتى الآن. كان أمرًا شبْهَ مستحيل تصديق أن رجلًا على قيد الحياة يمكن أن يبدوَ بهذا الارتخاء.
كان هارليكوين الرياضي يُؤرجِحُه مثل جوال أو يَثنيه أو يَقذفه مثل هراوة هندية، كلُّ ذلك على النغمات الهزلية الشديدة الاستفزاز الصادرة من البيانو طوال الوقت. عندما رفع هارليكوين رجلَ الشرطة الكوميدي عن الأرض بقوة، عزَف المهرج أغنيةَ «أفقت من أحلامي بك». وعندما حمله على كتفه عزَف مقطعَ «وأنا أحمل صرتي على كتفي»، وعندما ترك هارليكوين رجلَ الشرطة يسقط محدِثًا ضجةً مقنعة للغاية، عزَف المجنون الجالس أمام البيانو تفعيلةً مجلجلة، وراح يتغنَّى ببعض الكلمات التي لا يزال يُعتقد أنها كانت تقول: «أرسلت خطابًا إلى حبيبتي وسقَط مني في الطريق.»
عند هذا الحدِّ من الفوضى العقلية، حُجِب المشهدُ تمامًا عن الأب براون؛ فقد هبَّ رجلُ المدينة البارز الجالس أمامه من مجلسه مفتشًا جيوبَه بعنف، ثم جلس في توتُّرٍ وهو لا يزال يتحسَّسُها، ثم هبَّ واقفًا مرة أخرى. لوهلة بدا وكأنه سيخطو عابرًا خطَّ أضواءِ المسرح؛ ثم نظَر بغضب إلى المهرج الجالس أمام البيانو، وانطلق خارجًا من الغرفة في صَمْت.
جلس القسُّ لدقائق معدودة يشاهد رقصة هارليكوين الهاوي الراقية، على الرغم من عبثيَّتها، التي أدَّاها حول جثة خصمِه الذي كان يتصنَّعُ فقدانَ الوعي بأداء مُبهر. وبحسٍّ فني فَجٍّ ولكنه حقيقي، رقص هارليكوين ببطء متراجعًا للخلف حتى عبَر الباب إلى الحديقة التي يغمرها ضوءُ القمر ويعمُّها السكون. بدا زِيُّه المرقَّعُ بالورق الفضي والمجوهَرات المقلَّدة، والذي كان متوهِّجًا بشدة في أضواء المسرح، أكثرَ سحرًا ولمعانًا وهو يتراقَص مبتعدًا تحت ضوء القمر الساطع. كان الجمهور يقتربُ منه وسط موجةٍ من التصفيق، عندما شعر براون بلمسة مباغتة على ذراعه، وهمَسَ أحدُهم في أُذنِه مطالبًا إياه بأن يرافقَه إلى مكتب الكولونيل.
اتَّبع براون مُستدعيه بقلق مُتزايد لم تُبدِّدْه هزليةُ المشهد الذي رآه داخلَ حجرة المكتب. كان الكولونيل آدامز يجلس ولا يزال مرتديًا زيَّ بانتالون بعظمة الحوت البارزة المُتدلية فوق حاجبه، غيرَ عابئ به، ولكن كان في عينيه المسكينتَين من الحزن ما يكفي لإفاقة رواد حفلٍ صاخب من سكرتهم. أما السير ليوبولد فيشر، فوقَف مستندًا إلى المِدفأة يتنفَّس بصعوبة وقد بدا الهلعُ واضحًا عليه.
قال آدامز: «حدث أمرٌ مؤلم جدًّا أيها الأب براون. يبدو أن الألماسات التي شاهَدْناها جميعًا عصرَ اليوم اختفت من جيب المعطف ذي الذيل الخاص بصديقي. ولأنك …»
أكمل الأبُ براون عبارةَ آدامز بابتسامة عريضة: «ولأنني كنتُ أجلس خلفه مباشرةً …»
قال الكولونيل آدامز: «أنا لا ألمحُ إلى شيء من هذا القبيل.» ورمَق فيشر بنظرة حازمة تشير ضمنًا إلى وجود تلميح لشيء من هذا القبيل بالفعل. «أنا فقط أستسمحُكَ أن تمنحني المساعدةَ التي قد يُقدِّمُها أيُّ رجل نبيل في موقف كذلك.»
قال الأب براون: «تَعني أن أفرغ جيوبي؟» وبدأ في القيام بذلك، فأخرج سبعةَ شلنات ونصف شِلن، وتذكرة عودة، وصليبًا فضيًّا صغيرًا، وكتاب صلوات صغيرًا، وقطعة من الشوكولاتة.
نظر الكولونيل إليه طويلًا ثم قال: «أتدري، أودُّ أن أعرف ما بذهنك وليس ما بجيوبك. إن ابنتي إحدى رعاياك، وأنا أعلم؛ حسنًا، لكنها مؤخَّرًا …» وقطع حديثه.
صاح فيشر العجوز قائلًا: «لكنها مؤخَّرًا فتحت بيتَ أبيها لاشتراكيٍّ حقيرٍ يقول صراحةً إنه لا يُمانع في أن يسرقَ أيَّ شيء من رجل أغنى منه. وها قد تحقَّقَ ما يريده. ها هو الرجل الأغنى، الأغنى بكثير.»
قال الأب براون بضَجَر نوعًا ما: «إذا كنتَ تريد معرفة ما يدور بذهني فسأُخبرك، وبعدها تُقرِّرُ أنت أهميتَه. ولكن أول ما يدور بذهني بخصوص سرقة جيبك هو: أن الرجال الذين يَنوون سرقةَ ألماسات لا يتحدَّثون عن تأييدهم للاشتراكية.» وأضاف برَزانةٍ: «بل على الأرجح يهاجمونها.»
اعتدل الرجلان بحدَّة واستطرد القَسُّ قائلًا:
«كما تَريانِ، نحنُ نعرف هؤلاء الأشخاصَ بدرجة ما. واحتمالية أن يسرقَ الاشتراكيُّ ألماسةً تُضاهي احتماليةَ سرقتِه أحد الأهرامات. يجب أن ننظر فورًا إلى الرجل الذي لا نعرفه. الرجل الذي يؤدِّي دورَ رجل الشرطة، فلوريان. تُرى أين هو الآن؟»
هبَّ بانتالون واقفًا واتَّجه بخطًى سريعة إلى خارج الغرفة. سادت فترةٌ من الصمت، كان المليونير يُحدِّقُ خلالها في القسِّ، والقسُّ يحدِّقُ في كتاب الصلوات، بعدها عاد بانتالون قائلًا: «رجل الشرطة لا يزال راقدًا على أرض المسرح. لقد رُفع الستارُ وأُسدلَ ستَّ مرات وهو لا يزال راقدًا هناك.»
سقط الكتابُ من يد الأب براون الذي وقف مُتسمِّرًا وارتسمتْ على ملامحه نظرةٌ مضطربة جوفاءُ. وببطءٍ شديد بدأت لمعةٌ تتسلَّلُ إلى عينيه الرماديتَين ثم نطَق بالإجابة التي كانت بالكاد مفهومةً.
«عذرًا يا كولونيل، ولكن متى تُوفِّيَت زوجتُك؟»
ردَّ العسكري المحملق: «زوجتي! لقد تُوفِّيَت هذا العام منذ شهرَين. لقد وصل أخوها جيمس بعد وفاتها بأسبوع.»
وثب القسُّ القصير مثل الأرنب، وصاح بحماس غير عادي: «هيَّا تعالَ! تعالَ! يجبُ أن نُلقِيَ نظرةً على رجل الشرطة ذاك!»
انطلقوا مسرعين إلى المسرح الذي كان الستارُ مسدلًا عليه الآن، ومرُّوا سريعًا بجوار كولومبين والمهرِّج (الذي بدا يهمسُ لها مبتهجًا)، وانحنى الأبُ براون فوق رجل الشرطة الكوميدي الممدَّدِ على الأرض.
قال وهو يعتدلُ واقفًا: «إنه الكلوروفورم. لقد خمَّنْتُ ذلك للتوِّ فقط.»
عمَّ سكونٌ مخيف، ثم قال الكولونيل ببطءٍ: «أرجوك لتكن جادًّا وأخبرْنا ماذا يعني ذلك.»
انفجر الأبُ براون في الضحك فجأةً، ثم توقَّف وأخذَ يقاوم الضحكَ للحظات خلالَ بقية حديثه، ثم قال لاهثًا: «أيها السادة، ليس لدينا وقتٌ للحديث. يجب أن ألحقَ بالمجرم. ولكن هذا الممثل الفرنسي القدير الذي لعب دورَ رجلِ الشرطة — ذلك الرجل الذي قلَّد الجثة ببراعة وكان هارليكوين يتراقصُ به ويهدهده ويتقاذفه — لقد كان …» وخانه صوتُه مرةً أخرى واستدارَ على عقبَيه راكضًا.
صاح فيشر متسائلًا: «كان ماذا؟»
ردَّ الأبُ براون: «كان رجلَ شرطة حقيقيًّا.» ثم ركَض مبتعدًا في الظلام.
في أقصى أطرافِ تلك الحديقة المورقة كانت توجدُ تجاويفُ وتعريشاتٌ، كوَّنَتْها أشجارُ الغار والشجيرات الأخرى الدائمة الخضرة، وفي خلفيتها ظهرت السماءُ بلون الياقوت الأزرق، والقمرُ بلون الفضة؛ حتى في منتصف الشتاء كانت الألوانُ دافئةً كألوان الجنوب. رسَم اللون الأخضر المبهج لأوراق الغار المتمايلة، والأرجواني الداكن لسماء الليل، والقمر الذي كان يبدو كألماسة ضخمة؛ لوحةً رومانسية مبهجة، وبين الأغصان العالية لأشجار الحديقة كان هناك شخصٌ غريب يتسلَّق، لم يبدُ رومانسيًّا بقدر ما كان يبدو مستحيلًا. فقد كان يتلألأُ من رأسه حتى قدميه، كأنما تُغطيه ملايينُ الأقمار، ويرصُدُ ضوءُ القمر الحقيقيُّ كلَّ حركة يقوم بها وكأنما يشعلُ النارَ في كل جزء جديد يظهر منه. ولكنه تأرجَحَ قافزًا من الشجرة القصيرة في هذه الحديقة إلى الشجرة الطويلة المتمايلة في الحديقة المجاورة، وهناك توقَّفَ فقط لأنه رأى ظلًّا تحت الشجرة القصيرة والذي نادى عليه بوضوح.
قال الصوت: «حسنًا يا فلامبو، أنت تبدو حقًّا كنجمة طائرة، ولكن النجمة الطائرة لا بد أن تسقط في النهاية.»
انحنَى الشخص المتلألئ في الأعلى للأمام بين أغصان الغار وبعد أن ضَمِن طريقَه للهروب، استمع إلى الشخص الضئيلِ الحجم الواقف في الأسفل.
«لم تأتِ بما هو أفضل من ذلك يا فلامبو. كان من الذكاء أن تأتيَ من كندا (بتذكرة من باريس حسبما أظن) بعد وفاة السيدةِ آدامز بأسبوع فقط حينما لم تكن الحالةُ المزاجية لأحد تسمحُ بطَرْحِ أي أسئلة. والأكثرُ دهاءً هو أنك حدَّدتَ مكانَ النجوم الطائرة ويومَ قُدوم فيشر بالتحديد. ولكن ما يلي يتخطَّى الذكاء إلى العبقرية. لم تكن سرقةُ الأحجار أمرًا صعبًا عليك حسبما أظن؛ كان بإمكانك القيامُ به بخفَّة يدٍ بمئات الطرق الأخرى بجانب التظاهر بوضع ذَيلِ حمار ورقيٍّ في ذيل مِعطف فيشر. ولكنَّك تفوقْتَ على نفسك بما فعلتَه بعد ذلك.»
تسمَّرَ الشخصُ المكسو باللون الفضي في مكانه بين الأوراق الخضراء وكأنه مُنوَّمٌ مغناطسيًّا، مع أن طريق الهروبِ كان سهلًا وراءه، وحدَّق في الرجل الواقف بالأسفل.
قال الرجل الواقف بالأسفل: «نعم أنا أعرفُ كلَّ شيء. أعرف أنك لم تفرض المسرحية الإيمائية فحسب، بل استخدمتَها لغرضَين أيضًا. كان من المفترض أن تسرقَ الأحجارَ بهدوء؛ لكن جاءَك خبرٌ من أحد شُركائِك أنك قد أَثَرتَ الشُّبهاتِ بالفعل، وأنَّ رجلَ شرطةٍ قديرًا كان قادمًا للقبض عليك في تلك الليلة بالتحديد. أيُّ لصٍّ عاديٍّ كان سيمتنُّ لهذا التحذير ويفرُّ هاربًا، لكنك شاعرٌ! كنتَ قد توصلتَ بالفعل إلى فكرة ذكية، وهي إخفاء المجوهرات الحقيقية وسط المجوهرات المسرحية المقلَّدة، ورأيتَ أنك إذا ارتديتَ زي هارليكوين، فسيكون ظهورُ رجل الشرطة متماشيًا معه. خرج ضابط الشرطة القدير من مركز شرطة بوتني للبحث عنك، ولكنه وقَع في أغرب فخٍّ نُصِب في العالم؛ فعندما فُتح البابُ الأمامي، اتَّجه مباشرةً نحو خشبة المسرح حيث تؤدَّى مسرحيةٌ إيمائية بمناسبة عيد الميلاد، حيث يمكن لهارليكوين الراقص أن يركلَه، ويَضربَه، ويُباغتَه ويُخدِّرَه وسط هدير ضحكات وُجهاءِ بوتني. حقًّا لن تأتيَ بما هو أفضلُ من ذلك. والآن بالمناسبة، بإمكانك أن تُعيدَ إليَّ هذه الألماسات.»
اهتزَّ الغصنُ الأخضر الذي تأرجحَ عليه الشخص المتلألئُ وكأنه في دهشة، ولكنَّ الصوتَ استَطرد قائلًا:
«أريدك أن تُعيدَ الألماسات يا فلامبو وأن تهجُرَ تلك الحياة. لا يزال بك شيءٌ من رَيْعان الشباب والشرف وحِسِّ الفُكاهةِ، لا تظنَّ أن هذه الأشياءَ ستدومُ كثيرًا في هذا المجال. يستطيعُ البشرُ أن يَبقوا على مستوًى ما من الخير، ولكن ما استطاع إنسانٌ قط أن يظلَّ على مستوًى واحدٍ من الشرِّ، فطريقُ الشرِّ يظلُّ يجرُّكَ للأسفل، فيجعلُ الرجلَ الطيب شاربًا للخمر قاسيَ القلب، والرجلَ الصادق يقتل ويكذب. كم من رجال عرفتَهم مثلك كانوا في بدايتهم خارجين عن القانون لكنهم شرفاءُ مثلك، مجرد ناهبين لثروات الأغنياءِ، ولكنهم ما لَبِثوا أن سقطوا في الوحل! موريس بلوم بدأ ثائرًا صاحب مبدأ، نصيرًا للفقراء، وانتهى به الأمرُ بأن أصبحَ جاسوسًا حقيرًا وناقلَ أسرار استغلَّه الجانبان واحتقروه. هاري بورك أخذ على عاتقه سرقة الأموال من الأغنياء ونقلها إلى الفقراء دون أن يتكسَّب من وراء ذلك، والآن يتسوَّل البراندي والصودا من أخته التي تكاد تتضوَّر جوعًا. واللورد أمبر اقتحم الحياةَ الصاخبة بقدرٍ من الفروسية والنُّبل، والآن يدفع الرشاوى لأحقر الأشخاص في لندن ممَّن يبتزونه. الكابتن باريلون كان أحدَ قطَّاع الطرق النبلاء قبل ولادتك، ولكنه مات في مشفًى للمجانين وهو يصرخ خوفًا من «الجواسيس» ووكلاء الدائنين الذين خانوه وطاردوه. أعرفُ أن الغابة من خلفك تبدو خاليةً يا فلامبو، وأعلمُ أنك يُمكنك في لحظة أن تختفيَ داخلها كقِرد. ولكن يومًا ما ستصيرُ قِردًا عجوزًا يا فلامبو، سوف تجلسُ في غابتك الخالية خاوي القلب بينما تقترب من الموت، وستكون رءوسُ الأشجار خاليةً تمامًا.»
ظلَّ كلُّ شيء ساكنًا، كما لو أن الرجل الضئيلَ الحجم الواقفَ بالأسفل قد قيَّد الآخرَ أعلى الشجرة بقيد طويل غيرِ مرئيٍّ، ومضى في حديثه قائلًا:
«أنت تخطو أولى خطواتك نحو الهاوية. لقد كنتَ تتباهى بأنك لا ترتكبُ شرًّا، ولكن ما تفعلُه الليلة شرٌّ. إنك تُلقي بالشبهات حول شابٍّ شريف لديه الكثير ليواجهَه بالفعل، وتُفرِّقُ بينه وبين الفتاة التي يحبها وتحبه. ولكنك ستفعل ما هو أسوأ من ذلك قبل أن تموت.»
سقطتْ ثلاثُ ألماسات لامعة على العشب من أعلى الشجرة، وانحنى الرجلُ الضئيل الحجم ليلتقطها، وعندما نظر لأعلى مجدَّدًا وجد القفصَ الأخضر أعلى الشجرة وقد خلا من الطائر الفضي الذي كان بداخله.
أنهتِ استعادةُ المجوهَرات (التي زعم الأبُ براون، من بين جميع الحضور، أنه وجدها بالصدفة) الأمسيةَ بانتصار ساحق، وحتى السير ليوبولد وسط فرحتِه العارمة أخبر القسَّ أنه على الرغم من أن لديه رُؤًى أوسع، فإنه على استعداد لأن يحترمَ هؤلاء الذين تُحتِّمُ عليهم معتقداتُهم أن يظلُّوا على جهلهم وانعزالهم عن العالم.