مقدمة في نشأة البيمارستانات ونظامها وأطبائها وأرازقها
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أنبيائه أجمعين.
•••
هذه كلمة في تاريخ المستشفيات، وهي التي كان يُعبر عنها بكلمة بيمارستان في العهد
الإسلامي
إلى العصر الحاضر، أي إلى إنشاء مستشفى أبي زعبل بضاحية القاهرة، وهو أول مستشفى أنشئ
على النظام
الحديث في مصر سنة ١٨٢٥م.
وهذه البيمارستانات هي إحدى المنشآت والعمائر كالمساجد والتكايا والقباب والمدارس
إلخ … التي
كان يشيدها الخلفاء والسلاطين والملوك والأمراء وأهل الخير على العموم صدقة وحسبة وخدمة
للإنسانية
وتخليدًا لذكراهم. ولم تكن مهمة هذه البيمارستانات قاصرة على مداواة المرضى، بل كانت
في نفس الوقت
معاهد علمية ومدارس لتعليم الطب، يتخرج منها المتطببون والجراحون «الجرائحيون» والكحالون
كما
يتخرجون اليوم من مدارس الطب.
(١) تفسير كلمة بيمارستان
البيمارستان (بفتح الراء وسكون السين) كلمة فارسية مركبة من كلمتين (بيمار) بمعنى
مريض أو
عليل أو مصاب و(ستان) بمعنى مكان أو دار فهي إذن دار المرضى، ثم اختصرت في الاستعمال
فصارت
مارستان كما ذكرها الجوهري في صحاحه.
وكانت البيمارستانات من أول عهدها إلى زمن طويل مستشفيات عامة، تعالج فيه جميع الأمراض
والعلل من باطنية وجراحية ورمدية وعقلية، إلى أن أصابتها الكوارث ودار بها الزمن وحل
بها البوار
وهجرها المرضى، فأقفرت إلا من المجانين حيث لا مكان لهم سواها؛ فصارت كلمة مارستان إذا
سمعت لا
تنصرف إلا إلى مأوى المجانين.
وقبل الشروع في ذكر البيمارستانات رأينا أن نذكر كلمة في حال الطب عند العرب في مبدأ
نشأتهم
في الإسلام، ثم نلحقها بالبيمارستانات وترتيبها ونظام المداواة فيها واختيار الأطباء
ومعاملتهم
وأرزاقهم والرقابة عليهم، ثم نذكر الحبوس والهبات والأعيان الموقوفة على البيمارستانات
ووظائف
الأطباء ورتبهم في الدولة.
(٢) حالة الطب عند العرب في مبدأ نشأتهم
قال القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي في كتابه طبقات الأمم: «إن العرب في صدر الإسلام
لم تُعن
بشيء من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها، حاشا علوم الطب، فإنها كانت موجودة
عند أفراد
منهم غير منكورة عند جماهيرهم لحاجة الناس طرًّا إليها.»
وقد كان في عهد رسول الله
ﷺ أناس يعلمون الطب ويعملون به: ذكر ابن الجوزي رحمه الله
تعالى في (صفوة الصفوة) عن هشام بن عروة قال: كان عروة يقول لعائشة رضي الله عنها: يا
أماه لا
أعجب من فقهك، أقول زوجة رسول الله
ﷺ وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام
الناس، أقول ابنة أبي بكر وكان من أعلم الناس، ولكني أعجب من علمك بالطب! فضربت على منكبه
وقالت: أي عروة! إن رسول الله
ﷺ كان في آخر عمره فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه
فتنعت له الأنعات، فكنت أعالجها من ثم.» وفي تاريخ الإسلام للذهبي
١ قال عروة بن الزبير: ما رأيت أعلم بالطب من عائشة، فقلت يا خالة: من أين تعلمت
الطب؟ قالت: كنت أسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه. وروى أبو داود رحمه الله تعالى عن
سعيد
قال: «مرضت مرضًا فأتاني رسول الله
ﷺ يعودني فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي
فقال: إنك مفؤود، ائت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه يتطبب.»
٢.
وفي الموطأ عن زيد بن أسلم: أن رجلًا في زمان رسول الله ﷺ أصابه جرح فاحتقن الجرح
بالدم وأن الرجل دعا رجلين من بني أنمار، فنظر إليهما فزعما أن رسول الله ﷺ قال: «أيكما
أطب؟» فقال: «أو في الطب خير يا رسول الله؟ فزعم زيد أن رسول الله قال: «أنزل الدواء
الذي أنزل
الأدواء.»
وروى أبو داود رحمه الله تعالى عن جابر رضي الله عنه قال: «بعث النبي ﷺ إلى أبي
طبيبًا فقطع منه عرقًا.»
وكان في العرب كثير من المتطببين يخلط بعضهم بين الرقى والتطبيب، وبعضهم الآخر كان
قد تعلم
الطب في فارس أو في إحدى البلاد المجاورة لجزيرة العرب ثم رجع إلى موطنه يعاني صفة التطبيب،
ومن
هؤلاء المتطببين:
- الحارث بن كلدة الثقفي: تعلم الطب في (جنديسابور) بلدة من مقاطعة خوزستان أحد أقاليم فارس.
- وابنه النضر بن الحارث بن كلدة: تعلم الطب حيث تعلم أبوه.
- وعبد الملك بن أبجر الكناني : كان في أول أمره مقيمًا بالإسكندرية لأنه كان المتولي التدريس بها بعد
الإسكندرانيين.
- وابن أبي رمثة التميمي: فقد كان جراحًا مشهورًا.
- زينب طبيبة بني أود: فقد كانت خبيرة بالعلاج ومداواة العين والجراحات، مشهورة بين العرب بذلك.
- الشمردل بن قباب الكعبي النجراني٣: كان في وفد نجران بني الحارث بن كعب فنزل الشمردل بين يدي النبي ﷺ فقال: «يا
رسول الله، بأبي أنت وأمي، إني كنت كاهن قومي في الجاهلية وإني كنت أتطبب، فما يحل لي
فإني تأتيني الشابة؟» قال: «فصد العرق ومجسة الطعنة إن اضطررت، ولا تجعل من دوائك
شَبْرُمًا، وعليك بالسنا، ولا تداوِ أحدًا حتى تعرف داءه.» فقبل ركبتيه وقال: «والذي
بعثك بالحق أنت أعلم بالطب مني.»
- وضماد بن ثعلبة الأزدي: من أزد شنوءة، قال ابن عباس:٤ «قدم رجل من أزد شنوءة يُقال له ضماد مكة معتمرًا فسمع كفار قريش يقولون:
محمد مجنون. فقال: لو أتيت هذا الرجل فداويته فجاءه فقال: «يا محمد، إني أداوي من الريح
فإن شئت داويتك لعل الله ينفعك.» فتشهد رسول الله ﷺ وتكلم بكلمات فأعجب ذلك
ضمادًا فقال: «أعدها علي.» فأعادها عليه فقال: «لم أسمع مثل هذا الكلام قط! لقد سمعت
كلام الكهنة والسحرة والشعراء فما سمعت مثل هذا قط، لقد بلغ قاموس البحر. يعني قعره.
فأسلم وشهد شهادة الحق وبايعه على نفسه وعلى قومه.»
- أم عطية الأنصارية٥: نسبة التي أمرها النبي ﷺ أن تغسل بنته زينب، لها أحاديث روى عنها محمد بن
سيرين وأخته حفصة وأم شراحيل وعلي بن الأحمر وعبد الملك بن عمير وهشام بن حسان عن حفصة
بنت سيرين عن أم عطية قالت: غزوت مع النبي ﷺ سبع غزوات فكنت أصنع لهم طعامهم
وأخلفهم في رحالهم وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى.
(٣) أول من اتخذ البيمارستانات في الإسلام
روى مسلم رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أصيب سعد بن معاذ يوم
الخندق
رماه رجل من قريش يقال له ابن العرقة، رمي في الأكحل،
٦ فضرب رسول الله
ﷺ خيمة في المسجد يعوده من قريب.
٧ وقال ابن إسحاق في السيرة: كان رسول الله
ﷺ قد جعل سعد بن معاذ في خيمة
لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده، كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من
كانت به
ضيعة من المسلمين، وقد كان رسول الله قد قال لقوم حين أصابه السهم بالخندق: «اجعلوه في
خيمة
رفيدة حتى أعوده من قريب.»
٨ فيُفهم من ذلك أن النبي
ﷺ أول من أمر بالمستشفى الحربي المتنقل. وقال تقي
الدين المقريزي: أول من بنى البيمارستان في الإسلام ودار المرضى، الوليد بن عبد الملك
الخليفة
الأموي في سنة ٨٨ﻫ/٧٠٦م، وجعل في البيمارستان الأطباء وأجرى لهم الأرزاق وأمر بحبس المجذمين
لئلا يخرجوا، وأجرى عليهم وعلى العميان الأرزاق. وقال محمد بن جرير الطبري في تاريخ الرسل
والملوك:
٩ «كان الوليد بن عبد الملك عند أهل الشام أفضل خلائفهم، بنى المساجد مسجد دمشق ومسجد
المدينة، ووضع المنار، وأعطى الناس، وأعطى المجذمين وقال: «لا تسألوا الناس.» وأعطى كل
مقعد
خادمًا وكل ضرير قائدًا.
(٤) أنواع البيمارستانات
كان للبيمارستانات نوعان: ثابت ومحمول.
فالثابت ما كان بناءً ثابتًا في جهة من الجهات لا ينتقل منها، وهذا النوع من البيمارستانات
كان كثير الوجود في كثير من البلدان الإسلامية، لا سيما في العواصم الكبرى كالقاهرة وبغداد
ودمشق … إلخ، ولا يزال أثر بعضها باقيًا على مر الدهور إلى الآن، كالبيمارستان المنصوري
(قلاوون
الآن) بالقاهرة، والبيمارستان المؤيدي بالقرب من القلعة بالقاهرة أيضًا، والبيمارستان
النوري
الكبير بدمشق، والبيمارستان القيمري بها أيضًا، وبيمارستان أرغون بحلب … مما سيأتي ذكره.
البيمارستان المحمول
هو الذي ينقل من مكان إلى مكان بحسب ظروف الأمراض والأوبئة وانتشارها وكذا الحروب،
وهو
المعبر عنه في العصر الحاضر بكلمات Ambulance بالفرنسية
وFeldlazareth بالألمانية
وAmbulance بالإنجليزية
وAmbulanza بالإيطالية.
كان هذا النوع من البيمارستانات معروفًا لدى خلفاء الإسلام وملوكهم وسلاطينهم وأطبائهم،
بل الراجح أن يكونوا هم أول من أنشأه، وهو عبارة عن مستشفى مجهز بجميع ما يلزم للمرضى
والمداواة من أدوات وأدوية وأطعمة وأشربة وملابس وأطباء وصيادلة، وكل ما يعين على ترفيه
الحال
على المرضى والعجزة والمزمنين والمسجونين، ينقل من بلد إلى أخرى من البلدان الخالية من
بيمارستانات ثابتة، أو التي يظهر فيها وباء أو مرض معد.
قال ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة:
١٠ «إن الوزير علي بن عيسى بن الجراح
١١ في أيام تقلده الدواوين من قبل المقتدر بالله وتدبير المملكة في أيام وزارة حامد
بن أبي العباس وَقَّعَ إلى والده سنان بن ثابت في سنة كثرت فيها الأمراض جدًّا، وكان
سنان
يتقلد البيمارستانات ببغداد وغيرها توقيعًا نسخته: «فكرت مد الله في عمرك في أمر من في
الحبوس، وأنهم لا يخلون مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض، وهم معوقون عن
التصرف
في منافعهم ولقاء من يشاورونه من الأطباء في أمراضهم، فينبغي أكرمك الله أن تفرد لهم
أطباء
يدخلون إليهم في كل يوم، ويحملون معهم الأدوية والأشربة وما يحتاجون إليه من
المزورات،
١٢ وتتقدم إليهم بأن يدخلوا سائر الحبوس، ويعالجوا من فيها من المرضى، ويريحوا عللهم
فيما يصفونه لهم إن شاء الله تعالى.» ففعل سنان ذلك
ثم وقع إليه توقيعًا آخر: «فكرت فيمن بالسواد من أهله، وأنه لا يخلو من أن يكون فيه
مرضى
ولا يشرف متطبب عليهم لخلو السواد من الأطباء، فتقدم مد الله في عمرك بإيفاد متطببين
وخزانة
من الأدوية والأشربة يطوفون السواد، ويقيمون في كل صقع منه مدة ما تدعو الحاجة إلى مقامهم،
ويعالجون من فيه ثم ينتقلون إلى غيره.» ففعل سنان ذلك وانتهى أصحابه إلى سورا
١٣ بلدة من بلاد العراق والغالب على أهلها اليهود. فكتب سنان إلى الوزير علي بن عيسى
يعرفه ورود كتب أصحابه عليه من السواد:
١٤ بأن أكثر من بسورا وشهر ملك يهود، وأنهم استأذنوا في المقام عليهم وعلاجهم أو
الانصراف عنهم إلى غيرهم، وأنه لا يعلم بما يجيبهم به إذ كان لا يعرف رأيه في أهل الذمة،
وأعلمه أن الرسم في بيمارستان الحضرة قد جرى للملي والذمي.
فوقع الوزير توقيعًا نسخته:
«فهمت ما كتبت به أكرمك الله، وليس بيننا خلاف في أن معالجة أهل الذمة والبهائم صواب،
ولكن الذي يجب تقديمه والعمل به معالجة الناس قبل البهائم، والمسلمين قبل أهل الذمة،
فإذا
فضل عن المسلمين ما لا يحتاجون إليه صرف في الطبقة التي بعدهم، فاعمل أكرمك الله على
ذلك
واكتب إلى أصحابك به، ووصِّ بالتنقل في القرى، والمواضع التي فيها الأوباء الكثيرة
والأمراض الفاشية، وإن لم يجدوا بذرقة
١٥ توقفوا عن المسير حتى يصح لهم الطريق ويصلح السبيل، فإنهم إن فعلوا هذا وفقوا
إن شاء الله تعالى.»
ونذكر مثلًا من البيمارستانات المتنقلة التي كان يستعملها السلاطين في تنقلاتهم وحروبهم
ما ذكره ابن خلكان
١٦ وابن القفطي
١٧ قالا: «إن أبا الحكم المغربي عبد الله
١٨ بن المظفر بن عبد الله المرسي نزيل دمشق، كان طبيب البيمارستان الذي كان يحمله
أربعون حملًا، المستصحب في معسكر السلطان محمود السلجوقي حيث خيم. وكان القاضي السديد
أبو
الوفا يحيى بن سعيد بن يحيى بن المظفر المعروف بابن المرخم الذي صار قاضي القضاة ببغداد
في
أيام الإمام المقتفى فاصدًا وطبيبًا في هذا المارستان المحمول المذكور، وكان أبو الحكم
يشاركه.
وكانت العادة في دولة المماليك
١٩ أن يخرج السلطان ومعه الأمراء والأعيان إلى القصور التي بنوها خارج المدن ويقيم
لها أيامًا، فيمر بالناس في إقامتهم هناك، أوقات لا يمكن وصف ما فيها من المسرات، ولا
حصر ما
ينفقه فيها من المآكل والهبات والأموال. ويصحب السلطان في السفر غالب ما تدعو الحاجة
إليه حتى
يكاد يكون معه مارستان لكثرة من معه من الأطباء وأرباب الكحل والجراح والأشربة والعقاقير
وما
يجري مجرى ذلك. وكل من عاده طبيب ووصف له ما يناسبه يصرف له من الشرابخاناه أو الدواء
خاناه
المحمولين في الصحبة. وكان من عادة السلطان المالك الظاهر برقوق
٢٠ التردد على بلدة سرياقوس بركب عظيم وحفل كبير، والبيات فيها مستمرًّا إلى سنة
٧٩٩ﻫ مصحوبًا بكل ما سبق.
(٥) المكفوفون والنساء يتعاطون التطبيب
النساء اللاتي عانين صناعة الطب
كان تعلم الطب ومعاناة التطبيب مكفولين لأي كان ذكرًا أو أنثى مبصرًا أو مكفوفًا.
كانت زينب
٢١ طبيبة بني أود من الماهرات في صناعة الكحالة عالمة بصناعة الطب والمداواة، ولها
خبرة جيدة بمداواة آلام العين والجراحات مشهورة بين العرب بذلك. ذكر أبو الفرج الأصفهاني
في
كتاب الأغاني: «قال رجل من الأعراب: أتيت امرأة من بني أود لتكحلني من رمد كان أصابني،
فكحلتني
ثم قالت: اضطجع قليلًا حتى يدور الدواء في عينيك. فاضطجعت ثم تمثلت قول الشاعر:
أمخترمي ريب المنون ولم أزر
طبيب بني أود على النأي زينبا
فضحكت ثم قالت: أتدري فيمن قيل هذا الشعر؟ قلت: لا. قالت: فيّ والله قيل، وأنا زينب
التي
عناها، وأنا طبيبة بني أود، أفتدري من الشاعر؟ قلت: لا. قالت: عمك أبو سماك الأزدي.»
ورفيدة الأسلمية اتخذت خيمة في مسجد النبي ﷺ وكانت تداوي الجرحى. وكانت أخت الحفيد
أبي بكر بن زهر وبنتها عالمتين بصناعة الطب والمداواة، ولها خبرة جيدة فيما يتعلق بمداواة
النساء، وكانتا تدخلان لنساء المنصور أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ولا يقبل
للمنصور
وأهله ولدًا إلا أخت الحفيد أو بنتها لما توفيت أمها.
وكانت أم الحسن
٢٢ بنت القاضي أحمد بن عبد الله بن عبد المنعم أبي جعفر الطنجالي من أهل لوشة (بلدة
بالأندلس) تجود القرآن وتشارك في فنون من الطلب وأفراد مسائل الطب وتنظم الشعر.
(٦) الأطباء المكفوفون
كان أبو الحسن علي بن إبراهيم بن بكس طبيبًا مكفوفًا، وكان فاضلًا عاملًا بصناعة
الطب
متقنًا لها غاية الإتقان، وكان يدرس الطب في البيمارستان العضدي ويفيد الطالبين، وكان
إذا أراد
معرفة سحنات الوجوه وحال بول المرضى حول على من يكون معه في تلاميذه في وصفه ذلك.
٢٣
وأبو الحسن بن مكين البغدادي الضرير
٢٤ قاد الحكمة بزمامها وكان مكفوفًا يقود تلميذه إلى ديار المرضى، وكان أبو الخير
يهجنه في كتاب (امتحان الأطباء) وقال: من قاد أعمى شهرًا (يعني ذلك الطبيب) تطبب وعالج
وأهلك
الناس.
وأبو عبد الله محمد بن سليمان بن الحناط
٢٥ المكفوف الشاعر الضرير القرطبي، كان أوسع الناس علمًا بعلوم الجاهلية في الإسلام،
بصيرًا بالآثار العلوية حاذقًا بالطب والفلسفة، ماهرًا في اللغة العربية والآداب الإسلامية،
ولد
أعشى ضعيف البصر متوقد الخاطر، فقرأ كثيرًا في حال عشاه ثم طفئ نور عينه بالكلية فازداد
براعة،
ونظر في الطب بعد ذلك فأنجح علاجًا. وكان ابنه يصف له مياه الناس المستفتين عنده، فيهتدي
منها
إلى ما يهتدي إليه البصير، ولا يخطئ الصواب في فتواه لسرعة الاستنباط، وتطبب عنده الأعيان
والملوك فاعترفوا له بمنافع جسيمة.
(٧) التقسيم الفني لنظام البيمارستان
لم تكن البيمارستانات تسير اتفاقًا بغير نظام ولا ترتيب، بل كانت على نظام تام وترتيب
محمود
تسير أعمالها على وتيرة منتظمة.
كانت البيمارستانات منقسمة إلى قسمين منفصلين بعضهما عن بعض، قسم للذكور وقسم
للإناث،
٢٦ وكل قسم مُجهز بما يحتاجه من آلة وعدة وخدم وفراشين من الرجال والنساء وقوام
ومشرفين.
وفي كل قسم من هذين القسمين عدة قاعات لمختلف الأمراض: فقاعة للأمراض الباطنة، وقاعة
للجراحة، وقاعة للكحالة، وقاعة للتجبير.
٢٧ وكانت قاعة الأمراض الباطنة منقسمة إلى أقسام أخرى: قسم للمحمومين
٢٨ وهم المصابون بالحمى، وقسم للممرورين وهو لمن بهم المرض المسمى (مانيا) وهو الجنون
السبعي،
٢٩ وقسم للمبرودين أي المتخومين، ولمن به إسهال قاعة … إلخ.
وكانت قاعة البيمارستان فسيحة حسناء البناء وكان الماء فيها جاريًا.
٣٠
وللبيمارستان صيدلية تسمى شرابخاناه ولها رئيس يسمى شيخ صيدليي البيمارستان.
٣١
وللبيمارستان رئيس يسمى ساعور
٣٢ البيمارستان. ولكل قسم من أقسامه رئيس، فكان فيه رئيس للأمراض الباطنة، ورئيس
للجراحة والمجبرين، ورئيس للكحالين.
وللبيمارستان الفراشون من الرجال والنساء والمشرفون والقوام للخدمة أيضًا،
٣٣ ولهم المعاليم الوافية والجامكية الوافرة.
(٨) خزانة الشراب
هي الصيدلية في البيمارستان قال أبو العباس القلقشندي:
٣٤ هذه الخزانة هي المُعبر عنها في زماننا (أي زمن القلقشندي المتوفى سنة ٨٢١ﻫ/
١٤١٨م) بالشرابخاناه وهي الحواصل المعبر عنها بالبيوت، ذلك أنهم يضيفون كل واحد منها
إلى لفظ
خاناه كالشراب خاناه والطشت خاناه والطبل خاناه ونحوها، وخاناه لفظ فارسي معناه البيت
فتأويلها
بيت الشراب إلخ. إلا أنهم يؤخرون المضاف عن المضاف إليه على عادة الفرس في ذلك. وكان
فيها من
أنواع الأشربة والمعاجين النفيسة والمربيات الفاخرة وأصناف الأدوية والعطريات الفائقة
التي لا
توجد إلا فيها. وفيها من الآلات النفيسة والآنية الصيني من الزبادي والبراني والأزيار
ما لا
يقدر عليه غير الملوك. وقد كان لكل مارستان خزانة للشراب كاملة كما في وقفية المارستان
المنصوري
(قلاوون) وغيره، ولكل شراب خاناه «مهتار» يعرف بمهتار الشرابخاناه (ومهتر بالفارسية بمعنى
رئيس)
متسلم لحواصلها له مكانة عالية وتحت يده غلمان عنده برسم الخدمة يطلق على كل واحد منهم
شراب
دار.
٣٥
وفي الشرابخاناه الخاصة بالسلطان وظيفة الشّادّ بها تكون لأمير من أكابر أمراء المئين
الخاصكية المؤتمنين ولها مهتار يعرف بمهتار الشرابخاناه متسلم لحواصلها.
٣٦
ووظيفة الشاد موضوعها التحدث في أمر الشرابخاناه السلطانية وما عمل إليها من السكر
والمشروب
والفواكه وغير ذلك، وتارة يكون مقدمًا
٣٧ وتارة يكون طبلخاناه.
٣٨
(٩) نظر البيمارستان ورتب أطبائه
كان للبيمارستان ناظر ينظر أو يشرف على إدارته، وكان النظر عليه معدودًا من الوظائف
الديوانية العظيمة، قال أبو العباس أحمد القلقشندي:
٣٩ «من الوظائف الديوانية نظر البيمارستان وقد صار النظر عليه معدوقًا بالنائب (نائب
السلطان) يفوض التحدث فيه إلى من يختاره من أرباب الأقلام.»
وقال عند الكلام عن نائب السلطنة: «ومعه (أي نائب السلطان) يكون نظر البيمارستانات
الكبير
النوري الذي بدمشق كما يكون نظر البيمارستان المنصوري (قلاوون) بالقاهرة مع أتابك
٤٠ العساكر.» وقال عن الوظائف الكبيرة بالقاهرة: «إن منها صحابة ديوان البيمارستان
وموضوعها التحدث في كل ما يتحدث به ناظر البيمارستان.»
٤١ وقال عن وظيفة نظر البيمارستان والمراد البيمارستان النوري: «هي من أجل الوظائف
وأعلاها وعادة النظر فيه من أصحاب السيوف لأكبر الأمراء بالديار المصرية.
٤٢ وذكر ابن إياس:
٤٣ «إن نظر البيمارستان كان من أهم وظائف الدولة يتولاه الأتابكي ويذهب إليه في حفلة
حافلة.» وقال في حوادث سنة ٩٠١ﻫ ومستهلها يوم الأحد: «في هذا اليوم خلع على الأتابكي
تمراز
وقرره في نظر البيمارستان المنصوري فتوجه هناك في موكب حافل.» وذلك كان في سلطنة الملك
الأشرف
أبي النصر قايتباي المحمودي في عصر الخليفة المتوكل على الله العباسي.
وقال خليل بن أيبك
٤٤ الظاهري: «إن للبيمارستان شادًّا وظيفته من وظائف الدولة تقضي لمن يستقر فيها إمرة
عشرين حاجبًا.» وقال أبو العباس القلقشندي:
٤٥ «من الوظائف بدمشق وظائف أرباب الصناعات منها: رياسة الطب ورياسة الكحالة ورياسة
الجرائحية، وكلها على نحو ما هو موجود في الديار المصرية، وولاية كل منها بتوقيع كريم
من
النائب.»
٤٦
وألقاب أرباب الوظائف من أهل الصناعات هي:
وكانت أعظم الوظائف الصناعية في الدولة الفاطمية بمصر وظائف الأطباء، فكانت ألقاب
أرباب
الصناعات الرئيسية كرياسة الطب من الدرجة الأولى درجة المجلس أو إمرة المجلس، وموضوعها
التحدث
على الأطباء والكحالين ومن شاكلهم، ولا يكون إلا واحدًا وفي المرتبة الأولى مرتبة المجلس
العالي.
وكان من الوظائف الصناعية العظيمة وظيفة الطبيب الخاص، وهو الطبيب الخاص بالخليفة،
يجلس على
باب دار الخلافة كل يوم، ويجلس على الدكك التي بالقاعة المعروفة بقاعة الذهب بالقصر،
دونه أربعة
أطباء أو ثلاثة، فيخرج الأستاذون (الخدم والطواشية) فيستدعون منهم من يجدونه للدخول على
المرضى
بالقصر لجهات الأقارب والخواص، فيكتب لهم رقاعًا على خزانة الشراب، فيأخذون ما فيها وتبقى
الرقاع عند مباشريها شاهدًا لهم، ولكل منهم الجاري والراتب على قدره.
٤٨
(١٠) التوقيع بنظر البيمارستان
التواقيع بنظر البيمارستان هي المراسيم بتعيينهم في وظائفهم وسنأتي هنا ببعض صور من
تلك
التواقيع. وهم أي النظار من الدرجة الأولى: درجة المجلس.
نسخة توقيع لمن كان في المرتبة الأولى مرتبة المجلس العالي
المجلس العالي القضائي العالي الفاضلي الكاملي الأوحدي فلان … جمال الإسلام والمسلمين
سيد الرؤساء في العالمين أوحد الفضلاء والمقربين خاصة الملوك والسلاطين.
٤٩
وهذه صورة أخرى لما يكتب به من المراسيم لناظر البيمارستان لصاحب سيف كتب: توقيع
شريف أن
يفوض إلى المقر الكريم أو الجناب الكريم أو العالي (على قدر رتبته) الأميري الكبيري الفلاني
فلان الناصري (مثلًا) أعز الله أنصاره أو نصرته أو ضاعف الله نعمته (بحسب ما يليق به)
نظر
البيمارستان المعمور المنصوري على أجمل العوائد وأكمل القواعد، بما لذلك من المعلوم الشاهد
به
الديوان المعمور على ما شرح فيه.
٥٠
وهذه نسخة توقيع بنظر البيمارستان العتيق (الناصري) الذي رتبه السلطان صلاح الدين
يوسف بن
أيوب في بعض قاعات قصر الفاطميين وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زالت أيامه تفيد علاء، وتستخدم أكفاء، وتضفي ملابس النعماء، على
كل علي فتكسوه بهجة وبهاء أن يستقر فلان في نظر البيمارستان الصلاحي بالقاهرة المحروسة،
بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت لكفاءته التي اشتهر ذكرها، وأمانته التي
صدق خبرها خبرها، ونزاهته التي أضحى بها على النفس فغدا بكل ثناء مليًّا، ورياسته التي
أحلت قدره أسمى رتبة، فلا غرو أن يكون عليًّا، فليباشر البيمارستان المذكور مباشرة يظهر
بها انتفاعه، وتتميز بها أوضاعه، ويضحي عامر الأرجاء والنواحي، ويقول لسان حاله عند حسن
نظره وجميل تصرفه: الآن كما بدا صلاحي، وليجعل همته مصروفة إلى ضبط مقبوضه ومصروفه، ويظهر
نهضته المعروفة بتشمير ريعه، حتى يتضاعف مداد معروفه، ويلاحظ أحوال من فيه، ملاحظة تذهب
عنهم الباس، ويراعي مصالح حاله في تنميته وتزكيته حتى لا يزال منه شراب مختلف ألوانه
فيه
شفاء للناس، وليتناول المعلوم الشاهد به الديوان المعمور من استقبال تاريخه بعد الخط
الشريف أعلاه.
٥١
(١١) أرزاق الأطباء
في البيمارستان والخدمة الخاصة.
كان للأطباء على وجه العموم من لدن الخلفاء والملوك والأمراء، الإحسان الكبير والأفضال
الغزيرة، والجامكية الوافرة والصلات المتواترة، وكانت تطلق للأطباء مع الجامكية الجراية
وعلوفة
للدابة التي يركبونها.
أما المرتبات الشهرية فكانت كما يأتي: أطباء الخاص (أي المنقطعون للخليفة أو السلطان)
وكانا
اثنين لكل منهما في الشهر خمسون دينارًا،
٥٢ ولمن دونهما من الأطباء وهم نحو ثلاثة أو أربعة، المقيمين بالقصر لكل واحد منهم
عشرة دنانير،
٥٣ ولكل طبيب بالمارستان ما يقوم بكفايته.
٥٤
فكان للأطباء بالمارستان على العموم جامكية خمسة عشر دينارًا، وكان لبعضهم رزقان
أي ثلاثون
دينارًا في كل شهر لعملين مختلفين كرضي الدين الرحبي، فقد أطلق له صلاح الدين يوسف بن
أيوب في
كل شهر ثلاثين دينارًا.
٥٥ ويكون ملازمًا للقلعة والبيمارستان، وبعد وفاة صلاح الدين أطلق الملك المعظم عيسى
بن الملك العادل خمسة عشر دينارًا ويكون مترددًا إلى البيمارستان.
وكان لبعضهم كجبرائيل الكحال ألف درهم في كل شهر.
٥٦
وكان لماسويه جامكية من الفضل في كل شهر ستمائة درهم وعلوفة دابته، ثم تزيد إلى ألفي
درهم،
ومعونة في السنة عشرة آلاف درهم وعلوفة ونزل. وممن كان يأخذ جبريل بن عبد الله بن بختيشوع،
فكان
يأخذ برسم الخاص ثلاثمائة درهم شجاعية.
٥٧ وبرسم البيمارستان ثلاثمائة درهم شجاعية سوى الجراية. وكان لعز الدين بن السويدي
جامكية في أربع جهات:
٥٨ في البيمارستان النوري، وفي بيمارستان باب البريد في دمشق، وللتردد على قلعة دمشق،
ولتدريسه في مدرسة الدخوارية.
وكان من أطباء الأمير سيف الدولة بن حمدان من يأخذ رزقين لتعاطيه علمين، ومن يأخذ
ثلاثة
أرزاق لتعاطيه ثلاثة علوم، وكان في جملتهم عيسى النفيس الطبيب فكان يأخذ ثلاثة أرزاق:
رزقًا
للنقل من السرياني إلى العربي، ورزقين آخرين بسبب علمين آخرين.
٥٩
ولم يكن حسن موقع الأطباء لدى الخلفاء والملوك وإطلاق الجامكية الوافرة لهم بمانع
من أن
يشتغل بعضهم في البيمارستان احتسابًا، فقد كان كمال الدين الحمصي يتردد على البيمارستان
الكبير
النوري يعالج المرضى فيه احتسابًا.
٦٠
وقد بلغ بعض الأطباء من حسن الحال ورغد العيش إلى درجة عظيمة، فقد بلغ بختيشوع في
زمان
الخليفة المتوكل في الجلالة والرفق وعظم المنزلة وحسن الحال وكثرة المال وكمال المروءة
ومباراة
الخليفة في اللباس والزي والطيب والفرش والضيافات والتفسح في النفقات مبلغًا يفوق حد
الوصف.
٦١
(١٢) كراء عملية جراحية
من المستملح أن يعرف أهل زماننا الحاضر مقدار ما كان يتناوله الطبيب في ذلك العصر
السالف
أجرًا لعملية أجريت لمريض، قال سليمان بن حسان: حدثني أحمد بن يونس الحراني قال:
حضرت بين يدي أحمد بن وصيف الصابئ وقد حضر سبعة أنفس لقدح أعينهم (وهي العملية التي
تعمل للماء أي الكتر كتا) وفي جملتهم رجل من أهل خراسان، أقعده بين يديه ونظر إلى عينيه
فرأى ماء تهيأ للقدح، فساومه على ذلك واتفق معه على ثمانين درهمًا (أي ما قيمته جنيهان
الآن) وحلف أنه لا يملك غيرهما، فلما حلف الرجل اطمأن وضمه إلى نفسه فوقعت يده على عضده
فوجد فيها نطاقًا صغيرًا فيه دنانير. فقال به ابن وصيف: ما هذا؟ فتلوى فقال له ابن وصيف:
قد
حلفت بالله وأنت حانث، وترجوه رجوع بصرك إليك! والله لا أعالجك إذ خادعت ربك. فطلب إليه،
فأبى أن يقدحه وصرف إليه الثمانين درهمًا ولم يقدح عينه.
٦٢
(١٣) نظام المعالجة في البيمارستان
الدرس بجانب سرير المريض
كان في البيمارستان طريقان للعلاج: علاج خارجي أي أن المريض يتناول الدواء من البيمارستان
ثم ينصرف ليتعاطاه في منزله، وعلاج داخلي يقيم المريض في أثنائه في البيمارستان في القسم
الخاص
والقاعة الخاصة بمرضه حتى يشفى.
ففي الطريقة الأولى كان الطبيب يجلس على دكة ويكتب لمن يَرِد عليه من المرضى للعلاج
أوراقًا
يعتمدون عليها، ويأخذون بها من البيمارستان الأشربة والأدوية التي يصفها الطبيب.
٦٣
وأما العلاج الداخلي أي في داخل البيمارستان، فكان المرضى يوزعون على القاعات بحسب
أمراضهم،
وكان لكل قسم من أقسام البيمارستان طبيب أو اثنان أو ثلاثة أطباء،
٦٤ بحسب الساعة وكثرة المرضى، وكان إذا دعا الحال يدعى طبيب من قسم آخر غير القسم الذي
فيه المريض للاستشارة.
٦٥
وكان الأطباء يشتغلون في البيمارستان بالنوبة، فجبريل بن بختيشوع كانت نوبته في الأسبوع
يومين وليلتين.
٦٦
(١٤) الدروس الطبية (الإكلينيكية)
قال موفق الدين أبو العباس بن أبي أصيبعة:
٦٧ كنت بعد ما يفرغ الحكيم مهذب الدين والحكيم عمران من معالجة المرضى المقيمين
بالبيمارستان وأنا معهم أجلس مع الشيخ رضي الدين الرحبي فأعاين كيفية استدلاله على الأمراض،
وجملة ما يصفه للمرضى وما يكتب لهم، وأبحث معه في كثير من الأمراض ومداواتها ثم قال:
وكان معه
(أي مع مهذب الدين) في البيمارستان لمعالجة المرضى الحكيم عمران، وهو من أعيان الأطباء
وأكابرهم
في المداواة والتصرف في أنواع العلاج، فتضاعف الفوائد المقتبسة من اجتماعهما، ومما كان
يجري
بينهما من الكلام في الأمراض ومداواتها وما كانا يصفان للمرضى.
وذكر موفق الدين أبو العباس ابن أبي أصيبعة
٦٨ نقلًا عن شيخه مهذب الدين عبد الرحيم بن علي: أنه كان في البيمارستان الكبير النوري
وهو يعالج المرضى المقيمين به، فكان من جملتهم رجل به استسقاء زقي قد استحكم به وقصد
إلى بزله،
وكان في ذلك الوقت في البيمارستان ابن حمدان الجرائحي وله يد طولى في العلاج، فجزموا
على بزل
المستسقى، قال: فحضرنا وبزل الموضع على ما يجب. وذكر أن أبا المجد بن أبي الحكم
٦٩ كان يدور على المرضى بالبيمارستان الكبير النوري، ويتفقد أحوالهم، ويعتبر أمورهم،
وبين يديه المشارفون والقوام لخدمة المرضى، فكان جميع ما يكتبه لكل مريض من المداواة
والتدبير
لا يؤخر عنه ولا يتوانى في ذلك. قال: «وبعد فراغه من ذلك يأتي فيجلس في الإيوان الكبير
الذي
للبيمارستان وجميعه مفروش، ويحضر كتب الاشتغال. وكان السلطان نور الدين محمود بن زنكي
قد وقف
على هذا البيمارستان جملة كبيرة من الكتب الطبية، وكانت في الخرستانين (الخزانتين) اللذين
في
صدر الإيوان، فكان جماعة من الأطباء والمشتغلين يأتون إليه ويقعدون بين يديه، ثم يجري
مباحث
طبية ويقرئ التلاميذ، ولا يزال معهم في اشتغال ومباحثة ونظر في الكتب الطبية مقدار ثلاث
ساعات،
ثم يركب إلى داره.
وكان بعض متقدمي الأطباء قد جعل له مجلسًا عامًّا لتدريس صناعة الطب للمشتغلين عليه.
وقد وقف مهذب الدين عبد الرحيم بن علي سنة ٦٢٢، الدار التي له بدمشق، وجعلها مدرسة
يدرس
فيها صناعة الطب، ووقف لها ضياعًا وعدة أماكن يستغل منها ما ينصرف في مصالحها، وفي جامكية
المدرسة وجامكية المشتغلين بها.
ولم يكن الأطباء يغفلون النظر في أبوال المرضى، فقد كانوا يسمون ذلك القارورة، ويسمون
الاستنتاج من نظر البول التفسرة، فما كان يعالج مريض دون النظر إلى قارورته، ولهم في
نظرها آراء
وعلامات يتعرفون منها حالة البول من صحة وسقم. ونحن نقص الحكاية الآتية للدلالة على مهارة
الأطباء وقوة استدلالهم وحسن استنتاجهم من النظر في بول المريض:
أراد الرشيد أن يمتحن بختيشوع الطبيب، أمام جماعة من الأطباء فقال الرشيد لبعض الخدم:
«أحضره ماء دابة حتى نجربه.» فمضى الخادم وأحضر قارورة الماء، فلما رآه قال: «يا أمير
المؤمنين
ليس هذا بول إنسان.» قال له أبو قريش وقد كان حاضرًا: «كذبت هذا ماء حظية الخليفة.» فقال
له
بختيشوع: «لك أقول أيها الشيخ الكريم، لم يبل هذا إنسان ألبتة، وإن كان الأمر على ما
قلت فلعلها
صارت بهيمة.» فقال له الخليفة: «من أين علمت أنه ليس ببول إنسان؟» قال بختيشوع: «لأنه
ليس له
قوام بول الناس، ولا لونه، ولا ريحه.» ثم التفت الخليفة إلى بختيشوع فقال له: «ما ترى
أن نطعم
صاحب هذا الماء.» فقال: «شعيرًا جيدًا.» فضحك الرشيد ضحكًا شديدًا، وأمر فخلع عليه خلعة
حسنة
جليلة، ووهب له مالًا وافرًا، وقال: «بختيشوع يكون رئيس الأطباء كلهم، وله يسمعون
ويطيعون.»
٧٠
وكان للطبيب الحرية التامة في العمل والتجريب واستنباط الأساليب المناسبة للعلاج.
وكانت
التجارب تدون في كتب خاصة يقرؤها الجمهور من الأطباء، فقد كان لأبي البيان المدور المتوفى
سنة
٥٨٠ﻫ/١١٨٤م بالقاهرة كتاب في مجرياته في الطب، وكان للساهر يوسف القس كناش وهو ما استخرجه
وجربه في أيام حياته.
٧١ ولأفرايم بن الزقان تعاليق ومجربات، ولابن العين رزبي مجربات في الطب، ولابن أبي
الفضائل الناقد مجربات في الطب، ولأبي المعالي تمام بن هبة الله بن تمام تعاليق ومجربات
في
الطب، ولمحمد بن زكريا الرازي كتاب عنوانه (قصص وحكايات المرضى) ومنه نسخة في خزانة كتب
بودليان
في أكسفورد، وطبع منه الدكتور العالم المستشرق مكس مايرهوف جزءًا.
وكان لبعض الأطباء أنواع من العلاج هي من مبتكرات قرائحهم كعلاج أوحد الزمان أبي
البركات
هبة الله بن علي بن ملكا أحد الموسومين بالوهم،
٧٢ وفوق الهمة العظيمة والتدبير الحسن والعناية التامة براحة المرضى، فقد كان لهم من
حسن الخلق وطول الأناة والتسامح مع المرضى الشيء الكثير: كان أبو الحسن سعيد بن هبة
الله
٧٣ يتولى مداواة المرضى بالبيمارستان العضدي، فإنه كان يومًا بالبيمارستان، وقد أتى
إلى قاعة الممرورين يتفقد أحوالهم ومعالجتهم، وإذا بامرأة قد أتت إليه واستفته فيما تعالج
به
ولدًا لها فقال: «أن تلازميه بتناول الأشياء المبردة المرطبة.» فهزأ به بعض من كان مقيمًا
في
تلك القاعة من الممرورين وقال: «هذه صفة يصلح أن تقولها لأحد تلامذتك ممن يكون قد اشتغل
بالطب
وعرف أشياء من قوانينه، وأما هذه المرأة فأي شيء تدري ما هو من الأشياء المبردة المرطبة،
وإنما
سبيله أن تصف لها شيئًا معينًا تعتمد عليه.» فلم يتحرج الطبيب من هذا القول. وقد أوصلهم
سمو
الخلق وبسطة العلم إلى أعلى الدرجات. فإن القاضي ابن المرخم يحيى بن سعد صار أقضى القضاة
في
أيام المقفى ببغداد، وقد كان طبيبًا في المارستان المحمول وفصادًا فيه.
٧٤ والإمام العالم علامة زمانه أفضل الدين أبو عبد الله محمد بن نامادار الخونجي قد
تميز في العلوم الحكمية وأتقن العلوم الشرعية، وفي آخر أيامه تولى القضاء بمصر وصار قاضي
القضاة
بها وبأعمالهما توفي سنة ٦٤٦ﻫ.
٧٥ وصار سعيد بن البطريق بطريركًا بالإسكندرية.
٧٦
(١٥) تدريس الطب بالبيمارستان
وفي مدارس خاصة
ذكرنا أن طلبة الطب كانوا يتلقون علومهم على أساتذتهم في البيمارستانات إذ كانت تهيأ
لهم
الإيوانات الخاصة المعدة والمجهزة بالآلات والكتب أحسن تجهيز، فيقعدون بين يدي معلمهم
بعد أن
يتفقدوا المرضى وينتهوا من علاجهم، كما كان يفعل أبو المجد بن أبي الحكم في البيمارستان
النوري
الكبير. وإن بعضًا من مشايخ الطب وكبار رؤسائهم كان يجعل له مجلسًا عامًّا لتدريس صناعة
الطب
للمشتغلين عليه في منزله أو في المدارس الخاصة.
وذكر ابن أبي أصيبعة
٧٧ أن الفيلسوف الإمام العالم أبا الفرج بن الطيب كان يقرئ صناعة الطب في البيمارستان
العضدي ويعالج المرضى فيه، وأن إبراهيم بن بكس
٧٨ كان يدرس صناعة الطب في البيمارستان العضدي لما بناه عضد الدولة، وكان له منه ما
يقوم بكفايته، وأن زاهد العلماء
٧٩ ألف كتابه في الفصول والمسائل والجوابات التي أجاب عنها في مجلس العلم المقرر في
البيمارستان الفاروقي.
وكان في بيمارستان أحمد بن طولون خزانة كتب كانت في أحد مجالس البيمارستان، وكان
فيها ما
يزيد على مائة ألف مجلد في سائر العلوم.
٨٠ وفي سنة ٦٢٢ﻫ/١٢٢٥م أوقف مهذب الدين عبد الرحيم بن علي بن حامد المعروف بالدخوار
شيخ الأطباء ورئيسهم داره بدمشق (المدرسة الدخوارية) شرقي سوق المناخليين عند الصاغة
العتيقة
قبلي الجامع الأموي، ووقف لها ضياعًا وعدة أماكن يستغل منها ويتصرف في مصالحها، وفي جامكية
المدرسين وجامكية المشتغلين بها، فكان إذا فرغ من البيمارستان وافتقد المرضى من أعيان
الدولة
وأكابرها وغيرهم، يأتي إلى داره ثم يشرع في القراءة والدرس والمطالعة، ولا بد له مع ذلك
من نسخ،
فإذا فرغ منه أيضًا أذن للجماعة فيدخلون عليه ويأتي قوم بعد قوم من الأطباء والمشتغلين،
وكان
يقرئ كل واحد منهم درسه ويبحث معه فيه، ويفهمه إياه قدر طاقته. ويبحث في ذلك مع المتميزين
منهم
إن كان الموضع يحتاج إلى فضل بحث أو فيه إشكال يحتاج إلى تحرير. وكان إلى جانبه ما يحتاج
إليه
من الكتب الطبية ومن كتب اللغة: كتاب الصحاح للجوهري والمجمل لابن فارس وكتاب النبات
لأبي حنيفة
الدينوري، فكان إذا جاءت في الدرس كلمة لغة يحتاج إلى كشفها وتحقيقها نظرها في تلك
الكتب.
ثم مرض مهذب الدين عبد الرحيم بن علي وتوفي في يوم الاثنين الخامس عشر من شهر صفر
سنة ٦٢٨ﻫ
(٢٤ ديسمبر سنة ١٢٣٠م) ووصى
٨١ أن يكون المدرس فيها الحكيم شرف الدين علي بن الرحبي.
(١٦) افتتاح المدرسة الدخوارية٨٢
لما كان في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الآخر سنة ٦٢٨ﻫ (١٨ فبراير سنة ١٢٣٠م)
حضر
الحكيم سعد الدين إبراهيم بن الحكيم موفق الدين عبد العزيز والقاضي شمس الدين الخواتيمي
والقاضي
جمال الدين الخرستاني والقاضي عز الدين السنجاري وجماعة من الفقهاء والحكماء، وشرع الحكيم
شرف
الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن حيدرة الرحبي في التدريس بها في صناعة الطب، واستمر على
ذلك
وبقي سنين عدة، ثم صار المدرس فيما بعد الحكيم بدر الدين المظفر بن قاضي بعلبك، وذلك
أنه لما
ملك دمشق الملك الجواد مظفر الدين يونس بن شمس الدين ممدود ابن الملك العادل، كتب للحكيم
بدر
الدين ابن قاضي بعلبك، منشورًا برياسته على سائر الحكماء في صناعة الطب، وأن يكون مدرسًا
للطب
في مدرسة الحكيم مهذب الدين عبد الرحيم بن علي المعروف بالدخوار. وتولى ذلك في يوم الأربعاء
رابع صفر سنة ٦٧٧ﻫ ثم درس بعده عماد الدين الدنيسري ومحمد بن عبد الرحيم بن مسلمة كمال
الدين
الطبيب المتوفى سنة ٦٩٧ﻫ/١٢٩٧م، والجمال المحقق أحمد بن عبد الله بن الحسين الأشقر، وقد
ولي
مشيخة الدخوارية، وتوفي سنة ٦٩٤ﻫ/١٢٩٤م، وأمين الدين سليمان بن داود الدمشقي توفي سنة
٧٣٢ﻫ،
ثم شهاب الدين الكحال توفي سنة ٧٣٢ﻫ.
(١٧) إجازة الطب
كان الأطباء في أول عهد الدول الإسلامية تكتفي لمعاناة التطبيب بقراءة الطب على أي
طبيب من
النابهين في عصره، حتى إذا آنس من نفسه القدرة على مزاولة الصنعة باشرها بدون قيد أو
شرط.
وإن أول من نظم صناعة التطبيب وقيدها بنظام خاص حرصًا على مصلحة الجمهور، هو الخليفة
العباسي المقتدر بالله جعفر بن المعتضد الذي تولى الخلافة سنة ٢٩٥ﻫ، ففرض على من يريد
معاناة
التطبيب تأدية امتحان للحصول على إجازة تخوله هذا الحق بين الناس.
والسبب الذي دعا الخليفة المقتدر إلى هذا التقييد، هو ما نرويه عن لسان سنان بن ثابت
رئيس
الأطباء في عصره وطبيب الخليفة ومن النابهين بين الأطباء:
قال سنان بن ثابت:
٨٣ لما كان في عام ٣١٩ﻫ/٩٣١م، اتصل بالمقتدر أن غلطًا جرى على رجل من العامة من بعض
المتطببين فمات الرجل، فأمر الخليفة أبا إبراهيم بن محمد بن أبي بطيحة المحتسب بمنع سائر
المتطببين من التصرف، إلا من امتحنه سنان بن ثابت بن قرة، وكتب له رقعة بخطه بما يطلق
له التصرف
فيه من الصناعة. فصاروا إلى سنان وامتحنهم وأطلق لكل واحد منهم ما يصلح أن ينصرف فيه.
وبلغ
عددهم في جانبي بغداد ثمانمائة رجل ونيف وستين رجلًا، سوى من استغنى عن امتحانه باشتهاره
بالتقدم في صناعته، وسوى من كان في خدمة السلطان. وصار النظام بعد ذلك: متى أتم الطالب
دروسه
يتقدم إلى رئيس الأطباء في القطر المصري، ووظيفته هي أكبر وظائف الأطباء، ويطلب إليه
إجازته
لمعاناة صنعة التطبيب. وكان الطالب يتقدم إليه برسالة في الفن الذي يريد الحصول على الإجازة
في
معاناته وهذه الرسالة أشبه بما يسمى اليوم أطروحة (تيز
these).
وتكون هذه الرسالة له أو لأحد مشاهير الأطباء المتقدمين أو المعاصرين يكون قد أجاد دراستها،
فيمنحه فيها ويسأله في كل ما يتعلق بما فيها من الفن، فإذا أحسن الإجابة أجازه الممتحن
بما يطلق
له التصرف فيه من الصناعة.
ومن محاسن الصدف أني عثرت في دشت قديم في خزانة كتب أستاذنا وصديقنا العلامة أحمد
زكي باشا،
على صورتين لإجازتين في الطب من القرن السادس عشر الميلادي، منحت إحداهما لفصاد ومنحت
الأخرى
لجراح، أنقلهما هنا لكي يعلم الباحث ما كان عليه الحال في تلك العصور.
الإجازة الأولى
وهي من القرن الحادي عشر الهجري
وهذه صورة ما كتبه الشيخ الأجل عمدة الأطباء ومنهاج الألباء الشيخ شهاب الدين ابن
الصابغ،
٨٤ الحنفي رئيس الأطباء بالديار المصرية إجازة للشاب المحصل محمد عزام، أحد تلامذة
الشيخ الأجل والكهف الأحول الشيخ زين الدين عبد المعطي رئيس الجراحين على حفظه لرسالة
الفصد
كما سنبينه:
الحمد لله ومنه أستمد العناية
الحمد لله الذي وفق من عباده من اختاره لخدمة الفقراء والصالحين، وهدى من شاء للطريق
القويم والنهج المستقيم، على ممر الأوقات والأزمان إلى يوم الدين.
وبعد فقد حضر عندي الشاب المحصل شمس الدين محمد بن عزام بن … بن … (هنا كلمات مفقودة)
على المؤذن الجرواني
٨٥ (المتشرف بخدمة الجراح والمتقيد بخدمة الشيخ الصالح بقية السلف الصالحين
العارفين وشيخ طائفة الجراحين بالبيمارستان المنصوري هو الشيخ عبد المعطي المشهور بابن
رسلان، نفعنا الله ببركاته ورحم أسلافه العارفين الصالحين، وعرض على جميع الرسالة اللطيفة
المشتملة على معرفة الفصد وأوقاته وكيفيته وشروطه، وما يترتب عليه من المنافع المنسوبة،
والرسالة المذكورة للشيخ الإمام العلامة التمام شمس الدين محمد بن ساعد
الأنصاري،
٨٦ شكر الله سعيه ورحمه وأسكنه بحابيح جناته بمنه وكرمه، عرضًا جيدًا دل على حسن
حفظه للرسالة المذكورة، وقد أجزته أن يرويها عني بحق روايتها وغيرها من الكتب الطبية
(هذا
آخر ما عثرت عليه وباقي الإجازة مفقود ضاع مع ما ضاع من نفائس الكتب العربية).
الإجازة الثانية
وهي كذلك من القرن الحادي عشر الهجري، وصادرة من رئيس الجراحين بدار الشفا المنصوري
(قلاوون).
صورة ما كتبه الفقير على ذلك:
بسم الله الرحمن الرحيم
من ممد الكون أستمد العون. الحمد لله الذي جعل لهذه الأمة بالطب المحمدي شفا، وداوى
علل أفهامهم بصحيح حديثه بعد ما كانوا في سقم الباطل على شفا. أحمده حمدًا يتقوى به
الضعيف، وأشكره شكرًا وافيًا يكون لنا نعم العلاج عند الحكيم اللطيف. وأشهد أن لا إله
إلا
الله وحده لا شريك له الذي جعل الفصد والحجامة للأبدان من أنفع العلاج، إذ بهما … (كلمة
مفقودة) قف الحرارة الردية والمزاج. ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي قطع عرق الإشراك،
وعلى آله وأصحابه السادة النساك، الذين جمعوا بالعلم والفصاحة بين الحكمة وفصل الخطاب،
وعالجوا زمان الجهل بحسن تدبيرهم فعوفي وحفظ لهم الصحة وطاب.
وبعد فقد وقفت على هذه الرسالة العظيمة، والمقالة الكريمة، الموسومة «ببرء الآلام في
صناعة الفصد والحجام» نظم لوذعي زمانه، وألمعي عصره وأوانه: الشمس شمس الدين محمد القيم
شهرة، الجراح صنعة ومهرة، التي أصلها للشيخ الفاضل حاوي الفضائل الشيخ شمس الدين محمد
الشربيني الجراح. لا زالت شآبيب الرحمة والرضوان على قبره غادية رائحة، وشذا العبهري
والريحان من مرقده فائحة، الموسومة «بغاية المقاصد فيما يجب على المفصود والفاصد» إذ
هي
في هذا الفن أسمى المقاصد. وقد قرأها عليه قراءة إتقان وإمعان، وحل لمشكلات الألفاظ
والمعان، فلم ير بدًّا من أن يبسطها ليتيسر حفظ تلك الفوائد، ولتسهل ضبط تلك القواعد،
فجاءت بجملة أبهى من نور الأنحار، وأضوأ من نور الأسمار، كالتبر المنسبك أو القطر
المنسكب. قد أجاد ناظمها في تحقيقها، وبذل الجهد في تحريرها وتدقيقها. وأتقن ألفاظ
مبانيها. وغاص بحار معانيها، واستخرج الدر الثمين من أصلها، وجمع بين فصلها ووصلها، وصارت
تجلى كالعروس لمعانيها. ولقد صارت في هذه الصناعة العمدة والكفاية، واعترف لها الكامل
أنها المنهاج والهداية. ونسيت بها التذكرة، ولم يبق لهذا العلم تذكرة حميدة. وأحجم عندها
كل مهذب بالمكنون، وصرح تاريخ الأطباء أنها نص ما في القانون. فلما ظهرت نتيجة الانتخاب
في المسألة والجواب وتغذى ناظم سلكها بالخاص من اللباب، وصارت الخناصر عليها تعقد، وإن
كان لساعد الأنصاري
٨٧ رسالة، فشتان رسالته ورسالة محمد. وكانت عين المقصود، ورقمت فيما يجب على
الفاصد والمفصود، استحق راقم وشيها وناسج بردها أن يتوج بتاج الإجازة، فاستخرت الله تعالى
وأجزت له أن يتعاطى من صناعة الجراح، ما أتقن معرفته ليحصل له النجاح والفلاح. وهو أن
يعالج الجراحات التي تبرأ بالبط، ويقلع من السنان ما ظهر له من غير شرط. وأن يفصد من
الأوردة ويبتر الشرايين وأن يقلع من الأسنان الفاسدة المسوسين (كذا) وأن يلم ما بعد من
تفرق الاتصال، بقطان وغير ذلك وطهارة الأطفال. هذا مع مراجعته وخدمته لرؤساء هذا الفن
المتبحرين، والمهرة الأساتذة، مع تقوى الله والنصح في الصناعة، ولا يخشى مع ذلك من كساد
البضاعة. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياه لصالح الأعمال، في كل حال ومآل. اللهم
إني أسألك من فضلك العظيم مغفرة لذنوبنا وعافية لأبداننا، لا إله غيرك، ولا مرجو إلا
خيرك
رب العالمين.
رقمه بقلمه أحقر عباد الفتاح الفقير للحق علي بن محمد بن محمد بن علي الجراح خادم
الفقراء الضعفاء بدار الشفا بمصر المحروسة ومصليًا ومسلمًا ومحمدًا ومحوقلًا ومستغفرًا،
بتاريخ صفر الخير من شهور سنة إحدى عشرة وألف (١٦٠٢م) من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل
الصلاة والسلام والحمد لله وحده.
(١٨) امتحان الصيادلة
وكذلك حدث في أيام الخليفة المعتصم بن الرشيد (من ٢١٨–٢٢٧ﻫ) أنه بينما كان الأفشين
حيدر بن
كاوس أحد قواد جند المعتصم في معسكره وهو في محاربة بابك سنة ٢٢١ﻫ، وكان معه زكريا الطيفوري
الطبيب، أمره بإحضار جميع من في عسكره من التجار وحوانيتهم وصناعة كل رجل منهم. فرفع
ذلك إليه،
فلما بلغت القراءة بالقارئ إلى موضع الصيادلة قال الأفشين لزكريا الطيفوري: «يا زكريا
ضبط هؤلاء
الصيادلة عندي أولى مما تقدم فيه، فامتحنهم حتى نعرف منهم الناصح من غيره.» فقال زكريا:
«إن
يوسف لقوة الكيميائي قال يومًا للمأمون: إنما آفة الكيميا الصيادلة، فإن الصيدلاني لا
يطلب
الإنسان منه شيئًا من الأشياء كان عنده أم لم يكن، إلا أخبره بأنه عنده ودفع إليه شيئًا
من
الأشياء التي عنده، وقال: هذا الذي طلبت. فإن رأى أمير المؤمنين أن يضع اسمًا لا يعرف
ويوجه
جماعة إلى الصيادلة في طلبه لتبتاعه فليفعل.» فقال المأمون: «قد وضعت الاسم وهو شقطيثًا
وهي
ضيعة تقرب من مدينة السلام،» ووجه المأمون جماعة من الرسل يسألهم عن شقطيثا، فكلهم ذكر
أنه عنده
وأخذ الثمن من الرسل ودفع إليهم شيئًا من حانوته، فصاروا إلى المأمون بأشياء مختلفة؛
فمنهم من
أتى ببعض البذور، ومنهم من أتى بقطعة من حجر، ومنهم من أتى بوبر؛ فاستحسن المأمون نصح
يوسف
لقوة.
فدعا الأفشين بدفتر الأسروشنية
٨٨ فأخرج منها نحوًا من عشرين اسمًا، ووجه إلى الصيادلة من يطلب منهم أدوية مسماة بتلك
الأسماء، فبعضهم أنكرها، وبعضهم ادعى معرفتها وأخذ الدراهم من الرسل، ودفع إليهم شيئًا
من
حانوته. فأمر الأفشين بإحضار جميع الصيادلة فلما حضروا كتب لمن أنكر معرفته تلك الأسماء
منشورات
أذن لهم فيها بالمقام في عسكره، ونفى الباقين عن العسكر، ولم يأذن لواحد منهم في المقام،
ونادى
المنادي بتفهيم وبإباحة دم من وجد منهم في معسكر. وكتب إلى المعتصم يسأله البعثة إليه
بصيادلة
لهم أديان ومذهب جميل ومتطببين كذلك، فاستحسن المعتصم ذلك ووجه إليه بما سأل.
٨٩
(١٩) الحسبة
ذكرنا الحسبة لأنها في ذلك الزمن بمثابة التفتيش والرقابة في هذه الأيام على الأطباء
والصيادلة.
الحسبة
٩٠ وظيفة جليلة رفيعة الشأن وموضوعها التحدث في الأمر والنهي والتحدث على المعايش
والصنائع، والأخذ على يد الخارج عن طريق الصلاح في معيشته وصناعته. قال الماوردي في الأحكام
السلطانية: وهو مشتق من قولك: حسبك، بمعنى اكفف، لأنه يكفي الناس مؤونة من يبخسهم حقوقهم.
قال
النحاس: وحقيقة المحتسب في اللغة المجتهد في كفاية المسلمين ومنفعتهم، إذ حقيقة «افتعل»
عند
الخليل وسيبويه بمعنى «اجتهد».
(٢٠) المحتسب٩١
هو من أرباب الوظائف الدينية الست المشهورة. وكان عندهم من وجوه العدول وأعيانهم.
وكان من
شأنه أنه إذا خُلِعَ عليه قرئ سجله بمصر والقاهرة على المنبر. ويده مطلقة في الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر على قاعدة الحسبة، ولا يحال بينه وبين مصلحة أرادها ويتقدم إلى الولاة
بالشد
منه، ويقيم النواب عنه بالقاهرة ومصر وجميع الأعمال كنواب الحكم. ويجلس بجامعي القاهرة
ومصر
يومًا بيوم، قال: ورأيت في بعض سجلاتهم إضافة لحسبة بمصر والقاهرة إلى صاحبي الشرطة بهما
أحيانًا.
٩٢
(٢١) في الحسبة
على الأطباء والكحالين والجراحين والمجبرين
جاء في كتاب نهاية الرتبة في طلب الحسبة
٩٣ خاصًّا بالأطباء وصناعتهم قال: وينبغي للمحتسب أن يأخذ عليهم عهد أبقراط
٩٤ الذي أخذه على سائر الأطباء، ويحلفهم «أن لا يعطوا أحدًا دواءً مرًّا، ولا يركبوا
له سمًّا، ولا يصنعوا السمائم عند أحد من العامة، ولا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط
الأجنة،
ولا للرجال الدواء الذي يقطع النسل، وليغضوا من أبصارهم عن المحارم عند دخولهم على المرضى،
ولا
يفشوا الأسرار ولا يهتكوا الأستار.»، وينبغي للطبيب أن يكون عنده جميع آلات الطب على
الكمال مما
يحتاج إليه في صناعة الطب، غير آلة الكحالين والجراحين مما يأتي ذكره في موضعه، وللمحتسب
أن
يمتحن الأطباء بما ذكره حنين في كتابه المعروف ﺑ«محنة الطبيب»: فأما (محنة الأطباء) لجالينوس
فلا يكاد واحد يقوم بما شرط عليهم.
وأما الكحالون فيمتحنهم المحتسب بكتاب حنين بن إسحاق، أعني «العشر المقالات في
العين»،
٩٥ فمن وجده فيما امتحنه به عارفًا بتشريح العين وعدد طبقاتها السبع، وعدد رطوباتها
الثلاث، وعدد أمراضها الثلاثة، وما يتفرع من ذلك من الأمراض، وكان خبيرًا بتركيب الأكحال
وأمزجة
العقاقير أذن له المحتسب بالتصدي لمداواة أعين الناس، وألا ينبغي أن يفرط في شيء من آلات
صنعته
مثل سنانير السبل والظفرة ومحك الجرب ومباضع الفصد ودرج المكاحل وغير ذلك.
وأما كحالو الطرقات فلا يوثق بأكثرهم، إذ لا دين لهم يصدهم عن التهجم على أعين الناس
بالقطع
والكحل بغير علم وخبرة بالأمراض والعلل الحادثة، فلا ينبغي لأحد أن يركن إليهم في معالجة
عينه
ولا يثق بأكحالهم وشيافاتهم، فإن منهم من يضع أشيافًا أصلها من النشا والصمغ ويصبغها
ألوانًا
مختلفة فيصبغ الأحمر بالأسريقون، والأخضر بالكركم، والنيل والأسود بالقاقيا، والأصفر
بالزعفران،
ومنهم من يجعل أشياف ماميتا
٩٦ أو يجعل أصله من البان المصري ويعجنه بالصمغ المحلول، ومنهم من يعمل كحلًا من نوى
الإهليلج المحرق والفلفل وجميع غشوش أكحالهم لا يمكن حصر معرفتها، فيحلفهم المحتسب على
ذلك إذ
لا يمكن منعهم من الجلوس لمعالجة ذلك.
وأما المجبرون فلا يحل لأحد أن يتصدى للجبر إلا بعد أن يحكم معرفة المقالة السادسة
من كناش
فولوس Pandecte de Paul d’fgine في الجبر (وهو ترجمة حنين بن
إسحاق) وأن يعلم عدد عظام الآدمي وهو مئتا عظم وثمانية وأربعون عظمًا، وصورة كل عظم فيها
وشكله
وقدره حتى إذا انكسر منها شيء أو انخلع رده إلى موضعه على هيئته التي كان عليها، فيمتحنهم
المحتسب في جميع ذلك.
وأما الجراحون فيجب عليهم معرفة كتاب جالينوس المعروف بقطا جانوس
٩٧ في الجراحات والمراهم، وأن يعرفوا التشريح وأعضاء الإنسان، وما فيه من العضل
والعروق والشرايين والأعصاب، ليتجنب ذلك في وقت فتح المواد وقطع البواسير، ويكون معه
دست
المباضع فيه مباضع مدورات الرأس والموربات وفأس الجبهة ومنشار القطع ومجرفة الأذن وورد
السلع
ومرهمدان المراهم، ودواء الكندر القاطع للدم الذي قدمنا صنعته. وقد يبهرجون على الناس
بعظام
تكون معهم فيدسونها في الجرح ثم يخرجونها منه بمحضر من الناس، ويزعمون أن أدويتهم القاطعة
أخرجتها. ومنهم من يضع مراهم من الكلس المغسول بالزيت ثم يصبغ لونه أحمر بالمغرة أو أخضر
بالكركم والنيل أو أسود بالفحم المسحوق. فيعتبر عليهم العريف جميع ذلك.
(٢٢) عهد أبقراط
ذكرنا في كلامنا في الحسبة على الأطباء أن المحتسب يأخذ عليهم عهد أبقراط، قال ابن
أبي
أصيبعة: إن أبقراط قد وضع عهدًا استخلف فيه المتعلم لصناعة الطب على أن يكون لازمًا للطهارة
والفضيلة، وهذه نسخة العهد
٩٨ قال أبقراط:
إني أقسم بالله رب الحياة والموت وواهب الصحة وخالق الشفا وكل علاج، وأقسم باسقليبيوس
وأقسم بأولياء الله من الرجال والنساء جميعًا، وأشهدهم جميعًا على أني أفي بهذه اليمين
وهذا
الشرط، وأرى أن المعلم لي هذه الصناعة بمنزلة آبائي وأواسيه في معاشي، وإذا احتاج إلى
مال
واسيته وواصلته من مالي، وأما الجنس المتناسل منه فأرى أنه مساوٍ لإخوتي، وأعلمهم هذه
الصناعة إن احتاجوا إلى تعلمها بغير أجرة ولا شرط، وأشرك أولادي وأولاد المعلم لي والتلاميذ
الذين كتب عليهم الشرط، وأحلفوا بالناموس الطبي في الوصايا والعلوم وسائرها في الصناعة،
وأما غير هؤلاء فلا أفعل به ذلك. وأقصد في جميع التدبير بقدر طاقتي منفعة المرضى. وأما
الأشياء التي تضر بهم وتدني منهم بالجور عليهم فأمنع منها بحسب رأيي. ولا أعطي إذا طلب
مني
دواء قتالًا، ولا أشير أيضًا بمثل هذه المشورة. وكذلك أيضًا لا أرى أن أدني من النسوة
فرزجة
تسقط الجنين، وأحفظ نفسي في تدبيري وصناعتي على الزكاة والطهارة، ولا أشق أيضًا عمن في
مثانته حجارة، لكن أترك ذلك إلى من كانت حرفته هذا العمل. وكل المنازل التي أدخلها إنما
أدخل إليها لمنفعة المرضى، وأنا بحالة خارجة عن كل جور وظلم وفساد إرادي مقصود إليه في
سائر
الأشياء، وفي الجماع للنساء والرجال الأحرار منهم والعبيد. وأما الأشياء التي أعاينها
في
أوقات علاج المرضى أو أسمعها، أو في غير أوقات علاجهم في تصرف الناس من الأشياء التي
لا
ينطق بها خارجًا فأمسك عنها وأرى أن مثالها لا ينطق به.
فمن أكمل هذه اليمين ولم يفسد منها شيئًا كان له أن يكمل تدبيره وصناعته على أفضل
الأحوال وأجملها، وأن يحمده جميع الناس فيما يأتي من الزمان دائمًا، ومن تجاوز ذلك كان
بضده. ا.ﻫ.
(٢٣) الحسبة على الصيادلة
ذكرنا الحسبة على الأطباء، ونذكر كذلك الحسبة على الصيادلة لعلاقة ذلك بالطب، قال
الإمام
عبد الرحمن بن نصر الدين عبد الله الشيرازي:
٩٩ «تدليس هذا الباب كثير لا يمكن حصر معرفته على التمام، فرحم الله من نظر فيه، وعرف
استخراج غشوشه فكتبها في حواشيه، تقربًا إلى الله تعالى، فهي أضر على الخلق من غيرها،
لأن
العقاقير والأشربة مختلفة الطبائع والأمزجة، والتداوي على قدر أمزجتها، فمنها ما يصلح
لمرض
ومزاج، فإذا أضيف إليها غيرها أخرجها عن مزاجها فأضرت بالمريض ولا محالة. فالواجب عليهم
أن
يراقبوا الله عز وجل في ذلك، فينبغي للمحتسب أن يخوفهم ويعظهم وينذرهم بالعقوبة والتعزير
ويعتبر
عليهم عقاقيرهم في كل أسبوع.» ثم ذكر المؤلف غشوشهم مما لا يتسع المقام هنا لذكرها، فنجتزئ
عنها
بما ذكرنا.