الفصل الثالث
الإصلاح الداخلي: مجد القنصلية
وكما لقيت سياسة بونابرت الخارجية النجاحَ الذي زاد من رَفْع سمعته بين بني وطنه،
لقيت إصلاحاته الداخلية النجاحَ الذي أفادت منه فرنسا لأجيال قادمة في تنظيمها
الإداري والتشريعي خصوصًا.
فمن ناحية التنظيم الإداري أنشأ بونابرت المركزية الإدارية الكاملة، حيث استبدل
«بضباط» النظام القديم، وبأولئك الذين ملأت الثورة بهم الوظائف «بالانتخاب» موظفين
تُعَيِّنُهم وتعزلهم الحكومة، ويربطهم نظام دقيق صارم للتوظف، يحملهم مسئولية
الأعمال التي يقومون بها، وقد ساعد على تثبيت دعائم هذه المركزية الإدارية تقدُّم
المواصلات بفضل ما أُدْخِل من تحسينات على نظام البريد، ثم استخدام البرق — الذي
كان مخترعه المهندس الفرنسي كلود شاب Chappe
(١٧٦٣–١٨٠٥) والذي استُخْدِم لأول مرة في سنة ١٧٩٤ — وصدرت القوانين الخاصة
بالتنظيم الإداري الجديد في ١٧ فبراير ١٨٠٠ و٤ مارس ١٨٠١.
واهتم القنصل الأول بشئون المال من حيث العمل على تنظيم تقدير الضرائب وطُرُق
جبايتها، فصدر قانون في ١٨ مارس ١٨٠٠ لتعيين الحكومة مُحَصِّلًا خاصًّا في كل ناحية
أو قسم، وفي ٤ فبراير ١٨٠٤ صار الجباة موظفين يَصْدُر تعيينهم من قِبَل القنصل
الأول، ومنذ ١٨٠١ تَعَيَّن مفتشون عموميون للخزانة، من عملهم مراجعة حسابات
المحصلين والجباة وسائر موظفي المالية، وصار لكل مديرية ومركز وناحية فئتان من
الموظفين: تتألف الأولى من المدير Directeur في
المديرية، والمراقب Controleur في المركز،
و«الموزع Répartiteur» — أي مُقَسِّم أو
مُقَدِّر الضريبة المباشرة على المطلوب منهم أن يدفعوها — في الناحية أو القسم،
وينحصر عَمَلُ كل هؤلاء في تقدير وفرض الضريبة، وأما الفئة الثانية: فتتألف من
الخازن العام «الخازندار Trésorier Gén.»
و«المحصل العام Réceveur Gén.» في المديرية،
و«المحصل الخاص Réceveur Partieulier» في
المركز، و«الجابي Percepteur» في الناحية أو
القسم، ويخضع الجميع لسيطرة وزيري المالية والخزانة في النهاية.
وفي ١٣ فبراير ١٨٠٠ أنشئ «بنك فرنسا» الذي أشرف على إدارته في أول الأمر لجنة من
ثلاثة أعضاء، يعاونها مجلس من خمسة عشر نائبًا، بلغ عدد أسهم تأسيسه الأولى ثلاثين
ألفًا، قيمة كل منها ألف من الفرنكات، قوبلت بالمعارضة الشديدة مما اضطر القنصل
الأول وكبار الموظفين إلى شراء معظمها، وكان على هذا المصرف — وهو مؤسسة رسمية — أن
يقرض الحكومة، ولكن بنك فرنسا كان قبل أي شيء آخر مصرفًا «خصوصيًّا» لتنشيط التجارة
بتسهيل عمليات الخصم للتجار، وبينما اضطرت الحكومة في بداية عهد القنصلية إلى عقد
القروض بفائدة ١٨٪ على الأقل، فقد انخفضت قيمة الفائدة بكل سرعة حتى وصلت إلى ٦٪
وإلى ٤٪ نتيجة لنشاط هذا المصرف، وفي ٢٤ أبريل ١٨٠٣ صار لبنك فرنسا الامتياز الذي
انفرد به لاستصدار ورق النقد (البنكنوت) لمدة خمس عشرة سنة، واضْطُرَّت المصارف
التي كان لها الحق قبل ذلك في إصدار ورق النقد إما لتصفية أعمالها، وإما لأن
يبتاعها بنك فرنسا نفسه.
وقام تنظيم القضاء على مبدأ التخلي عن انتخاب «القضاة»، وصار من حق بونابرت
«تعيين» كل أعضاء الهيئة القضائية في مختلف مراتبها من القوائم المجهزة بأسماء
المرشحين لوظائف القضاء، وحيث إنه لم يعد هناك ما يجعله يخشى من عودة الأرستقراطية
القضائية التي تألفت منها «البرلمانات» في العهد أو النظام القديم، فقد أنشأ
بونابرت ٢٩ محكمة استئنافية، أقيمت أكثرها في الأماكن نَفْسِها التي وُجْدِتْ بها
من قبل «البرلمانات»، كما جُعِلَتْ لها معظم الاختصاصات القديمة التي كانت لهذه
البرلمانات أيضًا، وفي ١٨ مارس ١٨٠٠ صدر قانون لتنظيم الهيئة القضائية على نفس
الأساس الذي قام عليه تنظيم الإدارات الأخرى، حيث تأتي بعد قاضي الصلح المحكمة
الأولية (واحدة في كل مركز) ثم المحاكم الاستئنافية وعددها ٢٩ محكمة، وإلى جانب هذا
تحتفظ كل مديرية بمحكمة جنائية، وفي قمة النظام القضائي محكمة النقض والإبرام، ثم
وزير العدل المسمى «بالقاضي الأعظم».
وكان من ضروب الإصلاح القضائي — ولعله من أهمها — استصدار مجموعة القوانين التي
عُرِفَتْ باسم «قانون نابليون Code Napoléon» أو
«القانون المدني Code Civil»، ولم يكن هذا
القانون من صنع نابليون وإنشائه، ولكن كان للقنصل الأول الفضلُ في إنجاز هذه
المجموعة وإصدارها، فقد شهدت البلاد قَدْرًا من التشريعات أو القوانين المتضاربة من
بقايا العهود القديمة، بعضها رومانيُّ المَنبتِ، وبعضها يستند إلى العرف والتقاليد،
وبعضها صدر عن المجالس أو الهيئات الثورية السابقة، حتى لقد ظَهَرَت الرغبة
المُلِحَّة في ضرورة التأليف بين هذه التشريعات والقوانين وتوحيدها من أيام مجالس
الثورة، فوعد دستور ١٧٩١، ثم دستور ١٧٩٣ بتحقيق هذه الرغبة، فنص الدستور الأول على
قانون مدني عامٍّ للبلاد بأكملها، وتحدث الثاني عن قانون مدني وجنائي مُوَحَّد لكل
الجمهورية؛ فتشكلت لجنة برئاسة «كمباسيرس» في ١٢ أغسطس ١٨٠٠ لإخراج مجموعة القوانين
المطلوبة، وكان «كمباسيرس» قد حدد منذ ٩ سبتمبر ١٧٩٤ ما عرفه بالضرورات الثلاث التي
يجب توافرها ليستطيع أي إنسان الحياة كعضو من أعضاء المجتمع البشري: «أن يكون سيدًا
على نفسه، وأن يملك ما يسد به حاجته ومطالبه، وأن تكون له القدرة على التصرف في
شخصه وماله بما يحقق أكبر نفْع ممكن لصالحه.»
وكان أن عملت اللجنة على هُدَى هذه «الضرورات الثلاث»، فانتهت من عملها بعد أربعة
شهور، حتى إذا فرغت اللجنة مِنْ وَضْع القانون، أبلغت صُورَته إلى محكمة النقض
والإبرام وإلى المحاكم الاستئنافية؛ لتبدي هذه ما يعن لها من ملاحظات عليه، ثم أحيل
المشروع مع ملاحظات هذه الهيئات القضائية إلى «مجلس الدولة»؛ حتى يبحثه القسم
القانوني أو التشريعي بهذا المجلس، فبدأتْ مناقشة القانون في هذا المجلس يوم ١٧
يوليو ١٨٠١، وعقد المجلس لبحثه جلسات عدة (١٠٢) حضر منها بونابرت وترأس ٥٧ جلسة،
ورفض مجلسُ التربيون — عندما عُرِضَ عليه المشروع — بعضَ بنوده، وفَعَلَ مثل ذلك
المجلسُ التشريعي، فتريث بونابرت حتى يتجدد أعضاء هذين المجلسين (حسب الدستور مرة
كل سنة) على يد مجلس الشيوخ، وعندئذ أَقَرَّ المجلس التشريعي كُلَّ بنوده بين ٥
مارس ١٨٠٣–١٥ مارس ١٨٠٤، وفي ٢٧ مارس ١٨٠٤ صدر قانون باعتماده في مجموعة واحدة من
بابَيْن أو فصلين و٢٢٨١ مادة.
والقانون المدني أو قانون نابليون، مع أنه تقنين مناسب لمجتمع من الطبقة المتوسطة
(البورجوازي) المحافظة التي يستغرق الاهتمامُ بالأرض كلَّ عنايتها، ويقوم نظامها
على روابط الأسرة الشرعية التقليدية، فقد كان متأثرًا كذلك بصورة واضحة بكل المبادئ
والقواعد التي أتت بها الثورة، مثل المساواة بين كافة الأبناء في الحقوق، والحد من
حرية الوصية، ثم المساواة بين جميع المواطنين والأخذ بالفكرة العلمانية في الزواج
المدني، بأن يحدث هذا الزواج سابقًا على العقد الديني، وأن يتسنى فك رباط
الزوجية.
ولعل أصدق تعليق على القانون المدني القول بإنه: «لم يكن ابتداعًا، ولكنه كان
تنسيقًا … وهو إنما يَحْمِل في طياته موجزًا لكل تلك التقاليد التاريخية الطويلة
المتوارَثة من الأزمنة القديمة بعد إحيائها وتجديدها على يد الثورة، وأمكن أن يكون
متلائمًا مع حاجات المجتمع الذي تمخضت عنه الأزمة، لقد حفظ بضعة من المبادئ
الأساسية التي جاءت بها الثورة، وحيث إنه صادِرٌ عن شعور قومي ومعبِّر له، فقد كان
عامل وحدة كذلك، وهو مما يشترك الفرنسيون جميعًا — وعلى السواء — في امتلاكه، أي
إنه قانون عامٌّ واحد ليطبق عليهم جميعًا»، ومع هذا لم يعد قانون نابليون فرنسيًّا
وحسب، بل صار أوروبيًّا كذلك؛ لأنه كان ينقل في بنوده المبادئ الرئيسية التي نادت
بها الثورة الفرنسية.
ووجه القنصل الأول عنايته للناحية الدينية، ذلك بأن «العبادات» التي أتت بها
الثورة كعبادة محبة الله والإنسان، وعبادة الفضيلة، وعبادة العقل … إلخ، كانت قد
فقدت — الآن — كل اعتبار لها، وعند عودة الهدوء بعد عواصف الأيام السابقة، نشد
الشعب السكينة الروحية في العودة إلى أحضان الكنيسة الكاثوليكية، واستطاعت كنيسة
روما (البابوية) أن تسيطر في هذه الظروف على القساوسة الفرنسيين الذين صاروا خاضعين
لها وحدها سيطرة لم تكن تمارسها إطلاقًا حتى في ظل نظام الاتفاق الكنسي Concordat الذي أُبْرِمَ مع البابوية في
عام ١٥١٦، أضف إلى هذا أن بونابرت نفسه لم يكن يدين بعقيدة دينية معينة، ولكنه كان
يدرك مدى القوة الروحية العظيمة الكامنة في العقيدة الدينية، والتي تَجْعَل منها
عَامِلَ استقرارٍ سياسي واجتماعي في الدولة، ولقد خبر بنفسه في إيطاليا منذ ١٧٩٦
القوة التي تمتعت بها هناك كنيسة روما، كما خبر قبل كل شيء قوة الروح الدينية
العميقة والمتغلغلة دائمًا في نفوس الفرنسيين، وقد أَمْكَنَ أن يفيد الملكيون
المناوئون للنظام القائم من هذه الروح الدينية القوية لإثارة الاضطرابات والعصيان
في إقليم فنديه خصوصًا، فهل يعجز بونابرت عن استمالة هذه القوة إلى جانبه لتأييد
النظام القائم بإعادة تأسيس الكنيسة الفرنسية «الجاليكانية» وإرجاع سطوتها الدينية
إليها والعمل على تحريرها من كل سيطرة رومانية.
وكان البابا الجديد «بيوس السابع» الرجل الذي في وسع القنصل الأول أن يَتَفَاهَمَ
معه لإبرام الاتفاق الذي يريده مع الكنيسة، فقد تُوُفِّيَ سلفه «بيوس السادس» في
أغسطس ١٧٩٩، وانْتُخِبَ الكردينال كيارا
مونتي Chiaramonti باسم بيوس السابع تحت حماية النمسا في البندقية في مارس
١٨٠٠، ولكنه استرجع كل الأملاك البابوية بعد قليل؛ بفضل انتصارات الفرنسيين في
مارنجو (يونيو)؛ ولذلك فقد صار يرحب بمقترحات بونابرت الذي أَسَرَّ إلى أحد
الكرادلة منذ ٢٥ يونيو رغبةً في إعادة العلاقات بين فرنسا وبين «رئيس الكنيسة
العالمية»؛ فبدأت من ثَمَّ مفاوضات طويلة وشاقة بين ممثلي القنصل الأول وممثلي
البابا، وأشرف بونابرت بنفسه على قسم من هذه المفاوضة، ودارت المباحثات حول مسائل
ثلاث: (١) هل يجري إعلان الكاثوليكية دِينَ الدولة الرسمي؟ وحصل الاتفاق على أن
تكون ديانة «أكثرية الأمة». (٢) ثم كيف يجري اختيار الأساقفة للقيام بإدارة شئون
الأسقفيات التي خفض عددها في التنظيم الجديد، وكان القنصل الأول يريد اختيار أشخاص
جدد لاستبعاد القساوسة المستنكرين أو المخالفين الذين ثبت تطرُّفهم ومن المتوقع أن
يصعب قيادهم، وكذلك القساوسة من غير المستنكرين، ولكن ثبت أنهم كانوا موضع شبهات
كثيرة؛ لاعتقاده أن الاختيار الحسن وحده كفيل بإنهاء الانقسام في صفوف رجال الدين
من مستنكرين ومحلفين، ولم يكن البابا يُظْهِر أيَّ عطْف على من سمَّاهم «بالدخلاء»
على رجال الدين، أي أولئك الذين هادنوا الثورة وساروا في ركابها وحلفوا يمين الولاء
لها، ولكنه اعتقد أن ليس من حقه التصرف في «وظائف» كان يشغلها أصحابها قبل سنة
١٧٩٠، ولم يكن هناك معدى عن الوصول إلى حلٍّ وَسَطٍ لإنهاء هذه المسألة. (٣) وثم
كيف يكون حل مسألة الأملاك الأهلية، أي أملاك الكنيسة التي استولت عليها الدولة،
ولم يكن في وسْع البابا التخلي عن أملاك الكنيسة حتى لا يَتَّهِمه أحد بأنه قد تصرف
في أملاك الكنيسة — وهي شيء مقدس — بالبيع أو الشراء، أي بثمن زمني
Simonie، فصار ضروريًّا البحث عن عبارة تَمْنَع
من توجيه هذا الاتهام إلى البابا من جهة، وتستبقي الأملاك الكنسية في أيدي أصحابها
العلمانيين الذين استولوا عليها من جهة أخرى.
وأخيرًا بعد الاتفاق على كل هذه النقاط أَمْكَنَ توقيع الاتفاقية الكنسية
«الكونكردات» في باريس في ١٥ يوليو ١٨٠١، وكانت من سبع عشرة مادة، وبها اعترفت
حكومة الجمهورية بأن الكاثوليكية هي دين أكثرية المواطنين الفرنسيين إلى جانب قناصل
الجمهورية، وجعلت العبادة الكاثوليكية علنية في كل أنحاء فرنسا، وأُلْغِيَتْ كل
الأسقفيات والمطرانيات القديمة، وطالب البابا رجال الدين بالتخلي أو الاستقالة من
مناصبهم لتحقيق هذا الإلغاء، ثم أنشئت عشر مطرانيات وخمسون أسقفية جديدة جعل تعيين
شاغليها من حق القنصل الأول، بينما يأتي التثبيت في وظائفهم الدينية من لدن الكرسي
البابوي في روما، واعتمد البابا المبيعات التي حصلت من أملاك الكنيسة أيام الثورة،
وتَعَهَّدَ عن نفسه وعن خلفائه بالتنازل عن أية ادعاءات للمطالبة باسترجاعها في
المستقبل.
وتعهدت الحكومة الفرنسية من جانبها بأن تأخذ على عاتقها تخصيص معاشات أو مرتبات
كافية لإعالة رجال الدين من كل الدرجات، وأخيرًا تحتَّم على رجال الدين أن
يُقْسِمُوا يمينَ الولاء للحكومة القائمة، وصار الدعاء للجمهورية أو للقناصل
قِسْمًا من الصلاة التي تُتْلَى في الكنائس.
وصار التصديق على هذه الاتفاقية الكنسية «الكونكردات» في ١٠ سبتمبر ١٨٠١، ولكنها
لم تصبح قانونًا نافذًا إلا يوم ٨ أبريل ١٨٠٢ عندما أضاف بونابرت إلى «الكونكردات»
قرارات أساسية أو
تنظيمية Articles Organiques، كان الغرض من إضافتها التغلب على معارضة الهيئة التشريعية،
وبمقتضى هذه القرارات أو المواد امتنع على روما إرسال أية رسالة «براءة» بابوية أو
منشور بابوي وغير ذلك، أو أن تبعث لتمثيلها سفيرًا أو رسولًا بابويًّا ومن إليهما
من غير موافقة الحكومة، كما صار رجال الدين ممنوعين من عَقْد أية مجامع دينية، أو
مجالس للمباحثة في شئون الكنيسة من غير موافقة الحكومة، بينما تناولت القرارات
تنظيم شئون الإدارة في الكنيسة وكيفية الحكم فيها بصورة تؤكد الحقوق والحريات
الجاليكانية التي كانت للكنيسة الفرنسية بمقتضى قرارات سنة ١٦٨٢، أو الإعلان أو
التصريح Declaration الذي صَدَرَ في عهد لويس
الرابع عشر والذي فَصَلَ الكنيسة في فرنسا عن كنيسة روما وضمن لها حياة مستقلة،
وجعل رئيس الدولة في فرنسا هو كذلك رئيس الكنيسة بها.
وقد احتج البابا على هذه القرارات أو المواد التنظيمية التي لم تكن ضمن الشروط
التي تمت الموافقة عليها في اتفاقية ١٥ يوليو ١٨٠١، والتي أضيفت من غير سابق إنذار
إلى المواد السبع عشرة التي اشتملت عليها الاتفاقية المذكورة، ولم يَأْبَهْ بونابرت
لاعتراضات البابا، وفي ١٨ أبريل ١٨٠٢ أقيم احتفال صلاة للشكر على ذلك السلام العام
الذي انتشرت ألويته بفضل صلح أميان، وذلك السلام الذي صار يسود الكنيسة، وقد أرضى
هذا السلام «المواطن الفرنسي» عمومًا.
وشملت عناية القنصلية مسائل التعليم، ومن المعروف أن المؤتمر الوطني أيام الثورة
كان قد أَنْشَأَ نوعًا من المدارس
المركزية Ecoles Centrales أو المتوسطة، أفلح عدد كبير منها في تأدية رسالته بالرغم
من عقبات الفوضى الاقتصادية والحرب المشتعلة على الحدود، وصعوبة موازنة الميزانية،
إلى غير ذلك من صعوبات الحياة في تلك الأيام، ومع ذلك فقد ساد روح «الحرية
والاستقلال» هذه المدارس، وكان كل ما يخشاه الأساتذة والمدرسون ما بدأ يظهر من حذر
واسترابة من جانب القنصلية نحو هذه المدارس التي انعدمت الثقة بها.
وقد تحققت مخاوف هؤلاء عندما أصدر وزير الداخلية «شابتال
Chaptal» في ١٦ مارس ١٨٠١ منشورًا إلى مأموريه افتتحه بقوله:
لم يعد يكفي وجود مدرسة مركزية واحدة بكل مديرية للتعليم العام، وإن مطلب
الأهلين في كل مكان منذ عشر سنوات إنما هو إنشاء معاهد للتعليم ناجحة يلقَى
فيها الشباب تعليمًا سهلًا قصيرًا.
إنه وبمقتضى المشروع الوزاري استعيض عن المدارس المركزية أو المتوسطة
بعدد من مدارس القرية
Communales (٢٥٠ مدرسة) يحتل
بها تعليمُ العلوم المكانَ الأول مع تقوية تدريس اللاتينية، وإلغاء بعض المواد التي
كان منها الأجرومية والتاريخ، ثم دار الكلام عن «مدارس رئيسية
Principales» (٢٥ مدرسة)، وفي ١٢ مارس ١٨٠٢ عُهِدَ بالإشراف على
التعليم العام إلى «رودرر
Roederer» وهو منصبٌ
أُلْحِقَ بوزارة الداخلية.
وفي أول مايو ١٨٠٢ صَدَرَ قانون أُلْغِيَتْ بمقتضاه المدارس المركزية أو المتوسطة
واستعيض عنها بمدارس التعليم الثانوي أو الليسيه Lycées، وبينما تُرِكَت الدولة لعناية الإدارات المحلية،
وللجهود الشخصية، المدارس الأولية والابتدائية، تَوَلَّتْ هي الإشراف على مدارس
الليسيه وعلى المدارس الخاصة، وقد أوضح «رودرر» الغرض من هذا التنظيم في قوله: إنما
هو رَبْط الآباء بطريق الأبناء، أي: أولئك الذين انتهى تعليمهم بأولئك الذين يبدأ
تعلمهم، بالحكومة، وربط الأبناء بطريق الآباء بها، وإنشاء نوع — على حد تعبير رودرر
— من الأبوة العمومية Paternété Publique، وكان
«رودرر» نفسه هو الذي أوضح كذلك أن الغرض من التعليم سياسي أكثر منه أدبي أو
خلقي.
وبالطريقة نفسها أراد بونابرت الذي كان من أعضاء المجمع العلمي منذ ٢٥ ديسمبر
١٧٩٧ — والذي أنشأه المؤتمر الوطني في سنة ١٧٩٥ ليحل محل الأكاديميات القديمة —
نقول: أراد بونابرت أن يتخذ من هذا المعهد أداة لفرض السيطرة الذهنية، أي: السيطرة
على الفكر في فرنسا، فصدر قرار في ٢٣ يناير ١٨٠٣ انقسم المجمع بمقتضاه إلى شُعَب
أربع: للعلوم الطبيعية والرياضية، وللغة والآداب الفرنسية، وللتاريخ والآداب
القديمة، وللفنون الجميلة، وهو تقسيم ألغى أقسام علوم الأخلاق والسياسة التي جذب
إليها دائمًا أصحاب المثل العليا.
وكما عمل بونابرت على تنظيم التعليم، والمجمع العلمي، والقضاء، والإدارة،
والكنيسة … إلخ، فقد وجب كذلك تنظيم الجيش، وتوجيهه الوجهة التي يريدها القنصل
الأول، وبمعنًى آخر وتعبيرٍ أدقَّ؛ صار على الجيش أن يُعَاوِن في تأليف تلك الطبقة
الأرستقراطية التي أرادها بونابرت الآن، على شريطة أن لا تكون مستندة إلى حق
المولد، بل تقوم على تأدية الأعمال والخدمات العامة التي يتميز أصحابها عن غيرهم
بما يُبْدُونه من جُهْد وتضحية يجعلانهم جَدِيرِين بكل تكريم من جانب الدولة؛ وعلى
ذلك فقد اقترح بونابرت عن طريق «مجلس الدولة» إنشاء نظام جوقة الشرف Légion d’Honneur التي تتألف من خمسة عشر
حشدًا أو جماعة تتألف كل منها من سبعة ضباط عظام، وعشرين قومندانًا، وثلاثين
ضابطًا، وثلاثمائة وخمسين فارسًا، ولكل من هذه الرتب مكافأة مالية معينة، وكان من
قول بونابرت: «إن الواجب يقتضي أن يكون هناك توجيه لروح الجماعة في الجيش، وتأييد
هذا التوجيه، وأما ما يلقاه الجيش من تأييد قائم الآن فمبعثه الفكرة التي لدى أولئك
العسكريين أنهم يحتلون مكان النبلاء القدامى أو الأسبقين، إن من شأن هذا المشروع —
مشروع جوقة الشرف — أن يزيد من قوة نظام التعويض والجزاء «أو المكافأة» وإنه
ليُؤَلِّف كلًّا واحدًا، وإن في ذلك لبداية تنظيم الأمة.»
وقد لقي هذا المشروع معارَضَة شديدة بدعوى أنه ينطوي على خطر محقَّق من وجهة
النظر الاجتماعية، ومع ذلك فقد قدَّمَه «رودرر» إلى المجلس التشريعي بوصْف أنه يعمل
لإقامة منظَّمة يعضِّد وجودها كل «قوانيننا الجمهورية»، وتعاوَن من غير شك على دعْم
أركان الثورة، فصدر قرار ٩ مايو ١٨٠٢ الذي أنشأ جوقة الشرف، يشترط (في مادته
الثامنة) على كل شخص ينضم إلى هذه الجوقة أن يحلف يمين الشرف على خدمة الجمهورية
بأمانة وولاء، وللمُحافظة على أرض بلاده وعدم التفريط في أي شبر منها، والدفاع عن
حكومته وعن قوانينها، ومقاومة أو محاربة أية محاولة أو مجهود يُبْذَل من أجل تأسيس
الإقطاع من جديد؛ وذلك بكل الوسائل التي تُقِرُّها العدالة والحكمة والقوانين
القائمة، وأخيرًا التعاون بكل ما لديه من قوة في تأييد مبادئ الحرية والمساواة،
ووقع الاختيار على أحد كبار علماء الطبيعيات «لاسيبيد Lacépède» ليكون أَوَّلَ رئيس لجوقة الشرف هذه، وأما توزيع
أوسمتها؛ فبدأ للمرة الأولى بعد تأسيس الإمبراطورية، وذلك في ١٤ يوليو ١٨٠٤ تحت قبة
مبنى الأنفليد Invalides.
ولقد ترتب على عقد السلام العام واستقرار الهدوء في الداخل، أن نشط دولاب العمل،
ودبَّت الحياة من جديد في مختلف ميادين الإنتاج؛ فشهدت البلاد عودة الرخاء من جديد،
وتوفرت أسباب العمل ونقْصُ عدد المتعطلين، ينهض دليلًا على ذلك معرض الصناعة الذي
أقيم في مارس ١٨٠١ بفضل جهود «شابتال Chaptal»،
أَضِف إلى هذا إصلاح الطرق، وإنشاء الفنارات والموانئ، وتأسيس البورصة (١٨٠١)،
والعمل بنظام القياس المتري الذي كانت قد قررته الجمعية الأهلية التأسيسية، وإعادة
تنظيم شوارع العاصمة وشق شوارع جديدة بها (شارع ريفولي)، وبناء الأرصفة على نهر
السين «رصيف أورساي Quai d’Orsay»، والعمل لإقامة
الكباري على هذا النهر نفسه «وهي التي صارت بعد قليل كوبري الفنون Pont des Arts، وكوبري المدينة Pont de la Cité، وكوبري أوسترليتز d’Austerlitz».
ونشطت الحياة الاجتماعية في عهد القنصلية حول بلاطَيْن تأسَّسَا من جديد في قصرَي
التويلري Tuileries ومالميزون Malmaison، واشتدت المنافسة بينهما، واجتمع نبلاء
العهد القديم القدامى مع أصحاب السراويل الطويلة من طبقة العامة الذين أَثْروا
حديثًا، وتقدموا درجاتٍ في الحياة الاجتماعية الجديدة، وذلك في مناسبات الولائم
والأعياد التي كان ينظمها «كمباسيرس» أو «تاليران» أو «مدام دي ريكامييه Récamier» … إلخ.
وتجدد «الباليه» في أوبرا باريس منذ فبراير ١٨٠٠، وأضحت باريس مرة ثانية ملتقى
الزوار الأجانب، والمكان الذي تَصْدر عنه طرازات الأزياء الجديدة، ووَصَفَ
الكُتَّاب المجتمعَ الفرنسي في عهد القنصلية بأنه: «كان ينبض بالحياة، ويشع
بالسعادة، لا يفتر عن الحركة والنشاط ويدأب على الاستمتاع بلذائذ العيش، حقًّا لقد
كان ينقصه الكياسة والسجايا الطيبة، ولكنه قَبِلَ الحياة على علاتها بسماحة وخُلُق
رَضِيٍّ دون التورط في تعقيدات عاطفية، أو البحث — دون جدوى — وراء آراء وفكرات
معينة، لقد كان مجتمعًا اتسم بسلامة المزاج، عَرَفَ كيف يعيش طيبًا، ويأكل جيدًا،
ويحب حبًّا قويًّا … لقد كان مجتمعًا سعيدًا.»
ولا جدال في أن الطبقة الوسطى (البورجوازي) — وهي الطبقة الحاكمة في الأمة من
أيام الثورة — قد جنت أعظم الفائدة في ظل هذا النظام الاجتماعي الذي تَدَعَّمَتْ
أركانه على عهد القنصلية، ولكن لا جدال كذلك في أن سواد الشعب أو الطبقة المحكومة
منه قد أفادت من انتشار الرخاء العام، ومن تأمين الطرق، وتقدم وسائل النقل
«والمواصلات» وارتفاع الأجور، وانخفاض نفقات المعيشة.
لقد جعلت كل هذه الإصلاحات الفرنسيين يعتبرون بونابرت — الذي سَمَتْ مكانتُه فوقَ
الأحزاب جميعها، سواء من أنصار الثورة أو النظام القديم — الزعيمَ الذي استطاع
إنهاء الثورة بطريق العمل على دعم تلك المبادئ التي قامت عليها، وذلك بوقف المغالاة
والتطرف الذي صَحِبَ تطبيق هذه المبادئ مع عدم التخلي عنها في الوقت نفسه، بل
الاستمساك بها بكل قوة، ولقد عبَّر بونابرت عن موقف «اللاحزبية» الذي اختاره لنفسه
في قوله: «لئن حَكَمْتُ بواسطة حِزْب من الأحزاب، لصِرْتُ — عاجلًا أو آجلًا —
معتمدًا في حكومتي على مؤازرته، وتابعًا له … إني رجل قومي.»