الفصل الرابع
التمهيد للإمبراطورية
كان من أثر الانتصارات التي أحرزها بونابرت في الخارج وتوصُّله لإبرام الصلح في
أميان في مارس سنة ١٨٠٢، ونجاح إصلاحاته الداخلية — الأمران اللذان ترتب عليهما
استتباب الهدوء والسكينة والاستقرار الداخلي خصوصًا — أن زادت نقمة المتطرفين
الثوريين والملكيين على القنصل الأول الذي حَطَّمَ كل أَمَلٍ لديهم في إمكان إنهاء
النظام القائم، فتآمَرَ الفريقان على حياته، وتعددتْ محاولاتُ اغتياله، من ذلك
محاولة الملكيين قَتْلَه في شارع سانت نيكاز بتفجير برميل من البارود في طريقه وهو
يمر بعربته من هذا الشارع إلى دار الأوبرا في باريس، وقد ذكرنا كيف نجا القنصل
الأول وأخفقت هذه المؤامرة (٢٤ ديسمبر سنة ١٨٠٠)، وقد سَبَقَتْ هذه المحاولة محاولة
أخرى فاشلة من جانب اليعاقبة؛ عندما حاول المتآمرون طعنه بمُدْية وهو يريد الدخول
إلى دار الأوبرا (أكتوبر سنة ١٨٠٠)، وقد انتقم بونابرت من اليعاقبة بإرسال عدد كبير
منهم إلى المنفى في كايين في جويانا الفرنسية بأمريكا الجنوبية.
ولكن كان لانتصارات القنصل الأول في الميدانين الخارجي والداخلي أَثَرٌ من نَوْعٍ
آخر، كان أخْطَرَ شأنًا، هو التمهيد لقيام الإمبراطورية، ولإنهاء عهد القنصلية، ذلك
بأن مجلس التربيون بعد إذاعة معاهدة الصلح الذي أُبْرِمَ في أميان اتخذ قرارًا
إجماعيًّا يوم ٦ مايو سنة ١٨٠٢ بضرورة التعبير للقنصل الأول عن تقدير الأمة لجهوده
الرائعة وشكرها له، وفي ٨ مايو قرر مجلس الشيوخ (السناتو) عندئذ أن يمد قنصلية
بونابرت عشر سنوات أخرى، تبدأ مباشرة بعد انقضاء السنوات العشر الأولى التي نَصَّ
دستور العام الثامن (دستور القنصلية) عليها، ولكن هذا القرار لم يَنَلْ رضا بونابرت
الذي طلب — الآن — أن يكون للأمة صوت في قيامه بأعباء منصبه، ووضع بنفسه صيغة
القرار الذي صدر يوم ١٠ مايو لاستفتاء الشعب في أن يصبح بونابرت قنصلًا مدى الحياة،
وبالفعل جرى استفتاء الشعب كما أراد بونابرت، وأعلن مجلس الشيوخ النتيجة يوم ٢
أغسطس سنة ١٨٠٢، فكانت الموافقة بأكثرية ٣٥٦٨٨٨٥ صوتًا من مجموع ٣٥٧٧٢٥٩
صوتًا.
وعلى ذلك لم تلبث أن أُدْخِلَتْ بعد يومين فقط على إعلان هذه النتيجة (٤ أغسطس
سنة ١٨٠٢) التعديلات التي وَجَبَ إدخالها على دستور العام الثامن؛ حتى يتلاءم
الدستور مع الأوضاع الجديدة التي نشأت، كما قال «كمباسيرس»، عن وجود نظام حكومي
يستند على «رجل واحد» فقط، وكان الغرض من هذه التعديلات أن ينفرد القنصل الأول بكل
سلطة في الدولة؛ فهو الذي يسمي رؤساء المجالس في الأقاليم «ومهمتها ترشيح قضاة
الصلح وأعضاء مجالس البلديات وأعضاء الدوائر الانتخابية»، وهو الذي يسمي رؤساء
الدوائر الانتخابية في المراكز «وتتألف من ١٢٠ إلى ٢٠٠ عضو، يضاف إليهم عشرة يعينهم
القنصل الأول».
وكان من هذه التعديلات كذلك «مراجعة مادة الدستور التي تُخَوِّل مجلس الشيوخ
(السناتو) حقَّ تنصيب القناصل»، وإعطاء هذا المجلس كل الخصائص اللازمة لأن يصبح
مزوَّدًا حقًّا بالسلطة الوقائية الضرورية لصيانة النظام القائم، فيكون لمجلس
الشيوخ القدرة على البت في المسائل التي أَغْفَلَها الدستور، والتي لا غنى عن الفصل
فيها لصالح الدستور نفسه، ثم يكون له حقُّ وَقْف وظائف القضاة في المديريات مدة خمس
سنوات، وإلغاء الأحكام الصادرة من المحاكم، وحل المجلس التشريعي ومجلس
التربيون.
وقد نص التعديل على أن يكون عدد أعضاء مجلس الشيوخ (السناتو) ثمانين عضوًا،
للقنصل الأول أن يزيد عليهم أربعين آخرين، ثم قَلَّ عدد أعضاء «مجلس الدولة» بسبب
إنشاء «مجلس خاص Conseil Privé»، كما أُنْقِصَ عدد
أعضاء مجلس التربيون إلى خمسين فقط، وقد نجم عن إدخال كل هذه التعديلات ما صار
يُعْرَف باسم دستور العام العاشر (٢٤ أغسطس سنة ١٨٠٢).
على أن القنصلية لم تلبث أن شهدت في أيامها الأخيرة تحطُّم ذلك السلام العام الذي
بذل بونابرت قصارى جهده لتحقيقه في معاهدة أميان (٢٥ مارس سنة ١٨٠٢) نزولًا على
رغبة الأمة الفرنسية التي نشدت السلام دائمًا وكافأته على جهوده من أجله، كما
شاهدنا تنصيبه قنصلًا أول مدى حياته، ولقد كان مِنْ أَثَرِ نقض السلام بالصورة التي
سوف نعرضها، أن تهيأت الأسباب التي أبدلت جمهورية القنصلية بالإمبراطورية.
أما أسباب زوال السلام فكانت متعددة، منها: (١) تذمر الهولنديين الذين تحولت
بلادهم إلى جمهورية عُرِفت باسم الجمهورية الباتافية، ولم تكن سوى جزء من الفتوحات
الفرنسية، يهدد منها الفرنسيون إنجلترة مباشرة، لا سيما وأنهم كانوا يحتلون كذلك
«انفرس Antwerp» في بلجيكا. (٢) ومنها ازدياد
القلاقل في إيطاليا الشمالية. (٣) ومنها التداخل المتزايد في شئون ألمانيا، فإن
بونابرت لما كان قد وعد «في معاهدة لونفيل» بتعويض الأمراء الذين انتُزِعَتْ منهم
أملاكهم على شاطئ الراين الأيسر، فقد حصل من الدياط الألماني (أو المجلس
الإمبراطوري) المنعقد في راتزبون Ratisbon على ما
يُعْرَف باسم القرار النهائي
الألماني Recés Germanique، أو النتيجة
الرئيسية Conclusion Principale التي وصل إليها وفد الإمبراطورية، وذلك في ٢٥ فبراير سنة
١٨٠٣ ثم لم يلبث «الدياط» أن اعتمد هذا القرار في ٢٤ مارس، وصدَّقَ عليه الإمبراطور
في ٢٧ أبريل من السنة نفسها؛ وبمقتضاه أُلْغِيَ عدد من الإمارات الألمانية الصغيرة
بلغ ١١٢.
ولم يعد عدد كبير من المدن الحرة مربوطًا مباشرة بالإمبراطورية، وهي التي كانت
أصلًا خاضعة في حكومتها للإمبراطور وتابعة له وحده، وتُسمى لذلك أيضًا «بالمدن
الإمبراطورية»، وكان عددها إحدى وخمسين مدينة حرة، فصارت — الآن — ستة فقط، وهذا
بينما زيدت مساحات الإمارات الكبيرة في ألمانيا — وذلك خصوصًا على حساب الإمارات
الكنسية التي حولت إلى أخرى علمانية — فأمكن تعويض بروسيا عن المساحة التي فقدتها
(٧٥٠) كيلومترًا مربعًا بمساحة أخرى في إقليم وستفاليا بين نهري الإلب والراين
مقدارها اثنا عشر ألف كيلو متر مربع، وبدلًا من عدد السكان الذين فقدتهم (١٢٥٠٠٠)
ضمت إليها نصف مليون نسمة، وكذلك نالت بفاريا تعويضًا إقليميًّا، وبالمثل بادن،
وورتمبرج، وحتى النمسا — بالرغم من الهزائم العسكرية والسياسية التي توالت
عليها.
وهكذا عمل بونابرت على وَضْع أكبر مساحة من الأراضي الألمانية في أيدي حفنة من
الأمراء الألمان الذين سوف تقل حاجتهم لحماية فرنسا لهم بقدر زيادة قوتهم، وخدم
بونابرت كذلك قضية البروتستانتية في ألمانيا، عندما صار هناك ستة ناخبين
للإمبراطورية من البروتستنت (ثلاثة منهم قدامى في إمارات هانوفر وبراندنبرج وساكس،
وثلاثة جدد، هم أمراء بادن، وورتمبرج، وهس) بينما كان عدد الناخبين الكاثوليك
أربعة: في ماينز راتزبون، بفاريا، بوهيميا، سالزبورج تسكانيا، وهذا إلى جانب أن صار
للبروتستنت سبعون صوتًا ضد أربعة وخمسين صوتًا للأمراء الكاثوليك، كما أضْحَت
الدوائر الانتخابية في المدن من البروتستنت؛ وبذلك يكون بونابرت قد مهَّد لقيام
إمبراطورية بروتستنتية في ألمانيا، حتى ذَكَرَ المؤرخون أن «الثورة الألمانية» التي
أوجدت الإمبراطورية الحديثة في ألمانيا إنما انبعثت من ذلك القرار النهائي، أو تلك
النتيجة الرئيسية Recés Germanique التي قررها
الدياط، أو المجلس الإمبراطوري في راتزبون سنة ١٨٠٣.
وبينما كان بونابرت يسعى لإلحاق الأذى بالتجارة الإنجليزية بزيادة المكوس
الجمركية، كان يعمل لتحقيق هذه الغاية بوسائل أخرى، ارتبطت في واقع الأمر بخطة
واسعة «استعمارية» لصالح فرنسا، ذلك أنه أبرم معاهداتٍ مع وجاقات الغرب، مع طرابلس
في ١٧ يونيو سنة ١٨٠١، ومع تونس في ٢٣ فبراير سنة ١٨٠٢، واتخذ من نهب القرصان لإحدى
السفن الفرنسية ذريعة لمحاوَلة غزْو الجزائر، فوصل أسطول فرنسي إلى ميناء الجزائر
في ٧ أغسطس سنة ١٨٠٢.
وخشيت إنجلترة أن يكون غرض فرنسا أن تستعيض عن خسارتها لمصر بالاستيلاء على
الجزائر، ولم يضع جلاء الفرنسيين من مصر حدًّا لأطماع بونابرت في «الشرق» بل بقيت
مشروعاته الشرقية «سرًّا» لا يدرك حقيقته أحد؛ فهو يوفد الكولونيل سباستياني Sebastiani في «بعثته» المشهورة في سبتمبر ١٨٠٢
بوصفه مندوبًا تجاريًّا إلى طرابلس الغرب ومصر والشام، ومن المعروف أن تقرير
سباستياني لم يلبث أن أذاعته الجريدة الرسمية في يناير من العام التالي، ثم هو (أي
بونابرت) يقترح على القيصر إسكندر الأول تقسيم أملاك السلطان العثماني، ثم هو يعين
الجنرال «ديكان Decaen» في يونيو ١٨٠٢ قائدًا
عامًّا لمراكز (مخازن) التجارة الخمسة الفرنسية في الهند، الأمر الذي سبَّب القلق
لإنجلترة، خصوصًا عندما أبحر «ديكان» إلى مياه الهند مع أسطول قوي (مارس ١٨٠٣)، ولو
أن الأوامر لم تلبث أن وصلته وهو لا يزال في طريقه بالتوقف عند جزيرة «إيل دي
فرانس»، ثم إن الجنرال لكلير — الذي تزوج من باولين Pauline شقيقة بونابرت — لم يلبث أن أَبْحَرَ مع زوجته في فبراير
١٨٠٢ إلى سان دومنجو على رأس قوة من عشرة آلاف رجل — وقد سبق أن ذَكَرْنا ذلك —
وقبض لوكلير على زعيم الثورة الزنجية هناك «توسيان لوفرتير» في ٧ يونيو، وكان
توسيان قد أعلن دستورًا (في ٩ مايو ١٨٠١) للحكم الذاتي في الجزيرة، فأرسله لكلير —
الآن — إلى فرنسا، حيث مات مسجونًا في إحدى قلاعها بمرض السل (في ٧ أبريل سنة
١٨٠٣)، وأعيد نظام الرقيق إلى الجزيرة في يوليو ١٨٠٢، ومع ذلك فقد اشتعلت الثورة من
جديد في الجزيرة في شهر سبتمبر، واستطالت الحرب ولقي لوكلير حتفه في ٢ نوفمبر ١٨٠٢،
ولم يسع «روشامبو Rochambeau» الذي خَلَفَ لوكلير
إلا التسليم في ١٩ نوفمبر ١٨٠٣، وبدا كأنما فرنسا قد أصابتها الهزيمة الكاملة في
هذه الجزيرة، وأما في المستعمرة الفرنسية الأخرى، لويزيانا، فقد تعين الجنرال
«فيكتور Victor» قائدًا عامًّا لها (٢٤ سبتمبر
سنة ١٨٠٢)، وتأسَّسَتْ بها إدارة مدنية قوية برئاسة «لوسات Laussat» الذي تَسَلَّم مهام منصبه في شهر مارس من العام التالي،
ولكن لم يَمْضِ قليل حتى كانت قد أُبْرِمَتْ بين بونابرت والولايات المتحدة
الأمريكية الصفقة التي تم بها ابتياع هذه الأخيرة لمستعمرة لويزيانا الفرنسية بمبلغ
ثمانين مليونًا من الفرنكات (٣ مايو ١٨٠٣).
تلك إذن كانت مشروعات بونابرت الاستعمارية، ولم يكن أكثرها ناجحًا، ومع ذلك فقد
كانت كافية لإزعاج إنجلترة التي طلبت «تفسيرًا» لهذا النشاط كله، وفي نوفمبر ١٨٠٢
كانت المباحثات قد وصلت إلى مرحلة لا تبشر باستمرار السلام طويلًا، فقد رَفَضَتْ
إنجلترة إخلاء مالطة، متذرعة في رَفْضها هذا بكل تلك التغييرات والتعديلات التي
يُدْخلها بونابرت على «الوضع» القائم في أوروبا، بينما تمسكت الحكومة الفرنسية
بمعاهدة أميان، وكما أملى بونابرت تعليماته على تاليران (في ٢٣ أكتوبر ١٨٠٢) التمسك
بكل مواد هذه المعاهدة، وعدم قبول شيء سواها، وهي التي استطاع بونابرت بفضلها تأكيد
التغييرات التي أرادها وأدخلها على «الوضع» في أوروبا «ألمانيا، إيطاليا، هولندة،
سويسرة» والتي تَحَتَّم بموجبها على إنجلترة التخلي عن مالطة، أما الإنجليز فقد
تمسك وزير خارجيتهم لورد «هوكسبري» من جانبه بضرورة العودة «بالوضع» القائم في
أوروبا إلى ما كانت عليه وقت إبرام معاهدة أميان، ولا شيء غير ذلك، فاستطالت
المفاوضة حينئذ مدة ستة شهور دون الوصول إلى نتيجة.
وفي ٦ مارس سنة ١٨٠٣ اتخذت الحكومة الإنجليزية «وزارة أدنجتون» قرارًا بالتعبئة،
وبعد أيام قليلة طلبت من الحكومة الفرنسية إخلاء هولندة وسويسرة، وإعطاء ملك
سردينيا تعويضًا مناسبًا عن أملاكه التي فَقَدَها في بيدمنت، وقَرَّرَت الاحتفاظ
بمالطة حتى تتم إجابة هذه المطالب.
وفي ١٢ مايو غادر السفير الإنجليزي لورد هويتورث Whitworth باريس، وفي ١٩ منه قَبَضَت الحكومة الإنجليزية على
سفينتين فرنسيتين؛ فقرَّرَ بونابرت إلقاءَ القبض على كل الرعايا الإنجليز في فرنسا
بين الثامنة عشرة والستين من عمرهم، وأرسل قواده «مورتييه Mortier» لاحتلال هانوفر في ألمانيا، و«سان سير Saint-Cyr» لاحتلال أنكونا في إيطاليا وللزحف على
أترنتو وبرنديزي، بينما رحل بنفسه إلى نورمانديا وإلى البلجيك ليشرف في موانئهما
على بناء النقالات اللازمة لعبور بحر المانش (القنال الإنجليزي)، ثم انْبَرَت
الجريدة الرسمية «المونيتور Moniteur» للحملة على
إنجلترة وتوجيه الاتهام لساستها الذين يعملون — كما قالت — لإرجاع ملكية البربون
إلى فرنسا، وإرغام فرنسا على الانكماش في دائرة حدودها القديمة، وتحطيم كل المآثر
التي أتت بها الثورة.
وانتهز المهاجرون تكدُّر العلاقات بين فرنسا وإنجلترة بهذه الصورة ليُجَدِّدُوا
نشاطهم باستئناف المؤامرات ضد القنصل الأول؛ فإن أحد هؤلاء المهاجرين «الملكيين»
الذين لجئوا إلى لندن «جورج كادودال Cadoudal»
وكان من زعماء ثورة الشوان Chouans — الاسم الذي
أُطْلِقَ على الثوار الملكيين في إقليم بريطاني — استطاع في أغسطس ١٨٠٣ النزول
سرًّا وبصحبته الجنرال «بيشجرو Pichegru»، واثنان
من أسرة بولينياك في مكان على ساحل نورمانديا نَقَلَتْهم إليه سفينة إنجليزية، ثم
قصدوا ثلاثَتُهم إلى باريس حيث حاولوا إشراك الجنرال «مورو Moreau» معهم في مؤامرة لاغتيال القنصل الأول، اعتمادًا على ما
سمعوه عن تذمر هذا القائد، ولأنه كان يتمتع بسمعة عالية كقائد مظفَّر يجذب إليه
الجماهير، ولكن المتآمرين كانوا من أول الأمر موضع رقابة البوليس القنصلي، ومع أن
«مورو» اجتمع مرتين اجتماعًا خاصًّا أو سرِّيًّا برئيس المؤامرة كادودال وبالجنرال
بيشجرو، وكان معروفًا عنه التذمر من النظام القائم والمعارضة له، يرى فريق من
المؤرخين أنه لم يكن بحال من الأحوال مؤيِّدًا للمؤامرة على اغتيال حياة القنصل
الأول، أو أنه اشترك بصورة فعالة في تدبيرها، ولكن ما إن وقف «فوشيه Fouché» ناظر (وزير) البوليس على حقيقة المؤامرة حتى
ألقى القبض على كل من: مورو في ١٥ فبراير ١٨٠٤، وبيشجرو في ٢٩ فبراير، وأخيرًا
كادودال في ٩ مارس، ثم تبع ذلك إلقاء القبض على أكثر من أربعين متهمًا في هذه
المؤامرة، ويعزو كثيرون تقرير القنصل الأول القبض على مورو إلى رغبته في التخلص من
أكبر منافس له، أو المنافس الوحيد الذي كان بونابرت يخشى خطره ونفوذه.
وكان أثناء محاكمة كادودوال وزملائه أن أعلن أحد المتهمين أنه كان من المنتظر أن
يرأس أحد الأمراء هذه المؤامرة، مما جعل الحكومة تشدد المراقبة على السواحل على أمل
القبض على الكونت دارتوا Artois شقيق الملك لويس
السادس عشر، والدوق دي بري Berry «ابن الكونت
دارتوا»، أضف إلى هذا أن أحد العملاء السريين «ميهي ديلاتوش Méhée de La Touche، وكانت الحكومة الفرنسية
قد بَعَثَتْ به للتجسس في لندن ثم في ألمانيا»، أبلغ المسئولين في باريس أن دوق
أنجيان Enghien الابن الأكبر لدوق بربون،
وحفيد برنس كونديه Condé يقيم في بلدة إتنهايم Ettenheim في إقليم — أو إمارة — بادن، على مسافة
قريبة من بلدة ستراسبورج على الحدود الفرنسية، وكان دانجيان مشغولًا بحبه العظيم
لإحدى قريباته شارلوت دي روهان Rohon، ولا يدري
شيئًا عن مؤامرة كادودال أو غيرها من المؤامرات، ولكن سبق أن حمل السلاح ضد الثورة،
وكان دائمًا على استعداد لحمله مرة أخرى إذا ما قام المهاجرون بأية محاولة لإعادة
أسرته «البربون» إلى العرش في فرنسا، وكان دانجيان لذلك على علاقات بالمتذمرين في
الألزاس «وأهم مدنها ستراسبورج» من النظام القائم.
ولما كان قد أَزْعَجَ القنصلَ الأول سيلُ التقارير التي أَتَتْه من كل مكانٍ عن
المؤامرات التي تُدَبَّر لاغتياله، وَتَزَعَّمَ الملكيون هذه المؤامرات ضد حياته،
فقد صمم على إنزال العقوبة الصارمة بهم، وقرر القبض على الدوق دانجيان، معقد
آمالهم، واعتباره شريكًا في المؤامرة التي حاك خيوطها كلٌّ من كادودال وبيشجرو،
وذلك بالرغم من أنه لم يقم أي دليل على أن دانجيان كان ضالعًا — بحال من الأحوال —
معهما في هذه المؤامرة أو يدري شيئًا عنها.
ويبدو أن بونابرت اعتقد بوجود مؤامرة لتدبير غزو على فرنسا باشتراك دوق دانجيان
يعاونه «ديمورييه»، وفي لِيل ١٥ مارس ١٨٠٤ اقتحمت ثلة من الجنود الحدودَ وقبضت على
دانجيان في إتنهايم، ثم اقتادته إلى قلعة ستراسبورج، وبعد يومين نُقِلَ بسرعة إلى
باريس، ولكنه ما وصل إلى «بواباتها» يوم ٢٠ مارس حتى نُقِلَ إلى قلعة «فينسن Vincennes» بالقرب من باريس، وفي نفس الليلة
أُجْرِيَت محاكَمته أمام محكمة عسكرية تَشَكَّلَتْ بكل سرعة، فصدر الحكم بإعدامه،
وأُعْدِمَ في صباح اليوم الثاني الباكر (٢١ مارس ١٨٠٤).
وأما أصحاب المؤامرة الحقيقيون فقد حُوكِموا في شهر يونيو من السنة نفسها، وكان
«بيشجرو» قد انتحر في سجنه قبل المحاكمة (منذ ٦ أبريل)، فصدر الحكم بالإعدام على
كادودال وثمانية عشر آخرين، بينما حُكِمَ على «مورو» بالسجن سنتين، وقد استبدل
بونابرت بهذا الحكم النفي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم تَنَفَّذَ حُكْم
الإعدام في «كادودال» وعشرة من زملائه في ٢٥ يونيو، وصَدَرَ العفْوُ عن الثمانية
الباقين، وكان من هؤلاء الماركيز دي رفيير Riviére
ثم عضوا أسرة بولينياك اللذان سَلَفَ ذكرهما.
وكان الذي صَادَقَ على هذه الأحكام، وأَمَرَ بالعفو عن المُدَانِين الثمانية
الإمبراطور نابليون الأول؛ لأنه كان من الآثار المباشرة لاكتشاف هذه المؤامرة التي
دَبَّرَها «كادودال» وإخوانه، أن أقام بونابرت صَرْح الإمبراطورية في فرنسا، وتبوأ
عَرْشها.