الفصل الثالث
أوج الإمبراطورية: من أوسترلتز إلى تلست
١٨٠٥–١٨٠٧
قابلت أوروبا — بالقلق — إعلان الإمبراطورية وإنشاء تلك الديكتاتورية التي أخضعت
الفرنسيين لسلطان نابليون ووَضَعَتْ كل السلطة في يده، وأفزعت أصحاب التيجان في
أوروبا هذه السلطة التي صارت للإمبراطور بالرغم من أنه كان في تأسيس الإمبراطورية
ضمان لذلك النظام الاجتماعي، الذي جعل الملوك في أوروبا يتضامنون في مناصبة الثورة
في فرنسا العداء من أجل المحافَظة على العهد القديم بكل ما كان للطبقات العليا فيه
من حقوق وامتيازات.
ولكن مبعث الخوف من هذه الإمبراطورية النابليونية المستحدثة كان التغييرات
السياسية التي حصلت في أيام حكومة القنصلية في ألمانيا وإيطاليا وهولندة وسويسرة،
والتي كان «خُلُق» هذه الإمبراطورية ينبئ بأن «الاعتداءات» التي شكت منها «أوروبا
الشرعية» سوف تفقد هذه الصفة العدوانية في ظل السيطرة الفرنسية الجديدة، وتصبح
تغييرات «مشروعة» من المنتظر لها الاستمرار والبقاء ما دامت الإمبراطورية، ومن
المنتظر أن يتزايد الخطر بدرجة تهدِّد بزوال العهد القديم جملةً وبكل ما يشمل من
حقوقٍ وامتيازاتٍ للملوك «الشرعيين»، ما دام نابليون الإمبراطورُ قد جعل نصْب عينيه
دائمًا تثبيت دعائم أسرته (البيت البونابرتي) في الحكم — ليس في فرنسا وحدها، بل
وفي أوروبا — مع ما يستلزمه ذلك من اتخاذ إجراءات عسكرية لتوسيع رقعة الإمبراطورية
على حساب الحكومات «الشرعية» من جهة، ونشر المبادئ التي أتَتْ بها الثورة للحد من
سلطان هذه الحكومات في داخل بلادها، ثم تقويض عروشها في النهاية على أيدي رعاياها
من جهة أخرى.
ولقد ظَهَرَتْ بوادر هذا الخوف والقلق عندما امتنع أصحاب التيجان «الشرعية» في
أوروبا عن تهنئة نابليون بتتويجه إمبراطورًا، وشذَّ عن هؤلاء ملك إسبانيا وحده
«فردنند السابع» وكان مع ذلك بربونيًّا، ثم لم يلبث أن تألف ضد فرنسا — بكل سرعة —
ما صار يُعْرَف باسم التحالف الدولي الثالث.
فقد رَفَضَ نابليون وساطة القيصر إسكندر الأول الذي رغب في أن يُخلي الإمبراطور
الأقاليم المحتلة فيما وراء جبال الألب (إيطاليا) ونهر الراين (ألمانيا)، واستدعى
القيصر سفيره في باريس في أغسطس ١٨٠٤، وبقي بها قائم بالأعمال هو «الكونت دوبريل d’Oubril» الذي لم يلبث أن اسْتُدْعِيَ هو
الآخر في شهر أكتوبر من العام نفسه، وهذا بينما أَوْفَدَ القيصر إلى لندن مبعوثًا
«الكونت نيقولا نوفوسيلتزوف Novosiltsov»
يَحْمل تعليماتٍ لمحالَفة مع إنجلترة، ولكن حكومة لندن لم تكن راضية تمامًا عن شروط
هذه المعاهدة المعروضة عليها، وعلى ذلك فقد تأجَّل عقْدُ هذه المحالَفة؛ حتى
أَمْكَنَ الوصول إلى اتفاقٍ بين الحكومتين، فأُبْرِمَت معاهدةُ سان بطرسبرج بينهما
في ١١ أبريل ١٨٠٥.
وبمقتضى هذه المعاهدة صار «مفهومًا» أن فرنسا يجب أن تنكمش حدودُها إلى ما كانت
عليه قديمًا، وأن دولًا كبيرة يجب إنشاؤها على هذه الحدود «للسهر» على فرنسا، هي
هولندة التي تنضم إليها بلجيكا، وبيدمنت التي تضم إليها ليجوريا وبارما، ومن
المحتمل أيضًا لمبارديا، ثم بروسيا، وأن ينال القيصر إسكندر تعويضًا في بولندة، وقد
رفضت إنجلترة الدخول في مباحثات مع روسيا حول مسألة حقوق المحايدين وعدم خضوع
سُفُنِهم للتفتيش في أعالي البحار، وتَجَنَّبَت الخوض في موضوع السلام الدائم، الذي
كان يشغل ذهن القيصر إسكندر.
ومنذ ٦ نوفمبر ١٨٠٤ كانت النمسا قد عَقَدَتْ معاهدة سرية مع روسيا لضمان أراضيها
في إيطاليا، ولتقرير الوضع القائم في «الشرق»، ومع ذلك فقد ظلت مدةً من الزمن
مترددةً في إعلان خصومتها، والدخول في محالَفة سافرة ضد الرجل الذي أنزل بها كل
الهزائم القاصمة التي عرفناها من أيام «الحملة الإيطالية» المشهورة، ولكن النمسا لم
تلبث أن قررت الانضمامَ إلى المحالَفة الأوروبية عندما وجدت أن نابليون قد أحال —
بَعْد بضعة شهور من الاحتفال بتتويجه إمبراطورًا على الفرنسيين — جمهوريةَ
ما رواء الألب Cisalpine إلى مملكة سماها
مملكة إيطاليا، ثم تَوَّجَ نفسه ملكًا على هذه المملكة في ميلان في ٢٥ مايو ١٨٠٥،
ثم عيَّن يوجين بوهارنيه نائبًا للملك، ثم لم يلبث أن ضم نابليون إلى الأملاك
الفرنسية، جنوة (في ٤ يونيو)، ثم أعطى لوقا وبيومبينو Piombino إلى زوج شقيقته إليزا «باكيوشي Pacciocchi»، وجعل من مملكة إيطاليا وجمهورية ليجوريا وجنوة،
مديريات فرنسية أُدْمِجت في فرنسا في ٣٠ يونيو ١٨٠٥، وعندئذ انضمت النمسا إلى
محالفة سان بطرسبرج في ٩ أغسطس ١٨٠٥.
وبقيت بروسيا واقفة على الحياد؛ لأن غرضها الاستيلاء على هانوفر التي كان يحتلها
نابليون، والتي لم تكن بروسيا تدري ما إذا كان الإمبراطور سيتخلى عنها
لإنجلترة.
وكان نابليون — على نحو ما اعتقد فرنسوا الثاني — يهتم في هذا الحين اهتمامًا
جديًّا بمشروع غزو إنجلترة — بالرغم من قوة البحرية الإنجليزية المتفوقة على
البحرية الفرنسية تفوقًا كبيرًا — فأنشأ منذ ١٨٠٣ معسكرًا عند بولوني، وأرسل السفن
المُعَدَّة لنقل الجنود إلى المواني الشمالية، وأعَدَّ سبعة جيوش لهذا الغزو: في
إمبلتوز Ambleteuse «بقيادة دافو»، وفي بولوني
بقيادة «سولت»، وفي مونترويل Montreuil بقيادة
«ناي»، وفي أراس Arras بقيادة «لان»، بينما وقف
القائد «مورا» مع احتياطي الفرسان في الخلف، وتولى «مارمون» قيادة طرف الجناح
الأيمن عند «يوترخت»، بينما وقف أوجيرو في بريطاني Bretagne على طرف الجناح الأيسر، وكان على كل من هولندة وإسبانيا
والبرتغال تزويد هذا الجيش بالإمدادات المالية وبالسفن لمحاربة «طغاة
البحار».
وكان ضروريًّا العملُ ما أمكن لإخلاء «القنال الإنجليزي» — بحر المانش — من
الأسطول الإنجليزي؛ ليتسنى نقل جيش الغزو الفرنسي إلى الشواطئ الإنجليزية دون
تكبُّد خسائر؛ فتظاهر الإمبراطور بأن غَرَضَه الأول إرسال حملة إلى جزر الهند
الغربية، وخرجت لهذه الغاية بالفعل السفن الفرنسية بقيادة أمراء البحر «غانتوم» من
برست Brest، ومسيسي Missiessy من روشفور Rochefort،
ولاتوش-تريفيل Latouche-Treville الذي خلفه
فيلنوف Villeneuve من طولون.
وخرج الأسطول الإنجليزي بقيادة «كورنواليس» لمطاردتهم، ولكن «غانتوم» لم يستطع
الابتعاد كثيرًا من برست، بينما وصل «مسيسي» مبكرًا إلى جزر الهند الغربية بدرجة
أنه اضْطُرَّ إلى العودة إلى روشفور، حيث بقي مختبئًا بها، وأما فيلنوف الذي غادر
طولون في ٢٩ مارس ١٨٠٥ فقد وَصَلَ إلى المارتنيك في ١٣ مايو ولم يجد بها أحدًا،
وعندئذ أَمَرَهُ نابليون بالإبحار إلى فيرول Ferrol (طرف إسبانيا الشمالي الغربي)؛ ليجتمع بالأسطول الإسباني
بقيادة جرافينا Gravina ليعيد الكَرَّة من جديد في
الهند الغربية.
وقابل هذه الخطوة أمير البحر الإنجليزي نلسن — الذي طارد أسطول «فيلنوف» دون جدوى
— بأن أوصى بحشْد الأساطيل الإنجليزية عند رأس فينيستير Finisterre — على الساحل الإسباني الغربي إلى الجنوب من ميناء
فيرول — واشتبك زميله أمير البحر الإنجليزي «كالدر Calder» في معركة غير حاسمة مع الأسطول الفرنسي بقيادة «فيلنوف»
في ٢٢ يوليو ١٨٠٥؛ وعجز عن مَنْع فيلنوف من دخول ميناء فيرول، وعندما حاول فيلنوف
بعد ذلك — بسبب تبكيت نابليون الشديد له — الخروج من فيرول (١٧ أغسطس) للذهاب إلى
روشفور وبرست، منعته رياح معاكسة من متابعة السير، وصار مهدَّدًا بهجوم العدو عليه
بقوات متفوقة على قواته؛ فاضْطُرَّ للاتجاه إلى ميناء قادش Cadix «في الجنوب»، ومع أنه كتب إلى وزير البحرية يشكو من أن سفنه
في حاجة إلى الإصلاح والترميم، وأن الضباط والنوتية الذين يعملون على ظهرها تنقصهم
الخبرة والكفاءة، فقد صدرت إليه أوامر الإمبراطور بالإبحار صوب الشرق لتأييد الحملة
التي يقودها الجنرال «جوفيون سان سير» ضد صقلية.
وقرر فيلنوف — عندما هَدَّدَ الإمبراطور بأن يخلفه أميرٌ آخر للبحر — أن يخرج
بسفنه إلى عرض البحر في مأموريته الجديدة بالرغم من معارضة أركان حربه، فاستطاع
نلسن أن يلحق به على مسافة عشرين ميلًا من الميناء الإسباني بالقرب من رأس
الطرف الأغر Trafalgar، وفي المعركة التي دارت
في (٢١ أكتوبر ١٨٠٥) استطاع كولينجوود Collingwood
نائب أمير البحر الإنجليزي أن يَفْصِل أسطول جرافينا عن الأسطول الفرنسي، ويُلْحِق
بالأول هزيمة بالغة، اضطر بعدها جرافينا للانسحاب إلى قادش ليموت بها متأثرًا
بجراحه، بينما انتصر نسلن على الأسطول الفرنسي انتصارًا باهرًا، وإن كان نلسن نفسه
قد أصيب أثناء المعركة إصابة قاتلة أَوْدَت بحياته، فقد وقع فيلنوف في الأسر
وتَحَطَّمَت أو غرقت أكثر قطع الأسطول الفرنسي، وعندما قامت العاصفة في أول المساء
استطاع الضابط البحري الفرنسي دومانوار Dumanoir
العودة بفلول الأسطول الفرنسي-الإسباني إلى ميناء قادش، وكانت «الطرف الأغر» آخر
المعارك البحرية العظمى في عهد الإمبراطورية، ولم يتسع نابليون بعد هذه المعركة
التي قَضَتْ على أسطوله أن يعيد بناء البحرية الفرنسية؛ فصارت إنجلترة هي صاحبة
السيطرة الكاملة في البحار.
وانتهزت النمسا فرصة مشغولية نابليون بهذه العمليات البحرية وذيوع الاعتقاد بأنه
قد صَحَّ عَزْمُه على غزو إنجلترة؛ فبادرت بامتشاق الحسام وزحف إمبراطورها فرنسوا
الثاني على بفاريا، فعبر نهر الإن Inn (أحد فروع
الطونة) في ٧ سبتمبر ١٨٠٥ وفي ٩ سبتمبر استولى على ميونخ.
ولكن نابليون بالرغم من مشغوليته بمسألة غزو إنجلترة وحوادث الحرب البحرية
الخطيرة كان لا يفتر اهتمامه بالتدابير اللازمة لمواصلة الحرب البرية ضد أعدائه؛
فقد أملى على معاونيه منذ ١٣ أغسطس ١٨٠٥ وهو في بولوني نفسها خطة الحملة المقبلة؛
ولذلك فقد استطاع تحويل قواته الضخمة الممتدة من بحر المانش (القنال الإنجليزي) إلى
نهر الراين للزحف صوب نهر الدانوب، وكان زحفًا سريعًا، أوصل (الجيش الأعظم) بعد
عشرين يومًا فقط إلى ماينز Mainz، الأمر الذي جعل
القائد النمسوي «ماك Mack» يبادر بالزحف بدوره بكل
سرعة عبر الأراضي الألمانية من الجنوب؛ حتى يسد الطريق في وجه نابليون عند الغابة
السوداء ونهر الراين، ولكن نابليون انحرف بقواته نحو الشمال ولم يترك إلا جزءًا
يسيرًا من جيشه بقيادة «أوجيرو» يسير صوب ستراسبورج (أي نحو الجنوب)، ثم قصد عن
طريق وادي نهر «المين Main» (أحد فروع الراين) حتى
بلغ «ورزبورج Wurzburg»، ومن هذه انثنى إلى الجنوب
واستقر في مكان يسمى «دونويرث Donauwörth» خلف
«أولم Ulm» التي كان قد وصل إليها الجنرال
«ماك»، ثم احتل نابليون أوجزبرج، وبذلك قطع خطوط مواصلات النمسويين بعاصمتهم
فينَّا، ثم التحم مع الجنرال «ماك» في جملة معارك — منها معركة إلشنجن Elchingen التي ينسب إليها لَقَب الدوقية الذي حصل
عليه الجنرال ناي، وقد اضطر «ماك» إلى الانزواء في أولم والاحتماء بها بعد هذه
الالتحامات، حتى اضْطُرَّ إلى التسليم بها في ٢٠ أكتوبر ١٨٠٥ بعد حملة استمرت أربعة
عشر يومًا فقط، وبلغ عدد النمسويين الذين سلموا في أولم تسعة وعشرين ألف
مقاتل.
وكانت الخطوة التالية مواجهة جيوش روسيا التي حضرت لمعاونة حليفتها النمسا، وكانت
الجيوش الروسية بقيادة القيصر إسكندر والمارشال كوتوزوف Koutousov قد دَخَلَت الأراضي النمسوية، ووصلت طلائعها أمام
فينَّا، وكان القيصر قد ذهب إلى برلين لمقابلة ملك بروسيا فردريك وليم الثالث
وملكتها لويزا، حيث أقسم الملكان على قبر فردريك الأكبر في بوتسدام في ٣ نوفمبر
يمين الصداقة والولاء، وأَذِنَت الحكومة البروسية للقوات الروسية بالزحف عبر
أراضيها في سيلزيا من أجل الدخول في الأراضي النمسوية والوصول إلى فينَّا، وقد فعلت
حكومة بروسيا ذلك دون أن تعلن العداء ضد فرنسا.
وكان بسبب هذه التطورات الأخيرة، وصعوبة الموقف المالي والاقتصادي في داخل فرنسا
وقتئذ أن نصح تاليران بالاعتدال، وأشار على نابليون بتنفيذ سياسته؛ فيتخلى الآن عن
بروسيا، وعن كل محاولة للتفاهم معها، ويعمل من ناحية أخرى لعقد الصلح مع النمسا على
أساس تعويض هذه الأخيرة في الشرق — أي على حساب الإمبراطورية العثمانية — ولكن
نابليون لم يَأْبَهْ لهذه النصيحة، ودخل فينَّا في ١٣ نوفمبر ١٨٠٥، وعندما طلب
فرنسوا الثاني الهدنة اشترط نابليون أن تجلو أولًا القوات الروسية عن كل أراضي
النمسا، ولكن الروس رفضوا الجلاء، فشرع نابليون في مطاردتهم، وعندئذ اتجه القيصر
إسكندر صَوْب بروسيا، وأوفدت هذه وزيرها البارون دي
هوجويتز Haugwitz يحمل عروضًا للتوسط إلى المعسكر الفرنسي، فبلغه يوم ٢٨
نوفمبر، ولكن لم تَمْضِ أيام قليلة حتى حدث بالقرب من قرية أوسترلتز Austerlitz في صبيحة ٢ ديسمبر ١٨٠٥، أن دارت رحى
المعركة التي اشترك فيها أباطرة ثلاثة «فرنسا، النمسا، بروسيا» وانهزمت فيها القوات
الروسية النمسوية هزيمة بالغة، كانت كافية لإنهاء المحالفة الثالثة ضد فرنسا
والقضاء على أعضائها؛ فطلبت النمسا الصلح، وتقهقر قيصر الروسيا عن طريق بولندة،
واضطرت بروسيا إلى تناسي اتفاقاتها في بوتسدام، وشعرت إنجلترة — بالرغم من النصر
الذي أحرزته في «الطرف الأغر» — أنها هي الأخرى قد انهزمت في هذه الواقعة، فقال
وليم بيت: «لقد لحقت بي الإصابة أنا كذلك في أوسترليتز»، وتوفي بيت في ٢٣ يناير
١٨٠٦.
وعلى ذلك فقد عقدت الهدنة بين فرنسا والنمسا في أورشيتز Urchitz في ٦ ديسمبر ١٨٠٥، وعُقِدَت المعاهدات بين فرنسا وبين
حلفاء النمسا السابقين: بفاريا في ١٠ ديسمبر، وورتمبرج في ١١، وبادن في ١٢ ديسمبر
ورفع ناخبا بفاريا وورتمبرج إلى مرتبة الملكية، وناخب بادن إلى الغراندوقية، واتسعت
رقعة أملاك الثلاثة، وفي ١٥ ديسمبر فرض نابليون على النمسا معاهدة شونبرون Schoenbrunn، وبمقتضاها أُعْطِيَتْ هانوفر
لبروسيا، وفي مقابل ذلك تَنَازَلَتْ هذه عن أنسباخ Ansbach إلى بفاريا، وعن كليف ونيوشاتيل إلى فرنسا، ثم أبرمت
معاهدة الصلح النهائية مع النمسا في برسبورج Presburg في ٢٦ ديسمبر ١٨٠٥، وبمقتضاها تنازلت النمسا عن
إستريا Istria (ما عدا تريسته Triesta) ودلماشيا وكل فينيسيا Venetia إلى فرنسا لتضم إلى مملكة إيطاليا، وهذه الأقاليم تكفل
وصول السيطرة الفرنسية إلى بحر الأدرياتيك، ثم أخذت من النمسا كل الطرق المؤدية إلى
نهر الراين، وهي أقاليم: التيرول، فورارلبرج Vorarlberg (إلى الغرب من التيرول)، وترنتان «أو ترنت» Trentin Trent وأُعْطِيَتْ إلى فرنسا،
ولم تَنَل النمسا تعويضًا عن ذلك كله غير سالزبورج Salzbourg، وقد اعترفت النمسا كذلك بمَلِكَيْ بفاريا وورتمبرج
وبسيادتهما الكاملة على أملاكهما.
وكان معنى ذلك أن أتم صلح «برسبورج» عملية انهيار الإمبراطورية الرومانية المقدسة
والقضاء عليها نهائيًّا، وقد وقَّعَ فرنسوا الثاني على هذه المعاهدة بوصفه
«إمبراطورًا لألمانيا والنمسا»، ولكن لم تَمْضِ ستة شهور حتى كان فرنسوا الثاني قد
خَسِرَ لقب الإمبراطور على ألمانيا.
ولكن لم يَكَدْ يعود نابليون إلى باريس حتى رفضت بروسيا الإذعان لشروط معاهدة
شونبرون (١٥ ديسمبر)؛ فرفض فردريك وليم الثالث التنازل عن أنسباخ، وطالب بمدن اتحاد
الهانسا: برمن، وهمبورج، ومن المحتمل أيضًا لوبك، وأعلن الهانوفريين والإنجليز
بعزمه على البقاء في احتلال هانوفر حتى وقت السلام العام، وذلك بدلًا من القوات
الفرنسية أو القوات المتحالفة مع فرنسا، كما لو كان يبغي من هذا الإعلان نقض كل
اتفاق حصل مع نابليون الذي اعتبر هذه الخطوة من جانب بروسيا تدبيرًا غادرًا،
وأَخَذَ يتهيأ لحملة جديدة، بينما أُرْغِمَ البارون دي هو جويتز على التوقيع على
وثيقة تحتوي على نصوص معاهدة شونبرون وذلك في باريس في ١٥ فبراير ١٨٠٦، وكان على
بروسيا إذن أن تختار بين الحرب أو التصديق على هذه المعاهدة، واضطر فردريك وليم
الثالث إلى التصديق عليها.
وبسبب هذه الانتصارات قرر نابليون في ٢٦ فبراير ١٨٠٦ إقامة قوس نصر Arc de Triomphe تكريمًا «للجيش الأعظم» الذي جعل
الأمة الفرنسية تشعر بالمجد والفخار، وإن كانت لا تزال تبني آمالًا عظيمة على قدرة
عاهلها الذي أَضْفَتْ عليه من ذلك الحين لقب «العظيم Le Grand» في إعادة السلام إلى فرنسا ونَشْر ألويته في
أوروبا.
وفي نظر كثيرين لم تكن تسمية نابليون بالعظيم صادرة عن رغبة في منافَقَة الحاكم
الذي فَرَضَ ديكتاتوريته على الشعب الفرنسي، أو لإظهار فروض الطاعة والاحترام
لشخصه؛ وإنما صدرت عن شعور عميق بالإعجاب والتقدير، عبَّر عنه الرأي العام بإضفاء
هذا اللقب على العاهل الذي انتظرت الأمة الفرنسية — قبل أي شيء آخر — أن يستقر
السلام على يديه في الداخل والخارج معًا.
وقد بذل الإمبراطور (في يناير ١٨٠٦) قصارى جهده لتصفية الأزمة المصرفية، كما أعاد
النظر في تنظيم بنك فرنسا؛ فاستصدر في ٢٢ أبريل ١٨٠٦ قانونًا جَعَلَ من هذا المصرف
مؤسسة حكومية، ويُشْرِف على إدارته مدير تُعَيِّنه الحكومة، وإلى هذا العهد كذلك
يرجع تاريخ الإجراءات التي اتُّخِذَتْ بشأن الأوضاع السائدة وقتئذ في الحكومات أو
الدويلات التي أقامها نابليون في ألمانيا وإيطاليا.
ففيما يتعلق بإيطاليا أعلن الإمبراطور منذ ٢٦ ديسمبر ١٨٠٥ وهو في شونبرون، أن
«ماري كارولين ملكة نابولي — التي عرف الناس علاقاتها المشينة مع نلسن — لم تعد
تحكم نابولي»، وفي ١٩ يناير ١٨٠٦ كتب إلى أخيه جوزيف من شتوتجارت Stuttgart أنه يريد إنهاء حكم البربون في نابولي،
وأنه يريد أن يعتلي عرشَ هذه المملكة أحدُ أفراد أسرته، وبذلك تكون إيطاليا وسويسرة
وهولندة وممالك ألمانيا الثلاث (بفاريا وورتمبرج، وربما برج Berg بعد رفعها إلى مرتبة المملكة) الدولَ التابعة لنابليون
والمتحدة اتحادًا فدراليًّا مع فرنسا والتي تتألف منها الإمبراطورية الفرنسية،
وقَبِلَ جوزيف بونابرت إنشاء إدارة في نابولي بحماية القائدين الفرنسيين جوفيون سان
سير، وماسينا.
وفي ٣٠ مارس ١٨٠٦ أُعْلِنَ جوزيف ملكًا على الصقليتين، أي على نابولي، دون أن
يفقد حقوقه في عرش فرنسا، واضْطُرَّ فردنند الرابع ملك نابولي وزوجه «وأسرته» إلى
الاحتماء في جزيرة صقلية حيث نقلهما الأسطول الإنجليزي إليها، وقد ذَكَرْنا كيف أن
شقيقته «باولين» أُعْطِيَتْ إدارة جواستالا، وكذلك أُعْطِيَتْ شقيقته الأخرى
«إليزا» إمارة لوقا وبيومبينو Piombino، ثم
أُعْطِيَتْ بعد قليل غراندوقيةَ تسكانيا، وهكذا لم يعد مستقلًا في أملاكه بإيطاليا
غير البابا الذي احتج على احتلال الفرنسيين «أنكونا» في ١٣ نوفمبر ١٨٠٥، على أن
الإمبراطور لم يلبث أن قيد استقلال رئيس الكنيسة الأعلى؛ عندما أملى عليه نوعَ
السياسة التي وَجَبَ على البابا اتباعها في علاقاته الخارجية، ومنْعه من السماح
لمندوبي الدول المعادية لفرنسا بمقابلته، أو لسفنها بالدخول في موانيه، وهي دول
سردينيا (بيدمنت)، وإنجلترة، وروسيا، والسويد، وقد احتج البابا بيوس السابع على كل
هذه القيود، ولكن دون جدوى (٢١ مارس ١٨٠٦).
وفيما يتعلق بألمانيا؛ كانت إعادةُ تنظيمها مهمةً أكثر صعوبة وتحتاج إلى وقت
أطول، وكثير من الصبر والحذر، وقد بدأ نابليون بأن أنشأ على ضفة نهر الراين الأسفل
غراندوقية برج وكليف التي أعطاها لمورا (زوج شقيقته كارولين) في ١٥ مارس ١٨٠٦، ومع
أن هذه كانت دويلةً صغيرة؛ فقد كان ميسورًا أن تتسع رُقْعَتُها دائمًا بتهديد
اقتطاع هانوفر من بروسيا وضمها إليها، ثم إن نابليون مضى في «سياسة الزواج» التي
أراد بها توثيق العلاقات مع الأسرات الحاكمة الألمانية؛ فزوَّجَ يوجين بوهارنيه ابن
الإمبراطورة جوزفين، من الأميرة أوجستا Augusta
ابنة مكسمليان الأول ملك بفاريا (١٤ يناير ١٨٠٦)، وكانت هذه مخطوبة لوريث عرش بادن
الأمير شارلس، الذي زوجه الإمبراطور من قريبة الإمبراطورة «ستفاني تاشر Stephanie Tascher» في ١٨ أبريل ١٨٠٦، ثم زوج
شقيقه جيروم بونابرت من كاترين، ابنة ملك ورتمبرج (٢٣ أغسطس ١٨٠٧)؛ وبذلك صارت
الأسر الحاكمة الثلاث في ألمانيا الجنوبية مرتبطة بالأسرة الحاكمة في فرنسا، وفي ٦
مايو ١٨٠٦ قرر نابليون إلزام كارل دالبرج Dalberg
كبير مستشاري الإمبراطورية الألمانية وناخب ماينز ومطران راتزبون أن يختار
الكردينال فيش Fesch عم نابليون معاونًا له، ومن
حقه أن يخلفه في منصبه، ثم نال المارشال برثييه Berthier رئيس هيئة أركان الحرب العامة إمارة نيوشاتيل التي تخلى
عنها فردريك وليم الثالث ملك بروسيا، ثم كان من نتائج هذه السياسة كذلك — سياسة ربط
البيوت المالكة في أوروبا عمومًا بالبيت الإمبراطوري الفرنسي — أن سَمَّى نابليون
شقيقه لويس (وزَوْج هورتنس، ابنة الإمبراطورة جوزفين) ملكًا على هولندة (٢٦ مايو
١٨٠٦).
على أنه كان في ١٢ يوليو ١٨٠٦ أن تم في باريس توقيع المعاهدة التي تأسَّس بموجبها
«اتحاد الراين Confédération du Rhin» أجرأ
«تعديل إقليمي» أَوْجَدَهُ نابليون في ألمانيا، وكان هذا الاتحاد يتألف من ستة عشر
عضوًا هم: ملكا بفاريا وورتمبرج وغراندوقات بادن، هس درمستاد، وبرج، ثم كبير
مستشاري الإمبراطورية الألمانية «الأمير كارل دالبرج» وعشرة أمراء آخرين من أصحاب
الإمارات الصغيرة، ولعل أهم نتيجة عاجلة ترتَّبَتْ على هذا التعديل الإقليمي؛ أن
انفصمت العلاقة تمامًا بين «الاتحاد» الجديد، وجثمان الإمبراطورية الألمانية،
واختفت من الوجود نهائيًّا الإمبراطورية الرومانية المقدسة، حيث قد اشترطت المعاهدة
على كل عضو من أعضاء اتحاد الراين أن يبلغ المجلس الإمبراطوري (الدياط) أو
الدايت Diet قبل يوم أول أغسطس ١٨٠٦؛ أنه قد
انفصل تمامًا عن الإمبراطورية، وفي ٦ أغسطس تنازل فرنسيس (فرنسوا) الثاني عن لقب
إمبراطور ألمانيا، ومن ذلك التاريخ لم يَعُدْ إمبراطورًا إلا على النمسا وحدها فقط،
وذلك باسم فرنسيس الأول، أما نابليون فقد أعلن نفسه «حاميًا» للاتحاد، وسمى «كارل
دالبرج» كبير المستشارين، أي رئيس مجلس الاتحاد (أو الدياط)، ونقل مقر الدياط
الجديد من راتزبون إلى فرانكفورت، وكان على أعضاء اتحاد الراين تقديم المعونة
للإمبراطور في وقت الحرب، وأما جيوش الاتحاد (من ٣٦ ألف رجل) فقد وُضِعَتْ تحت تصرف
«حامي الاتحاد».
وبهذه الاستعدادات إذن استطاع نابليون مواجهة الموقف في أوروبا، ولم يكن يبدو
آنئذ أنَّ خَطَرَ الحرب قريب، بالرغم من أن إنجلترة كانت منذ ١٦ مايو ١٨٠٦ قد
مَنَعَت السفن الإنجليزية من الدخول إلى المواني الفرنسية والهولندية أو غيرها من
مواني البلاد المتحالفة مع فرنسا، وهدَّدَتْ بمصادرة السفن الفرنسية أو سفن البلاد
المحالفة لها إذا حاولت الدخول في المواني الإنجليزية والاستحواذ على المتاجر في
بطون هذه السفن والقبض على الأشخاص الذين يُعْثَر عليهم بها.
ومع ذلك فقد قامت المفاوضات — وقد اعترضَتْها الصعوبات — بين لندن وباريس من أجل
الوصول إلى اتفاق يعيد السلام إلى أوروبا، واشترك في هذه المفاوضات الكونت دوبريل
الذي كان قد أوفده القيصر إلى باريس بعد سحبه منها من نحو عامين مضيا تقريبًا لهذه
الغاية، وقد دارت المفاوضات حول مصبات كتارو Cattaro (على ساحل الأدرياتيك الشرقي جنوب دلماشيا)، التي كانت قد
احتفظَتْ بها معاهدة برسبورج لفرنسا، ولكن استمر الروسيون في احتلالها منذ شهر
مارس، ولما كان نابليون قد عاوَدَهُ حلم تقسيم أملاك الإمبراطورية العثمانية، فقد
رفض بقاء الروس في كتارو (في دلماشيا) مثلما رَفَضَ بقاء البربون (ملك نابولي
وملكتها) في صقلية؛ وعلى ذلك فقد وقَّعَ الكونت دوبريل مع الجنرال كلارك Clarke في ٢٠ يوليو ١٨٠٦ معاهدةَ سلام يتخلى
بمقتضاها القيصر عن كتارو، ولكن يستمر في احتلالها «الجزر السبع» و«جزر الأيونيان»،
ووعد نابليون بالحصول على جزر البليار من ملك إسبانيا لإعطائها لملك نابولي
(الصقليتين) ولكن القيصر إسكندر رفض التصديق على هذه المعاهدة.
وكان القيصر قد أفاد من مشغوليات نابليون، واستطالة المفاوضة معه لإعادة تنظيم
جيشه، ثم إنه نجح (منذ ١٢ يوليو) في انتزاع بروسيا من المحالفة مع فرنسا، وكانت
بروسيا تعتبر «اتحاد الراين» تهديدًا مباشرًا موجَّهًا لسيطرتها ولنفوذ أسرة
براندنبرج — البيت الحاكم بها — في ألمانيا الشمالية، ونقمتْ على نابليون «مسلكه
الغادر»؛ إذ إنه يعرض سرًّا إرجاع هانوفر إلى إنجلترة، فعَدَّتْ ذلك خيانة من
جانبه، على أن الموقف لم يلبث أن تغيَّر في إنجلترة عندما مرض وتوفي شارل جيمس فوكس Fox في (١٣ سبتمبر ١٨٠٦)، وتولى الحكم من
جديد الحزب المناوئ لفرنسا، وضاع بذلك كل أمل في إمكان الوصول إلى تسوية مع
إنجلترة.
وفي ٩ أغسطس قرر فردريك وليم الثالث التعبئة العامة، وفي ٢٦ سبتمبر بعث بإنذار
إلى نابليون تنتهي مُدَّتُه في ٨ أكتوبر، وزحف الجيش البروسي عبر أراضي سكسونيا
قاصدًا إلى الراين، وعندئذ أَسْرَعَ نابليون لمقابلة البروسيين؛ فوضع قواته في
مواجهتهم في خط يَمْتَدُّ من جوتا Gotha إلى
إيينا Jena من أجل الاستيلاء على «إيينا»،
وتقع على نهر سال Saal أحد فروع نهر الإلب Elbe، وقطع مواصلات البروسيين بالعاصمة «برلين» بفضل
السيطرة على كباري السال، فحاول البروسيون اجتياز النهر بالقوة، ولكن الفرنسيين
أقاموا مدفعية قوية على المرتفعات الغربية، وأنْزَلُوا بالبروسيين هزيمة بالغة (وقد
اشترك في المعركة من قواد نابليون كل من: أوجيرو، لان، سولت، وناي، وكذلك فرسان
مورا)، فحاوَل البروسيون العثور على مكان إلى الشمال يجتازون منه النهر ولكن دون
جدوى، بل لم يلبثوا أن اصطدموا مع الفرنسيين بقيادة «دافو» عند أورشتاد Auerstadt، واشتبك معهم دافو في معركة حامية
بالرغم مِنْ نُصْح الجنرال برنادوت له بالتريث (وكان على مسافة غير بعيدة منه)؛
لتفوُّق البروسيين عليه؛ إذ يبلغ عددهم ٧٠٠٠٠، بينما جيشه يبلغ ٢٥ ألفًا فقط، ولكن
«دافو» دحر البروسيين وأرغَمَهُم على التقهقر صوب «فايمر Weimar»، وقد كافأ نابليون «دافو» بإعطائه لقب دوق أورشتاد، وكانت
هذه الواقعة — واقعة إيينا وأورشتاد — في ١٤ أكتوبر ١٨٠٦.
ولم تلحق الهزيمة في هذه الواقعة بالجيش البروسي وحده وحسب، بل لحقت الهزيمة
بالأمة البروسية قاطبة؛ ذلك أنه بينما كان الجيش الذي استمر يطارده الفرنسيون في
بوميرانيا Pomerania، وميكلمبورج Mecklembourg يلقي سلاحَه أمام العدو، عَجَزَتْ
المدن المحصنة والقلاع القوية عن المقاومة، وسلمت ستيتن Stettin إلى طلائع فرسان الجنرال لاسال Lassalle في ٢٨ أكتوبر، وسلمت مَجْد بِرْج إلى الجنرال ناي في ٨
نوفمبر، وفعلت ذلك أيضًا كاسترين Custrin التي
عَرَضَ حاكمها البروسي على القوة الفرنسية الصغيرة التي سَلَّمَ لها أن يزودها
بالقوارب لعبور نهر «الأودر»، وفي ٢٧ أكتوبر ١٨٠٦ دخل نابليون برلين، وهكذا كما قال
هنريك هايني Heine: «لقد نفخ نابليون بفمه على
بروسيا، فلم يعد لبروسيا وجود.»
ولقد بقي نابليون وسط حروبه القارية هذه مشغولًا كذلك بنضاله مع إنجلترة؛ فكان
وهو يعسكر في برلين أن ابتكر نوعًا جديدًا من الحرب ضد هذه الدولة، وذلك بأن استصدر
يوم ٢١ نوفمبر ١٨٠٦ مرسومات برلين المشهورة لفرض الحصار على إنجلترة بإنشاء ما
يُعْرَف باسم «الحصار القاري Blocus Continental»،
وقد اتخذ نابليون هذه الخطوة كإجراء مضاد لقرار الإنجليز الذي مر بنا في ١٦ مايو ضد
السفن الفرنسية، فأعلن «في مرسومات برلين» أن إنجلترة قد صار الحصار مضروبًا عليها،
وحَرَّمَ التعامل التجاري معها والاتصال بها، وإلا تَعَرَّضَ فاعِلُ ذلك للعقوبة
الصارمة، وجُعِلَتْ مَتَاجِر وممتلكات الرعايا البريطانيين خاضعة للمصادرة،
ومُنِعَتْ كل السفن الآتية من إنجلترة أو من مستعمراتها، أو التي زارت في طريقها
إحدى المواني الإنجليزية من دخول المواني الفرنسية، وصار يقبض على كل الرعايا
الإنجليز، سواء في فرنسا أو في البلاد المحالِفة لها، أو التي تحتلها فرنسا.
وتلك كانت قرارات خطيرة، فهي ولا شك قد زادت من حدة الأزمة الاقتصادية في فرنسا
وفي القارة الأوروبية، ولم يكن من المنتظر أن تتحمل الإمارات والممالك الخاضعة
لسلطان نابليون — والتي تؤلِّف جزءًا من إمبراطوريته أو تلك المتحالفة معه —
مَضَارَّ هذا النظام القاري طويلًا، هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى فإن فرنسا لم يكن
لديها البحرية التي يَسَعُها السهر على نظام يقتضي تنفيذه وجود السفن الحربية
الكافية لمراقبة الحصار المفروض على الجزر البريطانية، ثم على المواني الأوروبية في
الأملاك الواسعة الخاضعة للإمبراطورية.
وكان فردريك وليم الثالث قد انسحب في تقهقره إلى كوينجزبرج Konigsberg ينتظر بها قيصر روسيا الذي كان يزحف على رأس جيشه صوب
نهر الفستيولا، وما إن علم نابليون باحتشاد الروس عند الفستيولا حتى غادر برلين
قاصدًا إلى بولندة في الأيام الأخيرة من شهر نوفمبر ١٨٠٦، وكان الوطنيون البولنديون
يُعَلِّقون على نابليون آمالًا عظيمة في أنه سوف يعيد للأمة البولندية استقلالها
القديم، وأفاد نابليون من هذا الشعور نحوه؛ فأنشأ «ألايًا بولنديًّا» من الفرسان
البولنديين المشهورين بالفروسية، وضم إليهم عددًا من البروسيين الفارِّين من صفوف
الجيش البروسي، وقد يكون الإمبراطور قد فَكَّرَ فعلًا في إعادة تأسيس بولندة
المستقلة القديمة، على أن يُعَوِّض النمسويين عن فقدهم غاليسيا التي سوف تُضَمُّ
إلى بولندة، وذلك بإعطائهم سيلزيا، واقترح على فرنسيس الأول إمبراطور النمسا أن
يعيد إليه سيلزيا التي انتزعها فردريك الثاني (الأكبر) من ماريا تريزا، وأضافها إلى
أملاك بروسيا، ولكن الإمبراطور لم يذهب في نشاطه إلى أبعد من هذا، عندما كان كل ما
اهتم به هو أن يمتنع عن فعل شيء فيه إغضاب لروسيا التي كان يبغي الاعتماد عليها في
نضاله ضد إنجلترة، وهي الدولة التي كان من المستعصي عليه عقد السلام معها.
واتخذ نابليون مقره في وارسو التي وصل إليها في ١٩ ديسمبر ١٨٠٦، وأقام معسكره
بها، (وكان عندئذ أن تَعَرَّفَ بماري
والسكي Walweska المشهورة)، ومن وارسو أثناء شتاء ١٨٠٦-١٨٠٧ صار نابليون
يَحْكُم الإمبراطورية، ويُشْرف على الحكومة، ويُصْدر أوامره لأعضاء مجلس الدولة
الذين حضروا إليه لتَلَقِّي هذه الأوامر، ومن المتفق عليه أن نشاط نابليون الذهني
قد بَلَغَ ذروته مدة إقامته في معسكر وارسو.
ولم يلبث الروس، الذين تولى قيادتهم الآن الجنرال بنيجسن Bennigsen أن استأنفوا نشاطهم في منتصف شهر يناير ١٨٠٧، وحاول أن
يُقَسِّمَ الجيش الفرنسي إلى قسمين، بتوجيه الهجوم ضد قوات برنادوت الذي وقف عند
طرف الجناح الأيسر عند البنج Elbing على أمل
الإلقاء به وبجيشه إلى البحر «البلطيق»، ولكن برنادوت قاوم هذه المحاوَلة مقاوَمةً
صادقة عند «موهرونجن Mohrungen» (في ٢٦ يناير
١٨٠٧)، وعندئذ تحوَّلَ بنيجسن صَوْب كونيجزبرج خشية أن يستطيع نابليون تطويق جيشه،
وفي طريقه إلى هذا المكان الأخير توقف عند «إيلو Eylau» حيث دارت بهذا المكان رَحَى معركة عظيمة وسط الثلوج
المتساقطة والتي غطت أرض المعركة، وكانت بمثابة الستار الكثيف الذي يحجب حركات
الجيوش المتقاتلة (٨ فبراير ١٨٠٧)، فقد كاد يقضي على قوات الجنرال «أوجيرو» بسبب
هذا الثلج الكثيف؛ لعجزه عن ملاحظة تحركات الجيش الروسي؛ فاستطاع الفرسان الروس
الإحاطة بنابليون، وكاد هؤلاء أن يأسروه لولا هجمات الجنرال مورا الباسلة، وقد
استطاع «مورا» اختراق صفوف المشاة الروس، ثم كفل تحقيق النصر أخيرًا وصول «دافو»
و«ناي».
وبعد هذا النصر (الغالي الثمن) في أيلو، عَسْكَرَ نابليون «بالجيش الأعظم» عند
أوسترود Osterode، التي صار يبعث منها الأوامر
والتعليمات إلى الحكومة بباريس، يطلب إقامة الأعياد احتفالًا بالانتصارات التي
أحرزها الجيش، ويؤنب الصحف على الأخطاء التي ترتكبها، ويدافع عن ذكرى ميرابو الذي
هاجمه أحد أعضاء المجمع العلمي، ويأمر بطرد مدام دي
ستال Staël … إلى غير ذلك.
وفي أول أبريل ١٨٠٧ استقر به المقام في قصر فينكنشتاين Finckenstein (إلى الشمال الغربي
من أوسترود، وكلاهما في بروسيا الشرقية)، وفي هذا المكان أخذ يُعِدُّ الخطة ويدبرها
ضد روسيا: (١) فهو من نهاية مارس كان قد بدأ حصار دانزج Danzig وكانت ذات أهمية كبيرة بسبب المؤن العظيمة المخزونة بها،
ولموقعها الإستراتيجي على ميسرة «الجيش الأعظم»، حيث يمكن أن تَنْزِل بها القوات
الروسية والإنجليزية أو السويدية، وكان يقوم البروسيون بقيادة المارشال كالكروت Kalkreuth عن دانزج ضد الفرنسيين الذين يحاصرونها
بقيادة ليففر، وقد سلمت دانزج في ٢٦ مايو. (٢) ثم
إن سباستياني ممثل الإمبراطور في تركيا، استطاع أن يجعل السلطان العثماني «سليم
الثالث» يعلن الحرب على روسيا في ٢٤ ديسمبر ١٨٠٦، وكان الروس قد غزوا ملدافيا
(البغدان)، ثم إنه قام بتحصين القسطنطينية بدرجة جعلت الأسطول الإنجليزي بقيادة
دكويرث Duckworth — بعد أن كان قد اقتحم
الدردنيل في ١٩ فبراير ١٨٠٧ — يرتد على أعقابه في ٢ مارس، ولقد صار «سباستياني»
المستشار الفعلي للسلطان الذي قَرَّرَ إرسال جيش عثماني على نهر الدانوب من أجل
الانضمام إلى جيش القائد الفرنسي مارمون Marmont
الذي يحتل دلماشيا. (٣) ثم إن نابليون لم يلبث أن أبرم في فينكنشتاين معاهدة مع
فارس للمحالَفة ضد روسيا وإنجلترة في ٤ مايو ١٨٠٧.
وبفضل هذه الخطوات إذن صار يبدو أن روسيا — ابتداء من حدودها الجنوبية عند تركيا
وفارس إلى حدودها الشمالية عند البلطيق — قد باتت تحت رحمة نابليون، ولكن كان لا
مَفَرَّ من إحراز نصر حاسم، وبدرجة أعظم مما حصل في إيلو، حتى يرضخ الروس الذين
صلوا لله شكرًا على النصر الذي زعموه لأنفسهم في هذه المعركة، ويرضخ حليفهم فردريك
وليم الثالث الذي كان بعد واقعة إيلاو هذه قد جَدَّدَ اتفاقه مع الروس في
بارتنشتاين Bartenstein منذ ٢٦ أبريل
١٨٠٧.
وعند فريدلاند Frideland إذَنْ في ١٤ يونيو
١٨٠٧، وهو يوم ذكرى واقعة مارنجو، أنزل الفرنسيون هزيمة بالغة بالروس الذين اضطر
قائدهم بينجسن Bennigsen إلى الفرار بفلول جيشه
صوب نهر النيمين «نيامن Niemen»، والتخلي عن
الدفاع عن كونيجزبرج التي دخلها «سولت» في ١٧ يونيو، واشترك من القواد في واقعة
فريدلاند كل من لان Lannes، ومورتيه Mortier، وناي Ney، ثم مورا الذي لم يلبث مع فرسانه أن احتل تلست Tilst يوم ١٩ يونيو.
وشعر القيصر إسكندر بالخيبة بعد توالي هذه الهزائم وضاعت ثقته في حلفائه، ورغب في
السلام؛ فطلب مقابلة نابليون، واستجاب الإمبراطور لهذه الرغبة، فأعد لمقابلة
العاهلين رمث وسط مجرى النيمن يوم ٢٥ يونيو، واستطاع نابليون وإسكندر تقرير مبادئ
الصلح بكل سرعة، وعبثًا حاول الاطمئنان على مصير بلاده، ملك بروسيا فردريك وليم
الذي انتظر واقفًا على الشاطئ تحت المطر الغزير مدة الساعات الثلاث التي استغرقتها
مقابلة العاهلين، وقد وافق نابليون — إرضاءً للقيصر — على عقد الهدنة مع بروسيا،
ولكنه رفض إرجاع حصونها إليها.
وفي اليوم التالي (٢٦ يونيو) حصل اجتماع ثانٍ حَضَرَهُ فردريك وليم، ولكن نابليون
أَظْهَرَ كل ازدراء نحو الرجل الذي وصفه بضيق الأفق، وضعف الشخصية ونقص الكفاءة،
وعبثًا حاوَلَتْ لويزا ملكة بروسيا إنقاذَ بلادها بذرف الدموع والإلحاف المستند على
جمالها، حيث تقرر أن تكون بروسيا الدولةَ التي تتم تسوية الصلح على حسابها، فتم
توقيع الصلح بين فرنسا وروسيا في ٧ يوليو ١٨٠٧ «في تلست»، وفي ٩ يوليو بين فرنسا
وبروسيا، ففقدت بروسيا كل أراضيها غرب نهر الإلب، والولايات البولندية التي كانت قد
ضمتها إليها في تقسيم ١٧٩٣، ثم الجزء الجنوبي من بروسيا الغربية الذي كانت قد حصلت
عليه في سنة ١٧٧٢، وهذا بينما أُعْطِيَتْ «كوتباس Cottbus» إلى سكسونيا، وصارت دانزج مدينةً حُرَّةً تحت حماية
سكسونيا وروسيا المشتركة، وقد رضي نابليون أن تبقى بروسيا مكونةً من مديريات أو
أقاليم أربعة فقط هي: دوقية براندنبرج، ودوقية بوميرانيا، ثم سيليزيا العليا
وسيليزيا السفلى، أي بالرقعة التي كانت عليها مملكة بروسيا في بداية سنة ١٧٧٢، وعلل
نابليون موافقته على الإبقاء على بروسيا بحدودها المنكمشة هذه بأنه إنما فعل ذلك
استجابة لرغبة قيصر روسيا، الذي يُهِمُّ نابليون أن يقيم الدليل بالإبقاء على
بروسيا نزولًا على رغبته، على أنه يعتز بصداقة إسكندر ويبغي أن يقوم بين الدولتين —
روسيا وفرنسا — اتحادٌ على أسس من الصداقة الخالصة والثقة الكاملة، وهكذا فَقَدَتْ
بروسيا نحو نصف مساحتها ونصف عدد سكانها الذين صاروا الآن أقل من خمسة ملايين نسمة،
وزيادة على ذلك فقد طَلَبَ من بروسيا الاعتراف بالإمارات والممالك التي أوجدها
نابليون، فهي (أي بروسيا) قد تَخَلَّتْ عن أقاليمها على يسار نهر الإلب ليضيف إليها
نابليون الجزء الأكبر من هانوفر، ويؤسِّس من هذه الأراضي مملكةَ وسْتفاليا التي
نودي بأخيه جيروم ملكًا عليها، ثم إن بروسيا فقدت ولاياتها البولندية لتتألف منها
دوقية وارسو تحت حكم ناخب سكسونيا الذي صار ملكًا، بينما أُعْطِيَتْ بيالستوك Bialystok لروسيا، وبمقتضى المادة السابعة
والعشرين من معاهدة ٩ يوليو تَعَهَّدَ فردريك وليم بإغلاق بلاده في وجه السفن
والتجارة الإنجليزية.
وفي المعاهدة التي وُقِّعَتْ بين فرنسا وروسيا (في ٧ يوليو ١٨٠٧)، ذَكَرَتْ
موادها كل هذه الأقاليم التي أُخِذَتْ من بروسيا، وأن بروسيا لم تَسْتَبْقِ
ولاياتها الأربع السالفةَ الذكر إلا احترامًا من نابليون لرغبة القيصر.
وكان نابليون قد اقترح بالفعل إزالةَ بروسيا من الوجود كلية؛ حتى يصبح نهر
الفستيولا الحدَّ الفاصل بين الإمبراطوريتين الفرنسية والروسية، ثم إن المعاهدة
ذَكَرَتْ كذلك الطريقة التي أراد بها الفصل في مصير هذه الأراضي المأخوذة من بروسيا
لإنشاء مملكة وسْتفاليا ودوقية وارسو.
وقد اعترف القيصر إسكندر بكل هذه الإجراءات والترتيبات، كما اعترف بتلك التي
سَبَقَ أن أجراها نابليون في ألمانيا وإيطاليا، ثم تخلى القيصر عن كتارو وجزر
الأيونيان، ووعد بالاعتراف بجوزيف بونابرت ملكًا على نابولي (الصقليتين) إذا
أُعْطِيَ ملكها فردنند جُزُرَ البليار أو جزيرةَ كريت تعويضًا له، وكان القيصر —
كما سلف القول — قد رَفَضَ التصديق على المعاهدة التي وَقَّعَهَا مندوبه الكونت
دوبريل في باريس في يوليو من العام السابق بشأن كتارو والأيونيان والبليار، وإلى
جانب هذا قَبِلَ القيصر وساطة نابليون لعقد السلام بين تركيا وروسيا، بينما قبل
نابليون وساطة القيصر لعقد السلام بين فرنسا وإنجلترة.
وفي اليوم نفسه (٧ يوليو) أُبْرِمَتْ معاهدة سرية لعقد محالفة بين فرنسا وروسيا،
تَعَهَّدَ الحليفان بمقتضاها بمعاونة كل منهما الآخر بكامل قواته، أو بالقدر الذي
يحصل الاتفاق عليه عند نشوب القتال بين أحد الطرفين وبين أية دولة أوروبية،
ونَصَّتْ على أنْ يُبْلِغ قيصرُ روسيا نواياه إلى إنجلترة بأنه سوف ينحاز إلى جانب
فرنسا إذا رَفَضَتْ إنجلترة وساطة روسيا، أو رفضت إبرام الصلح حتى يوم أول نوفمبر
١٨٠٧ على أساس اعترافها بحق الدول في حرية الملاحة في البحار، والتخلي عن كل
الفتوحات التي استولت عليها إنجلترة منذ ١٨٠٥ في مقابل إعادة هانوفر إليها، وفي هذه
الحالة تُدْعَى الدنمارك والسويد والبرتغال والنمسا لإعلان الحرب على إنجلترة، فإذا
رفضت السويد ذلك دُعِيَتْ الدنمارك للقتال المشترك ضدها.
ونَصَّت المعاهدة السرية على أنه إذا رفضت تركيا وساطة فرنسا انحازت هذه إلى جانب
روسيا ضد الباب العالي، وفي هذه الحالة تتفق الدولتان (روسيا وفرنسا) على تحرير كل
الولايات الأوروبية الخاضعة للدولة العثمانية، فيما عدا الروملي والقسطنطينية،
وهكذا يكون نابليون قد تخلى عن صداقته ومُحَالَفَتِه لتركيا.
ولقد تَذَرَّعَ نابليون — لتبرير هذه الخطوة المنطوية على الخديعة — بأنَّ
مؤامرةً في السراي طَوَّحَتْ بعرش السلطان سليم الثالث، وأَفْضَتْ إلى موته يوم ٢٩
مايو ١٨٠٧، ليتولى مكانه السلطان مصطفى الثالث، فإن نابليون عند وصول أبناء هذا
الانقلاب إلى تلست لم يلبث أن اعتبره من فعل الإله لإقامة الدليل على أن
الإمبراطورية العثمانية لم يعد ممكنًا بقاؤها.
وتم التصديق على المعاهدة الروسية الفرنسية في تلست يوم ٩ يوليو، ولقد تَرَتَّبَ
على هذه الاتفاقات التي أُبْرِمَتْ في تلست أن تَدَعَّمَ نفوذ نابليون في القارة
الأوروبية بأسرها، وبالصورة التي تجعله قادرًا على أن يجعل من «الحصار القاري»
أداةً فعَّالَة يهدد بها إنجلترة، فالجنود الفرنسيون يحتلون دانزج — المدينة الحرة
— وبروسيا تحتلها القوات الفرنسية حتى تدفع الغرامة المفروضة عليها، والقيصر إسكندر
قد اعترف بالتغييرات الإقليمية التي حصلت في ألمانيا: إنشاء اتحاد الراين، ومملكة
وسْتفاليا، كما اعترف بمملكة هولندة «ومِلْكية لويس شقيق الإمبراطور عليها»،
وبمملكة نابولي في إيطاليا وملكها جوزيف بونابرت.
أما نابليون فقد عاد إلى باريس في ٢٧ يوليو، وكتب الكونت دي سيجور
Ségur (كبير الأمناء) في مذكراته:
إن الإمبراطور في ثمانية عشر شهرًا اشتبك في مائة واقعة وأربع معارك
كبيرة، وحَطَّمَ أربعة جيوش وخَلَقَ ستة ملوك جدد (هم ملكا بفاريا وورتمبرج
سنة ١٨٠٦، وملك سكسونيا سنة ١٨٠٧، ومن بين أفراد أسرته جوزيف بونابرت، ملك
نابولي، ولويس بونابرت ملك هولندة سنة ١٨٠٦، وجيروم بونابرت ملك وسْتفاليا
سنة ١٨٠٧)، ثم إن جميع الدول العظمى في القارة الأوروبية من بطرسبرج إلى
نابولي الذين كانوا قد تحالَفُوا ضده بمسعى إنجلترة تحولوا الآن ضد هذه
الدولة.
لقد بلغت الإمبراطورية النابليونية في تلست أَوْج رفعتها، ولقد كان نابليون نفسه
يدرك هذه الحقيقة، ويعترف بأن أسعد أيام حياته كانت تلك التي اقْتَرَنَتْ
بالانتصارات السياسية والعسكرية التي تَوَّجَتْها اتفاقات تلست، فقد سئل فيما بعد
وهو بمنفاه في سانت هيلانة عن أسعد الأوقات في حياته، فأجاب: «ربما كانت هذه أيام
أن كنت في تلست؛ فقد كنت متوجًا بأكاليل النصر، أُمْلِي القرارات وأَسُنُّ
القوانين، ويَحُفُّ بي الأباطرة والملوك كأنهم من رجال حاشيتي.»
وفي فرنسا نفسها كان الإمبراطور يستمتع بالسيطرة المطلقة؛ فلا مقاوَمة ولا
اضطرابات، فهو قد أَنْقَصَ عدد المسارح الشعبية في باريس إلى ثمانية فقط، بمقتضى
قرار ٢٩ يوليو ١٨٠٧ الذي مرَّ بنا ذِكْرُه، على أن أهم تغييرٍ حَدَثَ في هذه الفترة
لدعم أركان سيطرة الإمبراطور الفردية كان اتخاذ بعض الإجراءات ضد «مجلس التربيون»
الذي وُصِفَ بأنه لا يزال يحتفظ — بعض الشيء — بذلك الروح المضطرب الديمقراطي الذي
تَسَبَّبَ — من مدة طويلة — في إثارة المتاعب بفرنسا، فقد صدر قرار من مجلس الشيوخ
في ١٩ أغسطس ١٨٠٧ بإلغاء مجلس التربيون، وبأن ينضم أعضاءه إلى المجلس التشريعي الذي
جُعِلَ سِنُّ القبول به لا يَقِلُّ عن الأربعين سنة، وانتقلت اختصاصات مجلس
التربيون إلى ثلاث لجان من هذا المجلس التشريعي.
وفي ١٥ أغسطس ١٨٠٧ احتفلت باريس بالنصر الباهر الذي أحرزه نابليون، احتفالًا
فَاقَ بفخامته كل الاحتفالات السابقة، وكان هذا الاحتفال — بشهادة «فوشيه» —
احتفالًا «قوميًّا» بكل ما ينطوي عليه هذا الوصف مِنْ مَعْنًى؛ فلم يكن الاحتفال —
على حد قول فوشيه — لتكريم البطل نابليون، بل لتمجيد العاهل الذي شاء الإله أن يكون
هدية السماء إلى الأمة الفرنسية.
ومع ذلك فمما لا شك فيه أن تلك الإمبراطورية — التي بَلَغَتْ أَوْج الرفعة في
تلست — كانت نتيجةَ جهودٍ بَذَلَهَا شخصٌ واحد، وارتَبَطَ مصيرها بمصيره، وهي
إمبراطورية كان من الواضح أن بقاءها مُرْتَهن كذلك بدوام تلك المحالفة مع روسيا،
وهي المحالفة التي اعتمد عليها نابليون في تنفيذ سياسة الحصار القاري، أكبر إجراء
مُوَجَّه ضد إنجلترة، ارتبط بنجاحه بقاءُ الإمبراطورية النابليونية، كما كان لا
معدى عن انهيار الإمبراطورية في النهاية إذا قُدِّرَ له الفشل، ولكن المحالفة مع
روسيا لم تكن عملًا من المنتظَر دوامُه، ومن الواضح أنَّ ثمة عوامل عديدة تجعل هذه
المحالفة بين العاهلين إجراءً شخصيًّا لا يستند إلَّا على أطماعهما ومصالحهما
الذاتية فحسب، ولا يستهدف تسويةً تَكْفل الاستقرار في أوروبا، فإذا حَدَثَ أيُّ
اختلاف بينهما انحلت المحالَفة.
وقد تُحَدِّق الأخطار بعدئذ بالإمبراطورية من كل جانب، وذلك كان مبعث الضعف في
ذلك الصرح الشامخ الذي أقامه العاهل الفرنسي في تلست، وكما كتب دي سيجور أيضًا: إن
اليد التي رَفَعَتْ عماد هذا البناء في وسعها وَحْدَها أن تحفظه قائمًا، وفي وسعها
وَحْدَها كذلك أن تهدمه.
وفي السنوات التالية سوف تُبَرْهِن الحوادث على مَبْلَغ صِدْق هذه
الملاحظة.