الفصل الثاني
السلام العام
صلح أميان (٢٥ مارس ١٨٠٢)
ولما كانت مهمة النظام الجديد تحقيق السلام العام، أي: إنهاء الحرب التي كان
يهدِّد استمرارُها ببقاء التحالف الدولي «الثاني» قائمًا ضد فرنسا، فقد صار واجبًا
على بونابرت مواجهة الموقف الخارجي بمواصلة الحرب مع النمسا، حجر الزاوية في هذا
التحالف، وحمل إنجلترة على عقد صُلْح مشرف مع فرنسا.
وبدأ بونابرت بأن نشر خطابين مفتوحين، أحدهما: إلى ملك إنجلترة جورج الثالث
بتاريخ ٢٦ ديسمبر سنة ١٧٩٩، والآخر: إلى الإمبراطور فرنسيس الثاني، يعرض عليهما
الصلح، ولكنهما رفضا أن يجيبا على رسالة من شخص اعتبراه «مغتصبًا» للحكم، ثم إن
الحكومة الإنجليزية «وزارة وليم بيت» كان قد صَحَّ عزمها على إضعاف فرنسا،
واعْتَقَدَتْ أن في وسْعها — إذا استطالت الحرب بضعة شهور أخرى، وتزايد ضعف فرنسا —
أن تحصل من هذه على شروط أفضل للصلح، وأما النمسا فكانت مرتبطة بحليفتها إنجلترة،
ولا تريد علاوة على ذلك مغادَرة إيطاليا، وحينئذ لم تسفر عن شيء المحادثات التي
دارت بين الفريقين، فكان جواب إنجلترة أن عودة الأسرة القديمة (البربون) إلى الحكم
في فرنسا كفيلٌ وَحْدَهُ لدرجة كبيرة بضمان السلام والهدوء في أوروبا، وأَظْهَرَتْ
هذه المفاوَضَةُ بونابرت أمام الشعب الفرنسي بمظهر الراغب في السلام حقًّا، والذي
صار مُرْغمًا على أن يخوض غمار حرب «ضرورية» كان بونابرت — ولا شك — يريدها على أمل
الفوز بانتصارات جديدة لزيادة دعم سلطانه.
وعلى ذلك فقد أخذ القنصل الأول يتهيأ للحملة المقبلة، فمن الناحية السياسية عمل
على عزل النمسا بأن استمال بروسيا «فردريك وليم الثالث» إلى التزام الحياد، وروسيا
«بول الأول» إلى الخروج من التحالف، ومن الناحية العسكرية اتخذ عدة إجراءات لضمان
تموين الجيش بحاجاته الكاملة، ومنع سرقات الموردين، وذلك لاعتقاد القنصل الأول أن
طاعة الجند وخضوعهم للنظام الدقيق مرتهنان بسد حاجاتهم من الأغذية والملابس
والعتاد، كما دعا للخدمة العسكرية كُلَّ المطلوبين للجندية في هذا العام، وجمع في
«ديجون Dijon» جيشًا من الاحتياطي يبلغ الستين
ألف رجل، تحت قيادة الجنرال «برثييه»، ومهمة هذه القوة الأولى كانت تخليص الجنرال
«ماسينا Massena» الذي كان النمسويون قد
أرغموه مع الجنرال «سولت Soult» على الارتداد
بجيشه إلى جنوه، وفرضوا عليه الحصار بها.
وكانت حملة هذا العام (١٨٠٠) قد بدأت منذ شهر أبريل بالعملية التي أفضت إلى
محاصرة «ماسينا» في جنوة، مع زميله «سولت»، وكان الأول هو صاحب القيادة على جيش
إيطاليا، واستطاع القائد النمسوي «ميلاس Mélas» أن
يُرْغِم جيشًا فرنسيًّا آخر بقيادة «سوشيه Suchet»
على الارتداد إلى «برغيتو Borghetto»، ثم لم يلبث
أن وَضَعَ قوات كبيرة على حصار جنوة، بينما صار يتعقب «سوشيه» ببقية جيشه على أمل
أن يتمكن من افتتاح الحدود الفرنسية ذاتها من ناحية «بروفنس».
ذلك كان الموقف عندما تدخل بونابرت ليفسد خطط النمسويين، فبينما استعد
«مورو Moreau» قائد جيش ألمانيا لعبور نهر
الراين لغرض الزحف على فينَّا بطريق حوض الدانوب، عهد بونابرت بشئون الحكم إلى
«كمباسيرس»، ثم غادر باريس في ٦ مايو ليزحف بجيشه عبر جبال الألب السويسرية؛ حتى
يتسنى له — بالنزول إلى سهول بيدمنت — أن يشن هجومًا على الجيش النمسوي في خطوطه
الخلفية، وتقرر عبور الألب من ممر سان برنار، فوصل بونابرت إلى جنيف في ١٠ مايو،
وبدأت عملية الزحف والعبور الشاقة، فلم تَمْضِ أيام قلائل حتى كان الجيش (٣٥٠٠٠) قد
بلغ القمة (١٥ مايو)، ثم بدأ الهبوط، وبعد يوم
واحد (١٦ مايو) كانت طلائع هذا الجيش قد استطاعت بقيادة «لان Lannes» الاستيلاء على «أوستا Aosta»، وبعد تذليل بعض العقبات استأنف الجيش زَحْفَه إلى شاطئ
نهر «تيشينو Ticino»، وفي الوقت نفسه كانت قوات
فرنسية أخرى قد عَبَرَت الألب «عند سان جوثار» و«مون سنيس Mont. Cenis».
وعندئذ بدلًا من الزحف صوب الجنوب لتخليص ماسينا «مما أرغمه على التسليم في جنوه
في ٤ يونيو، وإخلاء جنوه في اليوم التالي»، اتجه بونابرت صوب ميلان (٢ يونيو)، وقد
وزع بونابرت قواته إلى ثلاث فرق، فارتكب خطأ مواجهة الجيش النمسوي الرئيسي بقيادة
«ميلاس» بقسم من جيشه فقط، وفي سهل «ألكسندرا Alexandrie» إذن استطاع العدو اختراق خطوطه (١٤ يونيو)، وكان ميلاس
وهو رجل مُسِنٌّ قد أَخَذَ منه التعب فانسحب إلى «مارنجو» متخلِّيًا عن القيادة
العامة لرئيس أركان حربه الجنرال «دي زاك Zach»،
الذي كان عليه إتمام العمليات الأخيرة لإحراز نصر صار مؤكدًا، ولكن لم يلبث أن وصلت
إلى ميدان المعركة قوات فرنسية جديدة بقيادة الجنرال «ديزيه Desaix» سدت طريق زحف النمسويين، الذين سرعان ما أوقفتهم مدفعية
«ديزيه»، ثم شن الفرسان الفرنسيون على جناحهم هجومًا عنيفًا أرغمهم على التقهقر إلى
«ألكسندرا»، فانقلب انتصار النمسويين إلى هزيمة؛ وبذلك صار النصر من نصيب الفرنسيين
في هذه المعركة المشهورة، معركة مارنجو (١٤ يونيو ١٨٠٠) التي كلفت «ديزيه» حياته،
وخسر الجيشان المتقاتلان خسائر جسيمة، وارتد النمسويون في اليوم التالي إلى ما وراء
«المنشيو Mincio» فأخلوا لمبارديا وبيدمنت
«بمقتضى اتفاق ألكسندرا الذي عَقَدُوه مع الفرنسيين في ١٥ يونيو ١٨٠٠».
ويُعْتَبر انتصار «مارنجو» نجاحًا حاسمًا لسياسة بونابرت الإيطالية، حيث استطاع
إعادة تأسيس جمهورية ما وراء الألب Cisalpine في
١٧ يونيو ١٨٠٠، والتي اتسعت في ٧ سبتمبر بضم إقليم «نوفارا Novarais»، وسَمَّى الجنرال «جوردان Jourdan» حاكمًا على بيدمنت، وأَمَرَ بهدم القلاع القائمة على
ممرات الألب للدفاع عنها ومنع المرور منها، كما ترتب على هذا النصر الحاسم أن تمكن
بونابرت من تأكيد سياسته السويسرية، حيث أَمَرَ بحل حكومة الإدارة في الجمهورية الهلفيتية Rep. Helvétique في ٨ أغسطس، وسَمَّى
«رينهارد Rienhard» قومسييرًا ساميًا، على رأس
قوة من خمسة عشر ألف رجل، وطلب من تاليران أن يُعِدَّ مع المختصين دستورًا جديدًا
لهذه الجمهورية.
ولقد كان انتصار «مارنجو» كذلك ذا آثار حاسمة على الموقف الداخلي في فرنسا، فقد
تَأَكَّدَتْ بفضله سمعة بونابرت، وزادت سيطرته الداخلية، في حين وَضَعَ هذا النصر
حدًّا لمؤامرات المَلَكِيِّين التي كان يدبرها لويس الثامن عشر من منفاه «في
ميتاو Mittau من أعمال كورلاند الروسية،
وبالقرب من ريجا» ويمده الإنجليز بالمال، ويتخذ له وكلاء لهذه الغاية في باريس
وأوجسبرج، ثم إن بونابرت لم يلبث أن أَقْدَمَ على مناورة جريئة من أجل استمالة
الملكيين إليه عندما حذف — بِجَرَّة قلم واحدة — أسماءَ (٥٢٠٠٠) مهاجر من قوائم
المهاجرين — أي سَمَحَ لهم بالعودة إذا شاءوا إلى فرنسا — ولم يشترط في نظير ذلك
سوى شَرْط واحد بسيط فقط، هو أن يُقْسموا يَمِينَ الولاء للحكومة، وذلك في ٢٠
أكتوبر ١٨٠٠.
وفي الوقت الذي زحف بونابرت على رأس جيشه عَبْر جبال الألب، وأحرز انتصارَ مارنجو
الحاسم على جيوش النمسا في سهول بيدمنت، كان جيشٌ آخَرُ (هو جيش الراين) بقيادة
الجنرال «مورو Moreau» قد عهد إليه — كجزء من خطة
غزو النمسا — بالتوغل في ألمانيا والزحف بطريق نهر الطونة «أو الدانوب» من أجْل
الوصول إلى فينَّا والاستيلاء عليها، وقد قام «مورو» بمناورات بارعة في بفاريا، حتى
وصل إلى «أولم ULM» (١٩ يونيو) ولم يُعِقْ تقدُّمه
إلَّا إرساله النجدات إلى إيطاليا، ومع ذلك فقد تمكَّن من قَطْع خط الرجعة على
النمسويين بقيادة الجنرال «كراي Kray» الذي طَلَبَ
— مرغَمًا — (في ١٥ يوليو) وقْفَ العمليات العسكرية حتى يُخلي بفاريا، وعندئذ
اضْطُرَّ الإمبراطور «فرانسوا الثاني» النمسوي إلى الكتابة إلى بونابرت (منذ ٥
يوليو) جوابًا على رسالة بونابرت السابقة إليه منذ ديسمبر سنة ١٧٩٩ التي يعرض فيها
الصلح، وأَوْفَد الإمبراطور مفاوضًا من قِبَلِه لإبرام الصلح.
وكان الإمبراطور يرجو في الوقت نفسه أن يَطُول أَمَدُ المفاوضة، وذلك نزولًا على
رغبة الإنجليز الذين دفعوا له مبلغًا جسيمًا من المال في نظير عدم إبرامه الصلح مع
فرنسا قبل شهر فبراير من عام ١٨٠١، ولكن «تاليران» و«بونابرت» سهل عليهما توريط
مندوب الإمبراطور «الكونت سان جوليان Sain Julien»
حتى وَقَّع على «مبادئ الصلح» في ٢٨ يوليو، وعندئذ أَنْكَرَتْ عليه حكومته هذا
العمل ورَفَضَت الاعتراف به، واقترح النمسويون بدلًا من ذلك عقد مؤتمر للصلح
تُدْعَى إليه إنجلترة، فوافق الفرنسيون ووَقَعَ الاختيارُ على «لونفيل Lunéville» مكانًا للمؤتمر، وحدَّد «تاليران» يوم
٢٤ أغسطس لبداية جلساته.
وفي «لونفيل» كان ممثل الإمبراطور، رئيس وزرائه «كوبنزل Louis de Cobenzl» (الذي خلف الرئيس السابق
ثوجو Thugut منذ ٢٥ سبتمبر)، وممثل بونابرت
شقيقه جوزيف (منذ ٢ أكتوبر)، ومع أنه كانت قد بدأت المفاوضات من أجل الصلح، فقد خشي
بونابرت أن يعمد النمسويون إلى الخديعة بإطالة أمد المفاوَضة، فأصْدَرَ أوامره إلى
قواده في ٢٢ نوفمبر باستئناف العمليات العسكرية ضد العدو، فاستطاع «مورو» أن
يُلْحِق الهزيمة بجيش الأرشيدوق جون الذي خلف «كراي» في قيادة القوات النمسوية، في
واقعة «هوهنلندن Hohenlinden» في ٣ ديسمبر سنة
١٨٠٠، وعندئذ انفتح الطريق إلى فينَّا، فاضْطُرَّ الإمبراطور إلى طَلَبِ الهدنة «في
«ستيار Steyer» في ٢٥ ديسمبر»، ومن ناحية أخرى
تَمَكَّنَ جيش الجنرال «برون Brune» (جيش ما وراء
الألب) التقدم حتى «تريفيزو Tréviso» «في إقليم
البندقية» في ١٥ يناير سنة ١٨٠١، بينما عمل الجنرال «مورا Murat» (والذي تزوج من أخت بونابرت «كارولين» في يونيو سنة ١٨٠٠)
على تدعيم قوات الاحتلال الفرنسي بقيادة الجنرال «ميوليس Miollis» في تسكانيا ووافق على منح النابوليتان (أهل نابولي) بعد
هزيمتهم الهدنةَ في «فولينو Foligno» في ١٨ فبراير
سنة ١٨٠١.
وفي الوقت الذي كان يتهيأ فيه بونابرت لمفاوَضات الصلح في «لونفيل» أَمَرَ بعقد
معاهَدة مع إسبانيا في «سان
الديفونسو San Iidefnso» تنازَلَتْ بمقتضاها إسبانيا عن لويزيانا وسِتِّ بوارجَ
إسبانية، في نظير أن ينال لويس دوق بارما — وهو ابن شقيق ملكة إسبانيا ماريا لويزا
— وَعْدًا بإنشاء مملكة إيطالية له تتألف من تسكانيا والمقاطعات الباباوية Legations أول أكتوبر سنة ١٨٠٠، وعشيةَ هذه المعاهدة
كان بونابرت قد جعل شقيقه جوزيف يعقد معاهدة مع الولايات المتحدة الأمريكية (في ٣٠
سبتمبر) تُنْهِي الخلافات السائدة من وقت حكومة الإدارة بين البلدين بشأن حرية
البحار من جهة، ومن جراء تدخُّل الفرنسيين في نزاعات الاتحاديين (الفدرائيين)
والجمهوريين في الولايات المتحدة، فاعترفت الجمهوريتان في هذه المعاهدة إذَنْ
(معاهدة مورتفونتين Mortefontaine) بمبدأين
أساسيين من المبادئ الدولية الخاصة بالملاحة في البحار، أحدهما: تبعية المتاجر
للدولة التي تحمل السفينةُ عَلَمَهَا، والآخر: عدم سريان حق التفتيش على كل سفينة
يحرسها ويرافقها مركب حربي، وفي ٢٦ ديسمبر سنة ١٨٠٠ وقَّع قيصر روسيا بول الأول على
وثيقة «حياد مسلح» يقوم على نفس هذه المبادئ مع كل من السويد والدنمارك
وبروسيا.
وكان في هذه الظروف حينئذ أن انتهت المفاوضات في لونفيل (من ٢ يناير إلى ٩ فبراير
سنة ١٨٠١) إلى إبرام الصلح في ٩ فبراير، الذي أملاه القنصل الأول، وكادت شروط هذا
الصلح تكون مطابقة تمامًا لشروط صلح كامبوفرميو.
فبمقتضى صلح لونفيل تنازَلَتْ الإمبراطورية الجرمانية عن كل الشاطئ الأيسر لنهر
الراين على أن ينال الأمراء الذين انْتُزِعَت أراضيهم تعويضًا يُعْطَى لهم من أملاك
الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا، فجدَّدَ الإمبراطور التنازُلَ عن المقاطعات
البلجيكية والأراضي حتى حد نهر الراين، واعترف باستقلال جمهورية خلف الألب
«سيزالباين» التي ضَمَّتْ إليها إقليمَيْ «فيرونا Veronais» و«حوض البو Poiésine»،
وذلك بعد أن كانت قد ضمت إليها إقليم «نوفارا Novarais» الذي اقْتُطِعَ من بيدمنت؛ حتى يفتح لجمهورية ما وراء
الألب طريق ممر «سمبلون Simplon»، كما ضمت إليها
كذلك المقاطعات البابوية «أو الرسولية Legations»،
واعترفت النمسا أيضًا باستقلال جمهوريات «بتافيا» هولندة و«هلفيتيا» سويسرة،
وليجوريا «جنوة»، وحصل دوق مودينا الذي كان قد فَقَدَ دُوقِيَّتَه في صلح
كامبوفرميو، على «برايسجاو Breisgau» في ألمانيا،
كما نص على أن ينال دوق تسكانيا تعويضًا في ألمانيا كذلك: هو مطرانية «سالزبورج Salzbourg» بعد تحويلها إلى إمارة علمانية ودائرة
انتخابية، أي ذات صوت في انتخاب الإمبراطور.
وأما غراندوقية تسكانيا ذاتها فقد أُنْشِئَتْ منها مملكة «إتروريا Etruria»، وأعطيت إلى لويس دوق بارما، ومن ناحية
أخرى احتفظت النمسا بأملاكها القديمة في البندقية حتى نهر «الأديج Adige»، ولم تَذْكُر معاهدة «لونفيل» شيئًا عن ملك
نابولي أو ملك سردينيا «بيدمنت» أو البابا، الأمر الذي جعل مصيرهم ومصير بلادهم في
يد بونابرت؛ وعلى ذلك فقد امتدت حدود فرنسا حتى نهر الراين؛ فأنشئت مديريات أربع
جديدة بِاسم مديريات الراين (منذ ١٩ مارس سنة ١٨٠١) وهي مديريات: «الرور Roer»، و«السار Saare»، «الراين
موزيل Rhin et Moseile»، و«مونت
تونير Mont-Tonnerre».
وفي ٢١ مارس ١٨٠١ أُبْرِمَت معاهدة «أرانجوز Aranjuez» مع ملك إسبانيا شارل الرابع، تأكَّدَتْ بمقتضاها شروط
معاهدة «إلديفونسو Ildefonso» السابقة فيما يتعلق
بلويزيانا ومملكة إتروريا.
وفي ٢٩ مارس أَبْرَمَ في فلورنسه، فردنند الأول ملك نابولي، معاهدةً تَنَازَلَ
بمقتضاها عن الأقاليم التي كانت له في تسكانيا وعن جزيرة إلبا، ووافق على احتلال
الفرنسيين لقلاعه، وعلى إغلاق موانيه في وجه السفن الإنجليزية.
واستمرت المفاوضات بنجاح مع بول الأول قيصر روسيا الذي كان يبغي القيام بحملة ضد
الإنجليز في الهند.
وفي إنجلترة سقطت وزارة بيت (٥ فبراير ١٨٠١) عندما حاول رَفْع القيود السياسية
التي كان يقيد بها الكاثوليك، مسألة تَحَرُّر الكاثوليك Catholic Emancipation، وخلفه في الوزارة أدنجتون Addington الذي سُمِّيَتْ وزارته الجديدة — حتى
قبل تشكيلها — بوزارة السلام.
وهكذا تضافرت — على ما يبدو — كُلُّ العوامل التي جَعَلَت الأمل كبيرًا في أن
يسود السلام أوروبا، وتبلغ القنصلية مقصدها الأول الذي تولت السلطة والحكم بزعامة
بونابرت لتحقيقه، ولكن لم يكن مقدرًا الوصول قَبْل مُضِيِّ عام كامل إلى هذا السلام
العام الذي ينشده كل فرنسي، وينشده بونابرت نفسه؛ ذلك أن بونابرت كان يهمه أن يظفر
من إنجلترة على موافقتها على كل التغييرات التي أحدثها في سويسرة وفي إيطاليا، وأن
تبقى مصر في حوزته قبل أي شيء آخر، وكانت لا تزال «الحملة الفرنسية» في مصر بقيادة
الجنرال «منو Menou»، وأن يسترجع مالطة التي كانت
قد سُلِّمَتْ للإنجليز منذ سبتمبر ١٨٠٠، وذلك حتى يتسنى له — بفضل امتلاكه لهذين
المركزين؛ مصر ومالطة — بَسْطَ السيطرة الفرنسية على حوض البحر الأبيض الشرقي، وكان
تحالفه مع القيصر بول الأول شرطًا أساسيًّا لنجاح سياسته هذه، ولكن حدث في لِيل ٢٣
مارس ١٨٠١ أن اغتيل القيصر على يد رجال بطانته الذين كانوا قد قبلوا العمل مع
إنجلترة، وبموت القيصر انهار «الحياد المسلح»؛ فضرب الأسطول الإنجليزي مدينة
كوبنهاجن في ٢ أبريل وحطم الأسطول الدنماركي، فكانت تلك باكورة نشاط «وزارة السلام»
الإنجليزية الجديدة.
ولما كانت قد فشلت مؤامرة دبرت قبل ذلك لاغتيال بونابرت بوضع مفجرات في طريقه في
شارع سانت نيكيز Saint-Nicaise في ٢٤ ديسمبر ١٨٠٠،
أي قبل حادث اغتيال القيصر بول بثلاثة شهور فقط، وتبع اغتيال القيصر ضرب كوبنهاجن،
فقد عزا بونابرت هذه «الجرائم» إلى تدابير الإنجليز الذين قال عنهم: إنهم فشلوا في
محاولة اغتياله يوم ٢٤ ديسمبر، ولكنهم نجحوا في إلحاق الأذى به في سان بطرسبرج،
العاصمة الروسية، بفضل اغتيالهم القيصر بول.
ولم يكن ذلك كل الأذى الذي ألحقه الإنجليز بالقنصل الأول، ولإحباط مشروعاته فهم
قد استطاعوا إنزال قواتهم في مصر، وأوقعوا بالجنرال منو هزيمة قاصمة في معركة
«كانوب» في ٢١ مارس ١٨٠١، ثم لم تَمْضِ شهور ثلاثة حتى انهزم القائد الفرنسي الآخر
«بليار Belliard» الذي اضطر إلى التسليم في
القاهرة في ٢٧ يونيو من العام نفسه، وتضاءل أمام هذه الهزائم ذلك النجاح الذي أدركه
أمير البحر الفرنسي «لينوا Linois» في قتاله مع
الأسطول الإنجليزي أمام «الجزيراس» على الشاطئ الإسباني الجنوبي عند مضيق جبل طارق
(٨ يوليو)، ثم في قادش على مسافة إلى الغرب من الموقع الأول (في لِيل ١٢-١٣ يوليو)،
أو نجاح القائد الآخر لاتوش-تريفيل Latouche-Tréville في الجولة بأسطوله في مواني القنال الإنجليزي (بحر
المانش) دون أن يستطيع أمير البحر الإنجليزي نلسون فِعْل شيء لِوَقْفه في محاولتين
أخفق هذا الأخير فيهما في ٤، ١٥-١٦ أغسطس ١٨٠١.
على أن إنجلترة سرعان ما وَجَدَتْ أنها قد صارت إلى جانب هذا في عزلة متزايدة
عندما اضْطُرَّت البرتغال إلى عقد معاهدة في باداجوز Badajoz مع إسبانيا في ٦ يونيو ١٨٠١ تحت ضغط فرنسا التي
أَرْغَمَتْ ملك إسبانيا شارل الرابع على غزو البرتغال، وكان ملكها صهرًا له، فقام
بالغزو المطلوب، ولكنه بادَرَ بعقد الصلح مع البرتغال خشية حدوث تدَخُّل فرنسي،
وتعهدت البرتغال في معاهدة «باداجوز» — وتقع هذه على الحدود بين إسبانيا والبرتغال
— السالفة الذكر إلى إغلاق موانيها في وَجْه السفن الإنجليزية، وتنازلت عن مقاطعة
أوليفنسا Olivenca لإسبانيا، ودَفَعَتْ عشرين
مليونًا من الفرنكات تعويضًا لفرنسا، أَضِفْ إلى هذا أن إنجلترة كانت تعاني من قلة
المؤن والأغذية، بينما بَلَغَ الدَّيْن العام ملايين عدة من الجنيهات، الأمر الذي
جعل الإنجليز يميلون — الآن — إلى عَقْد الصلح مع فرنسا.
وعرض «هوكسبري Hawkesbury» وزير الخارجية
البريطانية على الوكيل الفرنسي «لويس غليوم
أوتو Otto» أن تحتفظ فرنسا بمصر لقاء أن تحتفظ إنجلترة بمالطة، ورَفَضَ
بونابرت هذه العروض، ثم دارت المباحثات وتعدَّدَتْ صنوف المساومة حسب تغير ظروف
السياسة والحرب بين الفريقين، حتى أَمْكَنَ التوقيع على ما يُعْرَفُ باسم «مقدمات
الصلح» في لندن في أول أكتوبر ١٨٠١، على أساس إرجاع مصر إلى تركيا، ومالطة إلى
فرسان القديس يوحنا «تحت ضمان الدول»، واستبقت إنجلترة بعض فتوحاتها: سيلان التي
أخذتها من هولندة، وترينداد التي حصلت عليها من إسبانيا، ومستعمرة رأس الرجاء
الصالح التي صار الحكم فيها ثنائيًّا بين إنجلترة وهولندة، وأقرت إنجلترة امتلاك
فرنسا لشاطئ الراين الأيسر، واعْتَرَفَتْ بالجمهوريات الحديثة التي أقامها بونابرت،
وتم التصديق على مقدمات الصلح هذه في ١٠ أكتوبر.
وتَبِعَ عقد الصلح مع إنجلترة الدخول في مفاوضة مع «ماركوف Markoff» مندوب إسكندر الأول القيصر الجديد، انتهت بعقد معاهدة
للصلح بين روسيا وفرنسا في باريس في ٨ أكتوبر.
وقد لزم مضي ستة شهور قبل أن تتحول «مقدمات» لندن إلى صلح نهائي؛ وذلك لأن
الحوادث كانت تسير في مصر بالصورة التي أرغمت «منو» على التسليم في الإسكندرية يوم
٣١ أغسطس ١٨٠١، والانسحاب إلى فرنسا، حيث وصل إلى طولون يوم ١٥ نوفمبر، أي بعد
توقيع مقدمات الصلح في لندن، وعندما كانت تسير المفاوضات بكل همة من أجل الاتفاق
على شروط الصلح النهائية، فانتزعت هذه الحوادث كل قيمة لذلك التعهد الذي التزمت به
فرنسا في مقدمات صلح لندن بشأن إرجاع مصر إلى تركيا، أضف إلى هذا زيادة مخاوف
الإنجليز من أطماع القنصل الأول الذي عمد إلى تأكيد سيطرته على إيطاليا باستصدار
دستور جديد لجمهورية ما وراء الألب Cisalpine
«والتي ستعرف بعد قليل باسم الجمهورية الإيطالية» والتي تَعَيَّنَ بونابرت رئيسًا
لها (في ٢٥ يناير ١٨٠٢).
وكان أكثر ما يخشاه الإنجليز إصابة مصالحهم التجارية بالضرر بسبب نشاط الفرنسيين
في العالم الجديد عندما تجددت الحرب بين الفرنسيين والزنوج في جزيرة سان دمنجو
بزعامة «توسيان لوفرتير Toussiant L’Ouverture»
فأبحرت حملة من المواني الفرنسية إلى جزر الهند الغربية في فبراير ١٨٠٢، وكانت
الحملة بقيادة الجنرال لكلير Leclerc، وعندما
أبرمت فرنسا معاهدة أرانجوز السالفة الذكر مع إسبانيا وهي التي أعطت لويزيانا إلى
فرنسا؛ لتتخذ هذه منها قاعدة لمناوأة تجارة الإنجليز في أمريكا، ولكن التباطؤ في
إبرام الصلح لم يكن ليخدم المصالح الإنجليزية في شيء، كما كان من العبث الامتناع عن
الاعتراف بالجمهوريات الإيطالية؛ وعلى ذلك فقد وَقَّعَت إنجلترة على الصلح مع فرنسا
في أميان Amiens يوم ٢٥ مارس ١٨٠٢، وقَّع المعاهدة
من الجانب الإنجليزي لورد كورنواليس Cornwallis،
ومن الجانب الفرنسي جوزيف بونابرت.
وبمقتضى هذه المعاهدة تنازَلَتْ إنجلترة عن كل فتوحاتها أثناء الحرب، ما عدا
ترينداد وسيلان اللتين بَقِيَتَا في حوزتها، كما وَعَدَ الإنجليز بإعادة مالطة إلى
فرسان القديس يوحنا، ونَصَّت المعاهدة على أن تَضْمَنَ استقلالَ هذه الجزيرة كلٌّ
من بريطانيا والنمسا وإسبانيا وروسيا وبروسيا، ثم حصل الاتفاق على إرجاع مصر إلى
تركيا، وتعهدت فرنسا بإخلاء مملكة الصقليتين (أي: نابولي) وإعادة أملاك
البرتغال.
واعْتَبَرَ البرلمانُ في إنجلترة شروطَ هذه المعاهدة مُجْحِفَة بالمصالح
البريطانية، وشعرت الأمة الإنجليزية بأنها تنطوي على إهانة لها، حتى إن البرلمان
عند موافقته على معاهدة أميان وضع التحفظ الآتي: «إن البرلمان يوافق على المعاهدة،
ولكنه يضع ثقته التامة في حكمة ويقظة جلالة الملك «جورج الثالث» لاتخاذ كل
الإجراءات التي قد تصبح ضرورية في حال تبدُّل الشئون العامة لما هو أفضل، وعندئذ
يَعِد البرلمان والأمة بمؤازرة جلالته بكل ما يملكون من أنفس ومال وبنفس الهمة
والولاء كما فعلوا في الحرب الأخيرة.»
ولكن هذا «التحفظ» لم يَلْقَ أيَّ اهتمام من جانب فرنسا، بل كان كل ما يعنيها هو
الوصول إلى السلام العام بعد عشر سنوات من الحروب المتصلة، فتعود تأتي إلى فرنسا
محصولات المستعمرات والمؤن والمواد الأولية، ويعود إلى العمل في الحقول الجنود
المسرحون، الأمر الذي سوف يترتب عليه انتشار الرخاء، وبَسْط ألوية الحرية في كل
مكان.
ومع ذلك فلم يَعُدْ يبدو أن هناك أي أمل — سواء في فرنسا أو في إنجلترة — في أن
الصلح الذي أَمْكَنَ الوصول إليه في «أميان» سوف يستمر طويلًا، فلم تلبث أن
تَجَمَّعَت الأسباب التي أَدَّتْ إلى العداء بين الدولتين، بعد مُضِي عام واحد فقط،
ولكن قبل الدخول في تفاصيل هذا العداء ثم تجدُّد الحرب الأوروبية العامة بعد ذلك
كانت حكومة القنصل الأول قد أَنْجَزَت برنامجًا واسعًا من الإصلاحات الداخلية التي
جعلت بحقٍّ أيام القنصلية من أزهى العهود التي شهدتها فرنسا في تاريخها، ومهدت —
إلى جانب غيرها من العوامل — لقيام الإمبراطورية.