الفصل السادس
حكم المائة يوم وواترلو
١٨١٤-١٨١٥
آذن تسليم باريس بأن الإمبراطورية النابليونية — التي قامت قبل كل شيء على حد
السيف — قد انطوت صفحتها، عندما ثبت (الآن) أن نابليون لن يكون في وسعه — بسبب
الإرهاق الذي صارت تعانيه البلاد، والخسائر الجسيمة التي تَكَبَّدَتْها في الرجال،
بعد حروب استمرت دون انقطاع تقريبًا من أيام المحالفة الأولى ضد الثورة (١٧٩٢) — أن
يجند الجيوش التي تُعَادِل في قُوَّتِها جيوش الحلفاء، أولئك الذين صَحَّ عزمهم على
تقويض عروش إمبراطوريته والانتقام «منه»، بالانتقام من فرنسا التي قامت فيها الثورة
أولًا، فأطاحت بعرش الملكية الشرعية (البربون)، وقبلت أخيرًا ديكتاتورية «المغتصب»
الذي أذاعت جيوشه مبادئ الثورة في أوروبا، وقوضت عروش الملوك والأمراء الشرعيين
لتقيم على أنقاضها تلك الإمارات والممالك التي ضَمَّتْها إمبراطوريته.
ولكن تسليم باريس لم يُضْعِف عَزْم نابليون الذي صمم على المقاومة، فهو كان قد
وَصَلَ إلى بار (الواقعة على نهر
أوب) Bar-Sur-Aube يوم ٢٩ مارس عندما بلغه نبأ وصول الحلفاء إلى أبواب باريس،
وفي المساء وصل إلى «ترويز» — كما قَدَّمْنا — وتابع السير بكل سرعة فبَلَغَ
فونتنبلو في مساء ٣٠ مارس، وبعد أربع وعشرين ساعة أخرى وقف عند «فرومنتو-جوفيزي Fromenteau-Juvisy» في الطريق إلى باريس
ليستبدل الخيول، وهناك علم بتسليم باريس، وعندئذ لم يشأ نابليون التسليم بأن خسارة
العاصمة من شأنها إنهاء المعركة، وأراد الاجتماع بقواده (مارشالات فرنسا) ليشرح
تفاصيل الخطة للمعركة المقبلة: إما التقدم لتوجيه الهجوم على باريس ذاتها؛ لاسترجاع
العاصمة، وإما الانسحاب إلى نهر اللوار، حيث يوجد مقر الحكومة الجديدة في بلو
لإعادة تنظيم جيشه، فاجتمع بالمارشال مارمون عند إسون Essones في أول أبريل، وهو المكان الذي انسحب إليه مارمون بعد تسليم
باريس، وفي ٣ أبريل عقد نابليون مؤتمرًا حضره قواده الذين أرادوا إقناع الإمبراطور
بإعلان تَنَازُله عن العرش، ولكن نابليون جَعَلَهم يرجعون عن رأيهم.
على أنه أثناء ذلك كان القيصر إسكندر، وملك بروسيا فردريك وليم قد دخلا إلى باريس
يوم ٣١ مارس في احتفال رسمي، على رأس الجيوش المتحالفة (٢٣٠٠٠٠)، وقوبل العاهلان في
الأحياء الغنية بالعاصمة بهتافات الحشود بحياة الملك! وحياة البربون! ثم هَتَفَ
الناس في أنحاء باريس بحياة الإمبراطور إسكندر، وحياة ملك بروسيا، وحياة لويس
الثامن عشر، كما نادَوْا بسقوط الطاغية نابليون.
واتخذ القيصر مَقَرَّه في منزل «تاليران»، حيث انعقد على الفور مؤتمر ضم إليه
أعضاء الشيوخ من أصحاب المكانة، وكبار موظفي الحكومة، وكان بناء على طلب هؤلاء أن
أَصْدَرَ الملكان منشورًا أَعْلَنَا فيه أنهما لن يتفاوضا مع نابليون بونابرت، ولا
مع أي فرد من أعضاء أسرته، وحاول «تاليران» إيجاد حل دستوري لإنشاء حكومة مؤقتة
تَحُلُّ محل حكومة فونتنبلو برئاسة نابليون المتهيئ للحرب، وحكومة بلوا، مقر ماري
لويز، صاحبة الوصاية أو النيابة في الحكم، والتي تتحمل مسئولية التسليم؛ وعلى ذلك
فإنه بناء على قرارٍ من مجلس الشيوخ — أي الأعضاء الحاضرين من هذا المجلس وهم ٦٤
شيخًا من ١٤٠، ودون اجتماع رسمي أو أية مباحثات — أنشئت حكومة مؤقتة من دوق
دالبرج Dalberg، والكونت جوكور Jaucourt، ورجل الدين مونتسكيو Montesquiou، والجنرال بورنونفيل Beurnonville، ويترأس هذه الحكومة تاليران، وصدر
هذا القرار في أول أبريل.
وهذه الحكومة المؤقتة التي قَبِلَ الحلفاءُ المفاوَضة معها فقط، اتخَذَتْ لنفسها
كذلك سلطات جمعية تأسيسية؛ فاستصدرت تصريحًا موجزًا بالمبادئ التي يقوم عليها
الدستور: بقاء مجلس الشيوخ (السناتو) والمجلس التشريعي، وإطلاق حق الانتخاب،
والإبقاء على الرتب والمعاشات العسكرية، واحترام التزامات الدين العام، والاعتراف
بقانونية مبيع الأملاك الأهلية، والعفو عن أصحاب الآراء التي لم تكن يرضى عنها نظام
الإمبراطورية، وحرية العبادة، وحرية الصحافة، والتعبير عن الرأي، واعتبرت هذه
الحكومة المؤقتة أن نابليون قد اعتدى على الدستور؛ فطلبت من المجلس التشريعي إعلان
عَزْله، ونَفَّذَ المجلس هذه الرغبة يوم ٣ أبريل.
وكان حينئذ — بعد مُقَابَلة عنيفة بين الإمبراطور والمارشال «ناي» وأحاديث طويلة
مع قواده: أودينو، وليففر وغيرهما — أن رضي نابليون يوم ٤ أبريل بالتنازل عن العرش
لصالح ابنه ملك روما، وبَعَثَ نابليون بقواده ناي ومكدونالد، ووزير خارجيته
«كولينكور» إلى القيصر، وقد اصطحب هؤلاء معهم «مارمون»، وكان يقيم في «إسون»، وقد
بدا لأول وهلة أن القيصر يميل لقبول تَنَازُل نابليون لصالح ولده، غير أن الحكومة
المؤقتة استطاعت التأثير على جيش مارمون، بينما تَمَكَّنَ شوارزنبرج من استمالة
مارمون نفسه إلى التخلي عن نابليون؛ فحدث في لِيل ٤-٥ أبريل — بفضل مساعي الحكومة
المؤقتة — أن انضم جيش مارمون إلى صفوف الأعداء، وكشف بذلك فونتنبلو — مقر حكومة
نابليون — وعندئذ أَصَرَّ القيصر على وجوب تنازُل نابليون، من غير قيد أو شرط، وفي
٦ أبريل وَقَّعَ نابليون وثيقة التنازل، ومن غير قيد أو شرط.
وفي اليوم نفسه نادى مجلس الشيوخ بالحكومة الملكية الوراثية، ووَجَّهَ الدعوة
لاعتلاء عرش فرنسا إلى لويس ستانسيلاس
إكسافييه Stansilas-Xavier شقيق الملك السابق لويس السادس عشر، واعتمد وثيقة دستور
جديد يتألف من ٢٩ مادة، وبمقتضى هذا الدستور أُبْقِيَ في وظائفهم — واستمروا يفيدون
ماليًّا تبعًا لذلك من هذه المناصب وكما فعلوا في الماضي — أعضاءُ مجلس الشيوخ
الحاليون وسائر النواب الذين حضروا جلسة المجلس التشريعي، التي صدر عقبها قرار
التأجيل إلى أَجَلٍ غير مسمًّى «ثم الحل» في ٢٩ ديسمبر من العام السابق، واحتفظ هذا
الدستور في نظر أصحابه بالآثار المتخلفة عن «الثورة»، وفقًا للمبادئ التي
أُعْلِنَتْ يوم أول أبريل، كما تَنَاوَلَ التنظيم الحكومي؛ فنص «في المادة الرابعة
عشرة» على أن الوزراء يجوز أن يجمعوا بين الوزارة وعضوية مجلس الشيوخ أو المجلس
التشريعي، «وفي المادة الحادية والعشرين» على أن جميع قرارات الحكومة يجب أن
يُوَقِّعَ عليها الوزير المختص، ولكن الوزراء مسئولون عن أعمالهم.
وعامَلَ الحلفاءُ نابليون معاملةً سخية نظير تَنَازُله؛ فأعطَوْه جزيرة
إلبا Elba لإقامته، مع معاشٍ سنويٍّ يبلغ
المليونين من الفرنكات، وجعلوه يحتفظ بلقب الإمبراطور، وتم ذلك في معاهدة أبرمت في
فونتنبلو يوم ١١ أبريل، وقد ضَمِنَتْ هذه المعاهدة أيضًا إعطاء الإمبراطورة «ماري
لويز» دوقيات بارما، وبليزانس أو
بياكنزا Plaisance, Piacenza، وجواستالا Guastalla
(وكلها في إيطاليا)، وقد حاول نابليون في الليلة التالية الانتحار بتناول السم، وفي
٢٠ أبريل وَدَّعَ حَرَسَهُ القديم وداعًا مؤثرًا، ثم غادر فونتنبلو في طريقه إلى
المنفى، مارًّا بروان، وليون، وإفينون، ثم أَبْحَرَ من فريجوز Fréjus يوم ٤ مايو إلى جزيرة إلبا على ظَهْر فرقاطة
إنجليزية.
وفي الوقت الذي غادَرَ فيه نابليون فونتنبلو في طريقه إلى إلبا، غادَرَ الملك
لويس الثامن عشر القصر الذي أقام فيه في هارتويل في مقاطعة بكنجهامشاير في إنجلترة
(٢١ أبريل) في طريقه إلى لندن، وكاليه، ليصل إلى هذه الأخيرة يوم ٢٤ أبريل، وليدخل
العاصمة باريس رسميًّا يوم ٣ مايو ١٨١٤، وبذلك عادت المَلَكية إلى فرنسا، وقُضِيَ
على الأنظمة التي تولدت من الثورة: الجمهورية، والقنصلية (الجمهورية)
والإمبراطورية.
ومنذ ٢٦ فبراير ١٨١٤ كتب نابليون للإمبراطورة ماري لويز:
إن الروس هم الذين أرادوا تقديم البربون وتأييد قضيتهم، فكانوا بسبب ذلك
مَوْضِع سخرية الناس بهم، ولم يشأ إنسان مؤازرتهم في هذا العمل، فلم يؤيدهم
النمسويون الذين لا يريدون إطلاقًا الكلام في موضوع البربون.
ويبدو أن نابليون كان وقتئذ على صواب فيما ذَهَبَ إليه؛ لأن الحلفاء
ما كانوا يفكرون جديًّا في إعادة البربون إلى عَرْش فرنسا، وكان مترنخ يُؤْثر إقامة
وصاية نمسوية، تشرف على حكومة باسم نابليون الثاني، أي تولية «ملك روما» عرْش
فرنسا، وحتى يوم ١٠ مارس كان الحلفاء ضد عودة البربون، فقوبل مندوب تاليران لديهم،
وكان من الملكيين (وهو البارون دي
فيترول
Vitrolles) مقابلةً جافة عندما أَخَذَ يتحدث عن البربون، ولكن
تاليران ظل مثابرًا على تأييده لقضية البربون، واستطاع التأثير على القيصر إسكندر
الذي ذَكَرْنا أنه أقام في بيته، حتى أقنعه بأنَّ عودة البربون إلى عرش فرنسا إنما
هي اعتراف «بالمبادئ» التي يقوم عليها السلام وترمز لها، كما ترمز للاستقرار
المنتظَر في ظل النظام الجديد في أوروبا.
وفي رأي كثيرين من المؤرخين أن ليس صدقًا القول بأن «البربون عادوا في ركاب
الأجانب» إلى فرنسا، وليس صدقًا كذلك — في الوقت نفسه — القول بأن فرنسا كان لها
مطلق الحرية — حسب ما وَعَدَ به القيصر إسكندر — في أن تختار نوع الحكومة التي
تريدها، والواقع أن مبدأ إرجاع البربون إلى عَرْش فرنسا كان تَقَرَّر وحصل الاتفاق
عليه بين رؤساء المحالفة الدولية وبعض رؤساء الإمبراطورية «النابليونية».
على أن موضوع انتقال السلطة إلى الملك العائد كان أكثر تعقيدًا من تقرير العودة
في حد ذاتها؛ فقد دُعِيَ لويس ستانسيلاس إكسافييه، كما شاهدنا يوم ٦ أبريل لاعتلاء
عرش فرنسا، ولكن لم يكن مستطاعًا إعلان ملكيته — ملكًا على الفرنسيين — إلا إذا
قَبِلَ الدستور وأَقْسَمَ على احترامه، ولقد دأب لويس «الثامن عشر» — منذ وجوده في
المنفى في ميتاو Mittau (وذكرنا أنها في كورلاند
بروسيا)، ثم بعد ذلك في هارتويل (في إنجلترة) — على انتهاز الفرص، ولم يَفْتُر له
نشاط، وكان من هارتويل إذن بمناسبة الحوادث الأخيرة أن أصدر منشورًا في أول يناير
١٨١٤ لتأييد حقوقه في العرش، ولما كان يشكو داء المفاصل (النقرس)؛ فقد سَبَقَهُ
شقيقه الكونت دارتوا في الدخول إلى باريس (يوم ١٢ أبريل) بوصفه قائم مقام المملكة —
وهو اللقب الذي أُعْطِيَ له يوم ١٤ أبريل — باعتبار أنه مندوب — على حد قوْل فوشيه
— عن مجلس الشيوخ، وذلك إلى أن يَقْبَل لويس ستانسيلاس إكسافييه الدستورَ ويُقْسِم
على احترامه.
وقد وَجَدَ المعاصرون في هذا الترتيب ضمانًا لسلطان الأمة وسيادتها، ولكن الذي
حدث أنه سرعان ما صار مبعث مناقشات كثيرة حول قيمته، خصوصًا كإجراء يجب التقيد به
في تقرير سيادة الأمة، أو تأييد حقوق الملكية الراجعة (الشرعية).
ومهما كان الأمر، فقد وَجَدَ الكونت دارتوا نفسه على رأس الحكومة بوصفه قائم مقام
المملكة، واتخذ بهذه الصفة عدة إجراءات أثارت انتقادات كثيرة، منها الإبقاء على
فئات وأنواع معينة من الضرائب التي كانت مَوْضع شكاية الشعب أيام الإمبراطورية،
والتي كان «أرتوا» نفسه قد وَعَدَ بإلغائها يوم ٢٠ أبريل، ومنها أنه عين قومسييرين
غير عاديين، مُهِمَّتُهم مراقَبة ولاء الموظفين (٢٢ أبريل)، ومنها أنه وَقَّعَ
اتفاقًا مع الحلفاء في ٢٣ أبريل على أساس إرجاع حدود فرنسا إلى ما كانت عليه سنة
١٧٩٢، ثم إعادة الحصون التي يحتلها الفرنسيون خارج هذه الحدود بكل ما فيها من
مدفعية، وذخائر، وسجلات؛ الأمر الذي جرَّد فرنسا من السلاح قبل إبرام الصلح
معها.
وعندما استطاع لويس الثامن عشر أخيرًا مغادرة هارتويل، ظل مترددًا بين اتباع
مشورة «بوزو دي بورجو Pozzo di Borgo» — وكان
لاجئًا كورسيكيًّا الْتَحَقَ بخدمة القيصر وصار من مستشاريه، ويدين بالمبادئ الحرة،
وقد نصح الملك بقبول الدستور — وبين نصيحة أولئك الذين وَضَعُوا حقوق المَلِك
المشروعة فوق كل اعتبار، وكان لويس حريصًا على الاحتفاظ بكل سلطاته، ولا يريد بحالٍ
التفريطَ في شيء منها، ولكنه كان كذلك حَذِرًا للغاية، ولا يودُّ أن يرفض الدستور
رفضًا صريحًا.
فقد هنأ رئيس المجلس التشريعي الملك لويس على رغبته في إقامة حكومة «حكيمة
ومتزنة»؛ لأنه لم يَطْلُب من الحقوق إلا ما كان كافيًا لمُمَارَسة الملك سلطاته
بصورة تَجْعَل ممكنًا تنفيذ «الإرادة العامة» تنفيذًا أبويًّا؛ فأجاب الملك
مؤكِّدًا الاتحاد التام الذي يربطه بممثلي الأمة، والذي يجب أن ينبثق منه «استقرار
الحكومة، وسعادة الشعب»، وعندما تحدث تاليران باسم مجلس الشيوخ أشار إلى الأنظمة
الإنجليزية «الدستورية»، ولكنه راح يرجو «أن تكون فرنسا حرة؛ حتى يكون الملك
قويًّا»، وهكذا كان واضحًا أن الرأي لم يستقر على شيء قطعي فيما يتعلق بشكل الحكومة
الدستورية المزمع إقامتها على أيدي الملكية الراجعة، هل يكفل الدستور سلطات الأمة
وسيادتها، فيعمل الملك وحكومته لتنفيذ «الإرادة العامة» أو أن الدستور سوف يحفظ
للمَلِك سلطات واسعة تَجْعَله قادرًا على إقامة حكومة غير مسئولة فعلًا أمام ممثلي
الأمة؟
ولقد ظهر هذا التردد — وإن شئت الإبهام — في التصريح الذي أذاعَهُ المَلِك من
سانت أوين Saint-Ouen يوم ٢ مايو قبل دخوله
عاصمة مُلْكه، فقد أَشْرَفَ على إعداد هذا التصريح كلٌّ من البارون دي فيترول —
وسَبَقَت الإشارة إليه — والدوق دي بلاكاس Blacas
من أنصار الملك، وذلك من غير إشراك الهيئات السياسية في البلاد، وفي هذا التصريح
أَوْضَحَ المَلِكُ آراءه ونواياه، فقد استهله بتأكيد مبدأ «الشرعية» في قوله إنه
مَلِك فرنسا بإرادة الله، وإنه قد استَرْجَع عَرْش آبائه وأجداده بسبب حبه لشعبه،
ولكنه أشار إلى تلك الثقة المتبادلة بينه وبين شعبه، والتي قال إنه لا غِنى عنها
لانتشار الهدوء والسكينة وتوفُّر أسباب السعادة، ثم إنه اعتبر الدستور الذي
أَعَدَّه مجلس الشيوخ (في ٦ أبريل) — والذي دعاه
بمقتضاه ليتبوأ العرش باسم الأمة — مجرد مشروع لم يكن في وُسْعِه إطلاقًا — وهو
الذي يَسْتَمِدُّ حقوقه المقدسة في الحكم من عند الإله — قبولُه، وقال الملك: «إن
هذا المشروع مدموغ بطابع السرعة، كما يُلَاحَظ ذلك في معظم مواده؛ ولا غنى — لهذا
السبب — عن مراجعة هذا الدستور وإعادة النظر فيه «لتصحيحه.»
وهكذا رَفَضَ المَلِكُ الاعترافَ بأن هناك سلطات أعلى من سلطاته، أو أنه
يَسْتَنِد في اعتلائه العرشَ على دعوة الأمة له بأن يَفْعَلَ ذلك، أو أن للأمة
«سيادة» تعلو السيادة التي له، أو أنه باعتلائه العرش إنما يُمَارِس السلطات التي
يجري بها تنفيذ «الإرادة العامة»، حتى إذا اطمأنَّ الملك في «تصريحه» من هذه
الناحية، لم يجد صعوبة ما في الاعتراف بأن القواعد التي قام عليها «مشروع» الدستور
«قواعد طيبة»، وهي القواعد التي سبق ذِكْرُها: (ضمان الحرية الفردية والمساواة في
الحقوق المدنية، وقانونية مبيع الأملاك الأهلية، والإبقاء على أنظمة الحكم التي
عَرَفَهَا العهد الإمبراطوري، من حيث توزيع السلطات بين الهيئات التشريعية
المعروفة، والهيئات التنفيذية، ثم وجوب إنشاء الحكومة على أسس دستورية).
وعلى ذلك فقد اختفى من «تصريح سانت أوين» كُلُّ ذِكْر لسيادة الأمة، بل إن الملك
هو الذي سوف يَصْدر عنه الدستور، وحتى حينئذ اسْتَبْدَلَ باسم الدستور Constitution، العهد أو
الميثاق، أو القانون النظامي للمملكة Charte.
وعلى ذلك فقد تَشَكَّلَتْ لجنة لوضْع الدستور الجديد، انتهت من مهمتها بين ٢٢ و٢٧
مايو، وأخذ واضعو الدستور «التنظيمَ السياسيَّ» عن الإنجليز، من حيث تقرير أن
المَلِك يمارِس سلطاته التنفيذية بواسطة وزراء مسئولين، وأن مِنْ حقه وحده اقتراح
القوانين، وأن مجلسًا للأعيان Chambre des Paris
وآخر للنواب Ch. des Députés des Départements
يقترعان على الضرائب وعلى القوانين، وأن مجلس الأعيان أعضاؤه يُعَيِّنُهم الملك،
ومن الممكن أن تكون العضوية به وراثية، وأن مجلس النواب أعضاؤه بالانتخاب، على أن
يكون للذين يدفعون ضريبة مباشرة قَدْرها خمسمائة فرنك حق الانتخاب، وللذين يدفعون
ضريبة قَدْرها ألف فرنك حق النيابة، وفيما عدا ذلك، فقد تَحَوَّل «الآن» ومؤقتًا
المجلس التشريعي الذي عَرَفَتْه الإمبراطورية إلى مجلسٍ للنواب، بينما تألف من
الأرستقراطية الجديدة أكثريةُ مجلس الأعيان، من بينهم أربعة وثمانون «شيخًا»
و«مارشالًا»، وهذا الدستور قُدِّمَ للقراءة في المجلسين يوم ٤ يونيو ١٨١٤.
وظاهرٌ أن هذا الدستور قد احتفَظَ بالتغييرات العريضة التي أَحْدَثَها، والمزايا
التي نَجَمَتْ من «الثورة» و«الإمبراطورية» في الناحيتين السياسية والاجتماعية، وإن
كان قد تم في صورة تَنَازُل صَدَرَ عن إرادة الملك، وفي ظل سيادته العليا.
ولقد كان الذي استأثر باهتمام الفرنسيين ولا شك، ليس صفات الملك وأغراضه، بقدر
المعنى الذي انطوت عليه عودة الملكية إلى فرنسا؛ ففي اعتبارهم كان معنى الملكية
الراجعة انتشار السلام، وذلك ما كانت قد بدأت في إقامة الدليل عليه «الحكومةُ
المؤقتة» — برئاسة تاليران — عندما بادَرَتْ بتسريح المجندين، والتوقف عن طَلَبِ
أية دُفْعَات جديدة للجندية، كما سَاعَدَ على ذلك عقد الهدنة على يد الكونت دارتوا
(في ٢٣ أبريل) في الاتفاق الذي سَبَقَت الإشارة إليه، والذي دل على أن العهد الجديد
(الملكية الراجعة) لا تَهْتَمُّ بالتوسع الذي أَحْرَزَتْه فرنسا على أيام الثورة
ونابليون، ولم يكن قَبُولُها انكماشَ الحدود الفرنسية إلى ما كانت عليه سنة ١٧٩٢
إلا عملًا غيرَ حكيم، سوف يُفْقِدُها مزايا كان في وسْعها الاعتمادُ عليها في
المساوَمة الخاصة بإبرام معاهدة الصلح النهائي مع الدول المتحالفة ضدها، ومن شأنه
كذلك حرمان البلاد من ضمان ثمين للمحافَظة على مصالحها عند النظر في تصفية المشاكل
التي نَجَمَتْ من «تجربة» إقامة الإمبراطورية النابليونية.
ولقد حاول تاليران أن يَحْصُل على بعض تعويضات لقاء تَخَلِّي فرنسا عن كل هذه
الفتوحات التي فقدتها؛ فتحدث في ذلك مع مترنخ، ومع نسلرود، ومع كاسلريه — ولو أنه
لم يشأ المباحثة مع هاردنبرج؛ لعدم تَوَقُّعِه الوصول إلى شيء مع بروسيا — ولكن دون
جدوى، وحاوَلَ تاليران إقناع الحلفاء بأن تقوية حدود فرنسا الشرقية ضروري — من
ناحية بلجيكا خصوصًا — حتى يتسنى الدفاع عن حدودها، وذلك بإعطائها مونز Mons، ونامور Namur،
ولكسمبرج، وبما في ذلك أيضًا قيصر
سلوترن Kaiserslautern في البلاتينات، واسْتَنْكَرَ الحلفاء هذا المطلب، وكفى في
نظرهم لتأمين فرنسا من ناحية حدودها الشرقية إعطاؤها سافوي وكونتية نيس، ومن ناحية
حدودها الشمالية، تحسين حدود ١٧٩٢ بضم الأقاليم المجاورة إليها في فيليبفيل Phileppeville، وماريانبورج Marianbourg، ثم سارلويي Sarrelouis، ثم لانداو Landau،
وكلها مواقع تفيد في الدفاع وصَدِّ الغزو من نواحي نهري واز Oise، وسار Saare، ثم جبال
الفوزج.
وأراد الحلفاء أن يفرضوا غرامةَ حرب أو «تعويضًا» على فرنسا، ودارت مناقشات طويلة
حول هذا «التعويض»، ولم يُثْنِ الحلفاءَ عن عَزْمِهم غيرُ رَفْض لويس الثامن عشر
دَفْع أية تعويضات، وعندئذ وَقَعَتْ مُعاهدة الصلح الأولى في باريس في ٣٠ مايو
١٨١٤، وَقَّعَها تاليران عن الملك الفرنسي، وممثلو النمسا وروسيا وبريطانيا
وبروسيا.
وبمقتضى معاهدة الصلح هذه انْكَمَشَتْ فرنسا داخل الحدود التي كانت لها أيام
«العهد القديم»، بل إنها تعهدت بالاعتراف بكل الترتيبات التي يتفق عليها الحلفاء
بشأن الأقاليم التي تَخَلَّتْ عنها فرنسا والنظام الذي سوف يَنْجُم من هذه
الترتيبات ليكفل التوازن الحقيقي والدائم في أوروبا، وأما هذه الترتيبات المنتظَرة
فكان قد تم تقرير المبادئ التي تقوم عليها بحيث تتألف من الأراضي المنخفضة دولةٌ
واحدة تَجْمَع بين بلجيكا وهولندة، وأن تسترجع النمسا كلًّا من لمبارديا والبندقية
«فينيسيا Venetia»، وأن تستقل ألمانيا، ويتألف
منها اتحاد كونفدرائي، وأن تحتفظ إنجلترة ببعض الجزر التي استولت عليها، وكانت
جزءًا من المستعمرات الفرنسية: تباجو Tabago،
أيل دي فرانس Ile de France، سانت لوسي Sainte-Lucie، سيشيل Seychelles.
ودَلَّتْ شروط الصلح الذي تم في باريس إذن على أن الذي حصل لم يكن رجوع الملكية
إلى فرنسا وحسب، بل كان الغرض المتوخَّى منها كذلك إضعاف فرنسا ذاتها — وفرنسا كما
كانت في العهد القديم — حقًّا لقد احتفظت فرنسا بأفينون Avignon «في الجنوب على نهر الرون»، ومنتبليار Montébeliard، وملهوسن Milhausen «في الشرق في إقليم الراين الأعلى»، وشامبري Chambéry، وأننسي Annecy «في سافوي»، وكانت فرنسا قد استولت على هذه الأقاليم قبل
١٧٩٢، وكذلك احتفظت بحقوقها القديمة في الصيد في «الأرض الجديدة»، نيوفوندلاند،
الجزيرة الإنجليزية في أمريكا الشمالية، ولكنها فقدت عددًا من مستعمراتها،
وحُرِمَتْ من أن يكون لها صوتٌ ما في توزيع الأسلاب من الإمبراطورية
النابليونية.
وقد طَلَبَ الحلفاء قَبْل مغادرتهم باريس، أن يبادر لويس الثامن عشر باعتماد
الدستور؛ لاعتقادهم أن في اعتماده ضمانًا لاستقرار الأمور ونشْر الهدوء والسكينة،
عندما لاحظوا هياجًا في الخواطر، وثورة فكرية حول الدستور من جانب أصحاب الآراء
الحرة الذين أرادوا التوسع في الحقوق المعطاة للأمة وتقرير سيادتها العليا، وأصدروا
النشرات أو الكراسات لتأييد وجهة نظرهم، مثلما فَعَلَ جريجوا Grégoire (من أعضاء المؤتمر الوطني القدامى)، وبنيامين كونستان Constant وغيرهما، ومن جانب أعداء الفكرة
الدستورية والمناوئين للدستور، وقد اشتركت الصحف في تأييد وجهات النظر المختلفة،
فأيد الجورنال دي ديبا Journal des Débats،
وجورنال دي باري de Paris فريقًا، وأيَّدَتْ
غازيتة فرنسا Gazette de France فريقًا آخر،
فتألفت يوم ١٨ مايو لجنة لوضع الدستور، باشَرَتْ عملها بكل سرعة، وقد ذَكَرْنا كيف
أنها انتهت من وَضْعه يوم ٢٧ مايو، وأن الدستور قُدِّمَ للقراءة في المجلسين يوم ٤
يونيو.
على أن مهمة الملكية الراجعة الرئيسية — وهي ممارسة شئون الحكم — لم تلبث أن بدأت
وكانت هذه مهمة خطيرة، بسبب التغييرات التي طرأت على نظام الحكم في الداخل من جهة،
من حيث إقامة الملكية الدستورية التي يتوقف نجاحها على مدى تطبيق الدستور بصورة
تَحْفَظ حريات الأمة، وتنال رضى الشعب عن العهد الجديد، وبسبب انكماش الحدود
الفرنسية بمقتضى المعاهدة التي أُبْرِمَتْ مع الحلفاء في باريس، ومدى نجاح الملكية
الراجعة في تجنب العزلة، ومحاولة إرضاء الشعور الوطني عن طريق المساهَمة بدرجة
ملحوظة في الترتيبات الإقليمية المنتظرة لإعادة التنظيم السياسي في أوروبا.
وكان لويس الثامن عشر يتمتع بمزايا كثيرة، منها معرفته لشئون أوروبا، والمثابرة
على العمل مع الحيلة والقدرة على المجاراة وتسيير الأمور، ولكن كان يَلْتَفُّ
حَوْلَه «المهاجرون» من الذين طَمَسَتْ شهوةُ الانتقام من «الثورة» بصائرهم،
وأرادوا استرجاع كلَّ امتيازاتهم وحقوقهم المفقودة، والذين قيل عنهم: «إنهم لم
يتعلموا من دروس الماضي شيئًا، ولم يَنْسَوْا من حوادث هذا الماضي شيئًا»، والذين
نقموا على «الدستور» أو ميثاق ١٨١٤ أنه مؤذن بانتشار «الفوضى الثورية» في البلاد
وعقدوا آمالهم على «حكومة إصلاح»، مهمتها القيام بحركة تطهير شاملة لتصفية
الموظفين، وإلغاء الحقوق الأساسية التي تَكْفُل حريات الأفراد والجماعات، وإعادة
النظر في مبيعات الأملاك الأهلية؛ وبالجملة إزالة كل الآثار الاجتماعية والسياسية
التي تمخضت عنها الثورة والإمبراطورية، والعودة بالبلاد إلى نظام «العهد
القديم».
وألف الملك وزارته الأولى في ١٣ مايو، ولم يُعَيِّن رئيسًا للوزارة، ولكن كان من
الواضح أن تاليران هو الذي يحتل مكان الصدارة في هذه الوزارة، ولما كان يستأثر بكل
اهتمامه مسألة إعادة التنظيم السياسي في أوروبا — وهي المسألة التي سيتناولها مؤتمر
فينَّا في نوفمبر، والتي غادر تاليران باريس من أجلها منذ سبتمبر لحضور هذا المؤتمر
— فقد ترك تصريفَ شئون البلاد الداخلية للملك ووزرائه، ولا شك في أن غياب تاليران
عن الوزارة كان ذا آثار سيئة عليها، حيث انعدم الانسجام بين أعضائها، فهناك فريق من
الوزراء يضم وزير الحرب «ديبون Dupont» من قواد
نابليون، ووزير البحرية «مالويه Malouet» وهو من
أعضاء الهيئة التأسيسية أمام «الثورة»، ووزير المالية البارون لويس من أنصار
المبادئ الدستورية، ووزير البوليس كونت «بوجنو Beugnot» من كبار الإداريين في عهد الإمبراطورية، وغرض هؤلاء
استمالة طبقات الأمة لقبول النظام الجديد على أساس تطعيم الثورة بالمبادئ
الملكية.
ثم كان هناك الفريق الآخر، مثل وزير الداخلية «مونتسكيو» عضو الحكومة المؤقتة
السالفة الذكر، ووزير الخاصة الملكية الكونت «دي بلاكاس»، ووزير البريد
«فراند Ferrand»، ثم وزير العدل «دامبراي Dambray»، وكل هؤلاء من الملكيين الرجعيين يريدون
العودة بالبلاد إلى «العهد القديم».
وكان هذا الانقسام في الوزارة صورة مصغرة من الانقسام السائد في الأمة، وبَقِيَتْ
إجراءات الوزارة مَوْضِع مناقشة عنيفة؛ بسبب تلك الاتجاهات المضادة التي لخصناها،
واتسمت الحكومة بالفشل في كل نواحي سياستها الداخلية، فمن الناحية المالية
والاجتماعية واجَهَ وزير المالية جملة احتجاجات شديدة من جانب الملكيين المتطرفين Ultra-Royalists مثل شقيق الملك
«أرتوا Artois»، ودوقة دانجوليم Angouléme، ابنة لويس السادس عشر وزوجة ابن
الكونت داتورا البكر «لويس»، وذلك عندما اعتزم بيع مسافة كبيرة من الأراضي التي
تغطيها الغابات كانت ملكًا لرجال الدين من أجل موازنة الميزانية.
واشتركت الصحف «اليومية Quotidienne»
و«الجورنال الملكي Journal Royal» وغازيتة
فرنسا في الاحتجاج على هذه الخطوة المزمعة، ولم يكن الاتفاق على مسألة الأملاك
الأهلية بيْن الذين ابتاعوا هذه الأملاك في عهدَي الثورة والإمبراطورية — وقد بقيت
حقوق هؤلاء في امتلاكها غير ثابتة نهائيًّا — وبين أصحاب هذه الأملاك الأصليين،
والذين انْتَزَعَتْها الدولة منهم، وهؤلاء من المهاجرين.
كما كانت الدولة استولت كذلك على أراضي الكنيسة؛ فتألفت لجنة برئاسة «فراند» لنظر
هذه المسألة، وَصَلَتْ إلى قرار في شهر سبتمبر (١٨١٤) بإبقاء الأملاك الأهلية في
أيدي الذين صارت لهم، وذلك تحقيقًا لما نص عليه الدستور «أو الميثاق»، ولكنها
اقترحت إعادة الأملاك التي لم يحصل التصرف بالبيع فيها إلى أصحابها
الأصليين.
وواضح أن هذا الترتيب أخضع موضوعًا قانونيًّا — حق التملك — لتأثير الفرصة وحدها،
فالذين ابتاعوا هذه الأملاك واغتنموا الفرصة سابقًا، بقيت الأملاك في حَوْزَتهم ولم
يَسْتَرْجِع أصحابُها الأصليون شيئًا، والذين فاتتهم الفرصة في السابق، أو كانوا هم
أصحاب الأملاك التي لم تَتَصَرَّف فيها الدولة، بقي موقف الفريق الأول منهم على
حالِهِ، وأُجِيزَ للفريق الثاني استرجاع أملاكهم، وكانت الدولة مستولية على الأملاك
التي لم يبتعها الأفراد، ومع ذلك فقد رُفِضَ اقتراحٌ لتوزيع الأملاك غير المبيعة
على الذين فَقَدُوا أملاكهم بنسبة خسائرهم، وتقرير بدلًا من ذلك صَرْف تعويضات لهم
عندما يصلح حال مالية الدولة، وأَغْضَبَ وزيرُ المالية إلى جانب هذا دافعي الضرائب
عندما وَجَدَ من واجبه — لموازنة الميزانية — الاحتفاظ بأنواع الضرائب التي كان
الكونت دراتوا قد وَعَدَ بإلغائها (منذ ٢٠ أبريل).
وكان دارتوا قد وعد كذلك بإلغاء التجنيد، وكان من السهل تنفيذ هذا الوعد؛ لانتهاء
الحرب من جهة، ولضرورة إنقاص النفقات العسكرية من جهة أخرى، ولكن تسريح الجنود
استتبع الاستغناء عن عدد كبير من الضباط؛ فبَلَغَ عددُ الذين صاروا في الاستيداع
ولا يُصْرَف لهم سوى نصف مرتباتهم، اثنى عشر ألفَ ضابط، وتزايد تذَمُّر هؤلاء
واستياؤهم عندما وجدوا «المهاجرين» من الضباط الذين وصلوا إلى الرتب العسكرية وهم
يحاربون ضد فرنسا ذاتها، يحتلون المراكز التي أَخْلَاها هؤلاء المُسَرَّحون،
وحاوَلَ وزير الحربية الجنرال (ديبون) أن يجعل الالتحاق بالمدارس الحربية مقصورًا
على أبناء الطبقات الأرستقراطية، ولكن الاحتجاجات ضد هذا الإجراء بلغت درجة من
الشدة اضطرت الحكومة إلى العدول عنه.
وجانَبَ التوفيقُ الوزيرَ الجديد «سولت» الذي خلف «ديبون» في وزارة الحرب في
ديسمبر عندما اتخذ عدة إجراءات أثارت ضِدَّه غَضَبَ الفرنسيين، وأوذيت بسببها سمعة
الحكومة، لعل من أَخْطَرِها اضطهاده الجنرال إكسلمانز Excelmans، ثم تقديمه للمحاكمة أمام مجلس عسكري، بسبب وقوع خطاب
منه إلى «مورا» ملك نابولي في أيدي الحكومة، ووعد «إكسلمانز» في خطابه هذا، إذا لم
يحصل «مورا» تسوية طيبة في مؤتمر فينَّا، أن يَهُبَّ لنجدته واضعًا تحت تصرف «مورا»
«ألف ضابط من الشجعان الذين تخرجوا في المدرسة «الحربية» وتحت أنظار جلالة الملك»
أي «مورا» نفسه، وكان «ديبون» الوزير السابق قد اكتفى بتوجيه اللوم لهذا القائد،
ولكن «سولت» أَنْقَصَ مرتباته إلى النصف، وأَمَرَهُ بمغادرة العاصمة، وعندما رَفَضَ
القائد تنفيذ هذا الأمر الأخير، هوجم منزله ليلًا لتفتيشه، وانتهى الأمر بتقديمه
للمحاكمة، ولكن عندئذ كان قد انتشر خبر هذه «الاعتداءات» في كل أنحاء فرنسا،
وتَحَمَّس الشعب لقضيته تحمسًا كبيرًا، حتى غدا «إكسلمانز» بين عشية وضحاها «بطلًا»
من الأبطال المعدودين، فكاتَبَتْه مدام دي
ستال Staël، وصار يزوره «لانجونيه Lanjuinais» (وقد مرَّ بنا خبره في تاريخ الثورة)، وعَرَضَ عليه
«لفاييت Lafayette» استضافته في بيته في
الريف، مكانًا أمينًا يلجأ إليه، وعندما حكم في «ليل Lille» ببراءته في ٢٥ يناير ١٨١٥ قوبل هذا الحكم من الشعب بحماس
منقطع النظير.
وكان من أسباب الاستياء كذلك من إدارة «سولت» في وزارة الحربية، ومن الحكومة
عمومًا، أنه طلب من الجيش المساهَمة في التبرعات التي جُمِعَتْ لإقامة نصب تذكاري
للمهاجرين الذين اشتركوا في حوادث ثورة «الملكيين» الشوان Chouan في كويبرون Quiberon سنة
١٧٩٥، وقد عَرَفْنَا عند الكلام عن هذه الثورات في عهد المؤتمر الوطني، أن الأسطول
الإنجليزي كان قد نَقَلَ إلى شبه جزيرة كويبرون بضعةَ آلاف من المهاجرين وغيرهم
للاشتراك في هذه الثورة.
ولم تُدْرِك الوزارة نجاحًا كذلك في معالَجة الشئون الدينية، وكان من الحوادث
التي أهاجت الخواطر أنْ رَفَضَ رجالُ الدين إقامةَ الصلاة الجنائزية للاحتفال
بتشييع جثمان راقصة مشهورة (٢٨ يناير ١٨١٥) — مدموازيل روكور Raucourt — مما تَسَبَّبَ عنه حصول الاضطرابات في باريس، ثم زاد من
بلبلة الأفكار، إقامة الصلاة الاستغفارية في جميع أنحاء البلاد يوم ٢١ يناير (١٨١٥)
لإحياء ذكرى الملك لويس السادس عشر الذي أُعْدِمَ في مثل هذا اليوم سنة ١٧٩٣، وبدأ
الناس يتكلمون ثانية عن الاضطهادات والمصادَرات المتوقَّعة.
وهكذا لم تَنْقَضِ شهور على العهد الجديد حتى كان القلق قد استبد بالنفوس، ووجد
الأحرار الأكثر اعتدالًا من غيرهم، أنهم بسبب ثورة الخواطر العارمة هذه قد صاروا
يتآمرون ضد النظام القائم؛ فهناك لفاييت يعلن أن الحرية في خطر، وهناك مدام دي ستال
تعقد الاجتماعات في قصرها (بشارع كليشي Clichy)،
وتدعو للعشاء على مائدتها الأحرارَ من كل العناصر، وهناك البونابرتيون يجتمعون في
منازل أصدقائهم، وكان أعظم المتآمرين نشاطًا جماعة عهد الإرهاب القديم، وعلى رأس
هؤلاء «كارنو» الذي يبعث بمذكرة للملك تحوي أسباب الشكوى العامة من الحكومة، ثم
«فوشيه» الذي يحيك المؤامرات لمساعدة الدوق دورليان على اعتلاء العرش، ثم
«ثوريو Thuriot» و«جريجوار» و«ثيبودو Thibaudeau» وغير هؤلاء، بينما كان القائد
«دورييه Drouet» في لِيل، يفكِّر في الزحف
بجنوده على باريس.
وتضاربت آراء هؤلاء المتآمرين حول النظام الذي يجب أن يحل محل النظام القائم،
فجماعةٌ أَيَّدُوا الدوق دورليان، وآخرون آثَرُوا البرنس يوجين، وفريق نادى
بالجمهورية، وفريق ثانٍ أراد عودة نابليون إلى الحكم، ومع ذلك فقد اتفقوا على أمر
واحد، هو أن هذا النظام القائم لا يمكن أن يدوم، وأخذ كثيرون يُحَدِّدون تاريخ
اليوم الذي ينتهي فيه هذا النظام، ويختفي من الوجود تمامًا، وبينما كان «المهاجرون»
يريدون إعادة بناء حصن «الباستيل» الذي خَرَّبَتْه الثورة، ورَمْز الحكومة
الاستبدادية في العهد القديم، تداعت أركان الملكية الراجعة، وانتهت أيامها مؤقتًا
(١٥ يوليو ١٨١٥) ليحكم نابليون من جديد، خلال المائة يوم التالية، قبل أن يستطيع
البربون استرجاع العرش الذي فقدوه للمرة الثانية، والعودة إلى الحكم في فرنسا بعد
أن تنتصر جيوش الحلفاء على نابليون في واقعة واترلو Waterloo.
ذلك أن هذا التذمر المتزايد من حكومة الملكية الراجعة وأساليبها، لم يكن يغيب
نبأه عن نابليون وهو في منفاه في جزيرة إلبا «جزيرة الراحة» على نحو ما وصفت به،
يرقب تَطَوُّر الحوادث في فرنسا، ولا يفقد الأمل في استرجاع سلطانه المفقود، فهو قد
نزل في «بورتوفيراجو Porto Ferrajo» إحدى مواني
جزيرة إلبا يوم ٤ مايو ١٨١٤، ولم يكن مكتئب النفس، فأبدى رضاه عن المكان الجميل
الذي أُعِدَّ لإقامته، والحديقة التي يضمها، والهواء الطيب، والنظافة التي لاحظها،
وطيبة الأهلين، ثم إنه أنشأ إدارة أو «حكومة» حقيقية عندما جَعَلَ «برتران Bertrand» وزيرًا للقصر، و«دروت Drouot» حاكمًا ووزيرًا للحرب، و«بيروس Peyrusse» وزيرًا للمالية، و«كامبرون Cambronne» قائد الجيش من (١٦٠٠) رجل،
و«تاياد Taillade» قائد الأسطول من «طاقم عدده
١٢٩ رجلًا»، وأبدى نابليون نشاطًا فائقًا، فهو يقوم بالتفتيش على أعمال التحصينات،
وينشئ المنازل والملاجئ، ويفتح الشوارع، ويبني دارًا للتمثيل، ويزرع الكروم، ويربي
دود القز، ويزيد من مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، ويعمل لتجميل المدينة ولتزويدها
بالماء، ولم يكن يزيد عمره وهو في هذا المنفى عن خمسة وأربعين عامًا.
ولكن جروحًا عميقة كانت آثارها تحز في نفسه، فقد حَرَمَه الحلفاء أو أعداؤه
زوْجَه ماري لويز، وابنَه ملك روما، الذي اقتيد إلى فينَّا لينشأ بها نشأة أمير
نمسوي، وقد شكا مُرَّ الشكوى من ذلك، ولكن دون طائل، ولو أن والدته «ماريا ليتتزيا رامولينو Maria Letizia Ramolino» لم تلبث
أن جاءت لتقيم معه (في أغسطس ١٨١٤)، أضف إلى هذا أن المعاش السنوي (٢ مليون فرنك)
الذي تقرر له في معاهدة فونتنبلو لم يصله منه شيء، وقامت عدة محاولات لاغتياله،
وراح تاليران المندوب الفرنسي في مؤتمر الصلح في فينا يُحَذِّر من عواقب وجود
نابليون في هذه الجزيرة القريبة، ويشير بنقله إلى مكان بعيد من فرنسا، وكان في هذا
المكان القريب من فرنسا، أن حَضَرَ (الآن) أحد قدامى الموظفين بمجلس الدولة
«فليري دي شابلون Fleury de Chaboulon» (في ١٣
فبراير ١٨١٥) ليبلغه نبأ انتشار التذمر في الجيش، وكراهية الشعب المتزايدة للبربون؛
وعندئذ قَرَّرَ نابليون الفرار من إلبا والعودة إلى فرنسا.
وقد غادر نابليون إلبا يوم ٢٦ فبراير ١٨١٥، فبلغ الشاطئ الفرنسي ومعه عدد من جنود
الحرس «الإمبراطوري» القديم، ونزل في خليج «جوان Jouan» يوم أول مارس «عند فيريجوس Fréjus» وتجنب نابليون طريق نهر الرون، حيث يوجد أنصار الملكية،
واختار طريقًا آخر للذهاب إلى باريس، بقي الأهلون من أنصار «الثورة» على طوله، ويمر
هذا الطريق بالمدن الآتية: كان Cannes،
جراس Grass، دين Digne، سيسترون Sisteron،
جاب Gap، «كورب Corps»، لافري Laffray، وكان
وصوله إلى هذه الأخيرة في ٧ مارس، وهنا رَحَّبَ جنود الصف الخامس بعودة إمبراطورهم،
ثم بلغ فيزيل Vizille، وهنا رحَّبَ به كذلك جنود
الصف السابع، ثم رحَّبَ به كل جنود الحامية في جرينوبل Grenoble.
ومن الآن فصاعدًا كانت رحلة نابليون إلى باريس موكِب نصْر حقيقي بطريق ليون، حيث
أصدر قرارًا بإلغاء راية البربون البيضاء والأنظمة التي أَوْجَدهَا لويس الثامن
عشر، ثم أوكسير Auxerre حيث ألقى ناي بنفسه في
أحضان الإمبراطور، وقد هَزَّتْه ولا شك مشاعر جنده نحو إمبراطورهم، وذلك بعد أن كان
«ناي» وعد بأن يأتي بالإمبراطور موضوعًا في قفص من حديد، وفي ٢٠ مارس دخل نابليون
باريس، وبذلك تكون قد انتهت قصة «طيران النسر».
وفي باريس وجد نابليون أن الملك لويس الثامن عشر قد تعلق بأذيال الفرار في لِيل
١٩-٢٠ مارس قاصدًا إلى «لِيل» ليذهب منها إلى غنت لاجئًا بها مدة المائة يوم التي
حكم فيها نابليون فرنسا.
ومع أن الملكيين حاوَلوا المقاوَمة في بوردو Bordeaux، بزعامة دوقة دانجوليم، وفي طولون بزعامة فيترول ودوق
دانجوليم، وحيث سلم جيشهما بعد أن كان أَيَّدَهما بعض الوقت المارشال ماسينا، وفي
الغرب في أقاليم فنديه وبريتاني وأنجو، فقد أَخْفَقَتْ كل هذه المحاولات، ولم يكن
السبب في ذلك نجاح الجيش وقوات الإمبراطور، بقدر ما كان مبعثه الاستياء العام من آل
بربون الذين يبدو أنهم يريدون القضاء على كل تراث الثورة الذي عز على الشعب أن
يفقده، والذي كان يرمز له في نظره شخص نابليون نفسه، وهكذا كانت «عودة نابليون»
بمثابة عودة «الثورة» في صورة هجوم ضد البربون الذين أنكروا الثورة وأرادوا
تحطيمها، فتضافر الآن الجنود والفلاحون ليُرْجِعوا إلى الحكم الرجل الذي شعروا نحوه
بالحب من جهة، والذي ربطت بينهم المصلحة لتأييده وإعادة العرش إليه، وكانت «عودة
نابليون» في رأي كثيرين لذلك «حركة وطنية عظيمة».
وأَدْرَكَ نابليون أن الواجب يقتضيه إقامة الدليل على أن أنصار «الثورة» قد صاروا
فعلًا مندمجين في صفوف مؤيدي «البونابرتية»، فألَّفَ حكومته الجديدة من الفريقين:
ماريه «سكرتير دولة»، دكريه Decrès للبحرية،
جودان Gaudin للمالية، وموليان Mollien للخزانة، وكمباسيرس للعدل، ودافو للحربية،
وكولينكور للخارجية، ثم كارنو للداخلية، وبدا تعيين كارنو على وجه الخصوص بمثابة
الإشارة إلى الامتزاج الذي حصل بين «الثورة» و«البونابرتية»، وفضلًا عن ذلك فقد عمد
نابليون إلى إشاعة الطمأنينة في النفوس، ووعد بأن يكون الحكم على قواعد دستورية،
وقد طَلَبَتْ منه الهيئات الحكومية المختلفة أن يكون الحكم دستوريًّا (٢٦
مارس).
ولما كان نابليون قد أكد رغبته في تعديل أنظمة الإمبراطورية لتتمشى مع الروح
الدستورية الجديدة، فقد استطاع «فوشيه» أن يأتي لمقابلة الإمبراطور بالرجل الذي
اشتهر بآرائه الحرة من أيام الثورة، والذي نقم على نابليون ديكتاتوريته السابقة،
والذي كان حتى الأمس القريب يصف الإمبراطور بالطغيان ولا يسميه إلا بأسماء البرابرة
المتوحشين، من طراز «أتيلا» و«جانكيز خان»، وكان هذا الرجل «بنيامين كونستان»، الذي
أَشْرَفَ على وضْع التعديلات التي صَدَرَ بها ما يُعْرَف باسم «القانون الإضافي Acte Additionnel»، والذي أُطْلِقَ عليه
كذلك اسم صاحبه: «القانون البنياميني Benjamine»،
وهو قانون إضافي؛ لأنه أُضِيفَ إلى دستور الإمبراطورية، وكان صدوره في ٢٢ أبريل
ووافق عليه الشعب بالاقتراع العام، ولو أن عدد الذين اشتركوا في هذه العملية كان لا
يزيد على مليون ونصف مليون نسمة، أي نحو نصف العدد الذي وافق سنة ١٨٠٢ على نظام
القنصلية الذي صار نابليون بونابرت بمقتضاه قنصلًا أول مدى الحياة، وفي أول يونيو
أُعْلِنَ «القانون الإضافي» رسميًّا.
وكان في خطوطه العريضة يشبه «الميثاق» من حيث إنشاء مجلسين؛ أحدهما للأعيان،
والآخر للنواب، مع فارق هامٍّ هو توسيع اختصاصات هذين المجلسين وسلطاتهما في شئون
التشريع والضرائب والميزانية، وتقييد سلطة الإمبراطور بتقرير مبدأ المسئولية
الوزارية، وتأمين القضاة على مناصبهم، وإلى جانب هذا، نَصَّ القانون الإضافي على
حرية العبادة دون أن يَذْكُرَ شيئًا عن دين الدولة الرسمي، وعلى حرية الصحافة دون
فَرْض أية رقابة مبدئية عليها، والاكتفاء بتطبيق القانون العادي عليها إذا لزم
الأمر، وأمام المحلفين، كما يجب استصدار قانون لإعلان الأحكام العرفية، ونَصَّتْ
آخر مواد هذا القانون الإضافي — وهي المادة السابعة والستون — على أنه لا يُسْمَح
لأي شخص بحال من الأحوال أن يقترح إعادة البربون، أو طبقة النبلاء الإقطاعية
القديمة، أو الامتيازات والحقوق الإقطاعية، أو ضريبة العشور، أو أية عبادة ذات
امتيازات وسيطرة، ولا يجوز قطعًا محاولة النَّيْل من مشروعية بيع الأملاك
الأهلية.
ذلك إذن كان جوهر النظام الجديد في الإمبراطورية العائدة، أو الإمبراطورية
الدستورية التي أراد نابليون إقامتها، ولكن كان واضحًا من أول الأمر أن حياة هذه
الإمبراطورية الجديدة مرتهنة بقدرة نابليون على الانتصار في ميادين القتال — قبل كل
شيء آخر — على أعدائه، ذلك أن الإمبراطور منذ أن دانت له السلطة، صار يُحَاوِل
إقناع الحكومات الأجنبية — والحلفاء خصوصًا — بأن نواياه سلمية، وأنه لا يريد
الحرب، ولكن أحدًا ما كان يَثِقُ في تصريحاته ووعوده، بل على العكس من ذلك، بادَرَ
ممثلو الدول المجتمعون في فينَّا — بمجرد أنْ بَلَغَهُمْ نبأُ فرار نابليون —
بإعلان أن «الغاصب» قد فقد حماية القانون (١٣ مارس) أي إنه قد جُرِّدَ من كل حقوقه
المدنية وغيرها وأُهْدِرَ دَمُه، ثم عمدوا إلى تجديد معاهدة شومونت في ٢٥ مارس
١٨١٥، وتعهدت الدول الأربع العظمى: روسيا، النمسا، بريطانيا، بروسيا، بعدم إلقاء
السلاح «طالما بقي احتمال في قدرة بونابرت على إثارة المتاعب، أو محاوَلة استرداد
السلطة والحكم في فرنسا وتهديد أوروبا في أمنها وسلامتها.»
وبالفعل حَشَدَ الحلفاء جيوشًا تزيد على المليون رجل، منهم (١٠٠٠٠٠) من الإنجليز
والهولنديين بقيادة دوق ولنجتون، وكان مقرهم بلجيكا، ثم (١٥٠٠٠٠) من البروسيين
بقيادة بلوخر حول نامور، ثم (٣٥٠٠٠٠) من النمسويين في جيشين: أحدهما صوب الراين،
والثاني صوب جبال الألب، ثم (٢٢٥٠٠٠) من الروس يزحفون من نورمبرج، ووقفت فرنسا
النابليونية أمام هذه الجحافل في عزلة تامة، واعتمدت على مواردها، واستطاع «دافو»
في بضعة أسابيع إنشاء جيش من (٢٧٥٠٠٠) مقاتل.
وعَوَّلَ نابليون على تحطيم القوات الإنجليزية البروسية في الأراضي البلجيكية قبل
وصول الجيوش النمسوية والروسية، فعَبَرَ نهْر السامبر Sambre (أحد فروع الموزيل) عند شارلروا Charleroi يوم ١٥ يونيو سنة ١٨١٥، فوقف بجيشه بين الإنجليز
والبروسيين، وتمت عملية العبور «للجيش كله» في اليوم التالي، وتَمَكَّنَ نابليون
يوم ١٦ يونيو من هزيمة البروسيين عند ليني Ligny،
بينما ينجح «ناي» في إلحاق الهزيمة بالإنجليز في «كاتربرا Quatre-Bras»، ولكن لم ينشطا كلاهما للاستفادة من هذا النصر، وترك
نابليون لقائده «جروشي Grouchy» مهمة احتواء
«بلوخر» وحَبْسه في مواقعه، بينما زحف هو للالتحام مع الإنجليز عند غابة
سوان Soignes، وتقع في طرفها الجنوبي بلدة
واترلو، وعندئذ وقعت معركة واترلو التاريخية، التي انهزم فيها نابليون (١٨ يونيو
١٨١٥).
وكان من أسباب الهزيمة أن نابليون نفسه كان مريضًا، وأن تأخيرًا حصل في بدء
الهجوم على مواقع الإنجليز، وأن نوعًا من الخيانة لم يُمكن تحديده سَبَّبَ خَلَلَ
خطة المعركة، وأن «جروشي» عَجَزَ عن احتواء «بلوخر» الذي استطاع إعادة تنظيم قواته
بسرعة وجاء لنجدة حلفائه الإنجليز، ثم تأخر «جروشي» في الوصول إلى ميدان المعركة
بينما سبقه إليه «بلوخر» ونقْص قوات المشاة لدى نابليون، ولقد نجا المارشال «ناي»
من الموت أثناء المعركة بأعجوبة، ووقع على عاتق القائد «كامبرون Cambronne» تأمين مؤخرة الجيش المتقهقر.
عاد نابليون إلى باريس بعد هذه المعركة، فبلغها في ليل ٢٠-٢١ يونيو مصممًا على
مواصلة الدفاع، ولكن لم يُصْغِ إليه أحد، وعبثًا حاوَلَ إثارة الرأي العام لتأييده،
وعبثًا حاوَلَتْ حكومته تجهيز جيش جديد للمعركة، وانقسم قواده فريقين: أحدهما؛ يريد
الحرب إلى النهاية، ومن هؤلاء دافو، ودروت Drouot
(وكان عدد الجند الذين يمكن تأليف جيش جديد منهم لا يزيد على ثمانين ألفًا وحسب)،
وفريق يرى مستحيلًا الاستمرار في القتال، وبهذه القوات القليلة، وهؤلاء كانوا:
«ناي» و«ماسينا» والقواد القدامى.
وكان من الواضح في هذه الظروف إذن أنَّ نابليون قد غدا وحده العقبة الكئود في
طريق السلام، وحينئذ اقترح «لفاييت» على مجلس النواب والأعيان دعوة الإمبراطور إلى
التنازل عن العرش، وفي ٢٢ يونيو تَنَازَلَ نابليون عن عَرْش فرنسا، وأَعْلَنَ في
الوقت نفسه أن حياته السياسية قد انتهت، ولكنه احتفظ بالتاج لابنه الذي نادى به
إمبراطورًا على الفرنسيين باسم نابليون الثاني.
ولم يشأ مجلس النواب اتخاذ قرار في هذه المسألة — وبالرغم من مساعي لوسيان
بونابرت — وقَرَّرَ التأجيل، ثم لم يلبث أن انعقد بصورة جمعية أهلية أو تأسيسية؛
ليسمي «لجنة تنفيذية» من خمسة أعضاء، كان منهم فوشيه وكولينكور، ثم صدر «أمر يومي»
بالاعتراف بنابليون الثاني، ولما كان نابليون الثاني في النمسا، وعاد لويس الثامن
عشر إلى فرنسا منذ ٢٤ يونيو، ويساعده فوشيه بتآمره على نابليون، فقد بات ظاهرًا أن
لا أمل في اعتلاء نابليون الثاني العرش، ولقد أَصْدَرَ لويس الثامن عشر منشورًا من
«كمبراي» في ٢٨ يونيو، قال فيه: إنه «وَضَعَ نفسه بين الفرنسيين وبين جيوش
الحلفاء»، ووَعَدَ بإعلان العفو العام.
وأقنع فوشيه نابليون بأن الوقت قد حان لمغادرة باريس؛ فغادَرَها في ٢٩ يونيو، وفي
اليوم التالي وَصَلَ ولنجتون أمام العاصمة، وحاوَلَ مجلس النواب التخلص من حُكْم
أسرة بربون، وبَعَثَ بوفد إلى ولنجتون يطلب أن يحل دوق دورليان محل لويس الثامن
عشر، وكان تاليران الذي ظل في فينَّا من هذا الرأي أيضًا، ولكن دون نتيجة، وعندئذ
انفض المجلسان (مجلسا النواب والأعيان) وانحلت اللجنة التنفيذية، ووَقَّعَ «دافو» —
الذي عُهِدَ إليه بقيادة الجيش — وثيقةً تسليم باريس في ٣ يوليو، وانسحب إلى ما
وراء نهر اللوار، ليدخل لويس الثامن عشر باريس مرة أخرى يوم ٨ يوليو ١٨١٥.
وكان نابليون أثناء ذلك قد وَصَلَ إلى ثغر روشفور Rochefort يوم ٣ يوليو بقصد الإبحار إلى الولايات المتحدة
الأمريكية، وطَلَبَ من اللجنة التنفيذية بعض الفرقاطات لحراسته إليها بدعوى وجود
بوارج إنجليزية لمنع عبوره المحيط، ورَفَضَتْ اللجنة التنفيذية إجابة طلبه،
ومَنَعَتْه من ركوب البحر، وأَبْقَتْه في الحقيقة سجينًا تحت تَصَرُّفها، ثم أَمَرَ
لويس الثامن عشر بتسليمه إلى الإنجليز (١٤ يوليو)، وكان نابليون نفسه قد بدأ يتفاوض
معهم منذ ٩ يوليو لينقلوه إما إلى أمريكا وإما إلى إنجلترة، وفي ١٥ يوليو سَلَّمَ
نفسه إليهم على ظهر سفينة الحرب الإنجليزية «بلروفون Bellerphon» التي أَبْحَرَتْ به رأسًا إلى إنجلترة، فوصلها يوم ٢٤
يوليو، ليجد أن الحكومة الإنجليزية لا تبيح له النزول إلى البر، ثم صَدَرَ قرار هذه
الحكومة بإرساله إلى المنفى في جزيرة سانت هيلانة — في المحيط الأطلسي — وأَذِنَتْ
له الحكومة الإنجليزية باختيار رفاقه في المنفى، فاصطحب معه القواد الثلاثة:
مونثولون Montholon، وبرتران Bertrand، وجورجو Gourgaud، ثم الكونت لاس
كاسيس Las Cases، ونَقَلَتْه إحدى سفن الحرب الإنجليزية الأخرى (نورثمبرلند)
إلى سانت هيلانة التي وصلها يوم ١٦ أكتوبر ١٨١٥، وقد بقي نابليون في المنفى إلى أن
قضى نحبه يوم ٥ مايو ١٨٢١، ولم تُنْقَل رفاته من هذه الجزيرة النائية إلى باريس إلا
بعد مضي حوالي عشرين سنة أخرى، حيث حل في مثواه الأخير تحت قبة الأنفاليد في ١٥
ديسمبر سنة ١٨٤٠.