الخلاصة
لقد تَجَمَّعَت الأسباب الكثيرة التي أَدَّتْ إلى زوال هذه الملكية (ملكية يوليو)، وكلها أسباب ترتد في أصولها إلى رغبة هذه الملكية في تعزيز كيانها، وضمان بقائها واستمرارها، وهي التي اعتبرها أصحاب التيجان في أوروبا «ملكية دخلية»، احتلت مكانها بين سائر الملكيات ذات التقاليد العتيقة الموروثة، دون أن يكون لها من هذه التقاليد شيء تستند إليه، ثم هي كذلك التي اعتبرها فريق من الفرنسيين «غير شرعية»، سواء كان هؤلاء من أنصار البربون، أو من الجمهوريين، أو من البونابرتيين.
ولقد كانت هذه الرغبة في البقاء مبعث سياسة الجمود التي اتبعتها ملكية يوليو، في تدبير شئون الحكم الداخلي، وفي توجيه علاقاتها الخارجية، ثم تشبثت بهذا الجمود لدرجة أنها فَقَدَتْ في النهاية كل مُبَرِّر لوجودها في نظر الفرنسيين، فكان زوالها أمرًا مفروغًا منه؛ فهي قد اصطدمت في الداخل برغبة الإصلاح النيابي، وكانت تلك هي الصخرة التي تَحَطَّمَتْ عليها، بينما كان التحالف الودي مع إنجلترة في علاقاتها الخارجية، النكبة التي جَرَّتْ عليها الكوارث، فسبق أن أوضحنا كيف أن لويس فيليب أراد الاستفادة من هذا التحالف لتعزيز مركز «الملكية» بين الدول الأوروبية ولتنفيذ مشروع الزواج الإسباني، وتلك أغراض اعتبرها الجمهوريون والاشتراكيون — كما اعتبرها الشعب الفرنسي عمومًا — أغراضًا شخصية فحسب، لا هَدَفَ لها إلا خدمة مصلحة البيت المالك على حساب مصالح الأمة ذاتها، حتى إن لامارتين عند تأليف الحكومة المؤقتة، قال — يشرح السبب في سقوط حكومة لويس فيليب؛ إنه مشروع الزواج الإسباني: «لقد قلت دائمًا إن الرغبة في تحقيق هذا الغرض الأناني سوف تكون مبعث هلاك «لويس فيليب»؛ لأن هذا الزواج دفعه لاتباع سياسة كان لا يمكن أن تقبلها البلاد»، وصَرَّحَ لامارتين بأن الحكومة المؤقتة سوف تُعْلِن في فرصة قريبة ما ينهض دليلًا على أن هذه السياسة التي اتبعتها ملكية لويس فيليب في موضوع إسبانيا لم تكن في صالح الوطن، وبالفعل نَشَرَت الحكومة بين شهري مارس وسبتمبر ١٨٤٨ طائفة من الوثائق السرية التي عُثِرَ عليها في قصر التويلري عقب الثورة تؤيد دعواها، وأَلْحَقَت الأذى البليغ بسمعة لويس فيليب وبملكية يوليو عمومًا.
ولقد كانت الطبقات المتوسطة هي دعامة هذه الملكية، واستندت سلطة هؤلاء على أساس قانوني؛ هو حق الانتخاب، ولكن لم يكن لهم أي سلطان أدبي أو روحي على سائر أفراد المجتمع؛ فهم ليسوا أصحاب حقوق تاريخية لأن يكونوا طبقةً حاكمة، وتلك حقوق لو أنها كانت لهم لَجَعَلَتْ ممكنًا رضاء الأمة الفرنسية عن ادعاءاتهم، ثم إنهم لما كانوا يمثلون الثروة والغنى والقوة المادية، فقد أثاروا ضِدَّهم عداءَ أولئك الذين قام في نظرهم النظام الاجتماعي والاقتصادي السائد على الظلم وانتفاء العدالة؛ ولذلك فَقَدْ صار في نهاية الشوط تأييد البورجوازية مبعث ضعف بدلًا من أن يكون سببًا لقوة هذه الملكية.
وأخطأ لويس فيليب خطأ جرَّ الوبال عليه، عندما لم يعمل لتوسيع القاعدة التي قام حُكْمُه عليها، ومما زاد في جسامة الآثار المترتبة على هذا الخطأ أن التأييد الذي لَقِيَه من هذه البورجوازية كان فاترًا وغير ثابت، فمع أن مصالح البورجوازية كانت تتطلب استقرار الملكية، فقد خَيَّمَ الخمول والتراخي وعدم المبالاة على أهل هذه الطبقات المتوسطة، فهم قد رَاضَوا أنفسهم مُكْرَهين على قبول سياسة الحكومة السلمية، ولم يلبث أن بطل اهتمامهم بتلك المناقشات الجوفاء التي يثيرها ممثلوهم تحت قبة البرلمان، وكما دَلَّت الأحوال وقتئذ كان الأمل الوحيد في تَغَلُّب لويس فيليب على الصعوبات التي أحاطت بموقفه، هو استطاعته أن يَصْرِف ذهن الشعب الفرنسي إلى التفكير في موضوعات أخرى، وذلك ما فشل فيه لويس فيليب فشلًا ذريعًا؛ فقد قامت سياسته على قاعدة جوهرية هي المحافظة على السلام في أوروبا، ومع أن هذا الغرض قد تَحَقَّقَ دون التضحية بمصالح الأمة أو دون أن يجلب العار عليها، فإن الوصول إلى هذه النتيجة أَخْفَقَ في إرضاء مشاعر رعاياه وأحاسيسهم، وكان لويس فيليب مكروهًا من البلاد؛ لأنه بَدَّدَ آمالها ولم يُحَقِّق لها أطماعها.
لقد كانت فرنسا في حاجة مُلِحَّة مرة أخرى لأن تتطهر بنيران الحرب؛ حتى يمكن أن تتذوق نعيم السلام مع الشرف.