الفصل الخامس
بيمارستانات الجزيرة العربية
(١) بيمارستان مكة
قال تقي الدين أبو الطيب محمد بن أحمد بن علي:١ وبمكة أوقاف كثيرة على جهات من القربات غالبها الآن غير معروف لتوالي الأيدي
عليها. ومن المعروف منها البيمارستان المستنصري العباسي٢ بالجانب الشمالي من المسجد الحرام، وتاريخ وقفه سنة ٦٢٨ﻫ، وعمرها في عصرنا
الشريف حسن بن عجلان صاحب مكة عمارته التي هو عليها الآن، وزاد فيه على ما كان عليه أولًا
إيوانين أحدهما في جهته الشمالية والآخر في جهته الغربية، وأحدث فيه صهريجًا ورواقًا
فوق
الإيوانين اللذين أحدثهما، وفوق الإيوان الشرقي الذي كان فيه من قبل وجدد هو عمارته،
وفوق
الموضع الذي به الشباكان المشرفان على المسجد الحرام، وأدخل فيه البئر التي كان يستقى
منها
للميضأة الصرغتمشية، ووقف جميع ما بناه وما يستحق منافعه في الموضع المذكور المدة التي
يستحقها على الضعفاء والمجانين، ووقف عليه منافع الدار المعروفة بدار الإمارة عند باب
شيبة
بعد عمارته لها حين تخربت بالحريق الذي وقع في آخر ذي القعدة من سنة ٨١٤ﻫ. وذلك بعد استيجاره
واستيجاره للبيمارستان المذكور لتخربها من القاضي الشافعي بمكة مدة مائة سنة، وأذن له
في صرف
أجرة الموضعين في عمارتهما، وكان استيجاره لذلك في شهر ربيع الأول سنة ٨١٥ﻫ، وفيها شرع
في
عمارتهما، وكان وقفه لذلك في صفر سنة ٧١٨، ووقف المنافع يتمشى على رأي بعض متأخري المالكية
وحكم به بعض طلبة المالكية ليثبت أمره، وإن كان بعض المعتبرين من المالكية لا يرى جوازه.
وقال
الشيخ قطب الدين النهروالي٣ المكي: وفي سنة ٨١٦ﻫ عمر شريف مكة يومئذ وهو الشريف حسن بن عجلان بن رميثة جد
سيدنا ومولانا شريف مكة الآن سنة (٩٧٩ﻫ) السيد الشريف حسن بن أبي نمي بن بركات بن محمد
بن
بركات بن حسن بن عجلان أدام الله تعالى دولته وسعادته بالجانب الشمالي من المسجد الحرام
البيمارستان، الذي كان وقفًا للمستنصر العباسي فخرب ودثر، فاستأجره من قاضي القضاة بمكة
يومئذ
القاضي جمال الدين بن ظهيرة الشافعي إجارة طويلة مائة عام بأربعين ألف درهم بوزن مصر،
وأذن
القاضي جمال الدين السيد حسن بن عجلان أن يصرف الأجرة المذكورة في عمارة ما تخرب من
البيمارستان المذكور، وأن يهدم ما يحتاج إلى الهدم ويرمم يما يحتاج إلى ترميم، وأن ينتفع
به
مدة إجارته، فشرع السيد حسن في عمارة البيمارستان المذكورة عمارة حسنة، وجدد به ما يحصل
به
النفع للفقراء، وجدد به إيوانًا وصهريجًا، ووقف جميع ذلك مما عمره ومما يستحق الانتفاع
به على
الفقراء والمساكين والمرضى والمنقطعين، يأوون إليه علوًا وسفلًا وينتفعون بالإقامة والسكن
فيه، لا يزعجهم أحد ولا يخرجهم، بل يستمرون إلى أن يحصل لهم الشفاء والعافية فيخرجون
باختيارهم، فإذا خلا البيمارستان من المرضى عاد الانتفاع لهم، وكتب بذلك كتاب وقف على
الصورة
المشروحة، وجعل النظر على ذلك لولديه بركات وأحمد، ثم من بعدهما للأرشد فالأرشد من ذرية
الذكور دون الإناث من ولد الظهر لا البطن. وثبت ذلك وحكم بصحته القاضي السيد رضي الدين
أبو
حامد محمد بن عبد الرحمن الفاسي الحسني المالكي في يوم الجمعة لعشر مضين من صفر سنة ٨١٦،
وإنما استحكم فيه المالكي لأن متأخريهم أجازوا وقف المنافع، وهو خلاف رأي أبي حنيفة والشافعي.
واستمر إلى أن خرب ودثر فاستبدل مرارًا آخر ذلك في أواخر دولة المرحوم المقدس السلطان
سليمان
خان بن سليم خان سقى الله عهده صوب الرحمة والرضوان.
وقال الشيخ قطب الدين:٤ إن المدرسة الحنفية التي أنشأها سلطان الهند السلطان أحمد شاه الكشراني بجانب
البيمارستان، كانت بيده هي والبيمارستان المستنصري وكذلك أوقاف السلطان الملك المؤيد
شيخ
المحمودي. قال الشيخ قطب الدين: وأقرأت فيها درسًا في الطب ودرسًا في الحديث. وفي أوائل
القرن
التاسع الهجري أوقف الجمال محمد بن الشهاب أحمد البوني٥ من أهل بونه Boune من أعمال تونس بالمغرب الذي
سافر إلى مكة وقطن الحجاز على البيمارستان المكي بعض الأماكن. وكان إبراهيم بن محمد برهان
الدين الكردي٦ نزيل الحرمين متوليًا مشيخة البيمارستان بمكة بعد موت الشمس البلوي، وجدد في
أوقافه المكان المجاور لأحد أبوابه، اشتراه من ريعه في سنة ٨٤٦ﻫ. وأوقف محمد بن عبد الرحمن
بن محمد بن أحمد بن الجمال محمد بن الشهاب أحمد بن أحمد في مرض موته على البيمارستان
المكي
بعض الأماكن، وكان قد قدم جده من المغرب وهو فقير جدًّا، فقطن الحجاز وترقى ابنه بخدمة
الشريف
بركات بن أبي نمي صاحب مكة، وكان فيه خير بحت، وتوفي بمكة عام ١٠١٧ﻫ ودفن بالمعلاة.
(٢) بيمارستان المدينة
قال النويري٧ في سنة ٦٦٣ﻫ جهز الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي، الأخشاب والحديد والرصاص
والآلات والصناع، فكانوا ثلاثة وخمسين رجلًا لإتمام عمارة الحرم الشريف النبوي، وأنفق
فيه
الأموال وجهز معهم المؤنة، وندب لذلك الطواشي شهاب الدين محسن الصالحي ورضي الدين أبا
بكر
والأمير شهاب الدين الغازي ابن الفضل اليعمري مشدًا ومحيي الدين أحمد بن أبي الحسين ابن
تمام
طبيبًا إلى البيمارستان الذي بالمدينة، ومعه أدوية وأشربة ومعاجين ومراهم وسكر لأجل من
يعتريه
من الجماعة مرض. وكان خروجهم من القاهرة في سابع عشر شهر رجب ووصل إلى المدينة في ثاني
شوال.
وقال ابن شاكر الكتبي٨ تمم الملك الظاهر بيبرس عمارة حرم رسول الله ﷺ وعمل منبره وأحاط بالضريح
درابزين، وذهب سقفه وبيضه، وجدد البيمارستان ونقل إليه سائر المعاجين والأكحال والأشربة،
وبعث
إليه طبيبًا من الديار المصرية. وتوفي الملك الظاهر يوم الخميس ١٨ محرم سنة ٧٦٧ﻫ.
١
كتاب شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام لتقي الدين أبي الطيب محمد بن أحمد بن علي
الحسني الفاسي المكي قاضي المالكية بالحرم الشريف ص١١٥ طبع ليبزيغ (ولد بمكة سنة ٧٧٥ﻫ).
٢
هو المستنصر بالله جعفر ابن الظاهر بويع عام ٦٢٣ﻫ.
٣
الإعلام بأعلام بيت الله الحرام ص٢٠٢ طبع ليبسيك سنة ١٨٧٥ ولد الشيخ قطب الدين
النهرواني بمكة سنة ٩٣٠ وتوفي سنة ٩٨٨ وقيل سنة ٩٩٠.
٤
الإعلام بأعلام بيت الله الحرام ص٣٥١ و٣٥٣.
٥
الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع للسخاوي.
٦
الضوء اللامع.
٧
نهاية الأرب في فنون الأدب حوادث سنة ٦٦٣.
٨
فوات الوفيات ترجمة الظاهر بيبرس.