الفصل الثاني
نظام الإمبراطورية
ديكتاتورية نابليون
نصت المادة الرابعة عشرة من القانون النظامي للإمبراطورية الصادر في ١٨ مايو ١٨٠٤
على أن يجري «تنظيم القصر الإمبراطوري بما يتفق وهيبة العرش وعظمة الأمة»، ذلك بأن
العرش سوف يكون له بلاط لامِع يتألف من مارشالات الإمبراطورية، وكبار الموظفين
وأصحاب المناصب والألقاب الرفيعة، فصدر في ١٣ يوليو ١٨٠٤ قرار بترتيب درجة كل فئة
من هؤلاء بالنسبة لغيرها في السلم الاجتماعي.
ثم إن نابليون لم يلبث أن استصدر طائفةً من المراسيم، مَنَحَ بها ألقابَ الشرف
أفرادَ أسرته وكبارَ القواد في إمبراطوريته، وأَنْعَمَ عليهم بالأملاك الواسعة خارج
فرنسا؛ فكانت مملكة نابولي وصقلية من نصيب شقيقه جوزيف الذي صار ملكًا
عليها (٣٠ مارس ١٨٠٦)، ودوقية جواستالا Guastalla التي ضمتها فرنسا إليها في ١٨٠٦ — وتقع
على نهر ألبو على الحدود بين مودينا ولمبارديا في إيطاليا — أُعْطِيَتْ لشقيقته
باولين Pauline، ودوقية كليف Cleves، وبرج Berg
(في ألمانيا على حدودها الشمالية الغربية مع فرنسا) إلى مورا، وإمارة نوشاتيل Neuchatel (على الحدود بين فرنسا وسويسرة) إلى
برتييه، وفي ٦ يونيو ١٨٠٦ مَنَحَ شقيقه لويس مملكة هولندة، وصار لويس ملكًا
عليها.
وأما الإمبراطور نفسه فقد استبقى في حَوْزَته أملاكًا واسعة في إيطاليا، عهد
بالحكومة والإدارة بها إلى طائفة من رجال دولته، هم تاليران الذي أُعْطِيَ إمارة
بنيفنتو Benevento «في قلب نابولي»، ودوقية
بارما إلى كمباسيرس، ودوقيه بلازانس Plaisance
(بياسنزا Piacenza على نهر بو Po) إلى لوبران Lebrun، ودوقية تارنتو Tarento (في
جنوب إيطاليا) إلى ماكدونالد، ثم دوقية أوترنتو Otranto (قريبة منها) إلى فوشيه Fouché، ودوقية جيتا Gaeta (في
نابولي) إلى جودان Gaudin، وعلاوة على ذلك فقد كان
الغرض من الإنعام بألقاب الشرف على طائفة أخرى من قواده ورجال دولته، تخليد ذكرى
الأحداث الهامة أو الوقائع الفاصلة في تاريخ إمبراطوريته؛ فالمارشال ماسينا مُنِحَ
لقب دوق ريفولي Rivoli الواقعة التي أَحْرَزَ فيها
بونابرت أحد انتصاراته الحاسمة في إيطاليا (١٤ يناير ١٧٩٧)، كما أعطى لقب أمير
إيسلنج Easling؛ تخليدًا لذكرى الموقعة التي
انتصر فيها نابليون بالاشتراك مع ماسينا وغيره من كبار قواده على جيوش النمسا — وإن
كان الفرنسيون كالنمسويين قد تحملوا خسائر فادحة (٢٢-٢٣ مايو ١٨٠٩).
ونال المارشال ناي Ney لقب دوق الشنجن Elchingen، وأمير مسكوفا Moscowa لإحياء ذكرى الانتصار على النمسويين في واقعة الشنجن (١٤
أكتوبر ١٨٠٥) التي اشترك فيها ناي، وتقديرًا لجهوده كذلك في واقعة نهر مسكوفا (٧
سبتمبر ١٨١٢) التي مَكَّنَتْ نابليون من الدخول إلى موسكو (في ١٤ سبتمبر) وأعطى
المارشال دافو لقب دوق أورشتاد Auerstadt وأمير
إيكموهل Echmuhl، وأورشتاد هي المعركة التي
انتصر فيها دافو، فأكمل النصر الذي أحرزه نابليون على الجيوش البروسية في واقعة
إيينا Jena
(١٤ أكتوبر ١٨٠٦)، أما إيكموهل فكانت الواقعة التي انتصر فيها نابليون وساهم فيها
دافو كذلك على جيش النمسا «في بفاريا» في ٢٢ أبريل ١٨٠٩.
واعتقد نابليون أن من صالحه تأمين مستقبل الأسرات التي صارت مواليةً له في النظام
الجديد، وارتبطَتْ أقدارها نهائيًّا بمصير البيت البونابرتي الحاكم، فأعاد حق
أيلولة الإرث إلى الابن الأكبر في الأسرة (منذ ١٨٠٦) فيما يتعلق بطبقة كبار
العسكريين، ثم إنه أضاف إلى نظام الإرث حق «الاستعاضة» بمعنى أنه يحق للمورث إذا لم
يوجد عقب مباشر له أن يسمي في وصيته من يشاء ليرثه، ثم أنشأ (في أول مارس ١٨٠٨)
نظامًا يتسنى بفضله تخصيص نصيب من أملاك الأسرة يكفي وارث اللقب لأن يعيش في
المستوى الذي يفرضه لقب النبل الذي يحمله، وكان في نفس هذا التاريخ (أول مارس ١٨٠٨)
أن صدر القانون الذي أنشأ رسميًّا طبقة النبلاء أو الأشراف في الإمبراطورية.
واحتفظ الإمبراطور في الوقت نفسه بحق مَنْح ما يشاء من ألقاب النبل والشرف للقواد
والمديرين، ورجال الإدارة المدنيين وللعسكريين وغير هؤلاء من رعاياه الذين يتميزون
بالخدمات التي يُسْدُونها للدولة.
وقد شاهدنا كيف أن نابليون قد رَفَعَ عددًا من القواد وكبار الموظفين إلى مرتبة
الإمارة والدوقية، ولقد بلغ خلال ثماني سنوات فقط عدد من رَفَعَهم نابليون إلى
مرتبة الإمارة أربعة، وإلى الدوقية ثلاثين، وإلى الكونتية (٣٨٨) وإلى البارونية
(١٠٩٠)، وإلى جانب هذا صار للإمبراطورة «جوزفين» وللأميرات شقيقات الإمبراطور
«إليزا Elisa، وباولين، وكارولين Caroline» وصيفات شرف، واستُدْعِيَتْ إحدى
السيدات لتلقين كل هؤلاء الوافدات على الحياة الاجتماعية العالية، قواعدَ السلوك في
هذا المجتمع وفْق تقاليد البلاد في العهد القديم.
ولم يفرق الإمبراطور بين نبلاء العهد القديم والنبلاء المستحدثين، بل وَزَّعَ
منحه وعطاياه على الفريقين بالتساوي، طالما أن نبلاء العهد القديم صاروا
مُلْتَفِّين حوله، وبذل قصارى جهده ليمزج بين الجماعتين بعقد الزيجات بينهما؛ فقرب
من «بلاطه» أسرات مونتمورنسي، ونوال، وروهان Rohan، وشوازيل
براسلان Choiseul-Praslin، وفيليب دي سيجور Ségur
— من رجال العهد القديم — أُعْطِيَ منصبًا في جيش الإمبراطور وصار كبير الأمناء،
ولقي ناربون وزير الحرب أيام لويس السادس عشر نفس العناية وأُلْحِق بالجيش
الإمبراطوري، بينما دخل عديدون من طبقة صغار النبلاء قديمًا في خدمة الحكومة،
ووَجَدُوا في الإدارات التي أُلْحِقُوا بها زملاء من الطبقة المتوسطة «المستنيرة»
والتي تأثرت بفلسفة القرن الثامن عشر، والذين كانوا لذلك يدينون بمبدأ الطاعة
للحكومة «المستبدة المستنيرة».
وضَمَّتْ فروع الإدارة إليها موظفين من بين الذين اشتركوا في مجالس الثورة ولم
تُطِح المقصلة برءوسهم أيام إرهاب اليعاقبة، أو إرهاب الملكيين المناوئين للثورة،
وهرعوا يؤيدون القنصل الأول ثم الإمبراطور الذي عَرَفَ كيف يربطهم بالنظام الذي
أقامه، وكيف يفيد من خدماتهم، فتعيَّن عدد كبير من أعضاء المؤتمر الوطني القدامى في
وظائف الدولة الكبيرة والإدارة الإقليمية «كمديرين في المقاطعات».
ولما كانت الإمبراطورية التي أعادت النظام إلى نصابه تحترم مبدأ التملك، ومن
واجبها تأمين الناس على أموالهم وأملاكهم الخاصة، أي تأمين الطبقة المتوسطة على كل
ما تعتبره هذه الطبقة ضروريًّا لبقاء «امتيازاتها»، فقد قَصَرَتْ حقَّ الانتخاب في
نظام الحُكْم الذي أوجدته على المواطنين الذين يدفعون القسط الأكبر من الضرائب، أي
أعضاء الأسرات ذات القدر أو المكانة الكبيرة في الماضي وفي الحاضر؛ بفضل ثرائها
وارتباطاتها الواسعة العائلية وغيرها في الإقليم، وما اشتهر عنهم من حسن السمعة
والآداب العالية في حياتهم الخاصة والعامة على السواء، أو كما قال نابليون: «تلك
الأسرات الطيبة التي كانت تنتمي إلى ما عُرِفَ في الماضي باسم العامة، أو الطبقة
الثالثة»، وواضح أن نابليون إنما كان يبغي من ذلك الاعتمادَ على كل المزايا الأدبية
والمادية التي للطبقة المتوسطة في تدعيم بناء إمبراطوريته الداخلي.
وفي ضوء هذه الرغبة خضع كلُّ إصلاح داخلي في عهد الإمبراطورية للاعتبارات المتصلة
بمصالح الطبقة المتوسطة «المحترمة» أو «العالية» التي ارتبط مصيرها دائمًا «بالأرض»
فتحددت الضريبة على الأملاك والعقارات والأراضي، وتلك هي الموارد الرئيسية لإيرادات
الدولة، بصورةٍ ترسم حدود أملاك الأفراد (الزمام)، وتعيَّن حقوق وواجبات كل فرد
الخاصة بالأرض التي يملكها، وبالمثل طلب في التأريع (الذي صدر به قانون منذ ١٨٠٧)
أن تضع القرى كشوفًا مفصلة للزمام؛ لبيان أملاك الأفراد بكل دقة، وتقدير قيمة
الضريبة التي يدفعونها، وفي ذلك — كما هو ظاهر — ضمان لأصحاب الأرض (المتملكين) من
اعتداء الغير على أملاكهم أو «اعتداء» الخزانة «الحكومية» عليهم.
ومع ذلك فقط عظم اعتماد الإمبراطور في بقاء نظامه على إمكان إنشاء هيئة تعليمية
وادعة ومسالمة، تكون بمثابة القوى الأدبية التي يستند إلى مؤازرتها صرْح
إمبراطوريته، ذلك أن نابليون كان يعتقد اعتقادًا جازمًا بأن بقاء الدولة أو كيانها
السياسي مرتهن بوجود هيئة تعليمية تدين بمبادئ ثابتة، ما دام أن الإنسان يولد وهو
لا يدري أي أنواع الأنظمة جدير بتأييده؛ الجمهورية أم الملكية؟ وهل الأفضل أن يكون
صاحب عقيدة وإيمان أو أن يكون لا دينيًّا؟ وفي رأيه أن الدولة لا تصنع الأمة بل
ترتكز الدولة دائمًا على أسس غير محددة، ومقلقلة، وهي معرَّضة لحدوث الاضطرابات
وخاضعة للتغييرات التي تطرأ عليها.
ثم لم تلبث أن أخذت تتبلور آراء الإمبراطور تدريجيًّا حتى استطاع أن يعرض آراءه
ورغباته على «مجلس الدولة» بصورة محددة في فبراير ١٨٠٦، وكانت هذه إنشاء «جامعة
إمبراطورية» يكون لأعضائها وحدهم الحقُّ في القيام بأعباء التعليم والإشراف عليه،
وأن يُعْهَدَ إليهم بمهمة رئيسية هي «توجيه الرأي العام في الناحيتين السياسية
والخلقية»، وبَحَثَ مجلس الدولة هذه الرغبة حتى شهر أبريل، ثم تناول مجلس الشيوخ
الموضوع، وفي ١٠ مايو ١٨٠٦ صدر قرار بتأسيس هيئة تحمل اسم الجامعة الإمبراطورية
١ يُعْهَد إليها بمفردها بمهمة التربية والتعليم العام في أنحاء
الإمبراطورية، وهو قرار يقوم على مبدأ المركزية في التعليم.
ولا جدال في أن نابليون لم يكن يريد من وراء هذه المركزية في التعليم إخضاع
الشباب الفرنسي وحده لنظام موحد من التعليم والثقافة يكفل — بإشراف الدولة — رَبْط
هذا الشباب الفرنسي بالإمبراطورية، وإنما أراد بهذا النظام الموحد أن يُرَوِّض كل
شباب الإمبراطورية المترامية الأطراف من أبناء الشعوب التي خضعت حديثًا للسيطرة
العسكرية التي فَرَضَها الإمبراطور عليها بقوة السلاح، ولما يَمْضِ الوقت الكافي
لاستقرارها على قبول «فكرة» الإمبراطورية، والرضاء «بنظامها» وذلك بأن يُقِيمَ —
إلى جانب روابط السيطرة العسكرية وروابط الانخراط في سلك الإدارات «أو الوظائف
الحكومية» المحلية — نوعًا آخر من الروابط عن طريق هذه المركزية في التعليم
والثقافة.
ولقد كانت الخطوة التالية بعد «تأسيس» الجامعة الإمبراطورية، إعداد «دستور»
لتنظيم العمل بهذه الجامعة وتعيين وجوه نشاطها، واستطال البحث في مشروع هذه
الجامعة، حتى إذا كان يوم ١٧ مارس ١٨٠٨ صدر القانون النظامي الخاص بالجامعة
الإمبراطورية، وكان يتألف من ١٤٤ مادة، وبمقتضى هذا القانون امتنع من الآن فصاعدًا
على أي إنسان إنشاء مدرسة، أو الاشتغال بالتعليم ما لم يكن من أعضاء الجامعة
الإمبراطورية ومتخرجًا في إحدى كلياتها، وأما هذه الكليات فكانت خمسًا: اللاهوت،
والقانون، والطب، والعلوم، والآداب، ويلي هذه الكليات الخمس في الترتيب مدارس
التعليم الثانوي «أو الليسيه»، ثم تأتي المدارس الإعدادية «أو التجهيزية» التي تقوم
بالإنفاق عليها المجالس النيابية، ثم المدارس الداخلية الخاصة، وأخيرًا المدارس
الابتدائية.
ونصت المادة ٣٨ من هذا القانون على القواعد التي يقوم عليها التعليم في كل هذه
المدارس «وفي الجامعة الإمبراطورية» وكانت ثلاثًا: الديانة الكاثوليكية، والولاء
للإمبراطور، والطاعة لقرارات الهيئة التعليمية، وكانت هذه ترسم نظامًا صارمًا
لأعضائها لدرجة إلزام فريق ممن يَشْغَلون منهم بعضَ المناصب العالية في هذه الهيئة
بالعيش متبتلًا.
وفي نفس اليوم (١٧ مارس ١٨٠٨) صَدَرَ قرار آخر بتعيين رئيس لهذه الجامعة، هو
«لويس دي فونتان Fontanes»، ثم لم تلبث أن
وُسِّعَت السلطات المعطاة له باستصدار قرار آخر في ١٧ سبتمبر ١٨٠٨، وقد اشتمل هذا
القرار على بعض المواد الخاصة بتنظيم الجامعة؛ فنصت المادة الثالثة على أنه ابتداء
من أول يناير ١٨٠٩ تُغْلِقُ أبوابَها كلُّ مؤسسة تعليمية لم يصدر من رئيس الجامعة
ترخيص باستمرارها في العمل، ثم توالى استصدار القوانين المنظِّمة لعمل الجامعة
واختصاصات كلياتها وعمدائها ولوائحها الداخلية إلخ، ثم من أجل إنشاء مدرسة للمعلمين
(٣٠ مارس ١٨١٠)، وذلك بإعادة مدرسة المعلمين التي كانت قد تأسست أيام المؤتمر
الوطني سنة ١٧٩٥ لإمداد المدارس المختلفة بالمدرسين اللازمين لها، وقد صدرت كل هذه
القوانين بين ١٠ فبراير ١٨١٠ و١٥ نوفمبر ١٨١١.
وبمقتضى القانون الصادر في ١٥ نوفمبر ١٨١١ صار للقساوسة الحق في تأسيس مدرسة
أكليريكية صغيرة في كل مديرية، لا يقتصر دخولها على الأطفال الذين يراد إعدادهم
للكهنوت فقط، وبهذا القانون زِيدَ من ناحية أخرى عدد مدارس الليسيه فبلغت المائة في
كل أنحاء الإمبراطورية، كما جُعِلَتْ كلُّ المؤسسات التعليمية الخاصة خاضعة للجامعة
الإمبراطورية، وذُكِرَتْ أنواع العقوبات التي يمكن توقيعها على أعضاء هذه
الجامعة.
وهكذا أدى إنشاء الجامعة الإمبراطورية وتنظيم المؤسسات العلمية والإكثار من عدد
المدارس إلى زيادةِ استمالة الطبقة المتوسطة، وتوثيق علاقاتها بالنظام القائم، وهي
الطبقة التي شغفت دائمًا بالدرجات العلمية و«الشهادات الرسمية» التي تؤمن لأبنائها
فتح طريق الوظائف الحكومية، وتجعلهم يطمئنون إلى «مستقبلهم المهني» بينما ترمز
الشهادات التي يحصلون عليها إلى الطبقة التي ينتمون إليها، ينهض دليلًا على هذا
الشغف بالدرجات العلمية للغرض الذي ذكرناه أن معاهد التعليم في فرنسا في عام ١٨١٣
وحده أعطت درجة البكالوريوس لعدد من الخريجين بلغ (١٦٥٨)، والبكالوريوس أولى
الشهادات الجامعية حسب قرار ١٧ مارس ١٨٠٨، يليها الليسانس، ثم الدكتوراه وهي
أعلاها.
على أن التعليم لم يكن كله تحت هذه السيطرة العلمانية وحدها، فترك الإمبراطور
للهيئات الدينية تعليم الفتيات، وعني نابليون عناية خاصة ببنات ضباطه الذين لقوا
حتفهم في ميادين القتال؛ فأسَّسَ لتنشئتهن في مايو ١٨٠٧ ست مؤسسات أو مدارس
إمبراطورية، جعلها تحت «حماية» الملكة هورتنس Hortense ابنة زوجه جوزفين، والتي تزوجت من لويس شقيق الإمبراطور،
والذي صار ملكًا على هولندة (منذ ١٨٠٦).
وإلى جانب هذا كانت قد أُعِيدَتْ مدارس «الفرير» الرهبان المسيحية إلى فرنسا منذ
١٨٠١، فعُهِدَ إليها — الآن — بالتعليم الابتدائي، ولقد كان الغرض الجوهري الذي
استهدفه الإمبراطور أن يتعلم أبناء الأمة الفرنسية الديانة المسيحية، وأن يدينوا
بكل «التعاليم والإرشادات Catéchisme Impérial»
التي أَخَذَتْ بها جميع الكنائس في الإمبراطورية الفرنسية «والتي تدور حول واجب
المسيحيين نحو نابليون الإمبراطور، وهو واجب يتطلب منهم الحب والاحترام لشخصه،
والطاعة لأوامره، والولاء لحكومته، وتأدية الخدمة العسكرية، وكل هذه شرائط ضرورية
للمحافظة على الإمبراطورية وعلى عرشه وللدفاع عنهما، وذلك ليس فقط لأن «الإله» قد
فَوَّضَه الحكم والسلطان، واتخذه صورة منه على الأرض، بل وكذلك لأنه أعاد الدين
والعبادة على نحو ما كان يعرفه الفرنسيون ونشأ آباؤهم وأجدادهم عليه، ولأنه عمل على
استقرار النظام العام بفضل ما أوتي من حكمة وأصالة رأي، ولأنه يذود عن حياض الدولة
بصارمه البتار، ولأنه نال المبارَكة المقدسة على يد البابا رئيس الكنيسة الأعلى،
وأما أولئك الذين يُقَصِّرون في تأدية هذا الواجب عليهم، فهم — حسبما يقول بطرس
الرسول — إنما يقاومون النظام الذي أقامه الله نفسه، ويستحقون لذلك نزول اللعنة
الأبدية عليهم.»
تلك كانت «التعاليم والإرشادات» التي نادت بها وأذاعتها «كنائس الإمبراطورية» وهي
«تعاليم» تؤيد سلطان الإمبراطور المطلق، وتدعو لنفس المبادئ التي حاربتها الثورة
أصلًا، والتي تقول بحق الملوك المقدس «أو حقهم الإلهي» في الحكم.
وكان ضروريًّا لاستكمال هذه الدعائم التي قامت على ديكتاتورية الفرد في نظام
الإمبراطورية النابليونية أن يَفْرِض الإمبراطور رقابةً صارمة على الصحافة التي
اتهمها نابليون بترويج الشائعات، أو الأنباء التي يُذِيعُها في القارة الوكلاءُ
الإنجليز أعداؤه، ليُحْدِثوا بلبلةً في الأذهان، لا يسع النظام القائم السكوت عليها
أو إغفال آثارها السيئة والمؤذية، فكتب منذ ٢٢ أبريل ١٨٠٥ إلى مدير البوليس «أو
الأمن» فوشيه، أن يستدعي هذا الوزير لديه رؤساء تحرير صحف «جورنال دي ديبا Journal des Débats» و«بوبليسيست Publiciste»، و«جازيت دي فرانس Gazette de France»، وهي الصحف التي اعتقد
نابليون أنها واسعةُ الانتشار ليعلنهم؛ أنهم إذا استمروا يقومون بدور الترجمان الذي
يَنْقل ما يجيء في الصحف والنشرات الإنجليزية وإزعاج الرأي العام بصورة مستمرة —
لِنَشْرِهم بحماقةٍ الأخبارَ التي تصدر عن فرانكفورت وأوجزبرج دون تدبُّر لمعاني ما
ينْشُرُونه ودون روية — فإن صحفهم لن يطول بقاؤها، «وليعلموا» أن عهد الثورة قد
انتهى، وأنه لم يَبْقَ في فرنسا غير حزب واحد.
وقد تكرر الإنذار من نابليون بعد أيام قليلة (٢٨ أبريل) وأعلن أن «إصلاح الصحافة»
قد صار ضروريًّا، وأن إجراءً سوف يُتَّخَذُ قريبًا لتحقيق الغاية؛ لأن من الحماقة —
كما قال — أن تكون هناك طائفة من الصحف تسيء استقلالَ حرية الصحافة، ولا تحاول أن
تفيد من المزايا التي تكفلها هذه الحرية لها؛ وعلى ذلك فقد صدرت تشريعات في ٢٠–٢٢
مايو، ٧ أغسطس ١٨٠٥ تَطْلُب من الصحف تقديم حساباتها للبوليس، وأن تَدْفَع مبلغًا
من المال يُخَصَّصُ لإنشاء «رقابة» على الصحف، ثم لم يلبث أن صدر تشريع لتنظيم
الرقابة على النشر والطباعة في ٥ فبراير ١٨١٠، على أن يجري العمل بالتنظيم الجديد
ابتداء من أول يناير ١٨١١، وبمقتضى هذا القانون أنشئت إدارة عامة «للرقابة»
أُلْحِقَتْ بوزارة الداخلية لها الإشراف على كل ما يَتَعَلَّق بشئون المطابع
والمكتبات — أي دور النشر ومحال بيع الكتب — وعُهِدَ إلى هذه الإدارة بإصدار
«جورنال عامٍّ للمكتبة والمطبعة» بمثابة قائمة بأسماء الكتب المطبوعة، والمطابع
التي تولت طبعها، ثم أُنْقِصَ عددُ المطابع في باريس إلى الستين فقط، وتَحَتَّمَ أن
ينال أصحابها ترخيصًا بممارسة عملهم، وأن يحلفوا يمينًا بالامتناع عن طبع شيء
يتعارض مع واجب الولاء للإمبراطور وصالح الدولة، وجُعِلَ للمدير العام الحق في وقْف
الطبع في أي وقت يشاء للأسباب التي يراها، ثم يحتم على أصحاب المكتبات — الذين لم
يُقَيِّد القانون عددهم — أن ينالوا ترخيصًا من الحكومة لمحالهم، وأن يُقْسِموا
نفسَ اليمين التي سَبَقَتْ، ثم لم يلبث أن تَحَدَّدَ بعد قليل عددُ الصحف التي يجب
إصدارها، فصدر قانون في ٣ أغسطس ١٨١٠ يُجِيزُ إصدار صحيفة واحدة فقط في كل مديرية،
بينما صدر من أجل تحديد الصحف في باريس قانون في أكتوبر من السنة نفسها يجيز صدور
أربع صحف فقط: كانت «المونيتور Moniteur» الجريدة
الرسمية، و«جورنال دي لامبير Jour-de l’Empire» —
وهو الاسم الذي صارت تُسَمَّى به الآن صحيفة «الجورنال دي ديبا» ذات الانتشار
الواسع، والتي كانت موضع نقمة نابليون — ثم «جورنال دي باري Jour-de Paris» — وكان مختصًّا بنقل أخبار المجتمع — وأخيرًا
جازيت دي فرانس Gazette de France، التي اهتمت
بالأنباء الدينية، وفي ١٨ فبراير ١٨١١ صدر قرار بالاستيلاء على (جورنال دي لامبير)
دون دفع أي تعويض لأصحابه، ثم لم يلبث أن تَبِعَ ذلك استصدارُ قرارٍ آخر في ١٧
سبتمبر ١٨١١ بمصادرة الصحف الباريسية الأخرى، وبذلك تكون قد قضت الإمبراطورية على
الصحافة في فرنسا، ومن الآن فصاعدًا لم يَعُدْ يُنْشَرُ شيء من الأنباء السياسية
إلا بموافقة الحكومة، ونادرًا ما كان يحدث هذا، وفي غالب الأحايين كانت هذه الأنباء
التي تذاع أنباء كاذبة.
ومثلما فُرِضَت الرقابة على الصحف — وكانت رقابة خانقة — خَضَعَ المسرح للرقابة
التي كانت أشد تدقيقًا وصرامة على نحو ما كان منتظرًا، حيث كان إقبال الجمهور على
المسرح عظيمًا في وقتٍ كان للمسرح الفرنسي نجومُه المتألقة، في شخص تالما Talma (١٧٦٣–١٨٢٦) الممثل الأثير عند نابليون نفسه،
ومدموازيل مارس Mars المتخصصة في هزليات موليير،
وماريفو Marivaux، ثم مدموازيل جورج Georges وغير هؤلاء.
وكان نابليون من المعجبين بالمسرح، وبالتمثيليات الجدية، وبتأثير من «تالما» لم
يتردد في تشجيع «الكوميدي فرانسيز» بمنح هذه المؤسسة مبلغًا جسيمًا من المال (يوليو
١٨٠٢، يناير ١٨٠٣)، ولكن الجمهور كان يُقْبِل على المسارح الصغيرة والتمثيليات
الخفيفة التي لا قيمة أدبية أو خلقية لها، وظَلَّ منصرفًا عن المسرح الجدي، حتى حدث
في بداية عام ١٨٠٦ أن لَفَتَ تاليران ومدام دي
ريميزا Rémusat — صاحبة المذكرات المشهورة عن حياة البلاط في عهد نابليون
— وغيرُهما، نَظَرَ نابليون للحالة السيئة التي صار إليها مسرحا الأوبرا، والأوبرا
كوميك، وحساباتهما المرتبكة، فقرر الإمبراطور أن يجعل صدور إِذْن منه ضروريًّا
لتأسيس أي مسرح، وأن يحيل على وزارة الداخلية حسابات المسارح لفحصها؛ حتى يمكن
تصفية المسارح التي يَثْبُت خَلَلٌ في ميزانيتها، ثم أُغْلِقَت المسارح القريبة من
«الكوميدي فرانسيز» بدعوى مراعاة الذوق والمحافظة على التقاليد، وطُلِبَ من مسرح
مشهور في حي الباليه رويال الانتقال إلى مكان آخر في تاريخ معَيَّن، وتَحَدَّد نوعُ
الاستعراضات في دار الأوبرا، بحيث اقتصرت هذه على رقصات الباليه، وحفلات الرقص
التنكري.
ولم تَمْنَع مشغولياتُ السياسة والحرب الإمبراطورَ من الاهتمام بالمسرح؛ فهو يكتب
في ١٧ مارس ١٨٠٧ إلى الإمبراطورة جوزفين، من أوسترود Osterode التي عَسْكَرَ بها عقب معركة إيلو Eylau: «أنها ما يجب أن تذهب إلا إلى المسارح العظيمة، وأن تشهد
التمثيلية دائمًا من مقصورة فخمة»، أما المسارح العظيمة التي عناها نابليون فإنه لم
يلبث بعد خمسة أسابيع فحسب أن صدر قرار (٢٥ أبريل ١٨٠٧) ببيانها عندما قُسِّمَت
المسارح إلى كبيرة وثانوية؛ فكان من الأولى: الكوميدي فرانسيز، والإمبراتريس
(الإمبراطورة) وهو حاليًا مسرح الأوديون Odéon،
والأوبرا، والأوبرا كوميك، وأما الثانية: فكانت مسارح الفودفيل والجايتيه Gaité وعدد كبير آخر من نفس هذه الطبقة.
وفي ٢٩ يوليو صَدَرَ قرارٌ آخر بجعل عدد المسارح ثمانية فقط، بما في ذلك المسارح
الأربعة الكبرى، وابتداء من ٦ أغسطس ١٨٠٧ «لم يعد في استطاعة مخلوق تأدية أية
مسرحية على غير المسارح المصرح بوجودها في باريس بأي عذر من الأعذار، ولا السماح
بدخول النظارة، حتى ولو كان ذلك بالمجان، ولا إلصاق أي إعلان أو توزيع أية تذكرة
مطبوعة أو مكتوبة بخط اليد دون الوقوع تحت طائلة العقوبات التي فَرَضَتْها القوانين
وسلطات البوليس على مرتكبي هذه الجرائم»، وبذلك تكون صناعة المسرح قد صارت صناعة
حكومية، وحياة المسرح وظائف إدارية وتشرف الدولة على ذلك كله إشرافًا
وثيقًا.
وفي ظل هذا النظام كان الحَجْر على الفكر الحر أمرًا طبيعيًّا؛ لأن الإمبراطور
الذي أراد بناء مجتمع يقوم على التجانس الفكري المرتبط بتلك «التعاليم والإرشادات»
الإمبراطورية التي سَبَقَ أن أشرنا إليها، لم يكن يرضى عن وجود الكتاب المستقلين في
إمبراطوريته، أو الفلاسفة وأولئك السياسيين الذين يعنون بشئون السياسة وبالتفكير في
مسائلها دون أن يكونوا من محترفي السياسة الذين تستخدمهم الدولة في وظائفها
الدبلوماسية؛ ولذلك فقد ألغى نابليون — كما شاهدنا — من أقسام «المجمع العلمي
Institut» قسم علوم الأخلاق والسياسة (في
يناير ١٨٠٣؛ أي من أيام القنصلية)، وشَرَعَ الإمبراطور يوجه عنايته إلى الطريقة
التي وَجَبَ — في نظره — أن يكتب بها تاريخ الأمة الفرنسية، فهو يبذل العطايا ويعطي
المرتبات السخية للكتَّاب الذين يسجلون تاريخه وسيرته، أو يكتبون تاريخ البلاد من
وجهة النظر التي يرضى هو عنها؛ من ذلك أنه عيَّن مبلغًا كبيرًا من المال لإنجاز
«الموجز التاريخي»
٢ الذي كان قد بدأه الشاعر والكاتب هينو
Hénault (١٦٨٥–١٧٧٠) رئيس برلمان باريس في القرن الماضي، ومَنَعَ من
ناحية أخرى نَشْرَ مُؤَلَّف مونلوزييه
Montlosier
(١٧٥٥–١٨٣٨) «دراسات في تاريخ فرنسا».
٣
وقد اشتهر صاحبها بكتاباته ضد اليسوعيين، ولذلك لم يكن عجيبًا أن يَقِفَ في صفوف
المعارضة ضِدَّ الإمبراطورية أعظمُ كاتبَيْن فرنسيين ظهرا في هذا العهد النابليوني،
هما شاتوبريان Chateaubriand، ومدام دي ستال Staël.
تلك إذن كانت الأسس التي قامت عليها تنظيمات الإمبراطورية وإصلاحاتها الداخلية،
وهي الأسس التي أنشأت تلك الديكتاتورية التي كان لا معدى عنها في اعتبار نابليون
لاستقرار الأمور في فرنسا بالصورة التي تَكْفُل بقاء الإمبراطورية كنظام للحكومة
الداخلية، ولتثبيت دعائم أسرة بونابرت — البيت الحاكم الجديد في فرنسا.
على أنه مما تَجْدُر ملاحظته أن هذه الأغراض المباشرة التي توخَّاها نابليون —
مِنْ فَرْض ديكتاتورية الإمبراطورية في الداخل — كانت ذات أَثَرٍ حاسم كذلك في
تشكيل علاقات الإمبراطورية بغيرها من الدول والحكومات في أوروبا، ولا ينال من قوة
هذا العامل — تثبيت أركان الإمبراطورية ذاتها وضمان بقاء بيت بونابرت الحاكم في
فرنسا — أن كانت السياسة التي اتبعها نابليون تهدف إلى دوام السلام العام، وفي دوام
السلام العام تثبيتٌ لعروش إمبراطوريته، أو أنها كانت تهدد بإشعال نار الحروب
دائمًا من أجل ضم أملاك جديدة إلى إمبراطوريته، وتوسيع رقعة هذه الإمبراطورية لعله
يجد في هذا الاتساع ذلك الاستقرار الذي ينشده لحكومته.
والحقيقة التي لا مشاحة فيها أن هذه الديكتاتورية الداخلية قد أعانته على المضي
في سياسة الغزو والحروب الخارجية، كما أنها كذلك وبالدرجة نفسها، قد ساعَدَتْ على
تقويض عروش إمبراطوريته عندما سدد الأعداء الخارجيون ضرباتهم ضد هذه الإمبراطورية،
وعبثًا حاوَل الإمبراطور استنهاض الهمم في أمة أنهكتها الحروب، وكان قد سَلَبَها —
مِنْ أَمَدٍ طويل — كُلَّ حرياتها.