دستور العام الثامن
استغرق وَضْع الدستور الجديد مدة شهر ونصف شهر تقريبًا من ١١ نوفمبر إلى ٢٤ ديسمبر سنة ١٨٩٩، ومنذ أول ديسمبر كانت جريدة المونيتر قد أذاعت ملخصًا لبعض الآراء التي تقدم بها «سييس» كقواعد للدستور الجديد، يبغي منها أن يجعل حق الانتخاب مقصورًا على شاغلي الوظائف العمومية في الهيئات الإدارية والقضائية والتشريعية في الدولة، الذين سماهم الشعب أصلًا لهذه الوظائف، أو الذين عينتهم الحكومة بها، وصاروا لذلك يهتمون جديًّا بضرورة المحافَظة على المبادئ التي أتت بها الثورة والإبقاء على النتائج التي تمخضت عنها، وأما الهيئة التشريعية؛ فقد أشار «سييس» بأن تتألف من أربعمائة عضو يتجدد ربع عددهم سنويًّا، يضعون القوانين وفق حاجات المجتمع ومَطَالِب الحكومة، وقد وضع «سييس» على رأس هذا النظام كله «ناخبًا أعظم» لا يمكن عَزْله، يُعطَى مخصصات قَدْرُها ستة ملايين فرنك ويقيم في قصر فرساي، ويلحق بخدمته ثلاثة آلاف حارس، تصدر باسمه القرارات والقوانين وأحكام القضاء، ثم إن هذا الناخب الأعظم يسمي قنصلين: أحدهما للحرب، والآخر للسلام.
وقد احتفظ هذا الدستور بنظام التمثيل النيابي، ولو أنَّ هذا التمثيل كان اسميًّا فقط؛ حيث كاد يقضي النظام الذي جاء به الدستور على كل صوت للشعب، ذلك بأن الانتخاب جُعِلَ على أربع مراحل؛ إذ ينتخب سواد الشعب «أعيان أو نواب القومونات»، بينما ينتخب هؤلاء من بينهم عُشْر عددهم فقط «أعيان أو نواب المديريات»، ثم ينتخب هؤلاء بدورهم من بينهم عُشْر عددهم كذلك «أعيان أو نواب فرنسا»، ثم يجري من بين هؤلاء الأخيرين انتخاب أعضاء الهيئة التشريعية.
وواضح إذن أن هذا الدستور أعطى كل سلطة فعلية للقنصل الأول، فإلى جانب الحقوق التشريعية والتنفيذية الواسعة التي صارت له، كان من حقه — بالاشتراك مع القنصلين الآخرين، ولم يكونا في نفس مرتبته — تعيينُ أعضاء مجلس الشيوخ، وهؤلاء هم الذين يُعَيِّنون أعضاء الهيئة التشريعية «بمجلسيها: التشريعي، والتربيون»، وذلك باختيارهم من بين الأسماء الواردة في آخر قائمة للانتخاب بعد تعدُّد عملية الانتخاب ذاتها في مراحلها الأربع السالفة الذكر، فلم يعد الشعب قريبَ الصلة بممثليه، بل كادت تختفي تمامًا في هذا النظام كل إرادة له.
ولقد أُعْلِن هذا الدستور رسميًّا يوم ١٥ ديسمبر سنة ١٧٩٩، وأدرك سواد الشعب أن الدستور الجديد إنما يعطي كل سلطة لقائده المظفر «بونابرت»، ولم يَرَ الشعب في ذلك إلا سببًا لرضائه ولزيادة اطمئنانه على أن الأمور سوف تسير في الطريق المحقق للسكينة والاستقرار في الداخل ولبسط ألوية السلام في الخارج.
وأعرب الشعب عن ثقته الكاملة في النظام الجديد عندما تقرَّرَ الاستفتاء العام على هذا الدستور — تطبيقًا للمادة الأخيرة منه — في اليوم نفسه (١٥ ديسمبر)، فأيَّدَ الشعبُ الدستور بأغلبية ساحقة، حيث تبين عند إعلان نتيجة الاستفتاء في ٧ فبراير سنة ١٨٠٠ أن الذين قبلوا الدستور ٣٠١١٠٠٧، بينما الذين رفضوه بلغوا ١٥٦٢ فقط، ولم يَنْتَظِر بونابرت ظهور نتيجة الاستفتاء ليعلن بداية العمل بالدستور، بل تحدد لوضعه موضع التنفيذ يوم ٢٥ ديسمبر سنة ١٧٩٩.
وكذلك اختار سييس، وروجيرديكو، وكمباسيرس، ولوبران مع بونابرت أعضاء «مجلس الشيوخ» دون تمييز بين الأحزاب أو الهيئات القديمة، سواء كان الذين وقع الاختيار عليهم من رجال «العهد القديم» أو أعضاء الجمعية الأهلية التأسيسية، أو حكومة الإدارة، كما كان من بينهم علماء وعسكريون وماليون وغير ذلك، وقد اختار أعضاء مجلس الشيوخ هؤلاء — حسبما نص عليه الدستور — أعضاء المجلس التربيون المائة، وأعضاء المجلس التشريعي الثلاثمائة.
وهكذا كما قال بونابرت: «سوف يجد رجل الثورة (الثوري) ما يبعث على الثقة في هذا النظام عندما يشهد فوشيه وقد صار وزيرًا، وسوف يملأ الرجاء صدر الرجل من النبلاء في إمكان العيش بسلام طالما أن أسقف أوتان القديم (أي تاليران) قد صار كذلك وزيرًا، فأَحَدُ هذين يحمي يساري والآخر يحمي يميني، لقد افتتحت طريقًا عظيمًا في استطاعة الجميع أن يسيروا فيه.»
ولتحقيق «العيش بسلام» عمدت حكومة القنصل الأول إلى استصدار التشريعات التي أَلْغَتْ بها قانون الرهائن، وأجازت عودة المبعدين الذين كانوا قد نُفُوا على أثر انقلاب فريكتدور، وأَوْقَفَتْ إضافة أسماء جديدة على قوائم المهاجرين، واستبدلت بالقسم القديم «الذي تقرر من ١٦ يوليو سنة ١٧٩٧» وكان منطويًا على كراهية شديدة للملكية، وعدًا بسيطًا بالولاء للدستور، وبدأت تحقيقًا لمعرفة عدد القساوسة الذين كانوا في السجن.
ولتأمين السلام الداخلي من أعداء «الجمهورية» الذين اتخذوا من بعض الصحف أداة ينفثون بها سمومهم، قرَّرَتْ حكومة القنصلية إلغاء حرية الصحافة، وهي التي نَصَّتْ دساتير الثورة الثلاثة التي صدرت بين عامي ١٧٩١، ١٧٩٩ على وجوب احترامها — ولو أنه لم يكن لها وجود عمليًّا — فصدر مرسوم في ١٧ يناير سنة ١٨٠٠ بوقف وتعطيل كل الصحف السياسية في باريس «طوال مدة الحرب» وكان عدد الصحف التي سُمِحَ باستمرار صدورها ثلاث عشرة صحيفة فقط، وَجَبَ عليها أن تجعل اهتمامها مقصورًا على «العلوم والفنون والآداب والتجارة والإعلام».