سياسة الإمبراطورية
تمهيد
انتهت الثورة الفرنسية بانتهاء القرن الثامن عشر، أي خلال السنوات الأخيرة من هذا القرن، وبدأت صفحة جديدة في تاريخ فرنسا وفي تاريخ أوروبا بتسليم نابليون بونابرت زمام الحكم في فرنسا ابتداء من عهد القنصلية، وعلى وَجْه الخصوص من وقت تأسيس الإمبراطورية، ومع ذلك فقد اختلف الرأي حول حقيقة الدور الذي قام به نابليون في تحديد اتجاهات بلاده السياسية، وتشكيل العلاقات التي نشأت بينها وبين سائر الأمم الأوروبية أثناء الخمسة عشر عامًا التي تَلَت انتهاء الثورة الفرنسية، وانقسم المؤرخون إلى فريقين: فمنهم من يعتبر نابليون بمثابة «النتيجة» الحتمية التي أَفْضَتْ إليها «الثورة»، ويرى أن الثورة قد استمرت حتى بعد عهد القنصلية، وتأسيس الإمبراطورية، ولكنْ «متجسدة» في شخصه، وفريق آخر يرفض هذا الرأي، ويعتبر نابليون — على العكس من ذلك — رمزًا لكل ما هو «مناقض» للثورة، و«ينفي» المبادئ والآراء التي جاءت بها الثورة.
ثم إن إعادة بناء أوروبا على أسس المبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية، معناه كذلك تحرير الشعوب التي ترضخ لسلطان الحكم والنفوذ الأجنبي، ومعاونة هذه الشعوب على الشعور بذاتيتها وكيانها؛ حتى يتسنى نمو الشعور القومي بها، فتصبح شعوب أوروبا وقد استيقظ ثم اكتمل شعورها القومي «مجمع» قوميات متحررة، تدين بالآراء والمبادئ التي جاءت بها الثورة الفرنسية وتقدسها.
وأما هذه «الأسطورة النابليونية»، ودعوى الذين يَعْزُون إلى الإمبراطور أنه كان يريد إنشاء «نظام قاري» يعيد به بناء أوروبا على أسس المبادئ التي جاءت بها الثورة الفرنسية، فسوف تتضح حقيقة ذلك كله، ومدى انطباقه على ما وَقَع فعلًا في عهد هذه السيطرة النابليونية في أوروبا وضدها إذا أمكن بيان «السياسة» التي سار عليها نابليون، والمبادئ أو الآراء التي استرشد بها في علاقاته مع حكومات أوروبا وشعوبها، ثم بيان الأسلوب الذي أمكن به عمليًّا تطبيق هذه المبادئ والآراء النابليونية، خصوصًا في ألمانيا وإيطاليا وبولندة، وفي بولندة أَمْكَنَ بعث «أمة» وإحياء «قومية»، ولكن هذه السياسة النابليونية المستندة على المبادئ «الثورية» في بولندة كانت من إملاء اعتبارات محدودة، ولخدمة مآرب سياسةٍ خاصة، ومرتبطة بنشاط الإمبراطور وعلاقاته بالدول الأخرى، ومشروعاته التوسعية.
(١) سياسة نابليون
ومن المتعذر إخضاع سياسة نابليون للفحص كوحدة كلية، أو استصدار حُكْم شامل عليها جملة؛ لأن «شخصية» الإمبراطور و«خُلُقه» كانا في تغيُّر وتطوُّر مستمر من جهة، ولأن الظروف والمناسبات التي اقتضت اتخاذ إجراءات أو قرارات سياسية معينة، كانت متغيرة هي الأخرى بصورة مستمرة؛ وعلى ذلك فالرأي الذي قد يبديه أو يأخذ به في لحظة معينة لا يعني بالضرورة أن الإمبراطور متمسك به في كل أدوار نشاطه، أو أنه لا يزال على حاله عندما يحين الوقت بعد سنوات لوضعه ذاته مَوْضع التنفيذ، وهكذا كان ضروريًّا التمييز في حياة نابليون بين أدوار محددة تَشَكَّلَت فيها آراؤه و«سياسته» في صور معينة.
ولقد كان نابليون «عمليًّا» في تفكيره، وهذا إلى جانب أنه حَصَّلَ دراسة كلاسيكية كانت ذات شأن في تكوينه، وهو قد درس التاريخ دراسة «واقعية»، أي كحوداث مسبوقة بأسبابها ومتبوعة بنتائجها؛ فلم يكن حينئذ ممن يدينون بالفكرة «المثالية» المتحررة من الحس والمادة، التي أخذت بها «الثورة» لتعريف «الوطن» وإدراك معناه، فالوطن في اعتبار نابليون إنما هو الأرض والبلاد، وليس معنًى «مثاليًّا» أو فكرةً مُطْلَقَةً، وأما «القومية الفرنسية»؛ فقد كان تفسيرها في ذهن نابليون يَقْرُب من تفسير «النظام الغالي» الذي تأسست بمقتضاه ملكية فيلبريك الأول، من أسرة المرفنجيين في بلاد «غالة» — فرنسا — والذي كان مَوْضِع بحْث المفكرين في ماهية الدولة والأمة في القرن الثامن عشر، وعلى نحو ما سَبَقَت الإشارة إليه في مكانه.
على أن نابليون من جهة أخرى كان قد تأثَّر بفكرة معينة من «الأفكار» التي جاءت بها الثورة، هي فكرة «الحدود الطبيعية»، أي ضرورة أن تصل فرنسا إلى حدودها الطبيعية في الشرق والجنوب الشرقي والجنوب، وقد احتفظ نابليون بهذه «الفكرة» وتمسَّك بضرورة الوصول إلى الحدود الطبيعية طوال عهد الثورة، ثم حتى نهاية عهد القنصلية، وكانت إيطاليا هي الناحية الوحيدة خلال هذين العهدين التي تجاوَزَتْ فيها فكرة «الحدود الطبيعية» النطاق المنتظر لها، وإيطاليا هي البلاد التي وجد فيها المغامرون دائمًا منفذًا لنشاطهم، ومتسعًا لتحقيق أحلامهم، ولقد كان نابليون يريد من فتوحه الإيطالية في حملته الأولى إنشاء «مملكة» لنفسه، ولو أنه في مسألة إيطاليا هذه إنما كان يقوم بتنفيذ الخطط التي رسمتها حكومة الإدارة، ثم إن إيطاليا كانت بمثابة طريق عسكري، حتى بعد اجتياز جبال الألب بالنسبة لحدود فرنسا الجنوبية الشرقية.
والفتوحات الأولى في إيطاليا، والتي يمكن الاستدلال بها على سياسة نابليون، كانت ضم جزيرة إلبا (في ٢٦ أغسطس ١٨٠٢)، ثم بيدمنت (في ١١ سبتمبر ١٨٠٢)، ولقد كان في إيطاليا كذلك أن حصلت أولى فتوحات الإمبراطورية في جنوة في سنة ١٨٠٥.
وفيما عدا ذلك تَظَاهَرَ نابليون بأنه أمين على مبدأ «الوصول إلى الحدود الطبيعية»، وسواء كان مجرد ادعاء وتظاهُر يُخْفِي نفاقًا ورياء، أم صدر عن نية خالصة، فقد صار نابليون يردِّد مرات كثيرة أنه إنما يبغي أن يظل أمينًا على فكرة أن تكون فرنسا بحدودها الطبيعية فحسب؛ فيعلن وهو في برلين سنة ١٨٠٧ أمام وفد من أهل الطبقة المتوسطة (البورجوازية) أنه «لا يريد الحرب بل يكتفي بالراين» حدودًا لبلاده، وفي اللحظة التي ضم فيها إلى الإمبراطورية همبورج ولوبك، من مدن اتحاد الهانسا في ديسمبر ١٨١٠، أعلن «أن الواجب يقتضيه ألا يدع مجالًا للشك في نواياه وفي موقفه، من حيث عَدَم تجاوُز الحكومات الخاضعة له (أي للإمبراطورية) مباشرةً نهرَ الراين.»
وواضِح مقدار ما كان ينطوي عليه هذا التصريح من تناقُض ظاهر! ومع ذلك فقد بقيت «فرنسا بحدودها الطبيعية» الفكرة المسيطرة على ذهنه، حتى عند مفاوَضَتِه مع «الحلفاء» المنتصرين عليه أثناء ١٨١٣-١٨١٤، فقد كانت فرنسا في نظره هي «فرنسا الثورة» أي بحدودها عند نهر الراين وجبال الألب، يعارِض بها فكرة «فرنسا بحدودها القديمة» قبل الثورة، وهي النظرية التي أَخَذَ بها «الملكيون» الذين يمهِّدون لعودة ملكية البربون إلى فرنسا.
وإلى جانب هذا كله فالذي يجب ذِكْرُه أنه كان هناك فارِق عظيم بين هذه «الاستفتاءات النابليونية» التي كان الغرض منها الموافقة على «أمر واقع» حَدَثَ فعلًا، وبين الاستفتاءات الشعبية العادية التي غَرَضُها معرفة رغبة الشعوب العامة من أجل تحقيقها؛ وعلى ذلك ففي وسعنا القول بأن نابليون ما كان يقيم وزنًا كبيرًا للنظرية الثورية بشأن ذلك «التعاقد» الذي يؤسس الوحدة القومية على الموافقة الحرة.
ولقد اعتمد نابليون على الدعاية الماهرة والنشيطة لتبرير بسط سلطانه على أوروبا؛ فأعلن أنه لم يشأ الاعتداء على أوروبا، ولكن «إنجلترة» وحدها هي التي أرغَمَتْه إرغامًا على فعل ذلك بموقفها العدائي منه، ثم راح نابليون يدَّعي أن «الوحدة الأوروبية» إنما أنشئت كإجراء مُوَجَّه ضد إنجلترة، وتلك «بروبجاندا» كانت ذات أثر طيب بين سواد الشعب الفرنسي؛ لاستغلالها شعور الكراهية الذي وَلَّدَتْه في صدور الفرنسيين حروب الثورة ضد إنجلترة، وكانت هذه الكراهية هي الشعور «الوطني» الوحيد وقتئذ الذي شعر به الفرنسيون حقيقة؛ وعلى ذلك فإن أحدًا لم يُنَاقِش في ذلك الحين فكرة إنشاء «الوحدة الأوروبية» كإجراء لمقاومة إنجلترة، وقَبِلَ الناس في فرنسا وفي أوروبا هذا التفسير الذي أراده نابليون لسياسته التوسعية.
وكانت سياسة «الحصار القاري» هذه مَبْعث الفتوحات «الشاطئية» التي حصلت وقتئذ على يد نابليون، ومع ذلك فلو صَحَّ أن الغرض من «الحصار القاري» إنشاء «الوحدة الأوروبية»، بمعنى جمع الكلمة في أنحاء القارة الأوروبية ضد إنجلترة، فإن النظام القاري قد جاء متأخرًا، ثم إنه لم يستمر إلا وقتًا قصيرًا جدًّا لتتولد منه كتلة أوروبية حقيقية، ولقد أدى تنفيذ سياسة النظام القاري إلى زيادة الصعوبات التي صار يصادفها نابليون، إلى جانب المقاوَمة في البلدان الخاضعة لسلطانه، بسبب التجنيد والضرائب وأعباء السيطرة الفرنسية عمومًا، والتي صارت تئن من ثقلها وتريد الخلاص منها الشعوب الداخلة في نطاق هذه الإمبراطورية النابليونية؛ ولذلك فلا يمكن اعتبار أن الحصار القاري قد أَوْجَدَ «شعورًا أوروبيًّا» نجح في إزالة تلك العاطفة «العالمية» التي نادى بها رجال الثورة، على أساس المشاركة في الشعور «بوطنية» إنسانية عالمية، أي: عدم التقيد بمحبة وطن معيَّن هو مسقط رأس الإنسان وبلده، أو حتى إزالة الشعور بالقومية المحلية، وتلك نتائج في حد ذاتها تجعل متعذِّرًا التمسكَ بفكرة «الوحدة الأوروبية» الموجَّهة ضد إنجلترة؛ لتبرير السيطرة النابليونية على أوروبا.
أما كيف كانت تتألف «الأمة» التي احتوتها الإمبراطورية النابليونية، وبسطت سلطانها عليها، وبمعنًى آخر؛ كيف تأسست هذه «الأمة»، وماذا كانت الأسس التي قام عليها التوسع الفرنسي لإنشاء هذه الإمبراطورية، فذلك أَمْر تُوَضِّحه كل تلك الآراء والنظريات التي تولدت تباعًا في ذهن نابليون، فجاءت متغايِرة ومتناقِضة، وبقدر اختلاف الظروف والمناسَبات والحوادث الواقعة، وبقدر ما كان يتطلبه معالَجة كل موقف وكل حالة، فكان هناك أصلًا «تراث» الثورة: الوصول إلى الحدود الطبيعية، بما في ذلك الاعتداء على إيطاليا واقتطاع أجزاء منها، مما كان معناه ببساطة زيادة «حجم فرنسا» واتساعها، ولقد أُدْمِجَت الأراضي التي تألفت منها فرنسا «المتسعة» هذه في الأراضي الفرنسية.
ولقد كان في هذا الدور كذلك أنْ لوحظ أَثَرُ عامِلٍ شخصي طرأ على هذه السياسة المنبعثة من «الثورة»، ذلك هو إنشاء «جمهورية ما وراء الألب»، والتي صارت فيما بعد «جمهورية إيطالية»، فلا جدال في أن مبعث إنشائها كان تفكير نابليون في إنشاء «دولة» أو مملكة لنفسه في إيطاليا، وتلك فكرة لم تلبث أن تخلى عنها سريعًا عندما هيأت له الظروف أن يصبح سيدًا على «دولة» أكبر حجمًا، وأكثر أهمية، وبدرجة عظيمة من تلك التي كان يريدها لنفسه في إيطاليا، فصار سيدًا على «فرنسا» بعد انقلاب برومير الذي أوجد القنصلية، وبذلك لم تعد فكرة تأسيس مملكة أو دولة لنفسه في إيطاليا فكرة نافعة، ومع ذلك فمما لا شك فيه أن هذا التفكير ذاته كان يعني بدايةَ تحوُّل ملحوظ في سياسة نابليون، التي صارت تهدف من ذلك الحين إلى تأسيس سيطرة شخصية، وتشمل — إن أمكن — أوروبا بأسرها، وأما هذه «الجمهورية الإيطالية» فقد أصبحت في سنة ١٨٠٥ «مملكة إيطاليا».
وهكذا تعاقَبَتْ ثلاث فكرات، كانت ذات أَثَر واضِحٍ في تشكيل «الإمبراطورية الفرنسية»، ومع ذلك فقد كانت هذه الإمبراطورية في الحقيقة نظامًا فدرائيًّا ممتزجًا بنظام عائلي، فإن امتداد اتحاد الراين الكونفدرائي لم يلبث أن وَسِعَ كل ألمانيا تقريبًا، وألمانيا هذه هي التي كانت قد أنشئت بها التيجان التي وُزِّعَت على «ملوك» بفاريا وورتمبرج وهانوفر وغيرها، وهي التي «خلق» بها نابليون مملكة جديدة — هي مملكة وستفاليا — تُوِّجَ أخوه «جيروم» ملكًا عليها.
أما في الشرق فقد بعث نابليون بولندة مرة أخرى، عندما أسس «غراندوقية وارسو» والتي سلم زمام الحكم بها ناخب سكسونيا، وهكذا نرى الإمبراطورية في سنة ١٨٠٧ تتجه نحو فكرة جديدة؛ فكرة إنشاء اتحاد فدرائي يجمع دول أوروبا.
وإلى جانب هذا كله، فثمة فكرة «إقطاعية» كانت ذات أثر في تشكيل أو بناء هذه الإمبراطورية، مبعثها رغبة نابليون في مكافأة «ماريشالاته» وكبار موظفي الإمبراطورية، بأن يُقْطِعَهم الإقطاعيات التي اختارها لهم قبل كل شيء في إيطاليا، ثم في ألمانيا، مثل إمارة بنفنتو، وبارما، بياسنزا، التي أُعْطِيَتْ بالتوالي إلى تاليران، وكمباسيرس، ولوبران، إلى جانب عدد من الإمارات والدوقيات الأخرى الكثيرة.
وعلى ذلك فقد كانت الإمبراطورية النابليونية متولدة من تفاعُل «فكرات» وآراء تتابَعَتْ بعضها في إثر بعض، ثم اختلف بعضها عن بعض، وكثيرًا ما كانت متناقضة، الأمر الذي جعل الإمبراطورية تبدو في النهاية جثمانًا سياسيًّا «ممسوخ الخلقة»، لا يجمع بين أجزائه المختلفة سوى رباط واحد، هو طموح الإمبراطور وأطماعه «الشخصية»، وحُبُّه للسيطرة والسلطان، ولا تندرج هذه الأجزاء التي اختص كل منها بنظامٍ وتكوينٍ يختلفان فيها عن غيرها، إلا تحت «نظام واحد» هو تَحَمُّل أعباء الخدمات العسكرية، والأنظمة المالية والاقتصادية التي فُرِضَتْ على «الدول» التي تألَّفَتْ منها أجزاء هذه الإمبراطورية النابليونية دون أي اعتبار لمبادئ القانون العام، وواضح أن «تركيب» الإمبراطورية بهذه الصورة لم يكن يُفْسِح — بحال من الأحوال — أيَّ مجال للاعتراف بوجود «قوميات» في أوروبا، أو أن هذه الإمبراطورية كانت تسترشد من بعيد أو من قريب بفكرة القومية.
ولعل هذه الحقيقة لا تلبث أن تتضح إذا عرضْنَا للطريقة التي حَصَلَتْ بها كل التغييرات الإقليمية التي صنعتها الإمبراطورية، خصوصًا في ألمانيا وإيطاليا، مسرحي هذه العمليات الواسعَيْن، ثم بحثنا موقف «الشعوب» من هذه التغييرات التي حَدَثَتْ، والتي انْبَسَطَتْ بفضلها السيطرة النابليونية على أوروبا.
أما الذي تَجْدُر ملاحَظَتُه مِنْ أَوَّل الأمر، فهو أن كل هذه التغييرات التي جَعَلَت أوروبا تتحول هذا التحول الضخم تحت السلطان الفرنسي، إنما استغرق إجراؤها خمس سنوات وحسب (١٨٠٥–١٨١٠)، وتلك مدة قصيرة جدًّا، فتتابَعَت التغييرات والتوزيعات والترتيبات الإقليمية، نتيجةً لكل تلك المعاهدات والاتفاقات التي تخلَّلَت الحروب المتصلة، ولقد شهدت ألمانيا على وجه الخصوص — قبل حروب المحالفة الدولية الثالثة أو بعدها — أقاليم تبدَّل عليها سلطان حكومات مختلفة، لا لسببٍ سوى مشيئة القدر — إذا صَحَّ هذا التعبير — ودون أن يتولد من هذه السيطرات الحكومية المتغيرة أي ردِّ فِعْل عميق لدى شعوب هذه الأقاليم.
وعلينا أن نعْرض الآن للآثار التي ترتَّبَتْ على هذه التغييرات والانقلابات التي حدثت في ألمانيا وإيطاليا، أي في البلدين اللذين كانا أكْثَر تعرضًا من غيرهما لأكبر هذه الانقلابات وأضخمها، التي حَصَلَتْ على يد نابليون.
في ألمانيا
ولمَّا لم يكن من شأن هذه التغييرات إذن إنعاشُ أو إحياءُ آيةِ آمالٍ لدى سواد الشعب في «تغيير» الحال التي كانوا عليها إلى ما هو أفضل منها، فقد ظل «الرأي العام» لدرجةٍ كبيرةٍ لا يَأْبَهُ بها.
ولقد كان «القرار النهائي» للإمبراطورية الجرمانية هذا إجراءً ذا صبغة دولية معينة؛ فقد تَقَدَّمَتْ به فرنسا وروسيا بالاتفاق فيما بينهما (منذ ١٨ أغسطس ١٨٠٣) كخطوة موجَّهة ضد النمسا إلى حكومة فينَّا، ثم إن فرنسا من ناحية أخرى قد صار لها بفضله «أتباع» عديدون في ألمانيا، وفي هذين المعنيَيْن كان هذا «القرار النهائي» من صميم السياسة الفرنسية من أيام الملكية القديمة التي خَدَمَها ورَسَمَ خطوط سياستها التوسعية كل من «ريشليو» و«مزران» في النصف الأول من القرن السابع عشر.
ووَقَعَ عبءُ تنفيذ هذا «القرار النهائي للإمبراطورية» على وجْه الخصوص في ألمانيا الغربية؛ فكانت هذه أكثرَ الأقاليم التي تأثَّرَتْ به؛ لأنها كانت مُقَطَّعَة الأوصال، ومُجَزَّأة إلى «دويلات» ضئيلة أكثر من غيرها؛ فهناك إمارات و«دويلات» بارونات الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة، ثم الإمارات الكنسية العديدة، حتى إذا صُفِّيَتْ هذه «الدويلات» بفضل «القرار النهائي» كان قد تَغَيَّرَ وجْه ألمانيا الغربية تغيُّرًا كاملًا.
ولقد تألَّفَ هذا «القرار النهائي» من إجراءات ثلاثة كبيرة: أولها؛ إحداث تغيير في الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة، بنقلها من حال إلى حالٍ مختلف عن السابق كُلِّيَّةً؛ فقد صار عدد «ناخبي الإمبراطور» عشرة، بسبب تعيين أربعة جدد هم مطران «سالزبورج» ودوق بادن، ودوق ورتمبرج، ودوق هس كاسل، واختفى اثنان من الناخبِين الكنسيِّين القدامى، هما ناخب كولونيا، وناخب تريف، وبقي على حالهم الناخبون الستة القدامى، وهم ناخبو بفاريا البلاتينات، وبوهيميا، وبراندنبرج، وهانوفر، وسكسونيا، وماينز، وهؤلاء جميعًا صارت تتألف منهم «كلية الناخبين»، وفي هذا الوضع الجديد صار بها أربعة من الناخبين الكاثوليك فقط، هم مطران ماينز، ومطران سالزبورج، وملك بوهيميا، وملك بفاريا، وذلك مقابل ستة من الناخبين البروتستنت.
وأخيرًا فقد قُسِّمَت الإمبراطورية الرومانية المقدسة إلى ثماني «دوائر» بدلًا من العشر السابقة، وهكذا تَغَيَّرَ وجه الإمبراطورية المقدسة من الناحية السياسية، حيث قد صار «الدياط» أو المجلس الإمبراطوري الذي يتألف من هذه الكليات والدوائر «بروتستنتيًّا» في جوهره، وانحسر نفوذ الكاثوليك في هذا المجلس الإمبراطوري حتى بات ضعيفًا جدًّا.
فقد رَأَت النمسا في وجود إمبراطور فرنسي — إلى جانب الإمبراطور الوحيد الذي عَرَفَتْه أوروبا حتى هذا الوقت، وهو إمبراطور «الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة» — إهانةً لها، وعلى ذلك فقد صار للنمسا تاجٌ إمبراطوري، وبدأت من هذا الحين تبتعد عن ألمانيا، وتنفصل بحياتها الخاصة بها عن الجثمان الألماني؛ لتصبح ذات كيان مستقل في نموه وتطوره عن سائر ألمانيا؛ الأمر الذي كان له نتائج ذات شأن كبير خلال القرن التاسع عشر، لا جدال في أن أهم هذه النتائج وأخطرها كان تخلِّي النمسا عن ألمانيا لتتولى بروسيا زعامتها.
ومع ذلك فإن هذا التحول أو التغير العظيم الذي طرأ على ألمانيا بسبب «القرار النهائي الإمبراطوري» لم يكن من المنتظر بقاؤه طويلًا، لا في شكله الإقليمي، ولا في صورته السياسية؛ فمن الناحية الإقليمية لم يكن هذا «القرار النهائي» إلا إجراء أوليًّا، سوف تتلوه إجراءات أخرى يهدف بها نابليون إلى إعادة رَسْم خريطة ألمانيا، بالقضاء على بعض الدول الجديدة التي أَوْجَدَها هو نفسه، كما أنه لم يلبث أن قضى على ثلاثٍ من المدن الحرة في سنة ١٨٠٦؛ فلم يَبْقَ من المدن الحرة بألمانيا سوى ثلاث: هي همبورج، وبريمين، ولوبك، ثم إن هذه لم تلبث أن اختفت جميعها في سنة ١٨١٠.
ولقد كانت «هانوفر» أكثر «الدول» التي خضعت لهذه التغييرات، وكانت «هانوفر» أملاكًا بريطانية؛ ولذلك فقد عمد نابليون إلى تجزئتها في صالح جيرانها، والتصرف في مصيرها حسب مشيئته؛ فهو يعطي هانوفر ذات مرة إلى بروسيا، ثم لا يلبث حتى ينتزعها منها، ثم لا يلبث حتى يقضي عليها؛ فتختفي «هانوفر»، ثم لا يلبث نابليون حتى يعيد إنشاءها من جديد ليضيف إليها أراضي جديدة، وليجعل منها المملكة المعروفة باسم «مملكة وستفاليا».
أضف إلى هذا أن السويد قد أُخْرِجَتْ من ألمانيا بعد أن كانت تمتلك بها «بوميرانيا»، ثم إن بروسيا قد اقْتَطَعَتْ أجزاء منها حتى إنها فَقَدَتْ نصف أراضيها.
ولقد أَفْضَتْ هذه التعديلات والتغييرات الجديدة إلى خَلْق «تركيزات إقليمية» جديدة على أساسِ اختفاء ما يزيد قليلًا على نصف «الدول» التي تركها «القرار النهائي الإمبراطوري»؛ فنزل عدد الدول الألمانية من ثمانين إلى ثمانٍ وثلاثين دولة فقط في آخر عهد الإمبراطورية، كما كانت قد اسْتَبْعَدَتْ وطَرَدَتْ من ألمانيا العناصرَ الأجنبية عنها.
وهكذا كان لا يمكن اعتبار «القرار النهائي الإمبراطوري» وثيقةً أو إجراء يَسْتَهْدِف ترتيباتٍ إقليميةً مستديمة، ومثل ذلك كان الترتيب أو التنظيم السياسي الذي وَضَعَهُ نابليون لألمانيا؛ فإن هذا التنظيم هو الآخر لم يُعَمِّر طويلًا.
فقد قَرَّرَ نابليون زوالَ الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة واختفاءها من الوجود، وفَرَضَ ذلك على النمسا في معاهدة «برسبورج»، وتَنَازَلَ فرنسيس الثاني رسميًّا عن لقب إمبراطور ألمانيا في ٦ أغسطس ١٨٠٦، وبفضل هذا الإجراء خَرَجَت النمسا من ألمانيا النابليونية، وفي الوقت الذي اخْتَفَتْ فيه الإمبراطورية المقدسة، رَفَعَ نابليون إلى مرتبة الملكية كلًّا من «بفاريا» و«ورتمبرج»، وفي مكان هذه الإمبراطورية التي عمرت من العصور الوسطى، أَوْجَدَ نابليون في ألمانيا «ترتيبات» أخرى: «اتحاد الراين» الذي تأسس في ١٢ يوليو ١٨٠٧، ويضم إليه ستة عشر أميرًا ألمانيًّا في الغرب والجنوب، ثم لم يلبث أن اتسع نطاق هذا «الترتيب»، أو هذه «المجموعة» السياسية في السنوات التالية، حتى صارت تضم في سنة ١٨٠٨ ثلاثة وسبعين عضوًا، أي كل «الحكومات» أو الدول الألمانية تقريبًا، فيما عدا بروسيا والنمسا، فقد بقيتا خارج الاتحاد.
وواضح من هذه التفصيلات التي ذكرناها أن شيئًا مما حَدَثَ جميعه لم يكن يستند على مبدأ من المبادئ التي جاءت بها الثورة الفرنسية؛ فلم يكن هناك احترام لقاعدة التكتل وحق الشعوب في التجمع على أساس «التعاقد»، ولم يكن هناك وجود لقاعدة موافقة الشعوب على الحكومات التي إنما تتألف بناء على رغبة هذه الشعوب ذاتها ورضائها عنها، ولم يكن هناك مكان لمبدأ القومية، بل إن الذي حدث لم يكن سوى إجراءات و«ترتيبات» تعسفية وحسب، وأقوى دليل على هذا «التعسف» أن هذه الترتيبات استمرت تخضع لكل تلك التغييرات التي طرأت عليها والتي أفقدتها صفة «الاستقرار» الذي تَعَذَّرَ بدوره أن يكون من نصيبها؛ لأنها إنما وضعت قوة واقتدارًا لمواجهة حالة طارئة وظرف معين، وللتغلب على «صعوبة» وقتية، أو لتنفيذ «فكرة» عابرة، ولا يحكمها سوى أطماع نابليون الشخصية، وطموحه هو نفسه، ولقد تَعَذَّرَ على كثيرين من المؤرخين — في ضوء كل الاعتبارات التي ذكرناها — التسليم بأنه كان لدى نابليون أية فكرة لقومية ألمانية تستند عليها إجراءاته و«ترتيباته» في ألمانيا.
ومع ذلك، وبالرغم من أن نابليون لم يكن لديه أية فكرة عن «خلق» قومية ألمانية، فإن العمل الذي أتمه في ألمانيا قد أدى إلى تكوين القومية الألمانية، وخَلْق شعور قومي ألماني، أما كيف أدت هذه «الترتيبات» النابليونية إلى خَلْق الشعور القومي الألماني، فذلك أمر يوضحه أولًا: ملاحظة أن التركيز الإقليمي الذي أنقص عدد الدويلات الألمانية من (٣٦٠) إلى (٣٨) فقط كان إجراءً لا يمكن الرجوع فيه، وخطوة اتُّخِذَتْ بصورة نهائية، ويتعذر بعدها إطلاقًا عودة ألمانيا إلى ذلك التشتت، وتلك التجزئة التي كانت عليها في الأزمان السالفة، ولن تكون بألمانيا بعدئذ دولة كنسية أو مدن حرة.
وتفسير ذلك أن عدم الاستقرار السياسي والإقليمي الذي شاهدنا كيف أنه كان «القاعدة» التي حَكَمَت الإجراءات والترتيبات الإقليمية والسياسية النابليونية في ألمانيا، لم يلبث أن حَطَّمَ الصلات أو الروابط التاريخية التي في وُسْعِها تأييد الشعور المحلي في الحكومات المختلفة، وجعل هذه الروح المحلية شيئًا مشروعًا في آخر الأمر في ألمانيا.
ولا جدال في أن تلك كانت آثارًا حقيقية وعميقة، وإن كانت ثمارها قد ظَهَرَتْ بعد ذلك وفي وقت متأخر، بمعنَى أنه كان بعد مرور سنوات عديدة أن صار مستطاعًا تشكيل هذه الأحداث النابليونية في ألمانيا، في نتائجها التي أَفْضَتْ إلى توحيد «أو اتحاد» ألمانيا.
في إيطاليا
ولقد كانت سياسة نابليون في إيطاليا أكثر وضوحًا من سياسته في ألمانيا؛ لسبب واحد: هو أن نابليون كان غير مقيَّد بأية قيود في نشاطه في إيطاليا، بل حرًّا طليقًا لدرجة كبيرة جدًّا، يفعل ما يشاء ويهوى بها، ولا جدال في أنه من الممكن بسهولة في هذا الميدان الإيطالي معرفة الأسس التي قامت عليها السياسة الأمبريالية «التسلطية» النابليونية، وما إذا كانت هذه «التسلطية» تنطوي ضمن ما تنطوي عليه على أي اعتبارٍ لمبدأ القومية، أم أنها لم تكن تأبه لخلق قومية إيطالية.
ولعل أول ما تجدر ملاحظته أن إيطاليا كانت البلدَ الوحيد الذي راح نابليون يؤكد رغبته في أن يجعل منه «أُمَّةً» إيطالية، بل إنه لَمِمَّا يشير إلى هذه الرغبة تسمية نابليون جمهورية ما وراء الألب عند تحويلها إلى مملكة «بمملكة إيطاليا»؛ فقد أراد نابليون أن يتم هذا التحول بصورة تشمل شبه الجزيرة الإيطالية، وحتى يتسنى إنشاء «مملكة إيطاليا» التي سوف تضم إليها حينئذ كل بلاد أو «دويلات» إيطاليا.
ولقد كان في وُسْع نابليون — كما ذَكَرْنا — أن يعيد تنظيم إيطاليا بالصورة التي يريدها؛ فقد سَبَقَ أن أَوْضَحْنا كيف قضت «الثورة الفرنسية» على إيطاليا «التقليدية» أو إيطاليا «التاريخية»، ثم إن النمسا منذ أن أَبْرَمَتْ معاهدة «برسبورج» — في ٢٦ ديسمبر ١٨٠٥ — كانت قد طُرِدَتْ كذلك من إيطاليا؛ وعلى ذلك فقد صار نابليون «مُطْلَق اليد» حُرَّ التصرف، كما صار الميدان مفتوحًا أمامه في إيطاليا لينشئ تلك «الأمة الإيطالية» التي تَحَدَّثَ عنها — إذا شاء أن يفعل ذلك حقًّا.
ومع ذلك، فقد سلك نابليون في إيطاليا طريقًا، أقل ما يوصف به أنه قائم على النزعات والنزوات الشخصية المتعارِضة والمتناقِضة، ومن المقطوع به أنه لم تكن لديه أية فكرة عن «وحدة إيطالية»، اللهم إلا إذا اعْتُبِرَتْ كذلك تلك الصورة التي ارْتَسَمَتْ في ذهنه عن إخضاع أقاليم إيطاليا رويدًا رويدًا في «مجموعة» واحدة لإرادته وسلطانه وتوجيهه الشخصي والمباشر، وفيما عدا ذلك فالذي جرى في ألمانيا كان نفس ما حصل في إيطاليا من حيث «المزج» بين آراء غريبة ومتناقضة، قامت على أساسه الترتيبات الإقليمية والسياسية في إيطاليا.
فهناك «الملكية»، وهي أقدم الصور التي أحاط بها إطار هذا «المزج»، فتأسست في سنة ١٨٠٥ «مملكة إيطاليا» التي تَحَدَّثْنَا عنها، والتي أَخَذَتْ بمقتضى معاهدة «برسبورج» البندقية «فنيشيا» والأملاك البابوية في شمال جبال «الأبيناين»، الأمر الذي يبدو منه كأنما قد تَمَّ توحيد إيطاليا الشمالية، ومع ذلك فإن إيطاليا الشمالية هذه كانت قد اقتطعت منها جنوة، وبيدمنت، وأدمجتا في الإمبراطورية الفرنسية؛ فترتب على ذلك وجود «ثنائية» في النظام السياسي السائد في إيطاليا الشمالية، لا جدوى منها ولا طائل تحتها، حيث دَخَلَ قِسْم منها في نطاق الإمبراطورية الفرنسية فصار مندمجًا بها، في حين بقي القسم الآخر يؤلِّف مملكة كان نابليون نفسه ملكًا عليها.
ولقد عَرَفْنا أن «تسكانيا» قد تحولت إلى مملكة «إتروريا» على يد نابليون، لينال تاجها ابن دوق بارما المتزوج من ابنة ملك إسبانيا، وذلك ترتيبٌ اقتضاه صالح سياسة نابليون الإسبانية، وقد صارت ابنة ملك إسبانيا «ماري لويزا» وصية على مملكة «إتروريا» باسم ابنها، أو نيابة عنه لوفاة والده — لويس دوق بارما — منذ شهر مايو ١٨٠٣.
وهكذا كانت إيطاليا — ذلك الميدان المفتوح، والذي كان نابليون حرًّا طليقًا يفعل فيه ما يشاء بمطلق إرادته — مسرحًا لفكرات أربع متعارِضة، ومتقاطَعة.
ومن الواضح أنه كان هناك اختلاف ظاهر في الأوضاع القائمة أثناء هذه السيطرة النابليونية في كل من إيطاليا وألمانيا؛ ففي إيطاليا اتخذ الخضوع للسيطرة النابليونية أشكالًا ثلاثة: إما في صورة حكومات شخصية، يحكمها نائب ملك في مملكة إيطاليا، أو تحكمها شقيقة الإمبراطور في تسكانيا، وإما كحكومات خاضعة لسيطرة فرنسا مباشرة، وتؤلف جزءًا من الإمبراطورية الفرنسية في روما، وجنوة، وبيدمنت، وإما حكومات تابعة، يتولى الحكم فيها شخص مفروض عليها فرضًا، وذلك في مملكة نابولي.
وعلى ذلك فقد اختفى النظام السابق في إيطاليا اختفاءً تامًّا، واستعيض عنه الآن بقيام «تركيز إقليمي» لم يترك سوى أربع كتل إقليمية فحسب، هي: مملكة إيطاليا، (تسكانيا)، الأملاك البابوية القديمة، مملكة نابولي، ومع ذلك فإنه لم يكن هناك وجود «للوحدة» القومية أو السياسية في هذا الترتيب الإقليمي والسياسي، والذي لم يكن يستهدف بحال من الأحوال إنشاء تلك «الأمة الإيطالية» التي تحدث عنها نابليون، وعن رغبته ونواياه الصادقة في «خلقها»؛ فلم ينشئ نابليون إيطاليا.
وفي ضوء ما تَقَدَّمَ جميعه يصبح متعذرًا القول بأن نابليون — سواء فيما يتعلق بألمانيا أو إيطاليا — كان يتبع سياسة ترمي إلى إحياء القوميات وبَعْثها، أو أنه قد أوجد إطلاقًا في البلدان التي دانت لسلطانه، شعورًا قوميًّا؛ بمعنى أنه كان يسعى «إيجابيًّا» لِخَلْق هذا الشعور القومي عن طريق سياسة مرسومة تهدف لهذه الغاية بذاتها.
في سائر أوروبا
على أنه قد يكون للعاهل الفرنسي سياسة أوسع مدًى بالنسبة لتنظيم أوروبا بأسرها، على اعتبار أن التقطيعات والتجزئات التي حصلت في ألمانيا وإيطاليا خصوصًا، ليست سوى خطوة أو خطوات تمهيدية، قد تؤدي إلى إنشاء «دولة» فذة في نوعها، فلا تعود تلك التقطيعات والتجزئات مما يُؤْبَه له، سواء أكانت عابرة أم كانت باقية ومستديمة، طالما أنها سوف تُمَهِّد في النهاية لظهور القوميات، والاعتراف بها في أوروبا.
ولقد سَبَقَ في بداية هذا البحث أن كنا عَرَضْنا لرأي المؤرخ الفرنسي «جورج ليففر» الذي فَسَّر السياسة النابليونية في ضوء ما أسماه «بالنظام القاري»، الذي أخذ به نابليون بعد «تلست»، ويتلخص رأي «جورج ليففر» في أن نابليون إنما كان يبغي من سياسته اتحاد أوروبا بأجمعها، بأن تَنْدَمِج تدريجيًّا في كيان «الإمبراطورية العظمى»، تلك الإمبراطوريةُ التي تأسست في سنة ١٨٠٥ أولًا، ثم تلك التي جرى إنشاؤها بعد سنة ١٨٠٧ في نطاق «النظام القاري» الذي فرضه نابليون على أوروبا، والذي كان متوقَّعًا أن يحيل هذه الإمبراطورية العظمى النابليونية إلى إمبراطورية من الطراز الروماني، متحدة أو موحدة، ويتولى إدارة شئونها رئيسها الأوحد فقط، ويدفعها أو يوجهها دافعٌ أو حافزٌ سياسي واحد يلزم هذه الإمبراطورية السير بأجمعها في طريق واحد.
وتلك نظرية في رأي كثير من المؤرخين «مغرية» حقًّا، ومع ذلك، فلو صح أن «النظام القاري» كان هدف نابليون، أي إنشاء «وحدة» أوروبية في نطاق «الإمبراطورية العظمى»، تحت السيطرة الفرنسية والنابليونية، فإن هذا النظام القاري نفسه متعارض مع مبدأ القومية؛ لأن «التجديد» المنشود سوف يبعث إلى عالَم الوجود تنظيمًا سياسيًّا من طراز «الملكية العالمية» التي راجَتْ فكرتها خلال القرن الثامن عشر، والتي شوهد رواجها قبل ذلك خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، لصالح الإمبراطور شارل الخامس أولًا، ثم لصالح لويس الرابع عشر؛ ولأن هذا «التجديد السياسي» إنما كان معناه خلق حضارة معينة، لا تلبث حتى «تذوب» في أتونها حضارات الشعوب المختلفة، أضف إلى هذا أن فكرة «النظام القاري» من وجهة النظر الفرنسية، إنما تعني بَسْط السيطرة الفرنسية على أوروبا بأجمعها، وتلك كانت السياسة التي اتَّبَعَتْها «الثورة» في الإقليم الواقع خلف نهر الراين، فأرادت «الإمبراطورية» الآن أن تجعلها تمتد حتى تشمل أوروبا بأَسْرها.
ومن المقطوع به أن نابليون في اتباعه هذه السياسة لم يكن يستهدف غير تحقيق المصلحة الفرنسية، وليس صالحًا أوروبيًّا، ينهض دليلًا على ذلك التعليمات التي زَوَّدَ بها الملوك والملكات الذين أعطاهم السيطرة في أوروبا، وكانت هذه تعليمات متَّفِقة جميعها في الغرض المرجوِّ منها؛ فهو يقول لأخيه «لويس»: «لا تنقطع عن أن تكون دائمًا فرنسيًّا»، ويكتب إلى «مورا»: «تَذَكَّرْ أني إنما جَعَلْتُ منك ملكًا لصالح نظامي»، ويكتب إلى أخته «كارولين»: «إني أَرْغَب قبل كل شيء آخر أن تجري الأعمال بما يتفق وصالح فرنسا، فإذا كُنْتُ قد غَزَوْتُ مَمَالِكَ وصارت لي فتوحات؛ فذلك حتى تفيد منها فرنسا»، وأما أولئك الملوك والملكات والغراندوقات الذين «خلقهم» نابليون، وسَلَّمَهُم مقاليد الحكم في أنحاء أوروبا، فقد كانت «تصرفاتهم» مَوْضِع استنكار الإمبراطور الشديد، إذا هم حادوا عن السياسة التي يعتبرها نابليون في صالح فرنسا، فيغضب عليهم، بل وينتهي الأمر بإلغاء مناصبهم، وضم الدول التي أعطاها لهم إلى فرنسا، كما حدث عندما غضب على أخيه «لويس» في هولندة.
ولقد اتسمت السياسة التي اتَّبَعَهَا نابليون وفَرَضَهَا على بلدان أوروبا الخاضعة لسلطانه بالتناقض؛ فلم تكن سياسة الإصلاحات الداخلية واحدة، لا في «الأماكن» ولا في «المناسبات» المتشابهة، بل كانت هناك سياسة قد يصح القول بأنها متلائمة مع كل دولة أو حكومة على حدة. مثال ذلك ما حَصَلَ في ألمانيا التي وَجَدَ بها «دولتان» متجاورتان، هما: غراندوقية فرانكفورت ومملكة وستفاليا؛ ففي كل منهما قامت سياسة داخلية مختلفة، واختلف التنظيم الداخلي في كل منهما عنه في الأخرى، بالرغم من تلاصقهما.
ثم في إيطاليا التي يعتقد «جورج ليففر» أن «النظام القاري» قد بَلَغَ بها ذروة كماله، لم تكن هناك سياسة داخلية موحَّدة في كل تلك التجزئات أو الأقسام التي أَوْجَدَهَا الإمبراطور الفرنسي، بل إن هذه الاختلافات في السياسة الداخلية مُشَاهَدة كذلك في البلدان التي خَضَعَتْ لإدارة نابليون مباشرة، ثم إنها أبرز وضوحًا أيضًا في البلدان التي كانت تحت «حمايته»، فاختلفت التنظيمات الداخلية في كل من بفاريا وورتمبرج وبادن عنها في الأخرى.
وقد يتضح المعنى الذي صَوَّرَتْه فكرة القومية والقوميات في ذهن نابليون، من محاولته إظهار الفوائد التي يجنيها أخوه «لويس» ملك هولندة لصالح هذه البلاد، إذا هو ظل «هادئًا مستكينًا»، فيقول نابليون (في ٢٠ مايو ١٨٠٥): «إنه يستطيع أن يضم إلى هولندة كل شمال ألمانيا الغربي»، معللًا ذلك بأن هذا القسم نواة لأولئك الشعوب الذين يفقدون روحهم الألمانية، الغرض الأول الذي تستهدفه سياسته، وواضح أن هذا القول ينطوي على مناقضة تامة لأية سياسة قومية، حيث يقرر نابليون نفسه في هذه العبارة أنه يريد أن يُفْقِد الألمان «روحهم الألمانية».
ومن هذه الناحية تُعْتَبر بولندة خير مثال لبيان الطريقة التي عَالَجَ بها نابليون فكرة القومية، فقد سَبَقَ أن لاحظنا كيف أن مصير بولندة كان مرتهنًا بمشيئة نابليون، وأن نابليون لم يكن ينظر إلى بولندة إلا «كورقة» سياسية وعسكرية في يده، «يلعب» بها كما «يلعب» بها القيصر إسكندر نفسه، ولم يكن القيصر إسكندر يأبه لآمال البولنديين الوطنية؛ فقد أَعَدَّ البرنس «تزارتوريسكي» مذكرات بَعَثَ بها إلى القيصر في شهري يناير وأبريل، ثم في ديسمبر ١٨٠٦ يُحَاوِل فيها إقناعه بضرورة إحياء مملكة بولندة القديمة دولة جديدة، وبأهمية إنشاء اتحاد فدرائي من الشعوب السلافية حول روسيا وتحت حمايتها، باعتبار أن يكون ذلك بمثابة القاعدة لسياسة روسية «عظيمة» تكفل لها السيطرة على تركيا، وعلى حوض البحر الأبيض المتوسط، ولكن هذه المحاولات ذهبت سُدًى، ولم يصنع القيصر الروسي شيئًا لإحياء بولندة.
ونظر نابليون من ناحيته إلى بولندة كمسألة «طارئة» لمعالَجة «ظروف» وقتية فحسب، وتتصل — كما يَتَوَقَّع هو — بعلاقاته مع روسيا أو «بالحل» الذي قد يُفَوِّت على روسيا أغراضها في السيطرة على تركيا والبحر المتوسط؛ ففي «النظام النابليوني» تَجَاوُر بولندة وتركيا روسيا، الأولى من الغرب، والثانية من الجنوب، وتجعلان روسيا في «عزلة»، وتبعدانها من السيطرة في البحر الأبيض المتوسط؛ وعلى ذلك فقد بَقِيَتْ بولندة في يد نابليون «أداة» — وحسب — لمعاوَنته على معالَجة مشكلة طارئة، هي بالأقل احتواء روسيا داخل حدودها ومَنْع امتداد نفوذها غربًا إلى وسط أوروبا، وجنوبًا إلى البحر المتوسط؛ ولذلك فقد راح نابليون يساوم بمصير بولندة في مفاوضاته في آخر سنة ١٨٠٨ مع قيصر روسيا، في موضوع زواج العاهل الفرنسي من شقيقة القيصر الغراندوقة كاترين، فعَرَضَ إعطاء القيصر بولندة لقاء الزواج من أخته، وفي اللحظة التي أراد فيها نابليون (في سنة ١٨٠٩) محالَفة القيصر ضد النمسا، عَرَضَ نابليون إعطاء القيصر إسكندر إقليم غاليسيا، وهو الذي كانت قد حصلت عليه النمسا في تقسيم بولندة الثالث (سنة ١٧٩٥) ولم تكن هذه «المساومات» — كما هو ظاهر — تنطوي على محاولة لتحقيق وجهة نظر بولندة.
ثم إنه حَدَثَ خلال العمليات المشتركة التي قام بها الروس والبولنديون أثناء حملة ١٨٠٩ ضد النمسويين في «غاليسيا» أن وَقَعَتْ اصطدامات بين الفرق الروسية والفرق البولندية، مما يدل على تعارُض «السياستين»: الروسية والفرنسية، ومع ذلك فقد نال القيصر في معاهدة فينَّا «شونبرون» التي أَبْرَمَتْ مع النمسا في أكتوبر ١٨٠٩ جزءًا من غاليسيا (إقليم تارنبول)، في حين أُعْطِيَتْ بقية غاليسيا إلى غراندوقية وارسو.
وبالرغم من هذا «التصرف الشخصي» في مصير البولنديين، فقد بقي هؤلاء يتحمسون لنابليون حماسة عظيمة، وبلغ اعتقادهم — كما يقول المؤرخ الفرنسي «البيرسوريل» — في قدرة نابليون على إحياء أُمَّتِهِم درجة لا يعدلها غير حماس البولنديين المعروف للتضحية بأرواحهم في سبيل إحياء مملكة بولندة القديمة، وراح البولنديون يؤيدون نابليون، وبعد هزيمة بروسيا سنة ١٨٠٨ التف هؤلاء حول الفرنسيين زرافات ووحدانًا عندما وَصَلَ نابليون إلى وارسو، ثم إنهم انخرطوا في سلك الجيش الفرنسي، ولقد ظلوا متمسكين بإيمانهم بالعاهل الفرنسي، ويغذي حماسهم الأمل إلى النهاية، بأن نابليون سوف يعمل قطعًا لإحياء بولندة وبعث الأمة البولندية.
على أن الذي فَعَلَهُ نابليون — أي إنشاء غراندوقية وارسو (في صلح تلست في يوليو ١٨٠٧) — لم يكن ذلك الذي عَقَدَ البولنديون عليه آمالهم، أَضِفْ إلى هذا أن الذي قام بتنظيم حكومة الغراندوقية الجديدة كان الفرنسيون، وليس رئيس «الدولة» الجديدة، ملك سكسونيا الذي ظل مقيمًا في درسدن، ولم يُمَارِس شئون الحكم في دولته الجديدة، وقد حصل البولنديون من نابليون على دستور (في ٢٢ يوليو ١٨٠٧) أنشأ سلطة تنفيذية وأوجد تمثيلًا للشعب في مجلس «دياط» يتألف من غرفتين: مجلس شيوخ من النبلاء، ومجلس نواب من ممثلين للأهلين على قاعدة الانتخاب بدفع قدر معين من الضرائب، على أن هذا التمثيل «الأهلي» لم يكن مجديًا؛ لأن مدة انعقاد «الدياط» جُعِلت خمسة عشر يومًا فقط كل سنتين مرة واحدة.
وإلى جانب هذه «الحكومة المركزية» جَعَلَ نابليون للبولنديين أنظمة أو مؤسسات حكومية من نمط الأنظمة الحكومية الفرنسية: إدارات وزارية، ومصالح «أو إدارات» عامة كبرى وهكذا، ولو أن بولندة تقلصت في هذا الترتيب أو «النظام النابليوني» إلى غراندوقية وارسو، فقد صار لها لأول مرة في حياتها سلطة مركزية محدَّدة، ونظام معين من الموظفين الفنيين أو المحترفين، وفي هذه الغراندوقية أدخل الإمبراطور في سنة ١٨١٠ القانون المدني الفرنسي، بعد أن ألغى «رقيق الأرض»، وكان إلغاء رق الأرض كل ما فَعَلَه نابليون للفلاحين البولنديين.
ومع أن بولندة النابليونية هذه كانت ذات طابع أرستقراطي؛ فلم يكن أهل الطبقة الأرستقراطية يشعرون بالاطمئنان؛ بسبب السياسة النابليونية «المتغيرة»؛ فكانوا يخشون دائمًا من أن يعمد نابليون إلى سياسة تحريرية بعيدة الأثر في صالح الفلاحين.
وبين هؤلاء وهؤلاء وَقَفَ رجالُ الدين موقفًا «مبهَمًا» أو «غامضًا»، فهم قد أفادوا من السيطرة الفرنسية التي حفظت لهؤلاء أملاكهم ومناصبهم السامية في الدولة الجديدة، ولكنهم من ناحية أخرى كانوا غير مطمئنِّين للسياسة الفرنسية التي أَعْلَنَتْ حرية العبادة وحرية الضمير في الغراندوقية، وتَزَايَدَ قَلَقُهم وانزعاجُهم بسبب انتشار المحافل الماسونية واتساع نشاطها في البلاد، كما أَقْلَقَهُم ما أُعْطِيَ لليهود من حقوقٍ سياسية، ولو أنه كان بسبب هذا الانزعاج الكبير نفسه أن تَقَرَّرَ بعد فترة من الوقت سحْب هذه الحقوق السياسية من اليهود مدة عشر سنوات، وكذلك حق امتلاك الأراضي، وعلى ذلك كان هذا القلق مَبْعَث الشعور بعدم الرضى الذي أَخَذَ يطغى تدريجيًّا على رجال الدين، وخصوصًا لدى الرهبان الذين لم يلبثوا أن قاموا بحملة كبيرة ضد نابليون، عندما بدأ هذا سياسته المعروفة لاضطهاد البابا.
ولقد صادفت غراندوقية وارسو إلى جانب هذا كله طائفة من المشكلات الداخلية التي تَزَايَدَ خطرها، واحدة بعد أخرى، ولو أنه من المتعذر معرفة نتائج هذه الصعوبات، وما قد ينشأ عن تفاقمها، أو الوصول إلى رأي قاطِعٍ بشأن الوضع الذي سوف تكون عليه بولندة بسبب هذه الصعوبات نفسها، والسبب في ذلك أن غراندوقية وارسو التي خلقها نابليون لم تُعَمِّر إلا وقتًا قصيرًا جدًّا، على أن الذي يجب ذِكْرُه سواء وُجِدَتْ هذه الصعوبات أو انتفى وجودها، وسواء نال إنشاءُ هذه الغراندوقية رضاءَ الأمة البولندية رضاء تامًّا، أو أن البولنديين لم يشعروا بالرضى الكامل من ناحية تحقيق «الفكرة القومية» وخَلْق الوطن البولندي، فقد كان — ولا شك — إحياء بولندة — ولو أنه جاء بهذه الصورة المحددة — خطوة ذات شأن، بعد أن كانت هذه الدولة قد انمحت من الوجود، واختفت من خريطة أوروبا السياسية بعد التقسيمات الثلاثة المعروفة في القرن الثامن عشر.
ولذلك فقد بقي البولنديون وحْدَهم من بين شعوب أوروبا على ولائهم للعاهل الفرنسي، بالرغم من كل التقلبات «السياسية» التي حَدَثَتْ بعد ذلك؛ فهم قد أَمَدُّوا جيوش نابليون في أول الأمر بثلاثة وخمسين ألف مقاتل، ثم بلغت القوات البولندية أثناء حملة روسيا تسعين ألفًا، وفي جيش نابليون تولى القيادة ثلاثة عشر قائدًا بولنديًّا، توفي منهم اثنان في المعارك الحربية، أحدهما: المارشال «بونياتوسكي»، وكان من بين ضباط الجيش النابليوني ستة بكباشية، ظلوا قُوَّادًا في الجيش الفرنسي بعد سنة ١٨١٥، ولقد بَقِيَ قسم من هذه القوات البولندية في فرنسا بعد سقوط نابليون، باعتبارهم «مهاجرين» في خدمة الجيش الفرنسي.
ولقد كان في بولندة إذن أن بلغت سياسة نابليون «القومية» ذروتها، وبالصورة المحدودة التي شاهدناها؛ ولذلك فمن المتعذر القول بأن نابليون كان نصيرَ الحركات القومية في أوروبا، أو أنه بنى سياسته على تشجيع القوميات بها، وفي المرات القليلة التي نجم من سياسته «تشجيع» أو «إحياء» لهذه القوميات، لم يكن ذلك على الأقل شيئًا حدث باختياره، أو كغرض معيَّن اتجه صوبه عامدًا وبناء على سياسة موضوعة تستهدف تحقيقه لذاته.
والحقيقة أن القوميات سوف تربح ربحًا كبيرًا من هذا «النظام النابليوني»، ولكن ليس كنتيجة «لمبادئ» و«توجيهات» منبعثة من نابليون نفسه، وإنما كرَدِّ فِعْلٍ في شكل مقاوَمة عميقة وواسعة ضد السيطرة النابليونية في أوروبا.