المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، صدر في شهر مارس من هذا العام (١٩٥٨) المجلد الأول من «الصراع بين البورجوازية والإقطاع»، الدراسة التي عقدناها لتاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر، أو بالأحرى في النصف الأول منه بين سنتي ١٧٨٩، ١٨٤٨، وكنا حاولنا في هذا المجلد الأول إظهار الصلة بين نشوء المبدأ القومي والمذهب الحر، وبين ظهور البورجوازية أو الطبقة المتوسطة، تخوض غِمارَ نضالٍ عنيف ضد أصحاب السيطرة من الطبقات الممتازة في المجتمع الأوروبي، ذلك المجتمع الذي لم يكن — حتى هذا الوقت — قد استطاع القضاء على بقايا الإقطاع في أوروبا، لا من الناحية الاجتماعية، ولا من الناحية السياسية، أو الأخرى الاقتصادية.
وكنا قد أوضحنا في المجلد الأول كذلك، كيف أن الثورة الفرنسية كانت التجربةَ الكبرى التي مرَّت بها البورجوازية، عندما راحت هذه تعمل لتشييد صرْح الدولة القومية ذات المبادئ الحرة، فتوقف على نجاح هذه التجربة ظفَرُ البورجوازية بالسلطة في ظل نظام «دستوري»، وتلك كانت الغاية التي هدفت إليها الطبقة المتوسطة دائمًا في نضالها ضد الطبقات ذات الامتيازات في «النظام القديم»، ولقد كان معنى فشل البورجوازية — لو أن عناصر الرجعية في أوروبا تمكنت من قمع «الثورة» — أن يقضى لمدة من الزمن — لا شك في أنها سوف تطول كثيرًا — على القومية والمذهب الحر، كمُثُلٍ عُلْيَا يسترشد بها المجتمع البورجوازي في أوروبا، في بناء نظامه السياسي بالشكل الذي عرفه القرن التاسع عشر بعدئذ.
ونحن في هذا المجلد الثاني — الذي بين يدي القارئ الكريم — قد قَطَعْنا شوطًا آخر في دراسة «الصراع بين البورجوازية والإقطاع»، وذلك في فترة من التاريخ الأوروبي بين عامي ١٧٩٩–١٨١٥، شهدت أحداثًا جسيمة خلَّفت آثارًا عميقة على كيان المجتمع الأوروبي من الناحيتين المادية والروحية معًا، ولقد كان بسبب ذلك أن اصطلح المؤرخون على تسمية هذه الفترة «بعصر نابليون»، ولم يكن غرضنا في هذه الدراسة تفصيلَ تاريخ الإمبراطورية النابليونية لبيان الأحداث والوقائع وحسب، ولكننا توخَّيْنا أن نُبْرز الحقيقة التالية: وهي أن الإمبراطورية التي أقامها نابليون كانت «إمبراطورية بورجوازية» قامت على أكتاف الطبقة المتوسطة في فرنسا، واستطاعت أن تفرض سلطانها على أوروبا خصوصًا بفضل مؤازرة البورجوازية «العالية» لها، واستندت على تشريعاتٍ تؤمِّن أهل الطبقة البورجوازية على مصالحهم، ووضعت لها تنظيمات كفلت لهؤلاء السيطرة السياسية والاقتصادية في الدولة.
ومن هذه الناحية، كانت الإمبراطورية النابليونية إذَنْ حلقةً أخرى في سلسلة التجارب الكبرى، التي مرَّت بها الطبقة المتوسطة منذ قيام الثورة الفرنسية إلى أن أَمْكَنَ أن تفوز البورجوازية نهائيًّا بالسيطرة في النظام الأوروبي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتَدَعَّمَتْ بذلك أركان القومية والمذهب الحر، الدعامتين اللتين تقوم عليهما هذه السيطرة البورجوازية.
وكما حدث أن رضيت البورجوازية أثناء الثورة الفرنسية بتضحية المبادئ الحرة الديمقراطية، فقد حدث عند تأسيس الإمبراطورية النابليونية أن رضيت البورجوازية كذلك بتضحية كل الحقوق السياسية التي كان من حقها التمسكُ بها، ومبعث التضحية في كلا الحالين كان رغبةَ البورجوازية في الاطمئنان على مصالحها بالصورة التي تخَيَّلَتْها حينئذ، أما نابليون فقد أخذ يعوض البورجوازية عن حقوقها السياسية التي فَقَدَتْها؛ بابتداع ألقاب النبل والشرف، وإقامة «بلاط» إمبراطوري، وإصدار أوسمة جوقة الشرف، وغير ذلك من «مظاهر» الإمبراطورية اللازمة «لنظامه»؛ وحتى يتسنى مكافأة هذه البورجوازية العالية على الخدمات التي صارت تسديها لإمبراطوريته.
ومثلما كان للثورة الفرنسية آثار ظاهرة في أوروبا من ناحية القومية والمذهب الحر، فقد خلَّفَت الإمبراطورية النابليونية كذلك من هذه الناحية آثارًا خطيرةَ الشأن على أوروبا، كانت أهمها مباشرة — ولا شك — استثارة «الأمم» للمقاوَمة ضد نابليون، وهي المقاوَمة التي أدَّتْ إلى انهيار السيطرة النابليونية في أوروبا، وسوف يرى القارئ أن مبعث هذه المقاوَمة «الأممية» ضد نابليون كان انتشار الشعور الوطني، وذيوع الآراء «القومية» التي نادى بها قادة الرأي والمفكرون في البلدان ذاتها التي خَضَعَتْ لنظام نابليون وإمبراطوريته.
بقيت كلمة أخيرة: هي أننا أضفنا إلى هذا المجلد قسمًا من البحث المتعلق «بأوروبا تحت نظام مترنح»، وهو الذي يشمل الفترة الباقية من هذه الدراسة، أي بين سنتي ١٨١٥–١٨٤٨، على أن يتم نَشْر بقية فصوله في المجلد التالي، وقد رأينا أن نرجئ الكلام عن أهمية الصراع بين البورجوازية والإقطاع في هذه الفترة؛ حتى تتاح الفرصة إن شاء الله لصدور المجلد الثالث والأخير من هذا الكتاب.
والله ولي التوفيق.