المقدمة
كانت مهمة الدول بعد سقوط نابليون وزوال إمبراطوريته أن تَضَعَ تسوية للمشكلات التي أَوْجَدَها التوسع الفرنسي، أثناء السيطرة النابليونية في أوروبا، وذلك بإعادة تنظيم أوروبا من الناحيتين السياسية والإقليمية خصوصًا، ولقد استرْشَدَت الدول الكبرى عند وضع هذه التسوية بقواعد معيَّنة أساسية: أولها؛ الشرعية، أي التمسك بمبدأ إرجاع العروش إلى أصحابها الشرعيين، ومعنى ذلك إعادة الأسر الحاكمة القديمة التي أُقْصِيَتْ عن الحكم منذ ١٧٩٢ على أيام الثورة ونابليون، واسْتُبْدِلَ بها غيرها في حكومة الأقطار أو الدول والممالك التي أُنْشِئَتْ من جديد أو تلك التي أزيل عن عروشها أصحابها الأصليون، وفي أكثر الأحايين لم يكن هؤلاء الحكام (الملوك والأمراء) الراجعون معروفين لشعوبهم كما كرههم هؤلاء كراهية شديدة، فأدى العمل بهذه القاعدة إلى عودة البربون إلى فرنسا، وحرمان أسرة بونابرت من الحكم، ثم إنه كان من معنى الشرعية أن صار معمولًا بالمبدأ القائل بضرورة اعتبار الشعوب أن الواجب يقتضيهم أن يَقْبَلوا الحكام الذين يُفْرَضون عليهم وأن يُذْعِنوا لهم، وأن يَمْتَنِع عليهم حتى مجرد التفكير إطلاقًا في أن لهم حقًّا في اختيار من يريدون تنصيبه حاكمًا عليهم.
وأما ثاني هذه الأسس: فكان المحافَظة على توازُن القوى بين الدول، ومعنى الموازنة بين القوى — التوازن الدولي — أن لا يُسمح لدولة بالتفوق على غيرها من الدول؛ وذلك حتى لا تَبْسُط سيطرتها على أوروبا، على غرار ما فَعَلَت الإمبراطورية النابليونية، ولكن مبدأ المحافظة على التوازن الدولي عند تطبيقه كان معناه العودة إلى ما دَرَجَ عليه العمل في القرن الثامن عشر، من حيث المبادرة إلى توزيع الأسلاب بين المنتصرين على أن يكون لأقوى الدول النصيبُ الأوفرُ منها.
فكان الذي أفاد من تطبيق مبدأ التوازن الدولي بهذه الصورة كل من إنجلترة وروسيا، وبروسيا والنمسا والسويد، فسوف نرى أن إنجلترة احتفظت بمقتضى التسوية الأوروبية بالسيطرة في البحار، الأمر الذي سَاعَدَ على زيادة نشاطها وتوسُّعها التجاري، كما أضافت إلى أملاكها عددًا من المستعمرات، أما روسيا فقد استولت على أكثر الأقاليم التي تَكَوَّنَتْ منها قديمًا مملكة بولندة، كما احْتَفَظَتْ بفنلندة. ثم إن بروسيا ضَمَّتْ إليها النصف الشمالي من سكسونيا، وكذلك عددًا من الإمارات والمقاطعات عند نهر الراين، وضَمَّت السويد إليها النرويج بعد أن انْتُزِعَتْ هذه الأخيرة من الدنمارك، وأما النمسا فقد أفادت من مبدأ التوازن الدولي، باسترجاع سيطرتها السابقة في إيطاليا، والعمل — كما أراد مترنخ — على تفكيك أوصال إيطاليا لتصبح شبهُ الجزيرة الإيطالية مُجَرَّدَ تعبير أو مصطلح جغرافي.
والمبدأ الثالث: كان تأمين أوروبا ضد تجدُّد الغزو من ناحية فرنسا؛ فقد خَشِيَت الدول أن تَسْتَرِدَّ فرنسا أنفاسها بعد الهزيمة التي لَحِقَتْ بها، فتبدأ في التسلح من جديد، وتصبح خطرًا يتهدد أوروبا بالغزو مرة ثانية، ولقد كان هذا الخوف من ناحية فرنسا أهم المؤثرات التي ظَلَّتْ تسيطر على مباحثات المؤتمرات التي عُقِدَتْ في أوروبا لإبرام الصلح أولًا، ثم للمحافظة على السلام بعد إبرام معاهدات الصلح في الفترة التالية، وكان هذا الخوف — بدوره — هو مبعث ما حَدَثَ من ترتيبات سياسية وإقليمية أنشأت حولَ الحدود الفرنسية حلقةً من الدول التي تكون على درجةٍ من القوة تكفي لاحتجاز فرنسا أو لاحتوائها داخل حدودها التي رَسَمَتْها لها معاهَدات الصلح النهائية، فيكون في وُسْع هذه الدول الحاجزة ضد الغزو الفرنسي إذا تجدَّد.
وعملًا بهذه القاعدة إذن، ضُمَّتْ بلجيكا إلى هولندة، ونالت بروسيا الأراضي الألمانية في جهة نهر الراين، وضَمِنَت الدول استقلال سويسرة وحيدتها كإجراء ضروري لتقوية الاتحاد السويسري، وأُعْطِيَتْ سافوي إلى بيدمنت، واقترن العمل بهذا المبدأ ثم بمبدأ توازي القوى قَبْله باتباع قاعدة «التعويضات» التي أَخَذَ بها السياسيون في مؤتمر فينَّا، من أجل تعويض الدول التي اقْتُطِعَتْ أجزاء منها، أو فَقَدَتْ بعض أملاكها بما يساوي مساحةَ هذه الأجزاء التي فَقَدَتْها أو عدد سكانها.
وتلك المبادئ جميعها، التي أَخَذَتْ بها الدول «الكبرى» عند وَضْع التسوية الأوروبية لم تَلْبَثْ أن صارت — وعلى نحو ما سنفصله في موضعه — مبعث كل الأحداث والمشكلات التي عرفها القرن التاسع عشر، وهي مشكلات قامت على أساس رغبة الشعوب التي اكْتَمَلَ نضجها القومي في نَقْض هذه التسوية وإلغائها فيما يتعلق بالترتيبات الإقليمية والسياسية التي قامت على المبادئ الثلاثة السالفة الذكر؛ فإيطاليا وألمانيا كلتاهما ترغبان في الوحدة أو الاتحاد، وبلجيكا والنرويج كلتاهما تريدان الانفصال والاستقلال، الأولى عن هولندة، والثانية عن السويد، وبولندة تبغي التحرر والخلاص من روسيا، وإلى جانب هذا كله قامت الشعوب في الدول «الصغيرة» تريد التخلص من الحكام الرجعيين الذين جاء بهم مبدأ «الشرعية»، وتَعْمَل للتحرر من تَدَخُّل الدول «الكبرى» في شئونها حتى تَفْرِض عليها حكمًا رجعيًّا استبداديًّا، أو لتُرْغِمها على الرضوخ لحكم أجنبي عنها.
وفي السنوات من ١٨١٥ إلى ١٨٤٨ بذلت الدول الكبرى كلَّ ما وُسْعها من جهد وحيلة «لتنفيذ» هذه المبادئ الثلاثة التي قامت عليها التسوية الأوروبية، وكان معنى «التنفيذ» محاوَلة التمسك بجوهر هذه التسوية وتفاصيلها في وجه كل الرغبات المشروعة التي كانت تجاهلتها الدول الكبرى عند وضع التسوية الأوروبية، وعلى ذلك فقد تَمَيَّزَتْ هذه السنوات الثلاثون، من أجْل المحافَظة على الأوضاع التي أَوْجَدَتْها هذه التسوية الأوروبية، بقيام نوع من المحالفات بين الدول الكبرى على أساس التدخل في شئون الدول «الصغرى»؛ لإخماد كل نزعة أو محاوَلة للتخلص من الحكم الأجنبي، ولإنهاء الحكومة الاستبدادية، أي إن هذه السنوات الثلاثين قد شهدت صراعًا مستمرًا بين الحكومات «الشرعية» الراجعة أو العائدة، وأنصار الرجعية، وبين الحركات القومية الوطنية وأنصار الحرية في أوروبا.
وقد أَمْلَتْ على مترنخ الظروفُ التي نشأ فيها في خدمة الإمبراطورية النمسوية «وآل هابسبرج» السياسة التي لم يكن هناك مناصٌ من اتباعها، ليس فقط من أجل المحافظة على كيان الإمبراطورية النمسوية نفسها، وكانت هذه تتألف من شعوب وعناصر «أو جنسيات» متعددة: جرمانية، سلافية، مجيارية … إلخ، وتتكلم هذه الشعوب بلغات مختلفة، بل ولضمان الفوز بمكان الصدارة الذي يرجو مترنخ أن تحتله هذه الإمبراطورية بين الدول في أوروبا، فهو عدو لكل تغيير في داخل الإمبراطورية النمسوية يهدف إلى تحرُّر شعوبها المتباينة عن طريق إنشاء الحكومات الوطنية والدستورية، الأمر الذي يهدد بانحلال هذه الإمبراطورية، وهو عدو لكل تغيير يحدث في داخل الدول الأوروبية الأخرى، أو يطرأ على العلاقات الدولية المؤسَّسة على التسوية الأوروبية (في سنة ١٨١٥)؛ لأن من شأن هذا التغيير تعكير السلام العام، وتهديد التوازن الدولي الذي كَفِلَتْه التسوية الأوروبية، والذي حَفِظَ للنمسا نفوذًا كبيرًا في كلٍّ من إيطاليا وألمانيا، وذلك نفوذ حرصت النمسا دائمًا على تدعيمه، وإن كان قد عاد ذلك عليها بالضرر والوبال في النهاية.
وعلى ذلك فقد صار اسم مترنخ علَمًا على سياسة «التدخل» في أوروبا، أي السياسة التي اتُّبِعَتْ من أجل القضاء على الحركات القومية (الاستقلالية) والدستورية بها، ذلك أن مترنخ كان صاحب سياسة المحالفات العملية التي قام عليها الاتحاد الأوروبي، وهو الذي يتدخل لقمع الثورات في إيطاليا وألمانيا، ويعقد مع روسيا وبروسيا اتفاقات القمع ضد الحركات الدستورية والقومية، ويمتنع عن تأييد ثورة اليونانيين ضد السلطان العثماني صاحب السيادة الشرعية عليهم، بالرغم من اتفاق كلمة الدول الكبرى على إنقاذ اليونانيين من الفناء على يد الجيوش المصرية العثمانية، ويبادر بتأييد السلطان العثماني نفسه في نِضَالِه مع واليه وتابعه في الباشوية المصرية، وذلك لتَمَسُّك مترنخ في كلا الحالين بمبدأ الشرعية فوق الاعتبارات الأخرى.
أما في داخل بلاده (النمسا) فقد صار «نظام مترنخ» عَلَمًا على الدولة البوليسية التي اعتمدت على الأساليب البوليسية الصارمة في تَعَقُّب المناوئين للنظم القائمة ومطاردتهم، وهم الأحرار والقوميون، وعمدت إلى إلغاء حرية الفرد السياسية، وحرية الصحافة، وفَرَضَت القيود التي وأَدَتْ حرية الرأي، وأخضعت أنظمة التعليم للرقابة الصارمة، والجامعات للتضييق الشديد، ولقي الأحرار والقوميون على أيديها السجن والنفي والتشريد، ولقد اتَّبَعَت الدول الأخرى في أوروبا هذه الأساليب نفسها، بدرجات متفاوتة؛ لتحقيق الغاية الكبرى ذاتها التي هدف إليها «نظام مترنخ» بأكمله، وهي المحافظة على التسوية الأوروبية التي وُضِعَتْ سنة ١٨١٥ دون تغيير.
على أن مترنخ بنظامه البوليسي الرجعي إنما كان يناضل ضد قوات لم يكن هناك معدى عن نجاحها في آخر الأمر، وبعد شوط طويل من المقاومة، ونقصد بذلك قوات الشعوب التي طَالَبَتْ بحقوقها الدستورية والاستقلالية، والتي لم يكن يتسنى لها أن تظفر بهذه الحقوق إلا عن طريق تحطيم التسوية الأوروبية ذاتها؛ التسوية التي نهض «نظام مترنخ» للمحافظة والإبقاء عليها؛ ولذلك فقط اشتَعَلَت الثورات في كل مكان تقريبًا، وفي أزمنة متفقة أو متفاوتة، وكان اشتعالها بمثابة رد الفعل لهذا النظام المترنيخي نفسه، ولغرض القضاء عليه.