الفصل الخامس
نهاية الإمبراطورية
من حملة روسيا إلى غزو فرنسا (١٨١٢–١٨١٤)
لقد كانت المحالفة الروسية الفرنسية تنطوي من أول الأمر على العوامل المؤدية إلى
تحطيمها في النهاية؛ فالإمبراطور أَغْدَقَ على القيصر عبارات المجاملة وأَظْهَرَ
إعجابه بالعاهل الروسي، وفَعَلَ مثل ذلك القيصر نحو نابليون، سواء في مقابلاتهما
على الرمث الذي أُقِيمَ وسط نهر النيامن، أو في تلست أو في أرفوت، ولكن بالرغم من
مظاهر الصداقة من الجانبين، والمحالَفة العلنية والسرية التي رَبَطَتْ بينهما، فقد
كان واضحًا أن الاتفاقات التي أُبْرِمَتْ كانت تخدم «مصالح» وتقوم على «تسويات» إن
اعتبرها الطرفان تخدم مآربهما العاجلة، من حيث حمل القيصر على إقرار الترتيبات
الإقليمية التي نَجَمَتْ من وجود الإمبراطورية النابليونية، والموافقة على سياسة
الحصار القاري ضد إنجلترة، وامتداد النفوذ الفرنسي إلى الشرق على حساب الدولة
العثمانية، والتعهد بوقف النمسا عن قتال الإمبراطور حتى يتفرغ لحربه الإسبانية، وكل
ذلك تعزيزًا للسيطرة النابليونية في أوروبا في النهاية.
ومن حيث إن القيصر كان يجد من ناحيته في هذه المحالَفة وسيلة لمد نفوذه، وتوسيع
أملاكه في بحر البلطيق خصوصًا، وتحقيقًا لحلم القيصرية القديم على حساب الدولة
العثمانية كذلك، وإن كان القيصر لم يَفُزْ بأي وَعْد بشأن استيلائه على
القسطنطينية، فقد كان من الواضح أن هذه المحالَفة إنما تخدم مصالح «وقتية» لم يجد
كل من الطرفين محيصًا عن التسليم في الظروف القائمة وقتئذ بأن المحالفة — سواء رضي
بها كلاهما في أعماقهما، أم ارتضياها نزولًا على واقع الموقف الراهن — إنما هي
الوسيلةُ التي يمكن أن تَضَعَ موضع الاختبار — لفترة محددة من الزمن — متاخَمَةَ
الإمبراطوريتين الكبيرتين: الفرنسية والروسية بعضهما لبعض، حتى إذا طرأ «تغيير» على
واقع هذا الموقف الراهن ووَجَدَ أحد الطرفين أو كلاهما أن المحالَفة التي أُبْرِمَت
والإمبراطورية النابليونية في أَوْجِها (في تلست وإرفورت ١٨٠٧-١٨٠٨) قد صارت بعد
بضع سنوات فقط (١٨١١) متعارضة مع المصالح التي ينشدها أحدهما أو كلاهما بعد اتساع
هذه الإمبراطورية، وتعدُّد ميادين النضال فيها بسبب سياسة الحصار القاري، وبداية
المقاومة الأهلية في بعض أنحاء أوروبا واشتدادها في إسبانيا خصوصًا، كان لا معدى
حينئذ عن أن يطرأ «تغيير» على هذه المحالفة ذاتها، بتحرر الطرفين أو أحدهما من
التزاماتها.
ولا جدال في أن «تغييرًا» طرأ على الموقف في أوروبا في السنوات الأربع التالية
للمحالفة (١٨٠٧–١٨١١)، ولا جدال في أن «تغييرًا» قد تَبِعَه كذلك وتَأَثَّرَتْ به
المحالَفة الروسية الفرنسية، بدرجة أَفْضَتْ إلى انحلالها، ولا جدال في أن انحلال
هذه المحالفة قد تَرَتَّبَ عليه من الآثار ما يجعله في عداد العوامل التي أدت إلى
انهيار الإمبراطورية النابليونية في النهاية.
أما أسباب «التغيير» الذي طرأ على المواقف فمتعددة، لعل أهمها:
- أولًا: أن القيصر إسكندر بعد اتفاق إرفورت (١٢ أكتوبر ١٨٠٨)، لم يصنع
شيئًا لمنع النمسا من دخول الحرب ضد نابليون، ولم يُقْبِل الروس
(حلفاؤه) على الحرب ضد النمسا إلا بفتور ورخاوة، وأما الجزء من
غاليسيا الذي كان نصيبَ القيصر من هذه الحرب (في صلح شونبرون)، فقد
اعتبره الروس ضئيلًا، ثم إن الزواج النمسوي كان عملًا ذا نتائج
خطيرة، حتى إن أحد موظفي البوليس جرؤ على الكتابة إلى «فوشيه» أن
الحرب مع روسيا سوف تكون النتيجة الحتمية لزواج الإمبراطور من
أميرة نمسوية، ومع أن القيصر رَفَضَ زواج إحدى أميرات الروس من
نابليون، فقد نُظِرَ إلى هذه المصاهرة النمسوية على أنها مؤذنة
بحصول انقلاب في محالفات الإمبراطورية الفرنسية، وذلك لصالح
النمسا، ثم لم يلبث أن ظَهَرَ أَثَرُ التغيير في البلاط
الإمبراطوري في باريس عندما صار «مترنخ» السفير النمسوي يتقدم في
المكان على سفير روسيا البرنس كوراكين Kourakine.
- ثانيًا: أن امتداد نظام الحصار القاري جَعَلَ العلاقات متوترة بين
البلدين: فرنسا وروسيا، وزاد من توتُّر العلاقات بين العاهلَيْن:
الفرنسي والروسي، وكان الروس في حاجة لإنجلترة التي يُصَدِّرُون
إليها القمح والأخشاب والبوتاس (الملح) والقطران (القار) والغراء،
بينما من ناحية أخرى دفعوا أثمانًا باهظة في شراء الحلي وأدوات
الزينة من المصنوعات الفرنسية التي وَجَدَتْ منذ ١٨٠٧ سوقًا مفتوحة
في روسيا، وفي ٣١ ديسمبر ١٨١٠ صدر قانون (أو قرار قيصري) فَرَضَ
ضريبة على المنتجات الفرنسية الآتية بطريق البر إلى روسيا، بينما
سَمَحَ لكل السفن بتفريغ بضائعها — حتى البضائع الإنجليزية ذاتها —
في المواني الروسية ما دامت هذه السفن تابعة لدول محايدة، وقد زاد
من حدة سوء التفاهم بين القيصر ونابليون ما حدث من إعلان هذا
الأخير في ١٨ فبراير ١٨١١ ضم الشواطئ الألمانية، وخصوصًا إمارة
«أولدنبرج» إلى الإمبراطورية.
- ثالثًا: أن المسألة البولندية زادت الهوة اتساعًا بين إسكندر ونابليون،
فمن المعروف أن غراندوقية وارسو كانت قد أنشئت سنة ١٨٠٧ على حساب
بروسيا، ثم اتسعت مساحتها في سنة ١٨٠٩ على حساب النمسا، وصار
يُخْشَى الآن من إحياء مملكة بولندة القديمة، وأن تزداد مساحتها
مرة أخرى، وعندئذ تكون هذه الزيادة باسترجاع المقاطعات التي كانت
أَخَذَتْها روسيا في عهد كاترين الثانية من بولندة في التقسيمات
الثلاثة المعروفة في سنوات ١٧٧٢، ١٧٩٣، ١٧٩٥، وقد جَعَلَ هذا
الخوفُ القيصرَ لا يَكُفُّ عن التفكير في هذا الاحتمال، ويحاول
الحصول من نابليون على ضمانات للمستقبل في هذه الناحية، فهو يقدم
لنابليون بواسطة وزيره روميانتزوف مشروعًا في يناير ١٨١٠، ولكن
نابليون يرفض التقيد باتفاقات معينة تُعَطِّل حرية العمل في
المستقبل، ولو أنه صار يبذل قصارى جهده لتطمين القيصر من ناحية
المسألة البولندية، ثم إن القيصر صار يعمل من جهة أخرى لاستمالة
البولنديين أنفسهم لفصم علاقاتهم بالإمبراطور، فعرض على البرنس
آدم تزارتورسكي Czartoryski —
وهو صديق له من أيام الطفولة، وزعيم البولنديين الوطنيين الآن — أن
يبعث إلى الوجود بولندة القديمة بحدودها التي كانت لها قبل التقسيم
الأول سنة ١٧٧٢ تحت ضمانته، ثم حَاوَلَ تنفيذ مآربه بتدبير عصيان
عسكري في مارس ١٨١١، لم يلبث القائد الفرنسي دافو Davout أن قابله بتقوية الحامية في
وارسو.
وعلى ذلك فقد تَمَيَّزَتْ سنة ١٨١١ بقيام مفاوضات طويلة بني العاهلين الفرنسي
والروسي، ولكن دون جدوى، حيث اختار كلاهما سياسيين جدد لهذه المفاوضة، فاستبدل
نابليون الجنرال لورستون Lauriston بسفيره في سان
بطرسبرج «كولينكور» الذي اعتبره «روسيًّا أكْثَرَ من اللازم»، بينما بعث القيصر في
مهمة خاصة ياوره تشيرنيتشيف Tchernytchev ليكون
إلى جنب سفيره في باريس البرنس «كوراكين» الذي اعتبره القيصر «فرنسيًّا أكثر من
اللازم»، فلم تُسْفِر هذه المفاوضات إلا عن زيادة حِدَّة الخلاف لدرجة انفجار
نابليون ضد «كوراكين» أثناء استقبال رسمي للهيئة الدبلوماسية في ١٥ مارس ١٨١١، حيث
قال الإمبراطور: «لسْتُ قاصرَ الإدراك لدرجة أن أصدق أنك مشغول بمسألة «إمارة
أولدنبرج»؛ لأني أدرك تمامًا أن مسألة بولندة هي التي تستأثر بتفكيرك، وإنكم
لتفترضون مشروعات في صالح بولندة، ولكني بدأت أعتقد أنكم إنما تبغون أنتم الاستيلاء
عليها، وإني لن أتخلى عن شبر واحد من الأراضي الفارسوفية، حتى لو عَسْكَرَتْ جيوشكم
على مرتفعات مونمارتر.»
والحقيقة أن كلا الفريقين بسبب هذا الموقف الذي كان لا يفتأ يزداد سوءًا من وقت
إلى آخر، كانا حينئذ يجهزان جيوشهما ويبذلان قصارى جهدهما لاستمالة الدول للتحالف
معهما؛ تهيؤًا للحرب التي لم يعد هناك مفر منها.
أما القيصر إسكندر الذي اصطدمت مشاريعه في بولندة بذلك الولاء الذي أَظْهَرَه
البولنديون وتَمَسَّكوا به نحو الإمبراطور الفرنسي، والذي عَبَّرَ عنه الشاعر
البولندي ميكيفتش Mickiewicz، ودل عليه وجود ذلك
العدد العظيم من البولنديين في خدمة «الجيش الأعظم»، فقد كان في وسعه الاعتماد على
السويد، ذلك أن الحرب بين السويد وروسيا — التي استمرت حوالي سنة ونصف سنة وانتهت
باستيلاء روسيا على فنلندة (١٨٠٩) — لم تترك جروحًا دامية بين الدولتين، ولم يلبث
أن حَدَثَ تقرُّب بينهما عندما احتل نابليون بوميرانيا السويدية في يناير ١٨١٢، بل
سرعان ما ارتمت السويد في أحضان القيصر، وكان وليُّ عهد السويد وقتئذ المارشال
برنادوت الذي صار يقوم بنيابة الحكم الآن في السويد.
وفي ٥ أبريل ١٨١٢ عَقَدَ إسكندر وبرنادوت معاهَدَة لتعويض السويد عن فَقْدها
فنلندة، بإعطائها النرويج (معاهدة سان بطرسبرج)، وتأكد الاتفاق في مقابلة
آبو Abo في ٣٠ أغسطس «في فنلندة على ساحل
البلطيق»، وقد حصل القيصر على ضمانة إنجلترة لهذا الاتفاق بشأن النرويج في ٣ مايو،
وأبرم مع إنجلترة اتفاقًا في يوليو، وكذلك مع إسبانيا في الشهر نفسه، أَضِفْ إلى
هذا أن القيصر حتى يتفرغ تمامًا لمُنَازَلَة نابليون لم يلبث أن سوَّى علاقاته
بتركيا، بأن عقد مع هذه الأخيرة معاهدة بوخارست في ٢٨ مايو ١٨١٢ تَنَازَلَ بموجبها
السلطان العثماني لروسيا عن أراضي ملدافيا (الأفلاق) الواقعة شرق نهر البروث، ووعد
بإصدار عَفْو عن أهل الصرب، ووَافَقَ القيصر في مقابل ذلك أن يحتل جنود عثمانيون
الحصون الصربية.
وأما نابليون الذي لم يَعُدْ في وسعه الاعتماد على محالفة مع السويد أو مع تركيا،
فقد أَصَرَّ على أن يضم إليه — وبالرغم منهما — كلًّا من بروسيا والنمسا، وقد
حَذَّرَ من برلين السفيرُ الفرنسي سانت
مارسان Saint-Marsan والعملاءُ الفرنسيون الإمبراطورَ، كما فَعَلَ ذلك
أتو Otto من فينَّا، حتى لا ينخدع بالوعود
المعسولة وحسب، فأبرم الإمبراطور معاهدة مع بروسيا في ٢٤ فبراير ١٨١٢، وضعت بروسيا
بمقتضاها عشرين ألف جندي بقيادة الجنرال يورك دي وارتنبرج Yorck de Wartenburg تحت أوامر الجنرال الفرنسي ماكدونالد، ثم أبرم
مع النمسا معاهدة في ١٤ مارس ١٨١٢ وَضَعَت النمسا بمقتضاها ثلاثة عشر ألف مقاتل
بقيادة شوارزنبرج تحت تصرف الإمبراطور، وعلاوة على ذلك فإن الولايات المتحدة
الأمريكية التي أَغْضَبَتْها القوانين الصادرة في إنجلترة لفرض الحصار البحري على
فرنسا والإمبراطورية النابليونية، وتدعيم سيطرة الأسطول الإنجليزي في البحار — وقد
سبقت الإشارة إلى هذه القوانين — لم تلبث أن أعلنت الحرب على إنجلترة في ١٨ يونيو
١٨١٢، «بالرغم من أن إنجلترة ألغت هذه القوانين في ١٧ يناير من العام نفسه؛ لأن
اتخاذ هذه الخطوة جاء متأخرًا.»
في ٢٥ أبريل ١٨١٢، أرسل القيصر إلى نابليون ما يُشْبِه إنذارًا حربيًّا، يَطْلب
منه قبل كل شيء جلاء الجنود الفرنسيين من بوميرانيا السويدية، حتى إذا حدث ذلك أمكن
بحث مسألة أولدنبرج والوسائل التي يتسنى بها تطبيق نظام الحصار القاري، وأَجَّلَ
نابليون الجواب على هذا الإنذار، ثم غادر باريس فجأة في ٩ مايو، ومعه زوجه ماري
لويز، قاصدًا إلى درسدن، حيث استقبله بها يوم ١٧ مايو ملك سكسونيا فردريك أوجستوس الأول Augustus الذي كان قد أُعْطِيَ
غراندوقية وارسو في صُلْح تلست، وقد استقبل نابليون استقبالًا رائعًا بوصفه «عاهل
أوروبا»، وأفاد نابليون من وجوده في درسدن، واصطحاب زوجه معه ليوثق صلاته بأصدقائه
وحلفائه «الحقيقيين»، فتذرع بدعوى إسعاد ماري لويز بمشاهدة والديها، ليدعو كل أعضاء
أسرتها، ودعا مع هؤلاء أيضًا الأمراء الألمان، وملك بروسيا نفسه، واستمرت
الاحتفالات من ١٧ إلى ٢٩ مايو، ثم لم يلبث بعدها أن بعث بزوجه إلى براج في بوهيميا،
ثم قصد هو إلى بوزن Posen في بولندة، ولكنه لم يشأ
أن يزور وارسو التي أعلن بها «مجلس الدياط» وسط حماس أعضائه قرب إعلان استقلال
بولندة، فبادر بحله السفير الفرنسي في وارسو «برادت L’abbé de Pradt» رئيس أساقفة مالين Malines، واعتقد نابليون أن الحرب سوف تكون قصيرة الأجل، لا تزيد
مدتها على ثلاثة شهور وحسب، وفي ٢٢ يونيو ١٨١٢ أعلن الإمبراطور لجيشه «أن الحرب
البولندية الثانية قد بدأت».
وكان عددُ جيش نابليون عند دخول المعركة ضد روسيا لا يقل عن ٦٧٨٠٠٠ مقاتل، وأكثر
قواته من الفرق الأجنبية، من البلدان الحليفة للإمبراطورية أو التي ضمتها هذه
إليها، فكان عدد البولنديين (بزعامة بونياتوسكي Poniatowski) سبعين ألفًا، وأما الباقون فكانوا من سكسونيا بقيادة
الجنرال الفرنسي رينييه Jean Rynier، ومن وستفاليا
بقيادة جيرون بونابرت، وإيطاليا بقيادة البرنس يوجين بوهارنيه، والجنرال مورا،
وبفاريا بقيادة الجنرال ديروي Deroy، والبرنس
ريد Wrede الجنرال البفاري كذلك، ثم من هولندة
وسويسرة وإسبانيا (ولم يشغل الجنودَ الإسبانيين غيرُ التفكير دائمًا في الهرب
والتخلف من الخدمة)، وبروسيا (٢٠ ألفًا بقيادة يورك)،
والنمسا (٣٠ ألفًا بقيادة شوارزنبرج)
وغيرها.
وبلغ عدد جنسيات الأجناد المشتركين في هذه الحملة نحو العشرين، «يتكلمون كل
اللغات» ولم يكن الأجناد الفرنسيون أنفسهم يؤلفون نصْفَ قوة هذا الجيش، ومن بين
هؤلاء حاول كثيرون الهرب، ودأبوا على عصيان الأوامر، فكان في رأي عدد من المؤرخين
من الصعوبة بمكان، لانعدام التجانس بين وحداته ولسوء نظام التموين، منع هذا الجيش
من ارتكاب أعمال النهب والسلب في طريقه، وأما قواده فكانوا: دافو، وناي، ويوجين في
قيادة «الجيش الأعظم»، وبسيير Bessières وليففر
ومورتييه يقودون الحرس «الإمبراطوري»، ومورا على الفرسان، ومكدونالد وأودينو
وجوفيون سان سير والبروسيون في الجناح الأيسر، وجيروم ورينيه، وشوارزنبرج (القائد
النمسوي) في الجناح الأيمن، بينما وَقَفَ خَلْف نهر الفستيولا الجنرال فيكتور على
رأس القوات الاحتياطية الأولى، ثم وقف «أوجيرو Augereu» مع القوات الاحتياطية الثانية خلف نهر الأودر، على أن
تتقدم القوات الاحتياطية جميعها في الزحف أمامًا مع تحركات جيش الغزو، وفيما عدا
هذا بقي في فرنسا ١٥٠ ألف جندي، وفي إيطاليا خمسون ألفًا، وفي إسبانيا ٣٠٠ ألف، أي
إن كل جيوش نابليون بلغ عددها ١١٨٨٠٠٠ مقاتل، دَخَلَ منهم روسيا لغزوها ٥٥٣
ألفًا.
وأما الجيش الروسي فقد بلغ ٣٥٠ ألف مقاتل موزَّعين في جيشَيْن: جيش الشمال بقيادة
ليفونيان باركلاي دي
توللي Livonien Barcly de Tolly، ويليه في القيادة الجنرال ويتجنستاين Wittgenstein، ثم جيش الجنوب بقيادة البرنس باجراتيون Bagration، وقد تَعَزَّزَتْ قواته فيما بعد
عندما انْضَمَّتْ إليه أجناد الأميرال تشيتشاجوف Tchitchagov الآتية من نهر الدانوب (الطونة)، وكان حماس هذه الجيوش
الروسية عظيمًا لقتال الغزاة المعتدين، كما كان إيمان الجنود عميقًا بروسيا
المقدسة، وأما الرقيق، رقيق الأرض الذين كان في وسع نابليون أن يجمعهم حوله
بالمناداة بتحريرهم، فقد استثارهم النبلاء بدافع العقيدة الدينية لكراهية الفرنسيين
المنشقين على الدين، والقتال ضدهم، وأفلحوا في تحريك حماسهم عندما أطمعوهم في نهب
مخازن (الجيش الأعظم) ومؤنه وعتاده.
وعَبَرَ نابليون نهر النيامن (الحدود الروسية) يوم ٢٤ يونيو ١٨١٢، وهذا وقت متأخر
نسبيًّا، لقرب مجيء فصل الشتاء في روسيا، وفي ٢٨ يونيو دخل فيلنا Vilna، وكتب للإمبراطورة ماري لويز: «إن أعماله تسير
بصورة طيبة جدًّا، وإن العدو قد فشل في خططه تمامًا»، وكان القيصر إسكندر يعيش في
فيلنا منذ بداية شهر أبريل، وكان قد جمع «مؤتمرًا» بَعَثَتْ إليه الأممُ التي
أَخْضَعَها نابليون لسلطانه، مندوبين من كل أنحاء الإمبراطورية من الوطنيين
المتقدين حماسًا لتحرير أوطانهم من السيطرة النابليونية «الأجنبية»، كان من بينهم
أرندت Arndt المشهور بعدائه الكبير ضد فرنسا
منذ ١٨٠٥ خصوصًا، وستين Stein السياسي البروسي،
وكلاهما يُعَبِّر عن الروح القومية (الوطنية) السائدة في ألمانيا ضد
«الإمبراطورية».
ولكن ما إن جاءت الأخبار مُنْبِئة بعبور نابليون نهر النيامن — وكان القيصر يقيم
حفلًا راقصًا — حتى اضطر إسكندر إلى مغادرة فيلنا بكل سرعة.
وفي ١٧ يوليو غادر نابليون فيلنا، فوصل إلى فيتبسك Vitebsk في ٢٨ يوليو، ولم يحصل أثناء هذا الزحف اشتباك بين
الجيشين ما عدا بعض المناوشات البسيطة تجنب باركلاي دي توللي قائد جيش الشمال
الروسي أثناءها الالتحامَ مع الفرنسيين، وعَوَّلَ نابليون على إجبار الروس على
الاشتباك في معركة كبيرة عند سمولنسك Smolensk،
المكان الذي كان منتظرًا اتحاد جَيْشَيْ روسيا به (الشمالي بقيادة باركلاي دي
توللي، والجنوبي بقيادة باجراتيون)، ولكن في اللحظة التي يُحْكِم فيها نابليون
مناورته لتطويق سمولنسك وقَطْع خط الرجعة على القوات الروسية، يعتمد هؤلاء إلى حرق
المدينة، ويتقهقرون بسرعة (١٨ أغسطس)، فيطاردهم «ناي» مطاردة عنيفة، ويلتحم معهم في
معركة عنيفة عند فالوتينا Valoutina-Goro، ولكن
دون أن يُلْحِق بالجيش الروسي هزيمة حاسمة.
ودلت هذه المعركة (فالوتينا) في رأي كثيرين من ناحية الفن الحربي، على نجاح الخطط
العسكرية الفرنسية، وعلى أن السبب الأكبر في هزيمة الروس هو أن قوادهم عجزوا —
للخلافات التي بينهم — عن تنسيق جهودهم وتحركاتهم، ومع ذلك فقد عَجَزَ نابليون من
ناحية أخرى عن إدراك ذلك النصر الحاسم الذي كان ضروريًّا لإنهاء حملة سنة ١٨١٢ قبل
حلول فصل الشتاء؛ وعلى ذلك فإنه بدلًا من الاستقرار في هذا المكان مع جيشه حتى
يُحَصِّن خطوطه ومواقعه على نهري دوينا Dwina،
ودنيبر Dnieper ويَنْظُر في إعادة تنظيم
بولندة وليتوانيا (وقد اجتاز أراضي ليتوانيا في زحفه)، لم يلبث أن غادر سمولنسك في
ليل ٢٤-٢٥ أغسطس في وقت كان الحر شديدًا خانقًا، والمستشفيات ملأى بالجرحى — تحت
عناية الجراح لاري Larrey — وزحف نابليون صوب
موسكو المدينة المقدسة والتي لن يتخلى عنها الروس — كما اعتقد نابليون — دون أن
يلتحموا مع الغزاة في معارك دامية، ويتسنى للعاهل الفرنسي حينئذ أن يُنْزِل بهم
الهزيمة الفاصلة والتي تُمَكِّنه من العودة إلى باريس، ثم الاجتماع بزوجه ماري لويز
قريبًا، كما كتب لها في ٢ سبتمبر، وفي كتابه هذا إلى زوجه أشار «نابليون» إلى كل
تلك الحروب التي خاضها بنجاح منذ تسعة عشر عامًا، ثم إلى الحرب الراهنة التي وَعَدَ
بأنه سوف ينهيها سريعًا.
أما الروس تحت قيادة «كوتوزوف Koutousov» — وكان
من أصل روسي عريق جَعَلَهُ يتميز عن زملائه القواد الذين كانوا من أصول أجنبية
وليست روسية خالصة، ويثير لهذا السبب نفسه الحماس في نفوس جنوده — نقول: إنهم
استطاعوا تحصين مواقعهم في بورودينو Borodino
تحصينًا قويًّا على شواطئ كالوتشا Kalotcha الذي
يَصُبُّ بعد مسافة قريبة في نهر موسكو Moscowa.
وقد وَصَلَ الفرنسيون أمام هذه التحصينات يوم ٧ سبتمبر، ولكن الهجوم الذي قام به
هؤلاء «بقيادة يوجين، وناي، ومورا خصوصًا» أرغم الروسيين على التقهقر وإخلاء
تحصيناتهم، وكاد «دافو» أن يُلْحِقَ بهم هزيمة ساحقة لو أن نابليون رضي بإعطائه
الحرس الإمبراطوري الذي استبقاه نابليون كقوة احتياطية أخيرة «ويبلغ الثماني عشرة
ألف مقاتل»، وعلى ذلك تَمَكَّن الروس من الإفلات، بعد أن بلغ ضحاياهم من القتلى
والجرحى خمسة وأربعين ألفًا، وكانت خسائر الفرنسيين في هذه الموقعة (بورودينو) عشرة
آلاف قتيل، وأربعة عشر ألف جريح.
وتابع «الجيش الأعظم» زحفه بعد «بورودينو»؛ فسار في سهول مقفرة تَرَكَهَا
الفلاحون الذين تقهقروا أمام الغزاة الزاحفين بعد أن أتلفوا الزراعة، وخرَّبوا
كُلَّ أَثَرٍ للعمران، واعتمد نابليون و«الجيش الأعظم» على أن موسكو — عند بلوغها —
سوف تعوضهما خيرًا عن كل المشقات التي صادفاها في هذا الزحف، بفضل ما بها من مخازن
مليئة بالمؤن والأغذية والعتاد، وما بها من خزائن مفعمة بالكنور … إلخ، واعتمد
نابليون على الالتحام في معركة فاصلة أخرى سريعة، تُمَكِّنه من الاستقرار في موسكو،
وقد صار فصل الشتاء الروسي على الأبواب من جهة، وتَمَكُّنه من تموين جيشه من جهة
أخرى.
ولكن الروس بقيادة «كوتوزوف» دائمًا، والذين تقهقروا من بورودينو إلى موسكو، كان
قد صَحَّ عَزْمهم على عدم تعريض مصير جيشهم للخطر بالاشتراك في معركة كبيرة أخرى مع
الفرنسيين، إذا حاربوا من أجل الدفاع عن موسكو؛ فقرروا إخلاءها، وأدرك الروس — إلى
جانب هذا — أن الفرنسيين سوف تحل بهم الهزيمة لا محالة عند مجيء الشتاء، إذا وجدوا
أنفسهم في أرض العدو، تفصلهم مسافات شاسعة عن قواعِدِهم ومخازِن مؤنهم وعتادهم،
وذلك كله دون حاجة لقتالهم والاشتباك معهم في أية معارك؛ وعلى ذلك فإن الجيش الروسي
لم يلبث أن غادر موسكو في ١٤ سبتمبر ١٨١٢ متسللًا من شوارعها وهو في طريق هربه إلى
كولومنا Kolomna، وتبعه في انسحابه أكثر أهل
موسكو، وكان قد سبق جلاء النبلاء والطبقات العليا من البلدة، كما نقلت منها المخازن
والأشياء الثمينة، فلم يَبْقَ بها الآن غير قليلين (من الطبقات الدنيا) وأُخْلِيَتْ
موسكو تمامًا، وفي مساء اليوم نفسه (١٤ سبتمبر ١٨١٢) دَخَلَتْ طلائع الجيش الفرنسي
موسكو، وفي اليوم التالي (١٥ سبتمبر) اتَّخَذَ نابليون مَقَرَّه في قصر الكرملين Kremlin محل إقامة القياصرة من قديم الزمن في هذه
العاصمة التي أَقْفَرَت الآن من أهلها.
وكتب نابليون إلى ماري لويز من قصر الكرملين:
إن مدينة موسكو تشبه في ضخامتها باريس، فيها من قباب الأجراس (١٦٠٠)، ومن
القصور الجميلة (١٠٠٠)، والمدينة مجهزة بكل شيء، ومؤثثة تأثيثًا
كاملًا.
ولكن منذ ١٩ سبتمبر لم يعد نابليون يذكر هذه القصور «التي تُضَارع في
جمالها قصر الأليزية» في باريس، والمؤثثة على الطراز الفرنسي، وفي بذخ لا يتصوره
العقل، أو يذكر ثكناتها العديدة أو مستشفياتها الضخمة، إلا ليتحدث في ألم عميق
وأسًى بالغ عن التخريب الذي أصاب عاصمة القياصرة القديمة.
ففي مساء ١٤ سبتمبر، ولما يَمْضِ قليل على دخول الفرنسيين إلى موسكو واستيلائهم
عليها شبت النار في موسكو، وظَلَّتْ مشتعلة مدة طويلة، وتغذي سعيرَها رياحُ الخريف،
فاستعصى إخمادُها إلا بعد أن كانت قد الْتَهَمَتْ أكثر من سبعة آلاف مبنى، أي
خَرَّبَتْ حوالي تسعة أعشار المدينة، وقال نابليون — في حُزْنٍ وهو يمر بين أطلالها
بعد الحريق: «إنهم (أي الروس) لبرابرة حقًّا، وإن ذلك (حريق موسكو) لدلالة على ما
سوف ينطوي عليه المستقبل من كوارث»، حقيقة لقد قضت النار على كل شيء، فهي قد ظلت
مشبوبة مدة أربعة أيام، والتهمت الأخضر واليابس، ثم تزايد اشتعال وقودها؛ لأن
الطبقة المتوسطة بيوتها الصغيرة مصنوعة من الخشب، فكانت كعيدان الكبريت، وللمرء أن
يتساءل: هل كان الحريق مُدَبَّرًا أم بسبب حادث؟
والذي يبدو محقَّقًا أن الحريق كان مدبرًا، وأن حاكم موسكو «روستوبشين Rostopchine» عند انسحابه دَبَّر هذا الحريق، إن
لم يكن فَعَلَه ونَفَّذَه، وكان بتدبيره أن انتزعت مضخات إطفاء الحريق، ومع ذلك فقد
تغالى كثيرون في تقدير الخسائر «المادية» التي نجمت مباشرة من هذا الحريق، فإن
نابليون الذي كان غادر موسكو أثناء الحريق للإقامة في قصر بتروسكوا الإمبراطوري Petrowskoïe لم يلبث أن عاد إلى
الكرملين في ١٨ سبتمبر، وكان من قوله: «إن ما بقي بالمدينة بعد الحريق كان بمقادير
تكفي حاجات الجند من مؤن ومتاجر، والعرق (الخمور الفرنسية) …» أي إنه كان هناك ما
يكفي لتموين الجيش بأسره طوال فصل الشتاء.
ولكن كان لحريق موسكو آثار «معنوية» بليغة، لعل أهمها إشاعة اليأس — أو التخاذل —
في نفوس الجنود الفرنسيين الذين يقيمون في عاصمة آثَرَ أهْلُها حَرْقَها وتخريبها
على تسليمها لعدوهم، ثم كان من نتائجها أن الوطنيين الروس أنفسهم والذين ظلوا
يجهلون تفاصيل حادث الحريق على حقيقتها، سرعان ما اعتقدوا أن الفرنسيين هم الذين
أحرقوا عاصمة بلادهم لنهب هذه المدينة المقدسة وتدنيسها، وذلك اعتقادٌ جعلهم الآن —
أكثر من أي وقت مضى — مُصَمِّمِين على المضي في قتال أعدائهم ويرفضون إطلاقًا أيَّ
اتفاق أو مباحثة معهم، أَضِفْ إلى هذا أن «شوارزنبرج» عمد إلى المراوغة بعد هذه
الكارثة، ولم يَعُدْ يُفَكِّر في شيء إلا محاولة إرجاع القوات النمسوية تحت قيادته
إلى النمسا سليمة لخدمة عاهلها فرنسوا الأول (الثاني)، ولو كانت الخيانة الثمن الذي
يَجِب دَفْعُه لتحقيق هذه الرغبة، وذلك في حين أن نابليون كان يعتمد على زوجه ماري
لويز في حمل والدها العاهل النمسوي على إرسال النجدات لجيش شوارزنبرج
لتقويته.
واستطالت إقامة نابليون في موسكو، واعتقد أن امتلاك هذه المدينة لا يزال ضمانًا
قويًّا لقبول الروس الاتفاق والصلح في النهاية، فلم يشأ التخليَ عنها، وأَظْهَرَ
أثناء إقامته بها نشاطًا غير عادي، حيث ظَلَّ يصرف شئون الإمبراطورية في همة عظيمة،
ولكن كان قد صار فصل الشتاء أثناء ذلك على الأبواب، واستطاع الروس أن يحشدوا جيشهم
ويهددوا بقطع المواصلات بين الفرنسيين في موسكو وبين مخازنهم وقواتهم الاحتياطية في
سمولنسك، ولما كانت قد أَخْفَقَتْ كل محاولة للمفاوضة السلمية مع القيصر، فقد
اضْطُرَّ نابليون في النهاية إلى مغادرة موسكو على أَمَل الوصول بكل سرعة إلى
سمولنسك، ثم الانسحاب منها إلى «فيتبسك»، وإذا لزم الأمر الانسحاب كذلك إلى موقع
أبعد.
وفي ١٩ أكتوبر ١٨١٢ أخلى الفرنسيون (١٢٠٠٠٠) موسكو، وكان في المؤخرة المارشال
«مورتييه» لينسف قصر الكرملين بعد جلاء الجيش؛ بناءً على تعليمات نابليون نفسه، وقد
نفذ «مورتييه» هذا الأمر، وتهدم أكثر القصر، وحتى يتجنب الجيشُ المنسحب الطريق الذي
كان قد اتبعه في زحفه على موسكو، والذي صار الآن متخربًا — بفضل المقاومة الروسية —
اختار نابليون خطًّا للانسحاب يميل إلى الجنوب صوب «كالوجا Kaluga» على نهر أوكا Oka،
ولكنه اشتبك مع الروس في معركة شديدة عند مالو
ياروسلافتز Malo-Yaroslàvetz في ٢٤ أكتوبر، لم يلبث أن اضْطُرَّ بسببها إلى اتباع
الطريق الآخر إلى سمولنسك.
وتكبد الفرنسيون مشقات عظيمة؛ فقد بدأ الثلج يسقط يوم ٦ نوفمبر مؤذنًا ببداية فصل
الشتاء الروسي القاسي، وقد عجل الشتاء بقدومه هذا العام عن السنوات الماضية، وكان
قاسيًا قسوة شديدة، ومات كثير من الجنود وسط عواصف الثلج، وحتى أثناء وقوفهم للراحة
في الليل وهم حول نيرانهم للتدفئة، ولقد بلغ عدد الخيول التي نفقت بسبب البرد
والصقيع في الأسبوع الأول فقط من بداية تساقط الثلوج، ثلاثين ألفًا، وترتب على ذلك
أن تخلى الجيش عن كميات عظيمة من الذخائر والعتاد والمدفعية، وإلى جانب هذا كله
طارَدَ فرسان القوزاق الروسي كل المتخلفين، أو الرسل الذين ينقلون أوامر القائد
العام إلى مرءوسيه.
وحاول «كوتوزوف» أن يُرْغِم وحدات الجيش على الانفصال عن بعضها بعضًا بمناوشتها
على أمل أن تفصل المسافات الواسعة بين الفرق المجبَرة على التخلف وبين الجيش
الرئيسي المتقهقر، وأخيرًا عندما وَصَلَ (الجيش الأعظم) إلى سمولنسك في ١٠–١٢
نوفمبر كان البرد والجوع والتعب قد فَتَكَ بحوالي الثلاثين ألف مقاتل، والفرسان قد
فقدوا كل خيولهم تقريبًا، وخسرت المدفعية أكثر من ثلاثمائة مدفع.
ولقد كان في هذه الظروف البائسة، والتي أنبأت ببداية الانهيار أن عَرَضَ الوزير
النمسوي «مترنخ» في ٤ نوفمبر أن يتدخل لدى روسيا، والمعاونة من أجل الحصول على
«معاهدة طيبة» للسلام، وذلك بأن يأتي هذا التدخل في صورة وساطة؛ لأن «الوسيط» لا
يمكن أن تكون له صفة «المحارب» — وكان للنمسا كما عرفنا قوات بقيادة شوارزنبرج في
هذه الحملة الفرنسية ضد روسيا — وواضح أن غَرَض مترنخ من هذا العرض الذي تقدم به
«للوساطة» أي: بالصورة التي تُنْهي دور النمسا، كدولة محاربة ضد روسيا، إنما كان
الاستفادة من موافقة نابليون للخروج من الحرب أولًا، وإعادة جيش شوارزنبرج سالمًا
إلى فينَّا، فيحرم نابليون المساعدة الحربية التي يلقاها من النمسا، وثانيًا حتى
يتسنى لمترنخ عند انعقاد المفاوَضة أن يعمل لتوجيهها ضد صالح الإمبراطور الفرنسي،
ولم يشجع نابليون هذا التدخل، كما أنه لم يدفعه أو يوقفه.
ولم يكن مستطاعًا البقاء على كل الأحوال في سمولنسك؛ فقد أَخَذَت المؤنُ تتضاءل،
وصار يُخْشَى من نجاح الروس في تطويق «الجيش الأعظم»، وتزايد سقوط الثلوج واشتداد
البرد، وقرر نابليون استئناف التقهقر دون إمهال، وقَسَّمَ نابليون قواته إلى أربعة
«طوابير» تفصل بين كل منها مسيرة يوم، ولكن البرد الآن كان قد بلغ درجة الزمهرير،
فسجل مقياس الحرارة أيام ١٤، ١٥، ١٦ نوفمبر ست عشرة درجة تحت نقطة التجمد، ثم إن
فرسان القوزاق والفلاحين الروس، دأبوا على إزعاج الجيش المتقهقر، ومطاردة الجنود
المتخلفين، ولم يستطع الفرنسيون أن يسرعوا السير بسبب قسوة المناخ، وضَعْف روحهم
المعنوية، ولأن قواتهم كانت منهكة.
وفي ١٦ نوفمبر وَصَلَ الفرنسيون إلى «كراسنوي Krasnoi» جنوب سمولنسك بغرب، ليجدوا الروس بقيادة «كوتوزوف»
يقطعون طريق نهر الدنيبر، ومتأهبين للالتحام مع الجيش الفرنسي، وكانوا ستين ألفًا،
فدارت رحى معركة رهيبة لاختراق الخطوط الروسية عند هذا المكان «كراسنوي» بين ١٦–١٨
نوفمبر، نجح الفرنسيون أثناءها في اختراق هذه الخطوط في هجمات ثلاث بواسطة الحرس
الإمبراطوري، ثم يوجين، ثم دافو، وقد استطاع «ناي» — الذي بدا كأنما قد انهزم مع
المؤخرة — أن يَعْبُر النهر هو الآخر بعد الالتحام في موقعة عنيفة على الثلوج
المتجمدة، وأن يَلْحَق بالإمبراطور وبقية الجيش عند أورشا Orsha على نهر الدنيبر بفلول «طابوره» الذي بلغ ١٥٠٠ رجل فقط،
وعندما استأنف نابليون السير المتعب نحو نهر البريسينا Bérésina لم تكن تعدو قوة «الجيش الأعظم» الصالحة للخدمة
(٢٤٠٠٠) مقاتل وحسب، بينما بقية الجيش (وعددهم ١٤٠٠٠) لم يكونوا سوى جنود متباطئين
متخلفين، لا قدرة لهم على القتال، وعبءٍ ثقيلٍ على «الجيش الأعظم».
وعند «أورشا» وجد الفرنسيون الروسَ قد أحاطوا بهم، بقيادة «كوتوزوف» من الشرق،
وتنجنستاين من الشمال، وتشيتشاجوف من الجنوب، ليَحُولوا دون استمرار تقهقر
الفرنسيين وعبورهم نهر البريسينا، وعندئذ اشتبك الفرنسيون معهم في معركة حامية
لتحطيم هذه الدائرة من القوات المطبقة عليهم (٢٦–٢٩ نوفمبر)، فقد أُعِدَّ كوبريان
(جسران) بكل سرعة لنقل الجنود عبر النهر، ونقل نابليون معظم جيشه إلى الضفة
المقابلة، ولكن قوات الجنرال فيكتور التي تولت حماية عملية العبور لم تلبث أن هوجمت
هجومًا عنيفًا، وأرغمها الروس على التقهقر فوق هذين الجسرين دون نظام، فسقط أحدهما
تحت ضغط ثقل المدفعية، بينما أمر «فيكتور» بنسف الآخر، فكانت مجزرة، ولقد هلك ألوف
في هذه الموقعة «بريسينا» حيث أَوْقَعَ الروسُ مقتلةً كبيرة بالفرنسيين، وأسروا
عددًا عظيمًا منهم، وأتمت هذه الكارثة تحطيم «الجيش الأعظم»، فلم يعد هناك (الآن)
غير حوالي عشرين ألف مقاتل، يؤلفون القوة النظامية في هذا الجيش، أما الإمبراطور
نفسه فقد نجا من هذه الواقعة، وحينئذ استأنف الجيش الزحف صوب فيلنا، حيث يمكن
الوقوف بها «للراحة» والاستجمام بعد كل هذه المشاق التي تَكَبَّدَها الجيش
المتقهقر، وانتظار النجدات التي يجب أن تصله من فرنسا، والبقاء بها في أمان حتى
يأتي الربيع.
وفي ٣ ديسمبر ١٨١٢ وصل الإمبراطور بجيشه إلى «مولوديتشنو Molodetchno» على مسافة مائة كيلو متر فقط من فيلنا، ومن هذا
المكان أصدر «نشرة ٣ ديسمبر» المشهورة، أو النشرة التاسعة والعشرين التي كَشَفَتْ
حقيقة الكارثة للمرة الأولى، بعد أن ظلت هذه الحقيقة سرًّا مكتومًا كل هذه الشهور
الماضية، ثم عهد بقيادة الجيش إلى «مورا» على أن يتولى برثييه Berthier رئاسة أركان الحرب، وقَرَّرَ نابليون العودة إلى فرنسا في
٥ ديسمبر، فغادر «سمورجوني Smorgoni» متنكرًا، وقد
اصطحب معه «كولينكور» و«دوروك Duroc» ومترجمًا
بولنديًّا، واستخدم الإمبراطور الزحافات لقطع هذه المسافات الشاسعة على الجليد بكل
سرعة، فأمكنه الوصول إلى وارسو يوم ١٠ ديسمبر، وفي مساء ١٨ ديسمبر دَخَلَ باريس،
فدُهِشَتْ زوجه ماري لويز والحاشية، وقد كانوا جميعًا لا يتوقعون وصول الإمبراطور،
وفي هذه الصورة المفاجئة، بعد أن سَبَقَتْه بساعات معدودة فقط (النشرة التاسعة
والعشرون)، وسبَّبَت الوجوم في عاصمة الإمبراطورية.
ولقد كان من أسباب هذا الوجوم كذلك — إلى جانب الأخبار التي أذيعت عن كارثة
الحملة الروسية — تلك الهزائم التي لَحِقَتْ بالجيوش الفرنسية في إسبانيا؛ ففي
إسبانيا كان الكورتيز Cortes (وهو بمثابة برلمان
أهلي) في قادش قد استصدر دستورًا على مبادئ حرة في ١٨ مارس ١٨١٢، وبدأ دوق ولنجتون
حملة ١٨١٢ في إسبانيا بالاستيلاء على سويداد رودريجو «واسترجاعها من الفرنسيين» في
١٩ يناير، ثم على «بداجوز Badajoz» في ٦ أبريل،
بعد أن تَكَبَّد في سبيل ذلك خسائر فادحة، بيد أن الاستيلاء عليهما أعطى ولنجتون
قواعد يستند عليها في عملياته الهجومية التالية، وكان ذا أَثَر ظاهر في تقرير مصير
النضال في إسبانيا، وعندئذ تقدم ولنجتون في داخل إسبانيا والْتَحَمَ مع الجيش
الفرنسي بقيادة «مارمون» في واقعة سلامانكا Salamanca التي انتصر فيها الإنجليز انتصارًا باهرًا في ٢٢ يوليو
١٨١٢، وقد جُرِحَ «مارمون» في هذه المعركة، وارتد بعد هزيمته إلى «برجوس Burgos» «في الشمال»، فضرب ولنجتون الحصار عليها،
ولكنه ما إن شاهد مجيء النجدات إليها حتى رَفَعَ الحصار عنها في ٢١ أكتوبر.
وكانت مدريد بسبب هزيمة مارمون السابقة قد باتت مهددة، مما اضطر «سولت» إلى رفع
الحصار عن قادش منذ ٢٥ أغسطس، والتقدم صوب الشمال للدفاع عن العاصمة، وتولى سولت
القيادة العامة في إسبانيا، وأما ولنجتون الذي تابع تقهقره من «برجوس» صوب الجنوب
ونزلت بجيشه خسارة كبيرة بسبب انعدام النظام من جهة، وقسوة المناخ من جهة أخرى، فقد
تمكن بعد جهد ومشقة من الوصول إلى «سويداد رودريجو»، حيث قرر اتخاذها مقرًّا لتمضية
جيشه فصل الشتاء بها، وعنئذد عاد الملك جوزيف بونابرت إلى العاصمة مدريد، ولكن كان
واضحًا أن الفرنسيين فقدوا كل إسبانيا، جنوب مدريد دون أي أمل في استرجاعها.
وكان لهذه الهزائم في إسبانيا وما صَحِبَها من إهانات أَلْحَقَت الأذى بسمعة
نابليون على وجْه الخصوص، نتائجُ ذاتُ آثار تشير بوضوح إلى الطريق الذي سوف تسير
فيه الحوادث في المستقبل، ولعل من أبرز هذه الآثار العاجلة كانت تلك المؤامرة
الغريبة، والتي كان من الممكن نجاحها — بالرغم من أنها أَخْفَقَتْ — وهي مؤامرة
الجنرال ماليه Malet، وكان «ماليه» قد اشترك في
مؤامرة جمهورية — هي الأولى من نوعها منذ ١٨٠١ — وذلك في غضون عام ١٨٠٨، وقُبِضَ
عليه مع غيره من المتهمين، وكانوا إما من أعضاء المؤتمر الوطني السابقين أو أعضاء
لجنة الأمن (الخلاص) العام، ولكن «فوشيه» بمؤازرة «كمباسيرس» نجح وقتئذ في إقناع
نابليون بكتمان المسألة وإنهائها في سكون.
ونُقِلَ «ماليه» من السجن إلى مصحة، وأَخَذَ «ماليه» يُوَثِّق صِلاته ليس
بالجمهوريين وحدهم، بل وبالملكيين كذلك هذه المرة، يدبرون جميعًا الخطة لإسقاط
نابليون، ولقد كان إسقاط هذا العاهل المسألةَ التي اتفقت كلمة المتآمرين عليها؛
لأنهم اختلفوا في نوع النظام الذي يجب أن يَحُلَّ محل الحكومة القائمة، بل وإجراء
الانتخابات لانعقاد الهيئات الانتخابية لإقراره، واستفاد المتآمرون من ذيوع إشاعة
في باريس بأن الإمبراطور قد توفي، وهو في حملته بروسيا، فاستمالوا إليهم بعض
الرؤساء العسكريين، ومدير البوليس في العاصمة «فروشو Frochot»، وفي يوم ٢٣ أكتوبر ١٨١٢ تَمَكَّنَ «ماليه» من القبض على
وزير البوليس والمدير العام للبوليس «سافاري»، وعندما عَجَزَ عن استمالة الجنرال
«هولان Hulin» القومندان العسكري في باريس،
أَطْلَقَ «ماليه» عليه الرصاص، ولكن «ماليه» لم يلبث أن وقع هو وشركاؤه في قبضة
الحكومة وأُعْدِموا جميعًا رميًا بالرصاص في ٢٩ أكتوبر، وبَلَغَتْ أنباءُ هذه
المؤامرة نابليون يوم ٧ نوفمبر قبل وصوله إلى سمولنسك، فكان هذا الحادث من الأسباب
التي جعلته يريد العودة إلى باريس بكل سرعة.
وكان وجهُ الخطورة في هذه المؤامرة — التي كان الفشل نصيبها — أن عددًا من الضباط
بمجرد أن ذاع النبأ بوفاة نابليون، تَمَكَّنوا في ساعات معدودة من الاستيلاء على
الحكومة، وأن مدير بوليس العاصمة انحاز إليهم دون أي اهتمام بوجود الإمبراطورة وولي
العهد ملك روما، ووزراء نابليون وكل سلطات الدولة، بل إن «ماليه» ربما كان محقًّا
عند استجوابه أمام الهيئة العسكرية التي حاكَمَتْه لمعرفة شركائه في المؤامرة، حين
قال مخاطبًا رئيس الهيئة: «إنهم أنتم أنفسكم يا سيدي، وفرنسا بأسرها كذلك لو
قُدِّرَ لي النجاح»، ولم يكن في وسْع نابليون إلا أن يذهب «ليرى بنفسه» ما يحدث
بعاصمة إمبراطوريته.
ولا جدال في أن مؤامرة «ماليه» هذه كانت من الحوافز القوية التي جَعَلَتْه يصمم
على العودة إلى عاصمة مُلْكه، وكان لا بد من رجوعه إلى باريس بعد أن بدأ أعداؤه
يَرْفَعُون رءوسهم، ويَقْوَى أملُهم في التحرر من سيطرته، بسبب الكوارث التي
نَزَلَتْ به خصوصًا في روسيا وإسبانيا.
وأما المشكلة العاجلة التي واجهت الإمبراطور عقب وصوله إلى قصر التويلري في باريس
في مساء ١٨ ديسمبر ١٨١٢، فكانت اتحادَ أوروبا في المحالفة السادسة ضده، وأخذ
الإمبراطور يَتَهَيَّأ لمواجهة أوروبا، وكان لا بد من تنظيم «الجيش الأعظم» من جديد
قبل الدخول في الحرب المنتظرة.
وكانت بقايا «الجيش الأعظم» قد وصلت إلى فيلنا يومي ٨-٩ ديسمبر في حالة يُرْثَى
لها، وتحت تهديد القوزاق (الفرسان الروس) الذين نَجَحَ «ناي» و«لواسون Loison» في دفْعهم بعد عناء ومشقة، وواصل الجيشُ
تقهقُره فغادر فيلنا، بعد أن ترك بها الجرحى والمرضى ليذبحهم الروس دون شفقة، ووصل
الجيش المتقهقر إلى «كوفنو Kovno» على نهر النيامن
الذي عبره الجنود يوم ٣٠ ديسمبر، وكان في هذا اليوم كذلك أن عمد الجنرال يورك دي
وارتنبرج قائد القوات البروسية (تحت أوامر القائد الفرنسي مكدونالد) إلى توقيع
اتفاق مع الجنرال الروسي ديبتش Diébitch في
تاوروجن Tauroggen، ينص على أن جيشه البروسي
قد صار محايدًا، ثم اضْطُرَّ «مورا» إلى مغادرة كونجزبرج التي دخلها الروس يوم ١٥
يناير ١٨١٣، بينما تقهقر مورا جنوبًا حتى وَصَلَ إلى بوزن في بولندة، حيث بدأت
الاتصالات بينه وبين مترنخ في مفاوضة عرجاء، ثم لم يلبث أن ذهب إلى نابولي عاصمة
مملكته في إيطاليا.
ومع أن ملك بروسيا فردريك وليم الثالث استنكر اتفاق «تاوروجن»، فقد كان سبب ذلك
أن برلين حتى يوم ٤ مارس ١٨١٣ كانت لا تزال تحتلها الجيوش الفرنسية، والحقيقة أن
بروسيا بدأت «تخون» العهد مع فرنسا، منذ اللحظة التي لم يعد لدى هذه الأخيرة غير
«جنود جرحى، ولا سلاح معهم ولا شجاعة لديهم»، وعبثًا حاول يوجين بوهارنيه — الذي
خَلَفَ «مورا» في قيادة الجيش في «بوزن» (١٧ يناير ١٨١٣) وعلى نحو ما كتب لشقيقته
«هورتنس» — أن يؤلف من الجيش الذي تحت قيادته قوةً تَكْفِي لوَقْف جيوش العدو
«الروسية» وصَدِّها عن مطاردته من ناحية، وفي الوقت نفسه مواجهة أولئك الذين
يُعْلِنُون عداءهم ضد فرنسا مرة بعد أخرى.
ثم إن شوارزنبرج وَجَدَ الفرصة مواتية لتنفيذ أغراضه، فعَرَضَ عليه السياسي
الروسي البارون دي أنستيت Anstett هدنة من نمط
الهدنة التي حَصَلَ الاتفاقُ عليها مع البروسيين في تاوروجن، وبعد أن أحال
شوارزنبرج هذا العرض على حكومته في فينَّا — وهي التي كما رأينا، كانت تعمل للخروج
من المحالفة مع فرنسا منذ ٤ نوفمبر من العام السابق لتتدخل ضدها — أَبْرَمَ
شوارزنبرج مع الجنرال كوتوزوف في ٣٠ يناير ١٨١٣ اتفاق زيتيش Zeycz الذي أضحى بفضله كل جناح «الجيش الأعظم» الأيمن مكشوفًا؛
وعلى ذلك فقد تقهقر الفرنسيون إلى ما وراء نهر الأودر، بينما دخل القيصر وارسو (في
١٨ فبراير ١٨١٣)، ووقف البرنس يوجين في تقهقره في أقصى حدود سكسونيا الغربية عند
نهر سال Saal (أحد فروع الإلب).
أما نابليون فقد علق على الموقف بقوله في ١٠ يناير ١٨١٣؛ بأنه وإن كان يريد
السلام، فهو لا يهاب الحرب، وإنه لا يزال لدى الفرنسيين موارد عظيمة بالرغم من
الخسائر التي سَبَّبَتْها قسوة المناخ؛ فالهدوء يسود البلاد في الداخل، ولا تريد
الأمة إطلاقًا التنازل عن أمجادها وعن قُوَّتِها، وفي الخارج تؤكد — بأقصى ما
يمكنها فِعْله — كُلٌّ من النمسا وبروسيا والدنمارك ولاءَها، فلا تفكر النمسا في
فصْم عرى محالفة من المنتظر أن تجني منها فوائد عظيمة، ويعرض ملك بروسيا تقوية
الفرق البروسية (في الجيش الفرنسي)، وقد قُدِّمَ للمحاكمة الجنرال يورك (دي
وارتنبرج) أمام مجلس عسكري، والروسيا في حاجة إلى السلام، ومهما تآمرت إنجلترة
لاستثارة حفيظتها فهي — حسب اعتقاده — لا تريد الاستمرار في حرب تكون عواقبها وخيمة
عليها في النهاية.
ولا جدال في أن هذه كانت مجرد تصريحات رسمية مبنية على تفاؤل، لم يكن بحال من
الأحوال نابليون مخدوعًا به نفسه، ينهض دليلًا على ذلك ما صار يبذله من جهد لإعادة
بناء قوة فرنسا والإمبراطورية بالدرجة التي تجعلها قادرة على مواجهة الأزمات
المقبلة.
وكانت وسائل نابليون لتحقيق هذه الغاية متعددة؛ فهو (أولًا) أدرك أن الواجب
يقتضيه إرضاء الشعور الكاثوليكي، وذلك بالصلح مع البابا، وكان نابليون قد نقله إلى
«فونتنبلو Fontainebleau» منذ ١٩ يونيو ١٨١٢،
قريبًا من باريس ليبقى تحت رحمته؛ وعلى ذلك فإنه لم تَمْضِ أيام ثلاثة على عودته
إلى باريس حتى بادر نابليون بمناسبة السنة الجديدة فكتب للبابا بيوس السابع في ٢٩
ديسمبر ١٨١٢: «إنه بالرغم مما وقع من حوادث، ظَلَّ دائمًا يحتفظ بنفس المحبة لشخصه،
ويؤكد له رغبته الصادقة في إنهاء كل الخلافات التي تفصل الدولة عن الكنيسة.»
وقد حَضَرَ إلى «فونتنبلو» يوم ٩ يناير ١٨١٣ أسقف نانت «ديفوازان Duvoisin» وثلاثة من الكرادلة يحملون إلى البابا
مقترحات نابليون التي ظلت موضع بحْث ومفاوَضة، سَاهَمَ فيها نابليون بنفسه عندما
زار البابا فجأة في ١٨ يناير، وبقي معه بضعة أيام يبحثان معًا شروط الصلح، ثم أسفر
الأمر عن الاتفاق في ٢٥ يناير ١٨١٣ على إحدى عشرة مادة تألفت منها اتفاقية أو
كونكردات فونتنبلو، وقد تضمنت هذه الاتفاقية شروطًا طيبة في صالح البابا والكنيسة،
ولكنها احتفظت بموجب المادة الرابعة منها بالترتيبات التي وَافَقَ عليها المجلس
الكنسي في سنة ١٨١١ بشأن التقليد القانوني، والتي عرفنا أنه بعد مهلة ستة شهور يكون
للبابا أثناءها حق التقليد القانوني، تنتقل ممارسة هذا الحق إذا تأخر التقليد إلى
المطران (أو المتربوليتي) أو إلى أقدم الأساقفة في المقاطعة، وكان بسبب ذلك أن
وَقَّعَ البابا على «الكونكردات»، وهو في قرارة نفسه لا يرضى عنها.
وفي مساء يوم التوقيع نفسه أعلن نابليون في مذكرة رسمية أنه لم يكن يدور في خلده
إطلاقًا أن يجعل البابا ينزل بسبب هذه الاتفاقية، وما ذَكَرَتْه موادها، عن حقوق
سيادته الزمنية على أملاك «الدولة» البابوية، ومع ذلك فقد ظل البابا غير راض عن
«الكونكردات»، ولم يتردد في إظهار عدم رضائه عنها، وعندئذ رأى نابليون أن يتعجل
الأمر، فجعل مجلس الشيوخ يُعْلن في ٣ فبراير أن الاتفاقية (الكونكردات) الجديدة،
قانون من قوانين الدولة.
ولكن البابا نزولًا على رغبة الكرادلة لم يلبث أن احتج على إعلان مقدمات الاتفاق
بوصْفِ أنها المعاهَدة النهائية (٢٤ مارس)، وأرسل إلى الإمبراطور استدراكًا رَجَعَ
فيه عن موافقته السابقة بدعوى أنه استدرجه لارتكاب هذا الخطأ، غير أن هذا التنصل لم
يُثْنِ نابليون عن عزمه، وإظهار أن كل مسائل الكنيسة قد سُوِّيَتْ بالتفاهم التام
والموافقة الكاملة من الجانبين، فأَعْلَنَ في اليوم التالي (٢٥ مارس) أن الكونكردات
نافذة في كل أنحاء الإمبراطورية، وتقديم كل من يجرؤ على مخالفة نصوصها للمحاكمة،
ليس أمام مجلس الدولة كما كان المعمول به سابقًا، بل أمام المحاكم الإمبراطورية،
وزيادة على ذلك بادَرَ نابليون بتعيين اثني عشر أسقفًا للأسقفيات الشاغرة،
واتَّخَذَ الإجراءات الكفيلة بعزل البابا عن مستشاريه وخلصائه، وبدا كأنما كل
الخلافات قد أُزِيلَتْ بين البابا والإمبراطور.
وأحدث هذا الصلحُ «الظاهريُّ» الأثرَ المطلوبَ لدى سَوَاد الأمة والعالم
الكاثوليكي، ولكن الحقيقة كانت إخفاق نابليون في كل محاوَلاته في استرضاء البابا
بيوس السابع الذي بقي «سجينًا» في «فونتنبلو» حتى يوم ٢٢ يناير ١٨١٤ «ليُنْقَل منها
إلى سافونا في ٢٤ يناير، ثم يعود من هذه إلى روما في ١٩ مارس بعد هزيمة
الإمبراطورية»، وأما الكونكردات التي أُبْرِمَتْ في فونتنبلو فقد وُلِدَتْ
ميتة.
وكان نابليون قد أَحْضَرَ معه إلى فونتنبلو الإمبراطورة ماري لويز عندما ذهب
«لزيارة» البابا، ولعله كان يريد أن يقوم البابا بتتويجها حتى تزيد سُمْعَتُها
ومكانتُها ارتفاعًا ويطمئن الإمبراطور نفسه — بفضل هذا التتويج البابوي — إلى
استقرار الحكم في الإمبراطورية في أسرته، وأن يَخْلُفه ابنه ووليُّ عهده ملك روما
على عرش هذه الإمبراطورية، فكان (ثانيًا) التفكير في تقوية مركز الإمبراطورة ماري
لويز، واتخاذ الإجراءات التي تَكْفُل استقامة الأمور عند وفاته، وعدم تعرض العرش
للضياع إذا تآمرَتْ بعض العناصر المعادية لقلب نظام الحكم، على نحو ما حاوَلَ
«ماليه» ورفاقه أن يفعلوا، وحرمان أسرة بونابرت ومَلِك روما عَرْش
الإمبراطورية.
وعلى ذلك فقد استَصْدَرَ نابليون قرارًا من مجلس الشيوخ في ١١ مارس ١٨١٣ بتخصيص
صَداق لزوجه تتمتع به عند تَرَمُّلها، قدره أربعة ملايين فرنك، إلى جانب قصر
الأليزيه وقصري التريانون «في فرساي، أحدهما الكبير: وقد بناه لويس الرابع عشر،
والآخر الصغير: وهذا بناه لويس الخامس عشر»، ثم استصدر قرارًا في ٣٠ مارس بإنشاء
مجلس للوصاية Conseil de Régence برئاسة ماري
لويز، وكان هذا الإجراء مخالفًا لدستور السنة الثانية عشرة، أي دستور الإمبراطورية
(بتاريخ ١٨ مايو ١٨٠٤)، ولكنه في نَظَرِ نابليون كان إجراءً ضروريًّا لتجنُّب حدوث
اضطرابات دستورية، أو أخرى من نمط الانقلابات التي ذَكَرْنا أن محاولة «ماليه» كانت
من أَمْثِلَتِها لقَلْب نظام الإمبراطورية.
على أن بقاء الإمبراطورية وضمان استمرار الحكم في بيت بونابرت كان كلاهما مرتهنًا
بوجود القوة العسكرية التي تعتمد عليها السيطرة النابليونية في أوروبا، وكان دوام
هذه السيطرة النابليونية شرطًا أساسيًّا للحيلولة دون انهيار الإمبراطورية، ولتثبيت
دعائم النظام الذي أراد نابليون أن ينتقل العرش بمقتضاه إلى ملك روما، وأن تبقى من
حق البيت البونابرتي وراثة الحكم في فرنسا؛ وعلى ذلك فقد كانت (ثالثًا) العناية
بإعادة تنظيم الجيش أمرًا لازمًا؛ لا سيما بعد الكوارث التي كَبَّدَتْه خسائر فادحة
في الحملة الروسية والحرب الإسبانية، ولأن الدول في أوروبا تَأَلَّبَتْ الآن ضد
فرنسا في المحالفة الدولية السادسة، من إنجلترة وبروسيا والولايات أو الإمارات
الألمانية، وإسبانيا والبرتغال وروسيا ثم السويد والنمسا، وذلك بعد أن تَبَيَّنَ
لها أنه قد بات ممكنًا إنزال الهزيمة بجيوش نابليون «المظفرة»؛ فاستصدر نابليون
قرارًا في ٢٢ ديسمبر ١٨١٢ بتوقيع العقوبة على الآباء الذين يمتنعون بشتى الوسائل عن
تقديم أبنائهم للتجنيد، واستصدر قرارًا آخر في أبريل ١٨١٣ بإنشاء أربعة فرق من
فرسان الحرس الذين يجري اختيار أكثرهم من الشبان أبناء الأغنياء في الأقاليم ليتألف
منهم الحرس الإمبراطوري، وإلى جانب هذا فإنه لما كان مُجَنَّدُو طبقة سنة ١٨١٣ قد
تَمَّ تجنيدهم فعلًا منذ أكتوبر ١٨١٢، فقد دُعِيَتْ للتجنيد الآن الطبقة التالية،
أي مجندو سنة ١٨١٤، على أساس تقديم تاريخ الطلب للجندية عامين عن موعده، وقد
أَشْرَفَتْ الوصية على العرش، ومجلس الوصاية على عملية التجنيد هذه الأخيرة خصوصًا؛
لاستحثاث الموظفين المسئولين على السرعة في إنجازها؛ ولذلك فقد أُعْطِي الجنود
الشبان من هذه الطبقة لقب «الماري لويز».
وإلى جانب ما تقدم كانت هناك (رابعًا) استعدادات للتنظيم والتعبئة من نوع آخر
تتناول مسائل ذات أهمية اجتماعية، من ذلك — على وَجْه الخصوص — استصدار قرار صَارَ
مشهورًا بتاريخ ٢٦ مايو ١٨١٣ بتنظيم استخراج الفحم الحجري من إقليم أو مقاطعة
ميرث Meurthe بفرنسا — على حدودها الوسطى
الشرقية — على أساس اشتراكي بإشراف الدولة؛ حيث أنشئت جمعية للخدمة الاجتماعية تضم
إليها الصُّنَّاع والمستخدمين، تتخذ مقرها في «لييج» مركز المقاطعة الرئيسي، وتتألف
مواردها من إعانة تدفعها الحكومة ومستقطعات من أجور ومرتبات أعضاء الجمعية بنسبة
اثنين في المائة، وإتاوات يدفعها أصحاب المناجم بنسبة ٠٫٥٠٪ من جميع الأجور
والمرتبات الدائمة التي يدفعونها، وتقوم هذه الجمعية بتوزيع الإعانات والمعاشات، أي
إن عملها كان تأمين العمال والمستخدمين ضد تَقَدُّم السن والتعطل عن العمل،
والحوادث، ثم المرض، على أن يُسْمَح بامتداد هذا النظام إلى أقاليم مناجم الفحم
الأخرى، وأن يشمل أصحاب الحِرَف الأخرى، ولم يمنع انتشار هذا النظام الاشتراكي
ونجاحه غير انهيار الإمبراطورية النابليونية في الوقت الذي كان قد بدأ العمل به في
أول مراحله، ولما يَكَدْ يَمْضِ زمن كافٍ على البدء في تنفيذه.
وأما هذا الانهيار فقد جاء النذير به من ناحية بروسيا، ذلك أن الفرنسيين بمجرد أن
اضْطُرُّوا إلى إخلاء بروسيا الشرقية على أثر تقهقُرهم من روسيا في الظروف التي
سَبَقَ ذِكْرُها، حتى حضر من المنفى الوزير البروسي «ستين» لينْضَمَّ إلى الجنرال
يورك دي وارتنبرج، ولينشئ في هذه المقاطعة حكمًا دكتاتوريًّا، ويشرف على إعداد جيش
قوي حسب النظام العسكري البروسي الجديد، ومن ناحية أخرى نجح «هاردنبرج» في إقناع
الملك فردريك وليم الثالث — الذي كان من شيمته التردد دائمًا — بالذهاب إلى برسلاو
في سيليزيا (٢٢ يناير ١٨١٣)؛ ليجد بها على قدم الاستعداد جيشًا بروسيًّا كبيرًا من
خمسين ألف مقاتل، يتولى قيادَتَهُم أعظمُ القواد البروسيين: شارنهورست وجنسيناو Gneisenau، وكلوسوتيز Clauswitz، وبلوخر Blüchehr،
وقد رَفَضَ هؤلاء خدمة الإمبراطور نابليون، فاستمرت تنحيتهم عن العمل مدة، حتى
تَوَلَّوا (الآن) القيادة، وكان امتناعُهُم السابق عن خدمة نابليون من الأسباب التي
جَعَلَتْهم يتولونها.
وقد اتُّخِذَتْ عدة إجراءات لتنظيم هذا الجيش، كانت موضع تفكير طويل ودراسة عميقة
من مدة سابقة، من ذلك أنه صَدَرَ قرار في ٨ فبراير ١٨١٣ يجيز للقناصة المتطوعين من
الجنود المشاة والفرسان، أن يتحملوا أنفسهم نفقات تسليحهم وعتادهم، في ١٦ فبراير
صَدَرَ قرار آخر بوَقْف الإعفاء من الجندية طول مدة الحرب، وقد كان وَقْف الإعفاء
من الجندية هذا — الذي لم يلبث أن صار معمولًا به بصورة نهائية — الأصل الذي
اسْتَنَدَ عليه نظام الخدمة العسكرية الإجبارية الذي عَرَفَتْه بروسيا قبل غيرها من
الأمم.
وفي ١٠ مارس (عيد ميلاد الملكة لويزا) أنشئ نظامُ الصليب الحديدي لتكريم كل أولئك
الذين يمتازون بالبسالة في ميادين القتال ضد العدو، وذلك دون نظر للمولد أو للمنصب،
وفي ١٧ مارس صَدَرَ قرار بتأسيس وتنظيم الجيش المُعَدِّ للدفاع عن البلاد Landwehr، وفي ٢١ أبريل صدر القرار الخاص
بقوات الدفاع المؤلفة من كل القادرين على حمل السلاح، أي تعبئة الصالحين للخدمة
العسكرية Landsturm، وتلك كانت قوات «حرة» غير
الجيش النظامي العادي، وأَقْبَلَ على الانضمام إلى صفوفها الفلاحون وأبناء الطبقة
المتوسطة، وساهَمَ النساء في تزويد الجيش بحاجاته وتأسيس هذه القوات المقاتلة
«الحرة» بكل الوسائل، وصِرْنَ يَبِعْنَ ما لديهن من مصوغات وحُلِيٍّ من أجل
الانتصار في الحرب المنتظرة «حرب
التحرير Befreingskrieg»، وهي الحرب التي تاقَ لها الألمان، وراحوا يُعَبِّرُون
عن ذلك الروح الوطني، أو الشعور القومي الجديد الذي أحيا في صدورهم الأمل في التخلص
من السيطرة الأجنبية التي فَرَضَها نابليون عليهم، وحفزهم إلى التكتل في مجهود وطني
مُتَّحِد يهدف إلى غَرَضٍ واحد هو إحياء الأمة الألمانية.
هذا الشعور القومي، وهذه الرغبة القوية في التحرير والخلاص عَبَّرَ عنهما الألمان
في أغنياتهم وأناشيدهم، وفي منشوراتهم العدائية ضد السيطرة أو الديكتاتورية
النابليونية، وفي الكراسات أو النشرات التي أذاعوها، من ذلك «أنشودة المزاهر
والسيوف» للشاعر الألماني كارل تيودور
كورنر Körner الذي تطوع في حرب التحرير، وغنَّى لها، ثم قُتِلَ في ساحة
الوغى، بينما كان أرندت Arndt — الذي سَبَقَ
ذِكْرُه، وهو أستاذ بجامعة جريفزوالد Griefswald —
صاحب «أهازيج الحرب»، والشاعر فردريك
روكيرت Rückert وله أغانٍ مشهورة، وهنريك
كلايست Kleist وغير هؤلاء، وقد عبروا جميعًا عن ذلك الشعور القومي الذي
جاش في نفوس الألمان لمدة طويلة قبل انفجار الثورة في ألمانيا سنة ١٨١٣ للخلاص من
السيطرة الفرنسية.
ولقد سبق أن تَحَدَّثْنَا عن محاضرات «فيشته Fichte» في جامعة برلين، التي تأسست في عام ١٨١٠ فقط، فقد خَتَمَ
محاضراته يوم ١٩ فبراير ١٨١٣ بقوله: «إن هذه
المحاضرات سوف تُوقَفُ إلى أن تنتهي الحملة «أو الحرب» الحالية، وسوف نستأنف
إلقاءها وقد تَحَرَّرَتْ بلادنا، أو أن نلقى الموت في سبيل الحرية»، وكان لهذه
العبارات دوي عظيم.
وفي جامعة برلين — كذلك — اشتهر أستاذ آخر «شلايرماخر Schleirmachet» بتحريك النفوس، واستفزاز الأمة الألمانية للنضال ضد
الرجل الذي يجب تحطيمه (نابليون)؛ لأنه — على حد قول أرندت — قد حَطَّمَ الحرية
وهَدَمَ صرْح القانون.
ولقد كانت المفاوضات في كاليش Kalish بين القيصر
إسكندر، والقائد البروسي كنسبيك Knesebeck (عن
فردريك وليم الثالث ملك بروسيا) في ٩ فبراير ١٨١٣، وكانت مفاوضات دقيقة؛ لأن القيصر
أراد إرجاع بولندة إلى روسيا والاحتفاظ بها تحت سلطانه، ودَفَعَ بروسيا صوب الغرب
في اتجاه سكسونيا ونهر الراين، بينما أرادت بروسيا أن تتدعم أركانها في الشمال
والشرق.
ثم استؤنفت المفاوضات في برسلاو، حيث حمل البارون أنستيت Anstett إلى فردريك وليم رسائل من قيصر روسيا (٢١ فبراير)، وانتهت
المفاوضات إلى إبرام معاهدة برسلاو في ٢٧ فبراير، ثم التصديق عليها في كاليش في أول
مارس ١٨١٣ لإنشاء محالفة دفاعية هجومية ضد فرنسا، وقد تعهَّد الطرفان بعدم الدخول
في مفاوضات منفصلة مع العدو (فرنسا)؛ لأجل عقد السلام، وبأن يتخذا — بالاشتراك فيما
بينهما — الخطوات اللازمة للحصول على تأييد النمسا من جهة، وعلى المعونة المالية من
إنجلترة من جهة أخرى، وفي مادة سرية اتفق الفريقان على أن تعود بروسيا إلى ما كانت
عليه حدودها في سنة ١٨٠٦، على أن يكون لها من الأقاليم ما يربط بروسيا القديمة
بأراضي سيليزيا، وقد تَرَكَ هذا الإجراء لروسيا احتمال إرجاع بولندة تحت سيطرتها،
ودَخَلَ الروس برلين في ١١ مارس، وفي ١٥ مارس قابل القيصر الملك فردريك وليم في
برسلاو، وكان الوزير البروسي هاردنبرج عشية هذه المقابلة قد بعث إلى فرنسا بمذكرة
يُفَسِّر فيها أسباب فَصْم العلاقات مع فرنسا، وخروج بروسيا على الإمبراطور.
وفي ١٧ مارس أَعْلَنَتْ بروسيا الحرب على فرنسا وأصدرت قرار تأسيس وتنظيم جيش
الدفاع عن البلاد Landwehr — الذي سبق الكلام
عنه — ثم أذاع الكاتب الألماني تيودور جوتليت
هيبل Hipple دعوته المشهورة لاستنهاض أُمَّتِه للنضال ضد الأعداء
(الفرنسيين)، وهي الدعوة أو النداء الذي يحدد بداية الثورة الألمانية — أو النهوض
القومي — والذي تَجَاوَبَتْ أصداؤه في جميع أنحاء ألمانيا؛ فقد وجه «هيبل» النداء
«للبراندنبرجيين، والبروسيين، والسيليزيين، والبوميرانيين، والليتوانيين، الذين
يَعْرِفُون أنهم تذوقوا مرارة العذاب سبع سنوات بتمامها، والذين يَعْرِفون ماذا
يكون مصيرهم المحزن إذا هم لم يُنْهُوا — في شرف واستبسال — هذا النضال الذي بدأ
الآن.»
وناشد «هيبل» مواطنيه أن يَذْكُروا آباءهم وأجدادهم، والأمجاد التي كانت لهم؛
ليسترجعوها في ميدان الجهاد من أجل تحرير الوطن، بتحمل التضحيات التي لا يمكن أن
توازي — مهما بلغت — كل تلك الأهداف المقدسة التي يجب عليهم أن يحاربوا من أجلها،
وأن ينتصروا للفوز بها، إذا شاءوا إقامة الدليل على أنهم دائمًا أبدًا بروسيون
وألمان.
ولقد أصدر القائد الروسي وتجنستاين بمجرد دخوله إلى برلين نداءً مشابهًا يدعو كل
شعوب ألمانيا لِحَمْل السلاح، استهله بقوله: «الحرية أو الموت»، ثم أخذ يوجه الكلام
«للسكسونيين والألمان» قائلًا: «إن كل اعتزاز بالأصول العريقة قد انتهى وطُوِيَتْ
سجلات النبلاء بانتهاء سنة ١٨١٢؛ لأن أعمال جُدُودِنا المجيدة قد طَمَسَتْها
الإهانات التي لَحِقَتْ بأحفادهم، ولكن ثورة ألمانيا ونهوضها سوف يتولد منها أسرات
نبيلة جديدة، وهي وحدها التي سوف تُعِيد للأجداد المجدَ الذي فقدوه»، وثورة ألمانيا
هي التي جَعَلَتْ في صفوف الجيش البروسي «يقف جنبًا إلى جنب ابنُ العامل وابنُ
الأمير.»
وفي برسلاو أبرم الوزير البروسي «ستين» مع الكونت نسلرود Nesselrode ممثل القيصر اتفاقًا في ١٩ مارس ١٨١٣ بشأن تنظيم الإدارة
والحكومة في الأقاليم الألمانية التي يصير استرجاعها من نابليون، وذلك بإنشاء خمس
دوائر إقليمية كبيرة للإدارة العسكرية تحت نوع من الحكم، لوحظ فيه أن يكون حَلًّا
وسطًا بين الميول والاتجاهات المحلية الإقليمية، لعدم إثارة مخاوف الملوك والأمراء
الألمان، واحترامًا لرغباتهم، وبين المبادئ التي تهدف للوحدة والتي اعْتَنَقَها
«ستين» نفسه.
وفي ٢٥ مارس أصدر القائد الروسي «كوتوزوف» منشورات تَحَدَّثَ فيها إلى الشعب
الألماني، ليس عن الاستقلال وحْده وحسب للخلاص من السيطرة الأجنبية (الفرنسية)، بل
عن الحرية كذلك، أي: تَمَتُّع الشعب الألماني بكل حقوقه المشروعة، والتي كانت قد
طَمَسَتْها الديكتاتورية النابليونية.
ذلك كان الحال في بروسيا التي أدت ثورَتُها القومية إلى إعلان الحرب على
الإمبراطورية الفرنسية، فماذا كان الموقف في الدولة «الألمانية» الكبيرة الأخرى،
وهي النمسا؟
لقد دَأَبَ المؤرخون الألمان دائمًا على اعتبار مترنخ — الوزير النمسوي — صِنْوًا
للوزير البروسي «ستين» في شدة الإخلاص للوطن، وغَمَرَ المؤرخون الألمان الوزيرَيْن
بصنوف المديح والإطراء، وانعقد الرأي على أن مترنخ تحت ستار المحالفة مع فرنسا —
منذ الزواج النمسوي وبسببه — كان لا يعمل إلا لتحطيم السيطرة الفرنسية، وإجبار
فرنسا على التراجع والانكماش داخل حدودها «الشرعية»، وإعادة التوازن إلى أوروبا،
وهو التوازن الذي هدمه نابليون بفتوحاته الواسعة.
وقد تَحَدَّثْنا فيما سبق عن الوساطة التي عَرَضَها مترنخ «للتدخل» مع روسيا من
أجل الوصول إلى «معاهدة طيبة» للسلام بينها وبين فرنسا أثناء الحملة الروسية
(نوفمبر ١٨١٢)، وشرحنا غَرَضَ مترنخ الحقيقي من هذه الوساطة، فعاد مترنخ الآن يقترح
الوساطة مرة أخرى، بأن أوفد إلى باريس الكونت بوبنا Bubna، يعرض التدخل مع أعداء فرنسا، وغرضه الصحيح في هذه المرة
التغلب على شكوك نابليون ومخاوفه من اتفاق الهدنة الذي أبرمه شوارزنبرج مع الجنرال
كوتوزوف في «زيتيش» في يناير ١٨١٣، ثم من ناحية المرشال شوارزنبرج نفسه، الذي كان
قد أُرْسِلَ في سفارة غير عادية لدى حكومة نابليون في باريس.
وفي الوقت نفسه بَعَثَ مترنخ رسولًا إلى لندن، البارون ويزنبرج Wessenberg متخفيًا ويحمل تعليمات بتاريخ ١٨
فبراير لم يلبث أن أبلغها إلى وزير الخارجية الإنجليزية لورد كاسلريه Castlereigh في ١٣ مارس، وقد أَتْبَعَهَا مترنخ —
بعد معاهدة كاليش بين روسيا وبروسيا — بتعليمات أخرى بتاريخ ١٠ مارس، وَصَلَتْ
ويزنبرج يوم ٢٤ أبريل، ومن ناحية أخرى عَرَضَ السفير الفرنسي الجديد في فينَّا
الكونت ناربون Narbonne — والذي خلف «أوتو» —
مشروعًا لتنظيم وسط أوروبا (٢٩ مارس) على أساس سيطرة نمسوية بدلًا من النظام
الروسي-البروسي الذي كانت معاهدة كاليش تُمَهِّد له، فيتم تقسيم بروسيا، وتنال
النمسا سيليزيا التي فَقَدَتْها من أيام حرب الوراثة النمسوية (صلح برسلاو
١٧٤٢).
ولكن مترنخ عارَضَ هذا المشروع باقتراح المبادئ التي رآها ضرورية لإعادة التوازن
السياسي إلى أوروبا، وفحواها تَنَازُل فرنسا عن فتوحاتها والأملاك التي ضَمَّتْها
إليها لإقامة صَرْح إمبراطوريتها، والتنازل عن سياسة الحصار القاري وإلغاء نظامه،
والمحافظة على كيان بروسيا كمملكة لم تَفْقِد شيئًا من أراضيها ومتحدة اتحادًا
وثيقًا مع النمسا التي لا ترغب في توسيع حدودها؛ وعلى ذلك فإن ناربون عندما استقبله
الإمبراطور النمسوي فرنسوا الأول بعد أيام قليلة (في ٢٣ أبريل) لم يَلْقَ أي ترحيب،
بل كان استقباله ببرود كثير، ومن جهة أخرى فإن السفير النمسوي شوارزنبرج — الذي
ذَكَرْنا أنه موفد في سفارة خاصة لدى نابليون، وكان يحمل مقترحات مشابهة — لم يجرؤ
عند مقابلة الإمبراطور (في ٩ أبريل) على إبلاغها له.
وفي ١٥ أبريل ١٨١٣ غادَرَ نابليون باريس في طريقه بكل سرعة إلى ماينز، ومنها إلى
إرفورت ليتولى قيادة جيشه، وكان الحلفاء قد زَحَفُوا من «الأودر» صوب نهر الإلب، ثم
بعد عبور هذا النهر الأخير أخذوا يتقدمون نحو نهر السال الذي تقع خَلْفَه وعلى
مسافة منه إرفورت، وكانت خطة الفرنسيين حشْد قواتهم في جيشين: أحدهما بقيادة يوجين
بوهارنيه، يعتلي نهر السال، والآخر يضم ناي، وأودينو، ومارمون، يأتي من الجنوب حتى
يتلاقى الجيشان في سيرهما.
وفي ٢ مايو وَقَعَ أوَّلُ اشتباك بين الفريقين في سهول «لوتزن Lutzen» وكان انتصارًا «كاملًا» — كما وَصَفَهُ
نابليون لزوجه ماري لويز — أحرزه الفرنسيون على القوات الروسية البروسية بقيادة
وتجنستاين، الذي عَهِدَ إليه بالقيادة العامة بعد وفاة كوتوزوف، ولو أن هذا النصر
كَلَّفَ «الجانبين» ثمنًا غاليًا، وطارد الفرنسيون العدُوَّ المتقهقر «والذي وَجَدَ
السلامة في الانسحاب السريع في كل مكان».
وفي ٨ مايو دخل نابليون «درسدن Dresden» حيث
وافاه بها ملك سكسونيا العجوز فردريك أوجستوس الأول الذي ضاعت معه مساعي مترنخ وبقي
على ولائه للإمبراطور حتى النهاية، وقد أعاده نابليون الآن إلى عرش مملكته.
وتزايد تَذَمُّر نابليون من صهره فرنسوا إمبراطور النمسا، وتزايَدَتْ شكوكه من
ناحية مترنخ، وغضبه منه، ووَصَفَهُ بأنه رجل مَكَايد ومؤامرت، وقد جاء «الكونت
بوبنا» لمقابَلة نابليون في درسدن (١٦ مايو) ليعرض عليه الشروط التي تراها النمسا
ضرورية «لوساطتها» بين الفريقين المتقاتلين: «إنهاءُ وحَلُّ غراندوقية وارسو،
والتنازلُ عن الفتوحات وكل الأملاك التي للإمبراطور في ألمانيا، وإرجاع المقاطعات
الليرية إلى النمسا»، ورَفَضَ نابليون هذه الشروط، وأَوْضَحَ للكونت بوبنا: «أن
أحدًا لا يستطيع أن يأخذ من الفرنسيين شيئًا بضرب العصا»، وأنه — أي نابليون — لن
يتنازل عن شيء إطلاقًا من كل تلك الأقاليم التي صارت دستوريًّا مُتَّحِدَة أو
مندمجة في فرنسا، وأن الشرف يمنعه مِنْ فِعْل شيء من ذلك، وأن النمسا على كل حالٍ
لم تكن أقوالها صريحة، أو تنبئ عن أغراضها الحقيقية؛ فالنمسويين بدءوا بمطالبته
بإرجاع المقاطعات الليرية، ولكنهم سوف يطالبونه بعد ذلك بإخلاء البندقية، ثم ميلان،
ثم تسكانيا، ثم إنهم سوف يُرْغِمُونه على القتال معهم والدخول في حرب ضِدَّهُم،
وقال نابليون: ومن الأفضل إذن أن نبدأ بالقتال من الآن، وهكذا لم تسفر عروض الوساطة
النمسوية عن شيء في صالح السلام.
وزَحَفَ الإمبراطور من درسدن للالتحام مع العدو الذي حَشَدَ قواته في موقع حصين
إلى ما وراء بوتزن Bautzen، وهنا دارت رحى معركة
حامية، يومي ٢٠-٢١ مايو ١٨١٣ تَشَتَّتَ فيها جيش «وتجنستاين»، وقُتِلَ في أثنائها
«ديروك Duroc»، وفي ٢٢ مايو أَكْمَل الاشتباكُ
الذي حصل في «ورشن Wurschen» النصرَ الذي أحرزه
نابليون على الجيش الروسي البروسي، واستطاع أن يقول: «لعل في هذا النصر ما يجعل
الوزارة في فينَّا تُقَلِّل من أطماعها»، ذلك أنه قد تَرَتَّبَ على هذا النصر أن تم
طَرْد العدو من سكسونيا، وإن أَمْكَن غزو وإخضاع نصف سيليزيا، ثم إعادة جيروم
بونابرت إلى العرش في وستفاليا، ودعم سلطان «دافو» في همبورج.
ولكن العدو لم تُيْئِسْه هذه الانهزامات؛ فقد تقهقر الروس والبروسيون إلى
شفايدنيتز Schweidnitz في «سيليزيا» ليعيدوا
تنظيم قواتهم، وحيث وَصَلَتْهم النجدات من السويد وأمكنهم الحصول على إعانات مالية
جديدة من إنجلترة.
واستمر مترنخ في دور التمويه الذي دأب عليه من بداية هذه الحرب خصوصًا، فهو يكتب
أن الانتقال من الحياد إلى الحرب أَمْر يتعذر حصوله إلا عن طريق الوساطة المسلحة،
أي الإرغام، وصار يعتقد بعد واقعة «بوتزن» أن الفرصة قد صارت مواتية لأن يَعْرِض
على نابليون إبرام الهدنة التي تُمَهِّد لاجتماع مؤتمر ينظر في شروط الصلح لعقد
السلام العام، ووافق الإمبراطور على الهدنة التي وَقَّعَ عليها في بليزويتز Pleswitz في ٤ يونيو ١٨١٣، وكانت مدة هذه الهدنة
حوالي شهرين تنتهي في يوم ٢٨ يوليو.
أما نابليون فقد وصل إلى درسدن في ليل ٩-١٠ يونيو ليقضي بها وقت الهدنة، وحيث جلب
إليها جوقة الكوميدي فرانسيز، وفي ٢٥ يونيو وَصَلَ مترنخ، وفي ٢٦ يونيو اليوم
التالي لوصول مترنخ كانت المحادَثة المشهورة التي صاح أثناءها نابليون، بعد أنْ
تَبَيَّنَ له من «تَمْوِيهِ» الوزيرِ النمسوي وخداعه، أن النمسا لا محالة
مُنْضَمَّة إلى أعدائه، لقد كان من الحمق البالغ أن أتزوج أميرة نمسوية! ولقد كتب
نابليون إلى زوجه ماري لويز في أول يوليو، يصف مترنخ بأنه رجل مَكائد ومؤامرات،
وأنه أساء النصح «للأب فرانسوا» والد ماري لويز وصِهْره، ثم كتب لها مرة ثانية في ٧
يوليو: أن من الممكن الوصول إلى إبرام السلام العام لو أن النمسا امتنعت عن الصيد
في الماء العكر، وأن الإمبراطور فرانسوا مخدوع بوزيره مترنخ الذي رشاه الروس
وابتاعوه بأموالهم، والذي يَعْتَقد أن السياسة هي القدرة على نسْج الأكاذيب.
وكان نابليون محقًّا في حذره من مترنخ ونقمته عليه، وفي توقُّعه كذلك أن تنضم
النمسا إلى المحالَفَة القائمة ضده، ذلك أن مفاوضات لم تلبث أن قامت بين النمسويين
وبين الروس والبروسيين، انتهت بعقد اتفاق في رايشنباخ Reichenbach بين الأطراف الثلاثة في ٢٧ يونيو ١٨١٣، وكان في
رايشنباخ أن تَعَهَّدَت إنجلترة منذ ١٤–١٦ يونيو بدفْع إعانة شهرية قدرها ١٧
مليونًا لبروسيا، ٣٣ مليونًا لروسيا لاستمرار الحرب، ولكن تنفيذ هذا الاتفاق كان
مُعَلَّقًا على رَفْض نابليون وساطة النمسا بينه وبين الروس والبروسيين، وعندئذ
يكون غَرَض الحلفاء الثلاثة (روسيا، وبروسيا، النمسا) أن تعود حدود النمسا إلى ما
كانت عليه في سنة ١٨٠٥، وأن تطالب بإخلاء كل ألمانيا، وإسبانيا، وإيطاليا،
وهولندة.
ولكن مترنخ الذي توسَّط في عقد هذا الاتفاق كان لا يطمئن لنوايا القيصر — وكما
كان ذلك رأيه — بينما اعتقد أن في وسعه في الوقت نفسه الوصول إلى اتفاق مع نابليون،
فقابله في درسدن، حيث وَصَلَ إليها يوم ٢٥ على نحو ما ذكرناه، وعَرَضَ نابليون عليه
المقاطعات الليرية في نظير بقاء النمسا على الحياد، الأمر الذي رَفَضَه مترنخ عندما
أَصَرَّ على فرض وساطة النمسا بين الجانبين المتقاتلين لإبرام الصلح بينهما، أو أن
النمسا إذا رَفَضَتْ وساطتها سوف تنضم حتمًا إلى الحلفاء ضد فرنسا، مما جعل نابليون
يصف نفسه بالحمق البالغ؛ لأنه تزوج من أرشيدوقة نمسوية، على أن نابليون في ٣٠ يونيو
لم يلبث أن غيَّر موقفه، وقَبِلَ الوساطة التي عرضها مترنخ أيضًا، وامتد أجل الهدنة
إلى يوم ١٠ أغسطس.
وأراد نابليون كسْب الوقت، فلم يُصْدر تعليماته إلى «كولينكور» إلا يوم ٢٨ يوليو،
وقد نَصَّتْ هذه على المطالَبة بإعادة الحالة إلى ما كانت عليه قبْلَ الحرب،
ورَفَضَ نابليون أن يُزَوِّده بسُلْطات التعاقد الكاملة، وعلى ذلك فقدْ رَفَضَ
مُفَوَّضُو الحلفاء عند وصول «كولينكور» إلى براج Prague — المكان المُعَد لعقد المؤتمر (في ٢٨ يوليو) — المفاوَضة
معه، وبعثوا به إلى مترنخ الذي تمسك بشروط هدنة بليزويتز، وأَصَرَّ على قبول
نابليون لمقدمات الصلح التي يريدها الحلفاء، وعندئذ (في ١٣ أغسطس) وافق نابليون على
إخلاء غراندوقية وارسو، وتمسك بدانزج، ورضي بإعادة مملكة بروسيا على شرْط تعويض ملك
سكسونيا (حليفه) عن الأراضي التي سوف يفقدها بأراضٍ أخرى عدد سكانها نصف مليون
نسمة، كما تنازَلَ نابليون عن المقاطعات الليرية ما عدا تريسته، وإيستريا Istria، ولكن عندما وَصَلَتْ عروض نابليون هذه
إلى المؤتمر (أي في ١٣ أغسطس) كان وصولها بعد فوات الوقت؛ لأن كاسلريه — الذي
شَجَّعَه انتصار ولنجتون الحاسم في إسبانيا على الفرنسيين في واقعة فيتوريا Vittoria (في ٢١ يونيو ١٨١٣) — لم يلبث أن طالَب
بالاحتفاظ بصقلية لفردينند الأول ملك نابولي، واشترط أن ينال برنادوت «في السويد»
كل ما وَعَدَه الإنجليز به، وعمد مترنخ إلى إعلان انتهاء المؤتمر — مؤتمر براج —
الذي سماه نسلرود «بالمؤتمر السخري أو
الاستهزائي Congrès dérisoire»، وفي ١٢ أغسطس أعلن الحرب على فرنسا.
وكانت جيوش الحلفاء ثلاثة: جيش الشمال بقيادة برنادوت، وجيش سيليزيا بقيادة
بلوخر، وجيش بوهيميا بقيادة شوارزنبرج، وأفاد الحلفاء من مشاوَرات وخِبرات اثنين
تركا صفوف الفرنسيين لخدمة العدو أحدهما: جوميني Jomini وهو سويسري كان رئيس أركان حرب القائد ناي، والثاني:
مورو Moreau الذي عاد من الولايات المتحدة
الأمريكية بناء على طلب القيصر، وقد نصح «مورو» بعدم الاشتباك في معركة مع نابليون
نفسه، وبدلًا من ذلك الالتحام مع قواده، حتى إذا انهزم هؤلاء سهلت هزيمة نابليون
وإجباره على التقهقر، ثم إملاء شروط الصلح عليه في باريس.
والذي حدث في هذه الحملة (حملة ١٨١٣) أن اشتبك الفريقان في سلسلة من المعارك؛
فانهزم شوارزنبرج في معركة درسدن في ٢٧ أغسطس أمام نابليون، ولكن الحلفاء سجلوا
انتصارات على قواد نابليون؛ فانتصر برنادوت على جيش أودينو Oudinot في جروس
بيرين Gross-Beeren في ٢٣ أغسطس، وانتصر بلوخر على ماكدونالد في كانزباخ Katzbach في ٢٦ أغسطس، وانتصر الروس على القائد
فاندام Vandamme في كالم Kulm في ٢٩-٣٠ أغسطس، وانهزم «ناي» في دينويتز Dennewitz في ٦ سبتمبر.
ثم إن الحلفاء (روسيا، بروسيا، النمسا) بادروا بدعم المحالفة الثلاثية في
تبليتز Teplitz في ٩ سبتمبر، وفي ٣ أكتوبر
انضمت إنجلترة إلى المحالفة، وفي ٨ أكتوبر أُبْرِمَتْ معاهدة ريد Reid للتحالف بين بفاريا والنمسا، وبمقتضاها خرجت
بفاريا من اتحاد الراين وتعهدت بضم قواتها فورًا إلى جيوش الحلفاء، وفي ٩ أكتوبر
حصل الاتفاق بين إنجلترة والنمسا، ومَدَّت الأولى الثانية بإعانة مالية كبيرة
لتغطية نفقات الحرب، وفي ٢٣ أكتوبر خرجت ورتمبرج على نابليون وانضمت إلى
المحالفة.
وما إن تلقى الحلفاء نجدات جديدة من روسيا (٥٠٠٠٠) بقيادة بنينجسن، حتى زحفوا مرة
أخرى على سكسونيا في ٣ أكتوبر، واتخذوا مواقعهم على الضفة اليسرى لنهر الإلب، وكان
من الواضح أن خطة الحلفاء هي حشد قواتهم في سهول ليبزج Leipsig في مؤخرة الفرنسيين حتى يقطعوا عليهم خط الرجعة عند
تقهقُرهم إلى فرنسا.
واضطر نابليون — بسبب خروج بفاريا من اتحاد الراين من جهة، ولأن الحلفاء حاوَلوا
قطْع خطوط مواصلاته مع نهر الراين — إلى الارتداد والزحف على ليبزج، فبلغها يوم ١٥
أكتوبر على رأس جيش من (١٦٠٠٠٠) مقاتل، ومع أن هذا كان جيشًا ضخمًا فإنه كان ينقص
كثيرًا عن عدد قوات الحلفاء الذين حشدوا في ميدان المعركة في ليبزج ما لا يقل عن
(٣٢٠٠٠٠)، وفي المعركة التي دارت بين ١٦–١٩ أكتوبر والتي عُرِفَتْ باسم «حرب الأمم»
انهزم نابليون، وكان من عوامل هذه الهزيمة وصول قوات جديدة في يوم المعركة الأول
بقيادة برنادوت وكولوريدو Colloredo، وبنينجسن Bennigsen (السويد، النمسا، روسيا)، بينما لم يكن
في وُسْع نابليون الاعتماد على أية نجدات لتقوية جيشه، وقد أدرك نابليون خطورة
الموقف؛ فعرض في مساء اليوم نفسه (١٦ أكتوبر)
مقترحات للاتفاق على هدنة تمهيدًا للمفاوضة من أَجْل الصلح، ورَفَضَ الحلفاء
مقترحاته عندما تعَهَّدوا فيما بينهم بعدم الدخول في أية مفاوَضات مع الإمبراطور
إلا بعد أن يكون آخر جندي فرنسي قد انسحب من الأراضي الألمانية حتى نهر الراين،
وعلى ذلك فقد استؤنف القتال يوم ١٨ أكتوبر، وكانت معركة حامية، انتصر فيها الحلفاء
بسبب تفوقهم العددي، وقدرتهم دائمًا على تعويض خسائرهم في الرجال، ولأن جنود
سكسونيا وورتمبرج وعددهم اثنى عشر ألفًا، تَخَلَّوْا عن نابليون أثناء اشتداد
المعركة وغادَرُوا صفوف جيشه لينضموا إلى قوات برنادوت.
وانهزم نابليون وتقهقر جيشه إلى إرفورت (صوب الغرب)، وكانت عملية التقهقر هذه
مشوبة باختلال النظام لعدم وضْع خطة محكمة لها، وعندما عبر الجنود الجسر الوحيد من
بين عدد من الجسور كان نابليون قد أَمَرَ بإقامتها على نهر السيتر Elster لم يلبث أن تحطم تحتهم، وكان من بين الغرقى
القائد البولندي (بونياتوسكي)، وفي صباح اليوم التالي (٩ أكتوبر) وجد الحلفاء ميدان
المعركة خاليًا، وتأكَّد لهم أنهم كسبوا المعركة.
وفي إرفورت التي وقف فيها الإمبراطور يومين، استطاع نابليون جمع ثمانين ألف جندي
استعدادًا لاستئناف التقهقر صوب فرنسا، والزحف على هناو Hanau لعبور المين Main أحد فروع
نهر الراين، ولما كان الجيش البفاري بقيادة الجنرال ريد Wrede قد اتخذ مواقعه عند هناو ليمنع الفرنسيين من عبور النهر، فقد
اشتبك الفريقان في معركة حامية يوم ٣٠ أكتوبر، انتصر فيها الفرنسيون انتصارًا
حاسمًا، وتمكن الإمبراطور من متابعة السير بكل سرعة صوب الراين الذي عَبَرَه مع
جيشه عند ماينز Mainz يوم ٢ نوفمبر.
وعند ماينز ترك الإمبراطور الجيش الذي بلغ عَدَدُه الآن أقل من ٧٠ ألف مقاتل
وحسب، وأَسْرَعَ هو في العودة إلى عاصمته، فغادر القصر الملكي في ماينز يوم ٧
نوفمبر ووصل إلى سان كلو في ٩ نوفمبر.
ولم يكن تقهقر الإمبراطور من ألمانيا كل الهزيمة التي لحقت به وبالإمبراطورية،
فقد انكمشت حدود هذه الإمبراطورية في كل نواحيها الأخرى؛ ففي إسبانيا حيث انتصر
ولنجتون — كما ذكرنا — على قوات جوزيف بونابرت في واقعة فيتوريا في ٢١ يونيو ١٨١٣،
اضطر الفرنسيون إلى الانسحاب منها، بعد أن قَرَّرَتْ واقعة فيتوريا مصير حكومة (أو
ملكية) جوزيف بونابرت قصيرة الأجل، فإنه لم يَمْضِ أسبوعان على هذه الواقعة، حتى
كان ولنجتون مستوليًا على كل الحدود الإسبانية الشمالية الغربية من رونسيسفال Roncesvalles إلى مصب نهر البيداسو Bidassoa، ويقف على حصار قلعة سان سباستيان San Sebastian على الشاطئ وبامبيلونا Pampeluna في الداخل، وبدأ المارشال سولت —
الذي تولى القيادة العامة الآن ووصل إلى بايون في ١٣ يوليو — يعمل لتخليص
بامبيلونا؛ فحصلت معارك يائسة بين ٢٥ يوليو وأول أغسطس عند ممرات البرانس في
رونسيسفال ومايا Maya انتهت بارتداد سولت إلى ما
وراء الجبال في الأراضي الفرنسية.
ثم إن سان سباستيان لم تلبث أن سَقَطَتْ في أيدي قوات ولنجتون في ٣١ أغسطس،
وعَبَرَ الإنجليز نهر البيداسو يوم ٧ أكتوبر، وفي ٣١ أكتوبر وبعد حصار عنيف وطويل
سُلِّمَتْ بامبيلونا للإسبان، وهذا في حين أن ولنجتون نفسه استطاع السيطرة على كل
الإقليم الشمالي الغربي خلف البرانس، وفي الأراضي الفرنسية حتى أبواب مدينة بايون
نفسها، وكان القائد الفرنسي الآخر «سوشيه Suchet»
قد أخلى هو الآخر فالنسيا Valencia على الشاطئ
الشرقي ووَصَلَ إلى نهر البيداسو منذ ٢ يوليو، وعلى ذلك، ولما لم يعد يحتل الأراضي
الإسبانية جندي فرنسي واحد اضطر نابليون إلى إبرام معاهدة فالنسيه Valençay (بفرنسا) في ٨ ديسمبر ١٨١٣، وبموجبها
استرجع الملك فردنند السابع عرش إسبانيا.
ومن ناحية حدود الألب — أي في إيطاليا — حارب يوجين بوهارنيه النسمويين، الذين
صاروا خطرًا يهدد سلطان الفرنسيين في إيطاليا؛ إذ إنهم احتلوا المقاطعات الليرية،
ثم بدءوا يزحفون الآن عن طريق نهر الدراف Drave
والتيرول، وقد ساعدهم على ذلك انتقاض بفاريا على الفرنسيين في الظروف التي عرفناها،
فتقهقر يوجين على نهر الأديج، ومع ذلك فقد اشتبك مع النمسويين في معركة عند
كالديرو Caldiero في ١٥ نوفمبر ١٨١٣، وانتصر
عليهم ولكنه كان نصرًا لا جدوى منه ولا طائل تحته؛ فقد احتل النمسويون الرومانا Romagna والمقاطعات الوسطى من الولايات البابوية
Marshes، وكان «مورا» قد ترك نابليون في إرفورت
ليعود إلى عاصمة مُلْكه في إيطاليا، وبمجرد وصوله إلى نابولي بدأ المفاوضة مع
البرنس مترنخ ليحصل من النمسويين على اعتراف بمملكته في نابولي لقاءَ أن ينضم هو
للحلفاء ضد نابليون، ورحب النمسويون برسول مورا في فينَّا، ولم يؤجل «الخيانة» بعض
الوقت إلا محاولات الإنجليز الذين أرادوا أن يعيدوا الأسرة المالكة السابقة
«البربون» والمقيمة في بليرمو بجزيرة صقلية إلى العرش في نابولي، فقد احتفظ
الإنجليز للمَلِك فردنند، ملك نابولي السابق بكل حقوقه وطالبوا بإرجاع جيتا إليه،
وأظهروا استعدادهم لإنزال خمسة وعشرين ألف رجل في إيطاليا، فأغضب ذلك «مورا» وجعله
ينضم إلى نابليون، ولكنه عاد للمفاوضة مع مترنخ الذي عقد معه معاهدة صلْح ومحالفة
في ١١ يناير ١٨١٤ تضْمَن لمورا عرش نابولي في نظير أن يضمن مورا عرْش صقلية للملك
فردنند الرابع.
ومن ناحية الحدود الشرقية (الراين) فقد أُخْلِيَتْ هولندة، وتألَّفَتْ بها حكومة
مؤقتة أعلنت استقلال «الولايات المتحدة الهولندية» في ٢١ نوفمبر ١٨١٣.
وفي ألمانيا لم يَعُدْ بها غير الحاميات الموزعة في المدن الألمانية الكبيرة، في
درسدن، ويتنبرج، مجدبورج، ستيتن Stettin،
كاسترين Custrin، جلوجو Glogau، وقد صمد القائد الفرنسي راب Rapp في الدفاع عن دانزج سبعة شهور، ولم يَبْقَ غير «دافو» في
همبورج التي عجز الحلفاء عن إخراجه منها، فلم يسلم «دافو» المكان إلا بعد سقوط
الإمبراطورية، وبناء على أوامر رسمية من الملك لويس الثامن عشر حين عودة البربون
إلى فرنسا.
ولم يكن الحلفاء — وخصوصًا مترنخ — جادِّين في إبرام السلام؛ ولذلك فقد عمد مترنخ
إلى تدبير ما صار يُعْرَف باسم «حملة السلْم»، والتي كان غَرَضُه من إثارتها خديعة
الرأي العام وكسْبه إلى جانبه، باعتبار أنه «والحلفاء» يرغبون حقيقةً في عقد الصلح
مع نابليون، واستخدم مترنخ لهذا الغرض الوزير الفرنسي السابق لدى حكومة سكسونيا
الكونت سانت إينان Saint-Aignan وكان أسيرًا في
«فايمار Weimar» أثناء الحملة الماضية، وكان
موجودًا (الآن) في فرانكفورت التي اتخذها الحلفاء مقرًّا عامًّا لهم (أول نوفمبر
١٨١٣)؛ فعرض بواسطته على نابليون شروط الصلح على أساس انكماش فرنسا إلى حدودها
الطبيعية «الألب والراين والرانس»، واستقلال ألمانيا، وهولندة وإيطاليا «عن فرنسا»
مع التحفظ فيما يتعلق بالأراضي النمسوية، ثم إرجاع البربون إلى الحكم في إسبانيا،
ولم يَرِدْ شيء عن مملكة نابولي، ومع أن هذه كانت شروطًا قاسية فقد اعتبرها كل من
هاردنبرج، وبلوخر، وكاسلريه غير كافية «للانتقام من نابليون».
ويعزو المؤرخون الفرنسيون السبب في إخفاق محاولة عقد الصلح على أساس هذه الشروط
نفسها إلى مترنخ الذي لم يكن جادًّا حتى في هذه الشروط «المتطرفة»، فقد أجاب
نابليون على هذه العروض بواسطة وزير خارجيته ماريه Maret منذ ١٦ نوفمبر، بأنه مستعد لإرسال «كولينكور» إلى
منهايم Mannheim للمفاوضة، ولكن مترنخ في ٢٥
نوفمبر تَمَسَّكَ بأن من الضروري أولًا أن يعلن الإمبراطور رأيه في «القواعد
العامة» التي يقوم عليها الصلح، وأجاب «كولينكور» في ٢ ديسمبر بأن الإمبراطور قابِل
للقواعد العامة التي عُرِضَتْ عليه، لتكون أساسًا لمفاوضات الصلح، ويرى الكتاب
الفرنسيون في تعيين كولينكور وزيرًا للخارجية — وهو من أنصار السلام — محل الوزير
السابق «ماليه» وهو من أنصار الحرب، دليلًا على رغبة نابليون الصادقة في إبرام
الصلح، وعلى القواعد التي عُرِضَتْ عليه، ولكن الحلفاء «ومترنخ» غداة جواب كولينكور
كانوا قد اتخذوا من دعوى عدم مجيء هذا الجواب بالسرعة اللازمة ذريعة لإصدار منشور
في ٤ ديسمبر يُحَمِّلون فيه نابليون مسئولية فشل المفاوضات، ويحاولون أن يفصلوا بين
الإمبراطور وبين فرنسا، ويَعْرِضون الصلح من جديد على فرنسا: (السلام مع الأمة
الفرنسية، والحرب ضد نابليون).
ولكن هذه كانت مناوَرة خاسرة؛ لأن سواد الفرنسيين بقوا على ولائهم للإمبراطور
بالرغم من قوانين التجنيد واستطالة الخدمة العسكرية، ولكن الطبقات العليا لم تكن
راضية عن الحالة التي وَصَلَتْ إليها فرنسا، وراح كثيرون — وعلى نحو ما توقع مترنخ
— يُحَمِّلون الإمبراطور مسئولية فشل الصلح، لا سيما وقد جاءت متأخرةً موافقَتُه
على «مقترحات فرانكفورت»، وهي العروض التي أراد الحلفاء «ومترنخ» أن تكون قواعدَ
للصلح المنتظر، وذلك أن «لوبران» دوق بياكنزا والحاكم الفرنسي في هولندة كان قد
اضطر منذ ١٦ نوفمبر إلى إخلاء أمستردام، وقامت الثورة في اليوم التالي (١٧ نوفمبر)
في لاهاي، وأقام الهولنديون بها حكومة بادَرَتْ بطلب المعونة من إنجلترة، ودعوة
أمير أورانج الذي بادَرَ بإجابة مُلْتَمَسِهِمْ — بكل سرعة — لتَسَلُّم أزمة الحكم
في هولندة، وكان انكماش الحدود الفرنسية الشمالية الشرقية بهذه الصورة أهم سبب جعل
الحلفاء يُصْدِرون منشور ٤ ديسمبر السالف الذكر.
وأما المتذمرون من أهل الطبقات العليا الفرنسية، والذين نقموا على الإمبراطور
لأنه أضاع — في زعمهم — فرصة إبرام السلام العام؛ فقد ضموا إلى صفوفهم فريقًا من
الوزراء والموظفين الذين خدموا النظام القائم من زمن طويل، وأهل الطبقة المتوسطة
العالية، حتى إن الملكيين الذين كان الإمبراطور قد قضى عليهم تمامًا منذ عشر سنوات
مَضَتْ، سرعان ما بدءوا يرفعون رءوسهم ويحيكون المؤامرات، ثم عمد جماعة من كبار
الشخصيات للتآمر ضد النظام القائم، وكان على رأس هؤلاء «تاليران».
وأبدى نابليون منذ وصوله إلى باريس نشاطًا عظيمًا؛ فهو يعمل لاستنهاض الهمم
وإشاعة الثقة في النفوس لمعالَجة النزول الذي حصل في الأوراق المالية، والذي كان قد
بدأ عقب الحملة الروسية، ويُصْدر التعليمات لتجنيد الفئات التي لم تكن قد بَلَغَتْ
دور الاقتراع والخدمة العسكرية، ويفرض الضرائب باسم إمداد الحرب بالمعونة المالية،
وفي ١٩ ديسمبر ١٨١٣ يدعو المجلس التشريعي للاجتماع في جلسة يحضرها الإمبراطور وفي
حضور مجلس الشيوخ (السناتو) ومجلس الدولة؛ ليعرض على أعضاء هذه الهيئات جميعًا ما
قام به من جهود من أجل السلام العام، وليعبِّر عن ثقته في أن الفرنسيين لن يترددوا
عن التضحيات الضرورية إذا لزم الأمر، وقد تألَّفَتْ لجنة من خمسة أعضاء لتفحص
الرسائل والتقارير الدبلوماسية.
وفي ٢٩ ديسمبر أَعَدَّتْ هذه اللجنة تقريرًا عن الموقف في ضوء هذه المراسَلات
الدبلوماسية جاء فيه أن الواجب يقتضي أن يكون الغرض الأوحد من الحرب في المستقبل
«استقلال الشعب الفرنسي وسلامة أراضيه»، وأنه — لإشاعة روح التوثب في صفوف الجند
المحاربين — يجب على الإمبراطور أن يقوم بتنفيذ القوانين التي تَكْفُل للفرنسيين
حقوقهم في الحرية وتؤمنهم على سلامتهم وأملاكهم، والتي تضمن للأمة ممارسة حقوقها
السياسية في حرية تامة، ولكن الإمبراطور مَنَعَ طَبْع التقرير وإذاعته لما فيه من
تعريض ظاهر بحكومته من جهة، وبالسياسة التي أَدَّتْ في نظر المتذمرين — وأكثرهم من
أعضاء هذه الهيئات التي جَمَعَهَا لينال منها تأييدًا لسياسته، وموافقةً على مواصلة
الحرب — إلى الدخول في حروب أَنْهَكَتْ قوى الأمة، وأضاعت فُرَصَ السلام العامِّ،
وعلى ذلك فقد حل الإمبراطور المجلس التشريعي (٢٠ ديسمبر).
وجاء في خطابه المُوَجَّه إلى أعضاء هذا المجلس: «أنه كان في وسعهم أن يسدوه
صنيعًا طيبًا ولكنهم لم يفعلوا إلا إلحاق الضرر به، وأنهم لا يمثلون الشعب، في حين
أنه هو الذي يمثل هذا الشعب، ولقد دَعَتْه الأمة أربع مرات ليتولى زمام الحكم بها،
وحصل في كل مرة من هذه المرات الأربع على أصوات خمسة ملايين من المواطنين المؤيدين
له، فهو لديه السند الذي يخوله الحكم، بينما لا يجد المجلس التشريعي سندًا ما يستند
عليه، فهم ليسوا إلا نوابًا عن مقاطعات الإمبراطورية، أما المسيو «لينيه Lainé» أحد أعضاء لجنة الخمسة والذي قرأ التقرير
السالِفَ الذكر الذي أَعَدَّتْه هذه اللجنة، فقد وصفه نابليون بأنه رجل دسائس
ومؤامرات، وعميل لإنجلترة، وذو نفس خبيثة»، ثم سألهم: «وما الذي فَعَلَتْه معكم
فرنسا هذه المسكينة حتى تريدوا إلحاقَ كل هذا الأذى بها؟»
واستمر يوجه الخطاب إليهم قائلًا:
لقد أردْتُمْ أن تلطخوني بالوحل، ولكني من أولئك الرجال الذين يلقون
الموت ويأبون المَعَرَّة، وهل بمثل هذه التأنيبات تزعمون أنكم تُقِيلون
عثرة العرش؟ وما العرش؟ إنه يتركب من قطع من الخشب المذهب عددها أربع،
يغطيها قماش من القطيفة، إنما العرش هو الأمة، ولا يمكن أن يفصل أحد بين
شخصي وبين الأمة دون أن يحطم هذه الأمة؛ لأنها في حاجة إلي أكثر من حاجتي
أنا إليها، وماذا هي صانعة من غير قائد يقودها وزعيم يتولى أمورها؟ وأنتم
تتقدمون بمطالب من أجل إصدار قوانين وتأسيس أنظمة، في حين أن صد العدو
ودَفْعه هو المطلب الذي يجب أن تتوفر كل الجهود لتنفيذه كما لو لم يكن
لدينا قوانين أو أنظمة، فأنتم حينئذ تودون محاكاة «الجمعية التأسيسية»
القديمة وتريدون إشعال الثورة! ولكني لا أُشْبه الملك الذي كان موجودًا
وقتذاك، وإني لأوثر أن أكون أحد أبناء الشعب صاحب السيادة على أن أكون
ملكًا مُسْتَعْبَدًا أو مستَرَقًّا … عودوا إلى مقاطعاتكم …
ومن هارتويل Hartwell بإنجلترة، أَصْدَرَ الكونت
دي بروفنس Provence (شقيق لويس السادس عشر)
والمتطلع إلى العرش الفرنسي، منشورًا في أول يناير ١٨١٤ وَقَّعَه بإمضائه ملكًا على
فرنسا، وفي هذا الوقت بدأ «شاتوبريان» — من الكُتَّاب المعارضين للإمبراطور —
يَخُطُّ السطور الأولى في كراسته عن «بونابرت والبربون»، وكثر تَمَلْمُلْ تاليران
واشتد تذمُّرُه، حقًّا لقد أنبأت الأحوال بأن النهاية قد بدأت.
وفي هذه الظروف إذن كان الحلفاء قد حشدوا جيوشهم (ربع مليون مقاتل) خَلْف نهر
الراين، وصاروا يتهيئون لغزو فرنسا، وكان الجيش النمسوي (١٢٠٠٠٠) جيش بوهيميا
بقيادة شوارزنبرج قد عبر نهر الراين عند «بازل Basel» على الحدود السويسرية يوم ٢١ ديسمبر، وزحف على مهل نحو
«لانجر Langres» التي أخضعها في ١٦ يناير
١٨١٤، ووقف عند مدخل حوض نهر السين، ثم استأنف زَحْفَه في حوْض هذا النهر قاصدًا
إلى باريس من الجنوب الشرقي، ومن ناحية الشرق في الوسط كان جيش سيليزيا (٦٥٠٠٠)
بقيادة بلوخر قد عبر نهر «الراين» من عدة جهات بين منهايم وكوبلنز (أول يناير
١٨١٤)، وبعد أن اجتاز جبال الفوزج استولى على نانسي Nancy، وكانت الخطة بعد الاستيلاء على شالون Châlons وعلى حوض نهر المارن Marne الانضمام إلى جيش شوارزنبرج أمام باريس، ومن ناحية الشمال
كان جيش الحلفاء بقيادة الروسي وينزينجرود Winzingerode والبروسي بولو Bulow
ومعهما برنادوت.
وكانت مهمته الزحف على فرنسا بطريق كولون Cologne، ولييج Liége،
ونامور Namours، واستطاع هذا الجيش أن يتخذ
مواقعه أخيرًا في الطريق الموصل إلى باريس، مارًّا بلاوون Laon، وسواسون Soissons.
ومع أن قوات الحلفاء في ميادين القتال بلغت ٢٠٠٠٠٠ مقاتل عدا جيش الشمال، فقد
تَعَذَّرَ على نابليون بالرغم من المحاولات التي بَذَلَها، أن يجهز للمعركة أكثر من
١١٠٠٠٠ رجل عدا القوات المحاربة في إسبانيا بقيادة «سولت» ضد ولنجتون، وقوات
«سوشيه» في قطالونيا وأرغونه، ووَقَعَ على الإمبراطور وقواته التي كانت تحت أوامره
مباشرة عبء مقاومة العدو، وذلك بعد أن كان الغزاة — ولما يَنْتَهِ شهر يناير (١٨١٤)
— قد احتلوا خطًّا لعملياتهم العسكرية يمتد من «لانجر» في الجنوب، وإلى «نامور» في
الشمال امتدادًا متصلًا، ويجعل ما يقرب من ثلث مساحة فرنسا واقعًا تحت سيطرتهم
العسكرية.
وعلى ذلك فقد وَقَّعَ الإمبراطور في ٢٣ يناير ١٨١٤ قرارات رسمية لتجديد نيابة
ماري لويز على العرش «يعاونها كمباسيرس»، وجمع في قصر التويلري رئيس وكبار ضباط
الحرس الأهلي في باريس؛ ليعهد إليهم في لغة مشوبة بالعاطفة العميقة، بالسهر على شخص
الإمبراطورة، وولي العهد الصغير ملك روما «أعز ما لديه في العالم»، ثم صدر قرار
بتعيين جوزيف بونابرت (ملك إسبانيا السابق) النائب أو القائم مقام العام في
الإمبراطورية والمستشار الأول لصاحبة النيابة أو الوصاية، ماري لويز، وفي هذا
القرار ترك الإمبراطور الإمبراطورة وملك روما في أيدي الحرس الأهلي الشجعان، وفي
ساعة مبكرة من صباح يوم ٢٥ يناير ١٨١٤ غادر نابليون باريس.
ولم تكن المعارك الأولى التي التحم فيها نابليون مع العدو معاركَ حاسمة، فهو قد
بدأ بمحاولة الاشتباك بالجيش السيليزي بقيادة بلوخر؛ لمَنْعه من الاتصال بجيش
بوهيميا، قيادة شوارزنبرج، فالتحم بقوات بلوخر على نهر «أوب Aube» — أحد فروع السين — عند بريين Brienne في ٢٩ يناير ١٨١٤ وانتصر عليه، ولكن بلوخر استطاع الاتصال
بجيش شوارزنبرج، وفي أول فبراير واجَهَ الإمبراطور عند لا روثيير La Rothiére قوات تبلغ ثلاثة أضعاف قواته؛
فانهزم، واضطر إلى التراجع إلى ترويز Troyés ثم
إلى نوجنت Nogent «وكلاهما على السين».
وكان واضحًا حينئذ أن من العبث مواصَلة القتال، وأن من الخير لنابليون — لو أنه
شاء الاحتفاظ بعرشه — المفاوضة مع العدو، وفي لِيل ٤-٥ فبراير يبعث إلى «كولينكور»
بتعليمات تعطيه تفويضًا كاملًا لعقد الصلح، وفي ٧ فبراير وصلت «كولينكور» في
شاتيون Chatillon الشروط التي يريدها الحلفاء
للصلح، وكان هؤلاء يريدون إرجاع فرنسا إلى حدود ١٧٩٢، وعبثًا حاول «كولينكور» إقناع
الحلفاء بالعودة إلى مقدمات فرانكفورت، أي إلى القواعد التي ذَكَرْنَا أن نابليون
كان قد قبلها في ٢ ديسمبر ١٨١٣، وعندئذ بدلًا من تَحَمُّل المسئولية — وفي رأي
كثيرين الفصل في مصير فرنسا، على أساس بقاء الحكومة النابليونية — أحال «كولينكور»
هذه الشروط على نابليون لاتخاذ القرار النهائي، وفي لِيل ٧-٨ فبراير بعد ساعات
عصيبة، رضخ الإمبراطور، ولكن ليعود في صباح ٨ فبراير لنبذ هذه الشروط كلية، وساعَدَ
على إحياء الأمل في نفْس نابليون أن الحلفاء ارتكبوا أخطاء عسكرية عندما جعلوا
جيوشهم تنفصل عن بعضها بعضًا مرة أخرى، باعتبار أن ذلك سوف يساعد هذه الجيوش على
الزحف السريع صوب باريس من جهة، ويتيح الفرصة لتموينها بصورة أسهل؛ وعلى ذلك فقد
انفصل بلوخر عن شوارزنبرج ليتقدم هذا الأخير على نهر السين، بينما يقصد بلوخر إلى
باريس عن طريق سيزان Sezanne (٢ فبراير)، وأمله أن
يقطع خط الرجعة على القائد الفرنسي ماكدونالد «على نهر المارن» الذي كان يتقهقر
أمام القائد البروسي يورك (فون وارتنبرج).
وعلى ذلك فقد بادر نابليون بانتهاز الفرصة، ومحاولة الاشتباك مع كل جيش على حدة؛
فأنزل عدة هزائم بجيش بلوخر، وكان موزَّعًا على الطريق من شالون إلى شاتوتيري Château-Thierry (امتداد المارن)، فهزم
هذه القوات المجزأة، الواحدة بعد الأخرى في معارك: «شامبوبير Champaubert» (١٠ فبراير)، «مونتميراي Montmirail» (١١ فبراير)، «فوشان Vauchamp» (١٤ فبراير)، واضطر بلوخر إلى التقهقر بعد أن تكبد خسائر
فادحة، وكان ذلك نصرًا باهرًا، ولكن لم يَقْضِ على العدو الذي عادت قواته للتجمع
مرة أخرى في شالون.
وأما جيش شوارزنبرج فكان قد عَبَرَ نهر السين، وأرغم القائدين الفرنسيين «أودينو»
و«فيكتور» على التقهقر، وعبثًا حاول «ماكدونالد» — الذي انضم إليهما — وقْفَ الزحف
النمسوي، وكان غَرَض شوارزنبرج الوصول إلى «مونتارجيس Montargis» وفونتنبلو «ثم باريس».
وعندئذ تقدم نابليون من «فوشان» صوب «مونتريه Montéreau» وأرغم العدو على التقهقر، واستعاد نابليون بعد مشقة —
لنقص قواته — مونتريه في ١٨ فبراير، وانسحب شوارزنبرج إلى «ترويز»، ومع أن بلوخر
كان قد وَصَلَ إلى فرع النهر المقابل «أوب»، فقد استمر تقهقر شوارزنبرج صوب
«شومونت Chaumont» و«لانجر».
واستطاع بلوخر تنظيم قواته، ولكن نابليون شرع الآن (٢٨ فبراير) في مطاردته، فتوقف
بلوخر (في أول مارس) ليتجه صوب الشمال لينضم إلى قوات «بولو» و«وينزينجرود»، وكانت
تهاجم بلدة سواسون، وكادت تحل به كارثة لو أنه استمر في زحفه؛ لتعرضه لإطباق
الفرنسيين عليه من الأمام والخلف، ولكن لم تلبث أن سلمت سواسون فجأة يوم ٣ مارس،
وطارد نابليون بلوخر إلى ما وراء نهر الإيسن Aisne
ليحشد بلوخر قواته من جديد، واشتبك في «لاوون» مع نابليون في معركة في ٩ مارس،
وأرغم نابليون على الارتداد جنوبها، وكان «مارمون» يقف بقواته إلى الشرق، ولكنه لم
يلبث أن تعرض هو الآخر لهجوم مفاجئ ونزلت به الهزيمة أثناء الليل، وفي ١٠ مارس
تَعَرَّض نابليون بدوره لهجوم جديد، فارتد إلى سواسون.
وتجدَّدَتْ مساعي الصلح، وكان الإمبراطور قد أرسل وزير خارجيته «كولينكور» منذ ٥
يناير ١٨١٤ يعرض على الملوك الحلفاء المفاوضة من أجل عقد الصلح على أساس «القواعد»
التي عُرِضَتْ في فرانكفورت؛ فتركه الحلفاء في لونفيل أيامًا طويلة (من ٥ إلى ٢٥
يناير) يضيع وقته فيها هباء، ثم وجهوا إليه الدعوة بالحضور للمفاوضة في شاتيون يوم
٣ فبراير، ووقع اختيار الحلفاء على مفاوضين من جانبهم، اشتهروا بعدائهم العظيم
لنابليون؛ وكان هؤلاء ستاديون Stadion عن النمسا،
وكاسلريه عن إنجلترة، والبرنس «أندريه
رازموسكي Razoumovski» عن روسيا، وقد عرض هؤلاء أساسًا للصلح عودةَ فرنسا إلى
حدودها في سنة ١٧٩٠، وتجاهلوا مسألة الحدود الطبيعية، والعروض التي قدموها سابقًا
في فرانكفورت.
وكان شوارزنبرج حتى قبل هزيمته في «مونتريه» يوم ١٨ فبراير قد طلب في اليوم
السابق عقد هدنة، ورفض وقتذاك نابليون الرد عليه؛ لأنه ما كان يفكِّر إطلاقًا — كما
كتب لأخيه جوزيف بونابرت — في أن ينال الحلفاء منه شيئًا ما دامت بلاده terrritoire لم تتطهر منهم، ولم يكن نابليون يريد
إلا صلحًا «معقولًا» يَكْتُب له البقاء والاستدامة، على أسس لا تتجاوز تلك التي
قُدِّمَت في فرانكفورت، ووافق عليها نابليون نفسه، وكان غرض نابليون — الذي كتب
لزوجه ماري لويز، ابنة الإمبراطور النمسوي يشرح لها أغراضه هذه — أن يستميل فرنسوا
الأول لتأييد مقترحات ومساعي «كولينكور» في مؤتمر الصلح في شاتيون، وألا يكون
«أداة» في يد إنجلترة، وطلب نابليون من ماري ليوز (٢٥ فبراير) أن تكتب لوالدها في
ذلك، وأن تطلب من والدها رعاية مصالحها ومصالح ولدها ملك روما، وأن تؤكد له أن
«الموت أفضل من قبول سلام مهين، ومُنَاقِض للشرف والعزة والكرامة»، فضلًا عن أنها
سياسة خاطئة تلك التي ترضى بسلام من هذا النوع؛ لأنه لن يدوم طويلًا.
وعاود النمسويون طلب الهدنة — بعد طلبهم الأول يوم ١٧ فبراير — وذلك يوم ٢٤
فبراير، وأوفد نابليون في هذه المرة الجنرال دي
فلاهو Flahaut إلى لاسيني Lassigny (في
مقاطعة أوب) للمفاوضة، وزَوَّدَه بتعليماتٍ — مطابقة لما جاء في خطاب نابليون نفسه
إلى «والد زوجته» بتاريخ ٢٢ فبراير — هي التمسك بالقواعد التي قُدِّمَت في
فرانكفورت أساسًا للصلح، ولكن دون نتيجة، وقرر الحلفاء في شومونت يوم ٢٦ فبراير
الإصرار على المقترحات التي قدَّموها في شاتيون إلى «كولينكور»، مع تحديد يوم ١٠
مارس آخِرَ موعد لقبولها، وقبل انقضاء هذه المهلة «الأخيرة» بيومٍ واحد استطاع
كاسلريه (٩ مارس ١٨١٤) إبرام الميثاق الذي جَمَعَ الدول الأربع الكبرى: إنجلترة،
النمسا، بروسيا، روسيا، في محالَفة مُدَّتُها عشرون سنة، ومُوَجَّهة ضد فرنسا،
وتَعَهَّدَ الأطراف الأربعة بأن يُجَهِّز كل منهم جيشًا من ١٥٠٠٠٠ مقاتل عند الحاجة
للذَّوْد عن النظام الأوروبي الجديد الذي صَحَّ عزْمُهم على تأسيسه هم وحدهم، على
أنقاض الإمبراطورية النابليونية المنهارة، وقد جُعِلَ تاريخ هذه المعاهدة (معاهدة
شومنت) يوم أول مارس، وتَعَهَّدُوا جميعًا بمتابعة القتال وعدم الدخول في مفاوضات
لعقد صُلْح منفرد مع فرنسا، وحينئذ تعهد كاسلريه — وقد وجد آماله تتحقق في عقد هذه
المحالفة الرباعية ضد فرنسا — بأن تدفع إنجلترة معونة مالية للحلفاء قدرها خمسة
ملايين من الجنيهات عن سنة ١٨١٤.
وأما مؤتمر شاتيون فقد ظل يتعثر في أعماله، حقيقة حَصَلَ كولينكور يوم ١٠ مارس
على مَدِّ أجل المهلة، وتَقَدَّمَ يوم ١٥ مارس بمشروع مقابل، على أساس بقاء يوجين
بوهارنيه (نائب الملك) في إيطاليا، والاحتفاظ بسكسونيا لملكها فردريك أوجستاس،
ومساهمة فرنسا في مؤتمر يُعْقَد لتنظيم أوروبا من جديد، ولكن بعد إبرام معاهدة
شومنت لم يَعُدْ هناك أي أمل في الوصول إلى تسوية مع نابليون بالطرق السلمية على
غير الأسس التي يريدها الحلفاء، أي انكماش فرنسا إلى حدود ١٧٩٠ وحسب، وفي ١٩ مارس
إذن أُعْلِنَ انفضاض المؤتمر «في شاتيون».
واستعد الفريقان للمعركة الحاسمة: (معركة باريس) ذاتها.
وكان نابليون قد احتل هضبة كراءون Craonne شمال
نهر الإيسن، بين سواسون ولاءون؛ ليَرْقُبَ حركات بلوخر، واستطاع أن يَدْفَعَ عنه
هجومًا روسيًّا لزحزحته من هذا الموقع (٧ مارس)، ولكنه لم يلبث أن اصطدم أمام
«لاءون» بالمواقع القوية التي اتخذها جيش بلوخر في هذا المكان، ولم يُصِبْ نابليون
أي نجاح، ثم استطاع بعد قليل (١٣ مارس) أن ينتزع من أيدي الروس والبروسيين
«ريمز Reims»، ولكن هذه الواقعة كانت آخر عهد
نابليون بالانتصارات، ولم يعد الحظ يبتسم له بعدها، فمع أنه التحم مع شوارزنبرج يوم
٢٠ مارس في معركة دامية عند «أرسيز-سير-أوب Arcis-Sur-Aube»، كانت أحمى وقائع هذه الحملة إطلاقًا وذات نتائج
تضارع في أثرها الحاسم معركة لودي التاريخية أيام الحملة الإيطالية، فإن نابليون
بالرغم من أنه أَرْغَمَ شوارزنبرج على الارتداد فقد عَجَزَ عن الانتصار عليه
انتصارًا حاسمًا، «بل إن نابليون — الذي خشي من عودة العدو لاستئناف الهجوم عليه —
لم يلبث أن ارتد هو الآخر بطريق فيتري Vitry على
المارن.»
وكان غَرَضُ نابليون من هذا الارتداد أن يَضَعَ قواته بأكملها وراء الجيش
النمسوي؛ حتى يقطع خطوط مواصلاته مع نهر الراين، ويضطره إلى الابتعاد عن باريس
والدخول في عمليات عسكرية في ميادين تقع حينئذ في المكان الذي يختاره نابليون، وفي
غير الاتجاه الذي سارت فيه العمليات السابقة نحو باريس، وكادت هذه الخطة تنجح؛ لأن
الحلفاء عَوَّلُوا على الارتداد نحو «لانجر» و«فيسول Vesoul» لتحطيم جيش الإمبراطور أولًا — أي في ميدان المعركة الذي
اختاره نابليون — ثم الزحف على باريس بعد ذلك، ولكن الحلفاء لم يلبثوا أن غَيَّرُوا
عَزْمهم، عندما سَقَطَ في أيديهم خطاب من نابليون إلى ماري لويز (٢٣ مارس)، وخصوصًا
خطاب من «سافاري» — المشرف على البوليس — يشرح لنابليون هياج الخواطر في باريس تحت
تأثير الدعاية التي يذيعها العدو، وتشيع روح الهزيمة في نفوس الباريسيين، فكان أن
أشار القيصر — في مجلس الحرب الذي انعقد لبحث الموقف — بضرورة الزحف مباشرة على
باريس.
وفي ٢٥ مارس تحركت الطوابير النمسوية لتنضم إلى جيش بلوخر في الزحف على باريس،
بينما انفصل جزء من قوات الحلفاء بقيادة وينزينجرود ليتتبع نابليون؛ لإيهام هذا
الأخير أن الحلفاء قد استجابوا لمناوراته والاتجاه صوب الجنوب بدلًا من الزحف على
باريس، وقد اشتبك نابليون بكل قواته مع جيش «وينزينجرود» بالقرب من «سان ديزييه St-Dizier» في ٢٦ مارس، وانْطَلَتْ عليه
الحيلة، ولكنه ما عتم أن وقف على الحقيقة في الصباح التالي من بعض أسرى العدو،
فبادر عندئذ وبسرعة خاطفة ينكص على عقبيه صوب (ترويز) التي وصلها مساء ٢٩ مارس،
ولكن الحلفاء كانوا قد سَبَقُوه في زحفهم إلى الشمال بأيام ثلاثة بتمامها، وفي يوم
٢٦ مارس نفسه كانوا أمام باريس، ولم يكن في طوق إنسان مهما أوتي من قوة ومهارة أن
يلحق بهم، وبات متعذرًا على نابليون أن يبلغ باريس في الوقت المناسب؛ حتى يضع قواته
تحت أسوارها للدفاع عنها.
ومع ذلك فقد اعتمد نابليون على مهارة وبسالة قائديه: مارمون، ومورتييه، وعلى
وطنية الباريسيين، فواصل الجيش السير نحو باريس، وسبق نابليون نفسُه جيشَه، ولكن
الحلفاء كانوا قد أوقعوا الهزيمة بقوات مورتييه ومارمون في ٢٥ مارس عند فيرشامبنواز Fère-Champenoise، حتى إن هؤلاء ارتدوا إلى
أسوار باريس (يوم ٢٩ مارس) وهو نفس اليوم الذي غادرت فيه العاصمة ماري لويز ومعها
ملك روما إلى بلوا Blois مقر الحكومة الجديد،
وتجدد القتال في اليوم التالي (٣٠ مارس)، ودافع ببسالة عن العاصمة كل من مارمون،
ومورتييه، ومونسي Moncey مع الحرس الأهلي، وطلبة
المدرسة الحربية قبل أن يُرْغَموا على إلقاء السلاح، وقد أعطى جوزيف بونابرت نفسَه
الأمرَ بالتسليم قبل أن يغادر باريس.
وفي لِيل ٣٠-٣١ مارس ١٨١٤ تم التوقيع على تسليم باريس، وفي تسليم باريس كانت
نهاية الإمبراطورية، فلم تُفِدْ شيئًا في إحيائها وبعثها إلى الوجود أيةُ محاولات
بعد ذلك، وبالرغم من نضال نابليون المرير طوال الخمسة عشر شهرًا التالية.