دستور العام الثاني عشر
تذرَّعَ الذين أرادوا إنشاء الإمبراطورية بأن الأمة قد صارت — أَكْثَرَ من أي وقت مضى — في حاجة ماسة لتأمين «نتائج» الثورة، التي يكفل بقاءُها وجودَ الرجل — نابليون بونابرت — الذي تآمر الملكيون أعداءُ الثورة على حياته أكْثَرَ من مرة، وأرادوا اغتياله في الوقت الذي استؤنفت فيه الحرب مع إنجلترة، وظهرَت الرغبة في أن يصبح لبونابرت الحق في تعيين خَلَفٍ له، ولإعطائه لقبًا جديدًا، وقد بحث مجلس الدولة هذه الرغبة، ولكنه أعلن يوم ٥ أبريل ١٨٠٤ موافقته على مبدأ الوراثة فحسب، وعندئذ اتجه القنصل الأول إلى «مجلس التربيون» الذي قرر يوم ٣٠ أبريل: (١) أن يُعْلَنَ نابليون بونابرت «القنصل الأول حاليًا» إمبراطورًا، وأن يبقى بهذه الصفة قائمًا بأعباء الحكم في حكومة الجمهورية الفرنسية. (٢) أن يكون منصب الإمبراطورية وراثيًّا في أسرته. (٣) وأن تُقَرَّرَ نهائيًّا الأنظمةُ اللازمة لذلك.
وفي الاستفتاء الذي أَعْلَنَ مجلسُ الشيوخ نتيجتَه في ٦ نوفمبر ١٨٠٤، بلغ عددُ الأصوات المؤيِّدة للإمبراطورية ٣٥٧٢٣٢٩، وكانت الأصوات المعارِضة ٢٥٧٩ فقط، ومع ذلك فإن هذه الأرقام لم تكن تدل على أن الاستفتاء كان يعبر عن حقيقة الرأي العام تمامًا؛ لأن الممتنعين عن التصويت — أي الذين لم يشتركوا في الاقتراع — اعتبَرَتْهم الحكومة مؤيدين للدستور الجديد، أَضِفْ إلى هذا أن قانونًا يُصْدِره مجلس الشيوخ لم يكن يتطلب إجراء استفتاء عام ليصبح نافذًا، ولذلك لم يكن المقصود من هذا الاستفتاء الحصول على تصديق الشعب على لقبِ أو حكومةِ الإمبراطورية، بِقَدْر ما كانت الرغبة تأييد نظام الوراثة بالصورة التي أتى بها قانون الإمبراطورية، وقد جَعَلَ هذا القانونُ من حق الإمبراطور أن يتبنى أحد أبناء أشقائه، وفي حالة عدم وجود وارث من صلبه مباشرة أو عدم تبني أحد أبناء أشقائه ينتقل تاج الإمبراطورية إلى أخويه يوسف، ولويس بونابرت وأبنائهما، وقد حُرِمَ من الوراثة كُلٌّ من شقيقيه الآخَرَيْن لوسيان وجيروم؛ لأنهما عَقَدَا زِيجات لا يرضى عنها.
وأما هذه الإمبراطورية التي أوجدها قانون ١٨ مايو ١٨٠٤ فكانت مزيجًا من الجمهورية والملكية بالصورة الظاهرة التي تَعَارَفَ الناس عليها، ولكنها في جوهرها كانت شيئًا يختلف عن الجمهورية والملكية — أو الإمبراطورية المتعارف عليها — ولا يمكن اعتبارها إلا شيئًا مستولدًا من عبقرية نابليون نفسه، ولا تفتأ تزداد هذه الطبيعة أو الخاصية وضوحًا بمرور الزمن، حتى إذا بَلَغَت الإمبراطورية ذروتها في السنوات التالية (١٨٠٧–١٨٠٩) كان الانفراد بهذه الصفة أبرز مميزاتها، أو قل: إنه المميز الوحيد لها من الملكيات أو الإمبراطوريات العادية الأخرى.
فقد كان نابليون هو الذي رأى تأسيس إمبراطورية بدلًا من مَلَكية؛ لأن المَلَكية كانت لا تزال مقترنة في أذهان الناس بكل تلك المساوئ والمظالم التي قامت الثورة لتحرير الأمة منها، وخشي نابليون أن يتحدى إنشاء الملكية من جديد الفرنسيين في شعورهم، وأن يكون عاملَ استفزاز لهم للمطالَبة بالحرية، فقال: إن إعلان الإمبراطورية فيه إرضاء لأنانية الأمة دون تحريك حبها للحرية أو استثارة هذا الشعور لدرجة متطرفة، وكانت الإمبراطورية القائمة حتى هذا الوقت من عشرة قرون مضت هي الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ولم يكن فرنسوا الثاني «الذي خلف الإمبراطور ليوبولد الثاني منذ ١٧٩٢» قد تُوِّجَ بعد إمبراطورًا عليها، فلم يَنَلْ لقب إمبراطور إلا في أول سبتمبر ١٨٠٤، أي بعد إعلان تأسيس إمبراطورية نابليون الأول ببضعة شهور، ولم يكن يُرْضِي كبرياء نابليون شيء في هذا الوقت قَدْر إدراكه أن في وسْعه الاستهانة بكل التقاليد التي ارتبطتْ بهذه الإمبراطورية الرومانية المقدسة القديمة التي شَيَّدَ شارلمان صرْحها، فظلت تَصْدُر كلُّ أعمال الحكومة الرسمية حتى عام ١٨٠٩ باسم «الجمهورية الفرنسية» إلى جانب اسم الإمبراطور نابليون.
وثانيًا: بأن وزع الإمبراطور في قصر الأنفاليد للمرة الأولى وسام جوقة الشرف (يوم ١٤ يوليو ١٨٠٤) على مستحقيه. وثالثًا: بأن أقيمَ حفل ديني فخم في كنيسة نوتردام لتتويج الإمبراطور، وقد اهتم نابليون بهذا الاحتفال؛ فمهَّد له بالمفاوضة مع البابا بيوس السابع من جهة، وبعقد قرانه في الكنيسة من جهة ثانية، وكان زواج بونابرت من جوزفين بورهانيه زواجًا مدنيًا فحسب (أول ديسمبر)، وفي اليوم التالي (٢ ديسمبر ١٨٠٤) أُقِيمَ حفل التتويج الذي حضره البابا، ولكن بدلًا من أن يضع البابا التاج على رأس نابليون وزوجه، انتظر نابليون حتى بارك البابا التاج فتناوَلَه من يده وتَوَّجَ به نفسه، ثم وضعه على رأس الإمبراطورة التي ركعت أمامه.
ولئن دَلَّتْ واقعة التتويج هذه على شيء، فإنما تدل على أن الإمبراطورية مستولدة من عبقرية نابليون وحده ومتصلة بشخصه قبل أي شيء آخر، فهو الرجل الذي صار له حتى هذا الوقت أربعُ سنوات ونيف وهو متربع في دست الحكم في فرنسا، يجمع في يديه كل أسباب السلطة، وينفرد بممارستها وحده، ويبذل قصارى جهده لإتقان أساليب الحكومة الفردية مع ما يقتضيه ذلك من تدريب صارم على ضرورة نظر الأشياء بنفسه، والإحاطة بها إحاطةً تامة، ثم تقرير ما يجب اتخاذه بشأنها؛ وذلك لأن صاحِبَ الحُكْم — أو الملك كما قال نابليون — لن يكون شيئًا مذكورًا إذا لم يكن هو كل شيء، وحتى يتسنى له أن يكون كل شيء، وجب عليه أن يكون في كل مكان، حقًّا لم يُنْكِر نابليون افتتانه بالسيطرة والسلطة، ولكنه — كما وصفه هو نفسه — كان من نوع افتتان الفنان بآلته الموسيقية.
ونفى نابليون (مارس ١٨٠٤) أنه طَمُوح أو أن له أطماعًا، فإذا كان لا مناص من الاعتراف بوجودها، فهي حينئذ أطماع قد امتزجت امتزاجًا في كيانه حتى صارت — كما قال — بمثابة الدم الذي يجري في عروقه والهواء الذي يستنشقه، ونابليون هو الذي عَرَّفَ «المستحيل» بأنه «الشبح الذي يُفْزِع الخائف الوجل، والملجأ الذي يلوذ به الجبان الرعديد»، وكان صاحب هذا التعريف الذي أنكر المستحيل هو مؤسس الإمبراطورية الذي نهض بأعباء الحكم فيها وحده، ولم يشأ أن يشاركه في ديكتاتوريته إنسان، والذي أعتقد أن له من العبقرية ما يهيئه لأن يكون «شخصية تاريخية» — كما قال هو نفسه — وليس بشرًا كسائر البشر.