المقاومة ضد فرنسا
تمهيد
لقد شاهدنا عند الكلام على الأثر الذي أَحْدَثَتْه الثورة الفرنسية في أوروبا، كيف أن أوروبا قد رَحَّبَتْ — بصورة تكاد تكون إجماعية — بهذه الثورة، إذا استثنينا — بطبيعة الحال — تلك المصالح التي كانت متعارضة مع الثورة، سواء أكان أصحاب هذه المصالح أهل الطبقات صاحبة الامتيازات أم الحكومات التي أوجدها «النظام القديم»، ولا جدال في أن «الثورة الفرنسية» كانت تتمتع وقتئذ بسلطان روحي عظيم في أوروبا.
على أن هذه السيطرة الروحية سرعان ما تبدلت على يد نابليون، فصارت سيطرة مادية استبدادية، قائمة على إخضاع أوروبا وشعوبها، تحت سلطان ذلك «النظام القاري» الذي تحدث عنه «جورج ليففر» والذي كان متعارضًا — كما رأينا — في جوهره مع مبدأ احترام القوميات وتحرير الشعوب، والذي تَسَبَّبَ عنه إثارة رد فعل كبير من جوانب متعددة ضد السيطرة الفرنسية والنابليونية، ولقد اتخذ رَدُّ الفعل الذي حصل شَكْلَ المقاومة الوطنية، الأمر الذي أحيا الشعور بالقومية ليسير جنبًا إلى جنب مع شعور الوطنية.
والذي يجب ذكره — وعلى نحو ما فعلنا مرارًا وتكرارًا أثناء هذه الدراسة — أن نابليون لم يكن هو صاحب الفضل عن طريق إجراء مباشر أو غير مباشر ومنبعث منه في خَلْق القوميات الأوروبية، وإنما هذه قد برزت إلى عالم الوجود كحركة مضادة للسياسة النابليونية، ومن أَجْل مقاوَمة ذلك «النظام القاري» نفسه الذي عزاه بعض المؤرخين إلى العاهل الفرنسي.
وثمة ملاحظة أخرى: هي أن رد الفعل الذي حصل لم يكن متشابهًا في مقداره ومداه وآثاره، والزمن الذي وَقَعَ فيه، ولم يحدث رَدُّ الفعل هذا في البلدان جميعها في وقْتٍ واحد ولحظة ومناسَبة واحدة، واختلفت النتائج كذلك التي ترتَّبَتْ على حدوثه.
ولعل رد الفعل الأول، والذي يسهل تَتَبُّع آثاره، كان ذلك الذي حدث في مجموعة الدول «القديمة» في أوروبا، أي تلك التي تم تكوينها في الأزمنة القديمة، وصار لها كيان، بدأ النضال بين أهل البلاد وحكوماتها من أجل المحافظة عليه وحمايته ضد اعتداءات الغزاة الفرنسيين، وذلك نضال بدأ من وقت مبكر، ثم حصل في صورة رد فعل «وطني» كذلك، والذي يدعو للدهشة أن نابليون نفسه عَجَزَ عن أن يفطن لحقيقة هذه المقاومة الوطنية ورد الفعل «القومي»، بل إنه لم يكن يتوقع حدوثه، ثم صار لا يَأْبَهُ له حتى بعد حصوله، ولعل أظهر مثال لذلك تلك المقاوَمة التي حَطَّمَتْ قواعد «النظام القاري» النابليوني في إسبانيا وروسيا، والنمسا وإيطاليا، إلى جانب هولندة والدول الألمانية مثل: بفاريا، ووورتمبرج، وبادن، وبروسيا خصوصًا، وتلك كانت حركة المقاومة التي سوف تتبلور في «حرب الأمم» المعروفة للقضاء على السيطرة النابليونية في أوروبا.
في إسبانيا
فرفض نابليون الاعتراف إطلاقًا بأن في وُسْع الإسبان أن يكون لهم في مجموع البلاد الخاضعة لهم ذاتية أو كيان ذو ملامح خاصة به، بل اعتقد أن الإسبان — كما صار يقول — إنما هم كغيرهم من الشعوب الأخرى سوف يُسْعِدُهُمْ أَعْظَمَ السعادة قَبُولُهم «الدساتير الإمبراطورية»؛ أي أنظمة الحُكْم التي تضعها لهم وتفرضها عليهم الحكومة الفرنسية، واحتقر نابليون من ناحية أخرى قُدْرة الثوار الإسبان العسكرية، ومدى الأعمال أو المقاومة التي كان في وُسْعهم أن يقوموا بها.
ولقد تَسَبَّبَ عن هذا الازدراء بالثوار والاستخفاف بقوَّتهم، أن عمد نابليون إلى بعثرة قواته وجيوشه في شبه الجزيرة، وإلى عدم إرساله إطلاقًا القوات العسكرية الكافية للقضاء على المقاوَمة وإخماد الثورة في إسبانيا بصورة حاسمة فاصلة، ولم يَعْنِ بتنظيم جيشه في إسبانيا بالدرجة التي اعتنى بها عادة عند تنظيم جيوشه المحارِبة في ميادين أخرى، حتى لقد صارت طبيعة البلاد الجغرافية والمسافات الشاسعة التي وَجَبَ أن تقطعها من مكان إلى آخر قواتُ مُشَاتِه العسكرية، من العوامل التي أَدَّتْ إلى الهزيمة في عدة مواضع، وكان هذا الاستخفاف بقوات الإسبان المحاربة، مَبْعَث إهماله تنظيم «القيادة العامة»، فانعدم أيُّ تنسيقٍ في عمليات القادة والرؤساء، وفي الحالات الاستثنائية القليلة التي كان نابليون موجودًا ليتولى القيادة العامة أو الإشراف عليها بنفسه، دَرَجَ قوادُه على العمل مستقلين عن بعضهم بعضًا في «جبهات» القتال المتعددة، ومع ذلك فالجدير بالملاحظة هنا أن الإسبان ما كان في وسعهم بتاتًا — سواء بوصفهم ثوارًا يحاربون حرْب عصابات، أو جيوشًا نظاميين — أن يتخلصوا من الجيوش الفرنسية وحْدهم، ومن غير أن يكونوا مؤيَّدين من الإنجليز، الذين كانوا أصحاب «السيطرة البحرية».
ولقد احْتَفَظَ الإنجليز بسيطرتهم في البحار دائمًا طوال الحرب ضد الثورة ونابليون، وكان بفضل احتفاظهم بهذه السيطرة البحرية أن استطاعوا «تغذية» الحرب في إسبانيا ونجدة الإسبان في قتالهم ضد فرنسا إلى النهاية.
أما نقطة البداية في رد الفعل الذي حصل ضد السيطرة الفرنسية النابليونية في إسبانيا، فكانت احتلال شمال إسبانيا بدعوى تأمين مواصلات الجيش الفرنسي في البرتغال، وهو الجيش الذي تولى قيادته الجنرال «جونو» في آخر سنة ١٨٠٧ وبداية السنة التالية، ولقد مَرَّ بنا أثناء دراسة تاريخ الإمبراطورية النابليونية كيف أن «مورا» دَخَلَ إلى مدريد، العاصمة الإسبانية في ٢٣ مارس ١٨٠٨، وكيف أن «الأحداث» السياسية التي وَقَعَتْ بعد هذا الاحتلال الفرنسي كانت تَنَازُل الملك شارل الرابع عن العرش الإسباني في ١٤ مارس، ثم مقابلة «بايون» المشهورة التي نزل فيها الملك شارل الرابع وولده فردنند السابع في مايو من السنة نفسها «لصديقهما العزيز وحليفهما الإمبراطور» عن كل حقوقهما في عرش إسبانيا، ثم إعطاء تاج إسبانيا إلى جوزيف شقيق نابليون في ٥ مايو ١٨٠٨، ثم اجتماع «مجلس» انْتُخِب أعضاؤه حسب الطريقة التي أرادتها الحكومة الفرنسية من ثلاث طبقات من الناخبين، استصدر دستورًا «للملكية الإسبانية» بعد أن قَبِلَ جوزيف بونابرت تاجَ هذه الملكية، وقد دَخَلَ جوزيف مدريد يوم ٢٠ يوليو.
وَضِدَّ هذه السيطرة الفرنسية التي فُرِضَتْ على الإسبان، حصل رَدُّ فِعْل مباشر في صورة مقاوَمة فعلية، وكان قد سَبَقَ هذه المقاومة حركةُ عصيان أو ثورة، وقعت في «أرانجوز» يومي ١٧، ١٨ مارس ١٨٠٨، قَلَبَتْ حكومة «جودوي» الذي ذَكَرْنا أنَّ تَنَازُل الملك عن العرش لصالح ابنه كان السبب في إنقاذه من غضب الشعب، ثم وَقَعَ عصيان آخر بعد شهر من هذا الحادث الأول، وذلك بعد دخول الجنود الفرنسيين إلى مدريد، فقضى «مورا» على هذا العصيان بقسوة ووحشية في اليوم التالي (٢-٣ مايو)؛ فكان حينئذ أنْ رَفَعَ الإسبان علم الثورة مباشرة.
وكان عنصر المقاومة أو الثورة الباقي هو الشعب، ولقد توافرت الأدلة من أزمان بعيدة على أن الشعب الإسباني مُتَّصِف بالتعصب الديني، وبشدة التمسك بتعاليم المسيحية الأولى، ثم الكراهية للأجنبي، وذلك شعورٌ ظَهَرَ جليًّا ضد الإنجليز أنفسهم، كما ظهر ضد الفرنسيين، ثم لم يلبث أن «تَرَكَّزَ» ضد الآخرين لعدة أسباب؛ كان أهمها ولا شك: حدوث الغزو الأجنبي لبلادهم، ثم كل المساوئ والأضرار المادية التي تَحَمَّلَها الإسبان بسبب هذا الغزو نفسه، ومع ذلك فقد قامت الثورة أصلًا في مقاطعات لم تتعرض لغزو الفرنسيين، وفي ذلك دليل على أن العاطفة الوطنية، أو الشعور الأهلي «القومي» كان الحافزَ على هذه الثورة، مع الأخذ بعين الاعتبار كذلك الأضرار المادية التي أشرنا إليها، والتي وقع عبئها على كاهل الشعب الإسباني.
وعلى ذلك فقد كانت الثورة في إسبانيا حركة «جماهيرية» سَاهَمَ فيها الفلاحون وصغارُ الناس من أهل المدن، وبقول آخر: «سوادُ الشعب الإسباني»، ولقد كان بسبب اشتراك هذا العنصر الشعبي في الثورة، أن أَخَذَتْ تَذِيع في أوروبا «أسطورة» الكفاح في إسبانيا، باعتبار أنها حركة مقاوَمة عمادها الشعب الذي وَقَفَ في جبهة واحدة في وَجْه الغزاة الفرنسيين.
وثمة عنصر آخر من عناصر «الثورة» أو المقاوَمة المسلحة ضد السيطرة الفرنسية؛ هو جماعة النبلاء الذين عَظُمَ لديهم الشعورُ بالكبرياء الوطني أكثر مما يشعر به سواد الشعب، ثم أثارهم ضد الفرنسيين — ولا شك — شُعُورُهم بالكراهية ضد «نظام» عمد إلى إقصاء النبلاء؛ ففَقَدَ هؤلاء بسببه نفوذَهم السياسي، وكلَّ سلطة في البلاد، ولقد جعلهم ذلك يقومون مباشرةً في وَجْه «جودوي»، ثم في وجه «فردنند السابع»، بمجرد أن أدركوا ارتباط هذا الأخير واتفاقه مع الفرنسيين «العنصر الأجنبي».
لا شك أنك تُدْرِك تمامًا أن الواجب علينا عدم الاعتراف بشخص «ماسوني» — أي من البنائين الأحرار — مهرطق، ولوثري «أي منشق على كنيسة رومة» ملكًا على البلاد، كما هو حال كل أفراد أسرة بونابرت، وكل أفراد الأمة الفرنسية.
ولقد كانت لهذه المقاومة أو الثورة الإسبانية «ملامح» مُعَيَّنة اختصت بها، أولها: تلك القسوة والوحشية التي اتسمت بها أحداثها والتي كان مبعثها من جانب الإسبان، التطرف أو المغالاة التي اتَّصَفَ بها الخلق الإسباني من ناحية، ثم كل تلك الشدائد التي تَحَمَّلَها الشعب الإسباني نتيجةً لهذه السيطرة الفرنسية الأجنبية المفروضة عليه من ناحية أخرى، فاتخذ النضال بين الفريقين من أساسه شَكْل المذابح والاغتيالات والقتل وتعذيب الأسرى، أو المعتقلين في الجيوش.
ثم إن من خصائص هذه الثورة أنها كانت عامَّة شاملة، خرجت من «أستورياس» و«جاليكيا» من ناحية، ومن «أندلوشيا» من ناحية أخرى، لتمتد إلى كل أرجاء إسبانيا.
وبلغ عدد «المجالس الثورية» سبعة عشر مجلسًا «أو جونتا» منتشرة في مختلف أنحاء إسبانيا، وتعتمد على تأييد الشعب الإسباني، وهذا «التنظيم» أو «العمومية» التي اتسمت بها الثورة هي التي تفسر — إلى حد كبير — عَجْز العمليات العسكرية الفرنسية؛ لأنه بالرغم من الانتصارات التي كان يحرزها الفرنسيون في المعارك التي خاضوا غمارها مع القوات الإسبانية النظامية أو الثورية، كانت لا تلبث حتى تبدأ عمليات جديدة في أماكن وميادين أخرى، فعَجَزَ الفرنسيون تمامًا عن إحراز نصر عسكري «فاصل» يحسم هذا النضال المستمر بينهم وبين الإسبان، ومع أنه من المُسَلَّم به أن الإسبان ما كانوا يقدرون في النهاية أن يظفروا بنتائج حاسمة، من غير المؤازرة المستمرة التي نالوها من الإنجليز، فقد كانت القوات الثورية الإسبانية كافية لتجعل الجيوش الفرنسية عاجزة من الناحية العسكرية.
ومع ذلك فقد نجح هذا المجلس في تأليف وزارة إسبانية، ولكنهم لم يعينوا «قيادة عليا»؛ لأن القواد آثروا الاحتفاظ باستقلالهم، وهكذا أَمْكَنَ تأليف «جونتا مركزية»، غير أن هذه عجزت عن توطيد سلطانها، أو نفوذها الإداري في غير مقاطعتين اثنتين وحسب، وهما «ليون» و«قشتالة القديمة»، وهذا العجز عن إنشاء سلطة مُوَحَّدَة ومركزية وطنية يُوَضِّح ذلك الميل الغريزي لدى الإسبان الذين يميلون إلى التفكك «المحلي»، وإنشاء سلسلة من الوحدات الإقليمية ذات الطابع المحلي بمجرد اختفاء الطغيان المركزي، أي ظهور عجز السلطة المركزية عن فَرْض سلطانها الموحَّد على البلاد، وسوف تَبْرُز هذه الحقيقة واضحةً عند دراسة تاريخ إسبانيا بعد سقوط الإمبراطورية النابليونية خصوصًا، ولو أن ظاهرة «التفكك» و«المحلية» هذه سوف تبقى من خصائص التاريخ الإسباني طوال القرن التاسع عشر، وحتى الجزء الأول من القرن العشرين.
على أن هذه الثورة أو المقاوَمة الإسبانية كانت تنطوي كذلك على «جرثومة» الانقسامات والاختلافات السياسية، التي صار لها شأن بعد فترة من الزمن، وخصوصًا في المدة بين ١٨١٥، ١٨٤٨ على نحو ما سنفصله في فصول تالية.
ولقد ضم «الكورتيز» إليه كذلك ستة وثلاثين نائبًا يمثلون المستعمرات الإسبانية في أمريكا، جرى تعيينهم بنفس الطريقة، ويَدُلُّ تأليف الكورتيز بهذه الصورة «الحرة» على أن طبقة معينة تدين بالآراء التقدمية، إذا قِيسَتْ بسائر الطبقات الإسبانية، وفي مختلف أنحاء إسبانيا، كانت ذات أَثَرٍ في تشكيل المجلس الوطني، ونعني بها الطبقة المتوسطة (البورجوازية)، فقد انفردت قادش وقتئذ بأنها المكان الوحيد الذي وُجِدَتْ به فعلًا طبقة بورجوازية هامة، وكانت الآراء السائدة في هذا المركز التجاري والسياسي الكبير آراء تقدمية نوعًا وبدرجة صار بها «الكورتيز» — وبسبب الطريقة التي تَأَلَّف بها كذلك — لا يمثل الرأي العام في إسبانيا بمجموعها ولا يتفق معه، ومع ذلك فإن هذا المجلس الوطني بحكم تأليفه، والآراء التي صار يَدين بها من حيث مؤازرته «للنظام القديم» القائم على دعامتي الملكية والكنيسة وتأييد النبلاء ومعارضته للحركات الثورية، كان مناقضًا للثورة في ذاتها.
وهذا «الكورتيز» هو الذي استصدر دستور ١٨١٢ لإسبانيا، وكان صورة من الدستور الفرنسي الأول (سنة ١٧٩١) مع تعديل أُدْخِلَ عليه بشأن اتخاذ الكاثوليكية وحدها دينًا للدولة، ولقد رَفَضَ القساوسة الاعتراف بهذا الدستور بالرغم من ذلك، ثم عمد الكورتيز إلى إلغاء محاكم التفتيش وإنقاص عدد الأديرة.
وهذا الدستور الذي صَدَرَ في سنة ١٨١٢ والذي قَبِلَتْه إسبانيا «الرجعية» سرعان ما أصبح مثار الانقسامات السياسية بين مختلف الأحزاب الإسبانية عقب عودة الملكية، على أثر انهيار السيطرة النابليونية، وتقوض عروش «الإمبراطورية»، ودار الخلاف في عهد الملكية الراجعة، وحتى سنة ١٨٤٨ بين الإسبانيين حول دستور ١٨١٢، إما لتأييده والتمسك به، وإما للقضاء عليه وإنهائه، وعلاوة على ذلك فقد صار لهذا الدستور نفسه أهمية كبيرة في تاريخ إيطاليا، عندما صار برنامج الثوار الطليان السياسي والذي عارضوا به طغيان الملكية المستبدة في بلادهم ورجعية «الحلف المقدس» وتداخله في شئون بلادهم لمحاولة إخماد الحركات القومية التحررية.
•••
تلك إذن كانت العناصر المختلفة التي تألَّفَتْ منها هذه الحركة القومية (الوطنية) في إسبانيا، ولقد كانت هذه الحركة «إسبانية» في خصائصها وملامحها، فالإسبانيون كان لديهم شعور قوي ونشيط بقوميتهم الممتزجة بوطنيتهم وبتقاليدهم، ولقد كان هذا «الشعور» هو مبعث المقاوَمة الشديدة ضد السيطرة الفرنسية، ومع ذلك فإن رد الفعل الذي حصل ضد هذه السيطرة، كان مع خطورته بسيطًا للغاية من وجهة النظر المثالية؛ إذ إنه كان رَدَّ الفعل الوطني الذي لا مناص من حدوثه ضد الغزو الأجنبي.
وفي روسيا
ومن ناحية أخرى فقد عَجَزَ نابليون عن استمالة الفلاحين الروس إلى جانبه أثناء هذه الحرب الوطنية، أو فريق منهم على الأقل؛ لأنه لم يكن يجرؤ على إعلان إلغاء رقيق الأرض، والعمل من أجل توزيع الأرض عليهم، ولا ريب في أن نابليون لو أنه أَقْدَمَ على هذه الخطوة لكان محتملًا كثيرًا نجاحه في جَذْب فريق من الفلاحين على الأقل، كما ذَكَرْنا لتأييده، ومن المقطوع به على كل حال جذب سواد الشعب البولندي إلى جانبه لو أنه حقق مطالب «الأمة» البولندية السياسية والاجتماعية، ولكن نابليون فَقَدَ فرصة جَعْل الحرب الروسية «حربًا شعبية» أي مقبولة من الشعبين البولندي والروسي على السواء، بسبب ما كان يدور في ذهنه من اعتبارات سياسية.
وأما المظهر الذي اتخذه رَدُّ الفعل ضد السيطرة الفرنسية أثناء حملة ١٨١٢، والذي دل على الطابع القومي الذي اتسمت به هذه الحرب الوطنية من الجانب الروسي، فقد كان اجتماع كلمة الروس، واتحاد الرأي فيما بينهم على رَفْض كل مفاوَضة مع الفرنسيين بالرغم من محاولات نابليون المتكررة للدخول في المفاوضة مع حكومة القيصر إسكندر، وتشبُّث الروس بموقفهم حتى آخر لحظة.
ولقد كان بفضل نشاط عصابات المقاومة الوطنية «أو القومية» أن أَمْكَنَ هزيمة «الجيش الأعظم» الفرنسي، عندما عمدت هذه العصابات إلى تحطيم وإتلاف المؤن، وتخريب القرى في طريق الجيش الفرنسي الزاحف؛ حتى لا يجد الفرنسيون زرعًا ولا ضرعًا، وقاسى هؤلاء شدائد وأهوالًا من المجاعة التي انتشرت بينهم، حتى إن الرأي الجديد بين المؤرخين يكاد يكون متفقًا على أن «المجاعة» وحْدها — وليس «البرد» كما هو شائع في «الأساطير» المتواترة عن «حملة ١٨١٢» — كانت سبب الهزيمة الرئيسي التي حاقت بالفرنسيين، فالثابت أن فصل البرد الشديد في روسيا لم يبدأ إلا بعد هزيمة الجيش الفرنسي واضطراره إلى الارتداد، وبعد أن كان قد وَصَلَ في تقهقره إلى «سمولنسك»، أي إن البرد القارس قد بدأ عندما كاد يكون الجيش الفرنسي متحطمًا تمامًا، بل إن البرد بقي بعض الوقت «معتدلًا» إن صح هذا التعبير، فلم يكن نهر «بريزينا» متجمدًا عندما حاول الفرنسيون واستطاعوا أن يعبروه، فلم يحطم البرد إذن الجيش الفرنسي، ولكن حرب العصابات هي التي حطمته، ومقاومة الروس أنفسهم.
وهذه الغريزة الوطنية التي أفضت إلى تأكيد وجود «قومية» كان لها كيان سابق، كانت كذلك العاملَ الذي أكد وجودَ القومية الهولندية، فقد زادت التقاليدُ القومية في هولندة قوةً على قوتها أثناء السيطرة الفرنسية، ذلك بأن «الجمهورية الباتافلية» — التي أنشأها الفرنسيون — لم تلبث أن أَدْخَلَت الإصلاحات السياسية الضرورية، والتي ساعدتها على النجاح في الدفاع عن حكومتها الذاتية «واستقلالها الذاتي» في موقفها من فرنسا، حتى إن لويس بونابرت الذي فَرَضَهُ شقيقه الإمبراطور مَلِكًا على هولندة لم يلبث أن وَجَدَ نفسه مضطرًا إلى العمل ضد «إرادة» نابليون الذي أراد أن تَتْبَعَ هولندة نظام السياسة الفرنسية، وتقف إلى جانب فرنسا في «نظامها القاري»، فخسر لويس بونابرت عرش هولندة؛ بسبب اضطراره إلى مسايرة الشعور الذاتي «أو القومي» الهولندي.
ولقد أثار الهولنديون صعوبات عديدة في طريق طائفة من الإصلاحات — خصوصًا الإصلاح الزراعي — التي أراد الفرنسيون إدخالها بالقوة في بلادهم، ثم إنهم صاروا يتحملون متاعب شديدة بسبب الأضرار الاقتصادية التي لحقت بهم مِنْ جرَّاء «الحصار القاري» الذي فَرَضَهُ نابليون على البلاد عنوة واقتدارًا لمحاربة إنجلترة، وكان لهذا الأذى الذي لحق بالمصالح الاقتصادية أكبر الأثر في استثارة الشعور الوطني «أو القومي» القديم في هولندة، (ابتداء من سنة ١٨١٠)، ولم يقبل الهولنديون «القانون المدني» وسائر القوانين الفرنسية، ولم يقبلوا كذلك تخفيض الفوائد المحتسَبة للدخول السنوية بقيمة الثلث (١٨١٠)، كما رفضوا إدخال الضرائب الفرنسية إلى بلادهم (١٨١٣)، ومما يجب ذِكْرُه أن كل الأثر الذي أَحْدَثَتْه هذه «المصالح المادية» لم يكن سوى زيادة شدة رد الفعل الوطني «أو القومي» الذي كان موجودًا من قبل.
وأما النتيجة الهامة لهذه السيطرة الفرنسية في هولندة، فكانت تقوية شعور العطف نحو أسرة أورانج الوطنية وزيادة تعلُّق الشعب الهولندي بها، وإعطاء هذه الأسرة طابعًا قوميًّا، جعَلها مقبولة من سواد الأمة الهولندية عند عودة الملكية إلى هولندة بعد سقوط الإمبراطورية (١٨١٥).
•••
وتلك الحالات التي درسناها لوجود رد فعل وطني ضد السيطرة الفرنسية في كل من إسبانيا وروسيا وهولندة، كانت حالات مبسطة للغاية من وجهة النظر المثالية لشعور وطني «أو قومي» مَبْعَثُه الشعب نفسه الذي كان لديه «قوميته» أو ذاتيته القديمة، على أن رد الفعل الذي حصل قد اتخذ مَظْهَر العداوة الشديدة ضد السيطرة الفرنسية، كمقاومة وطنية لإجلاء الغزاة والفاتحين الأجانب عن البلاد، ولم تكن هذه المقاومة «الوطنية» مستنِدة إلى أية فكرة توحي بأنه كانت هناك يقظة قومية، أيْ مقاوَمة منبعِثة عن شعورٍ عامٍّ شامل بوجود اتحادِ كلِّ عناصر المجتمع في مجهود مشترك ناجم عن وعي كامل بضرورة تضافُر كل أفراد الأمة، في نضال موجَّه لتحرير الأمة من كل سيطرة خارجية، بل إن الذي حدث في الحالات التي شاهدناها كان لا يعدو «مظاهر» لمقاوَمة فردية في بعض الأحايين، أو لمقاومة وطنية محلية في أحايين أخرى ضد الاحتلال الفرنسي والسيطرة النابليونية، ومعنى ذلك أن المقاومة التي حصلت إنما كانت من جانب «حكومات» معينة أو من جانب «أفراد»، وأن هذه «الحكومات» وهؤلاء «الأفراد» إنما تولَّوا المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي من تلقاء أنفسهم، أيْ بدافع وطني «أو قومي» غرزي، وشعور وطني محلي، وليس بناء على شعور أهلي «أو قومي» عامٍّ.
وكان لتصدي «الحكومات» للمقاومة أهمية مزدوجة بالغة، من حيث إن ذلك قد ساعَد أولًا على زيادة تركيز السلطة المركزية في «الدولة» وزيادة قوة الدولة، ومن شأن ذلك تطوَّر بناء الدولة، وتقدَّم تكوينها كوحدة سياسية كاملة، ومن حيث إن هذا التقدم ذاته في تكوين الدولة قد تَرَتَّبَ عليه زيادة الشعور «المحلي» قوة على قوته، بحيث صار يتعذر في حالات معينة أن يتم «إدماج» هذه الدولة المحلية في وحدة سياسية أعلى، وتتضح هذه الحقيقة بشطريها على وجه الخصوص فيما حصل في كلٍّ من بفاريا وبروسيا.
ولقد خَلَقَتْ هذه البيروقراطية للدولة وحدتها الاقتصادية؛ فعُمِّمَت الضريبة المباشرة، وقضي على المُكوس (الجمارك) الداخلية، وبُدِئَ في عمل «تأريع» لتنظيم الضريبة العقارية «على الأرض»، ولقد أنشئت كذلك أجهزة للحكومة المركزية في شكل وزارات، ومجلس دولة ثم مجلس نيابي — كان بطبيعة الحال صوريًّا — لأنه لم تكن هناك حكومة برلمانية، ثم إن البلاد لم تلبث أن قُسِّمَتْ إلى «دوائر» أو مناطق إدارية، لكل واحدة منها الإدارات الخاصة بها، إلى جانب مجلس بلدي يخضع للإشراف الإداري الحكومي، ولقد جعل هذا التنظيمُ الحديثُ أملاكَ المَلِك الخاصة، ومرتبات المَلِك أو مخصصاته، منفصلة عن أملاك وأموال الدولة العامة؛ وبذلك أَمْكَنَ بناء الدولة الحديثة في بفاريا.
وفي «الدول» المجاورة لبفاريا، مثل «ورتمبرج» و«بادن» حصل في درجات مختلفة وصور متفاوتة نفس ما حصل في بفاريا؛ بحيث صار وجودهما مبعث صعوبات وعراقيل عديدة وخطيرة في طريق الوحدة الألمانية، وهكذا فإنه بعد «الوحدات» أو «الذاتيات» السياسية الضئيلة والبائسة التي شوهدت في ألمانيا سابقًا، لم تلبث أن وُجِدَتْ بألمانيا وحدات قوية مستندة على وطنية وقومية قوية، على أن الذي تَجْدُر ملاحظته أن هذه الوحدات القومية كانت وحدات مبعثها الشعور المحلي وحسب، وهو الشعور الذي قَوِيَ تحت السيطرة النابليونية أو بسببها، وكان لاستفحال خَطَرِ هذا الشعور المحلي الوطني آثار «معطلة» عندما جاء الوقت لإنشاء الوحدة القومية في ألمانيا بعد ذلك.
في بروسيا
ولقد حدثت نَفْس هذه الظاهرة في بروسيا كذلك، ولكن نتائج هذه «الذاتية» المحلية والشعور الوطني المحلي، كانت أشد خطرًا وأعظم جسامة مما حصل في بفاريا أو في غيرها؛ وذلك لأن التحول أو التغيير الداخلي «الشخصي» الذي وَقَعَ في بروسيا لم تلبث أن شملت آثاره كل ألمانيا، ليس في هذه الآونة فحسب، بل وفي السنوات المقبلة، وعلى صورة أَوْسَع مما ترتب على بروز «ذاتية» بفاريا، ومن أسباب ذلك أن إعادة تنظيم بروسيا، أثار اهتمامَ سواد الألمان أكثر مما أحدثته إعادة تنظيم بفاريا، حقيقةً خَضَعَتْ بروسيا آنئذ للإشراف «والسيطرة» الفرنسية، ولكن بروسيا بقيت مع ذلك الدولة الوحيدة «المستقلة» بصورة فعلية في ألمانيا، ولو أنها فَقَدَتْ حوالي نصف أملاكها، والدولة التي احتفظَتْ بتقاليدها المنبعثة من أمجادها القديمة، والتي كان المسعى لإحيائها وإنهاضها ضروريًّا لصنع «أداة العمل» التي سوف تكون ضروريةً لتخليص ألمانيا من نير السيطرة الفرنسية، ولا جدال في أن العمل من أجل إحياء بروسيا ونهضتها إجراء أو «حركة» موجَّهَة ضد فرنسا، سواء جاء هذا العمل من ناحية فريق من القادة والمسئولين الذين صَحَّ عَزْمُهم على تدبير النضال ضد فرنسا، أو كان مبعثه ارتياح بروسيا لهذا التغيير، أي التحرر من السيطرة الفرنسية نتيجة لكل تلك الشدائد التي ظل يعانيها الشعب الألماني بسبب احتلال الجيوش الفرنسية لبلادهم.
ولقد تضافَرَتْ هذه الحقائق جميعها على أن تُكْسِب حركةَ بَعْث بروسيا وإحيائها اهتمامًا اتخذ صورة قومية، كما صار لها نفوذ لم يلبث هو الآخر أن صار نفوذًا قوميًّا.
ومع ذلك فقد كانت هذه «الحركة» — إحياء بروسيا ونهضتها — عملًا بروسيًّا محضًا، ثم إنه لم يكن نتيجةً لحدوث ثورة أو انقلاب، بل إن الذي قام به كان البيروقراطية، ثم الجيش.
والحزب الوطني البروسي الذي نشد هذا البعث لم يكن سوى تلك الجماعة القديمة المُحِبَّة للحرب كخير وسيلة لتحقيق أغراض الدولة الناشئة، والتي عرفها «البلاط» البروسي من قديم، ولكن بعد أن دخلها «التجديد» ودبَّتْ فيها روح الشباب بفضل العناصر «الأجنبية» التي جاءت من مختلف جهات ألمانيا، لمعاونتها على بناء بروسيا في الظروف الصعبة التي كانت تجتازها الدولة وقتئذ، حيث كانت الحكومة البروسية قد لجأت إلى «كونجسبرج» في الظروف التي عرفناها، في حين استمرت الجيوش الفرنسية تحتل بروسيا حتى سنة ١٨٠٨.
وهكذا استطاعت هيئة أركان الحرب البروسية تعليم وتدريب أعداد عظيمة من الفلاحين وإنشاء احتياطي للجيش، يُدْعَوْن للخدمة العسكرية العاملة عند التعبئة، ثم إن هيئة أركان الحرب لم تلبث أن جَدَّدَتْ تأليف هيئة الضباط وإعادة الشباب إليها، بأن أَدْخَلَتْ أفراد الطبقة المتوسطة (البورجوازية) في صفوف الضباط بعد اجتيازهم الاختبارات والتدريبات المخصَّصة لأولئك الذين يريدون التعليم للالتحاق ضابطًا في الجيش البروسي، على أن الذي يَجِبُ ذِكْره أن هذا الجيش قد ظل جيشًا بروسيًّا برغمٍ من أنه قد أُعِيدَ نظامه، وصار تجديده حسب نظرياتٍ وآراء فرنسية، وتحت تأثيرِ أغراضٍ ونزعاتٍ قومية، فبقي الجيش — جيش بروسيا القديم — جيشَ نبلاء، وليس جيشًا شعبيًّا أو قوميًّا، وإن كانت هيئات الضباط «القديمة» هذه قد صارت متأثرةً بروحٍ «وطنية» جديدة، ويسودها شعور العداء والكراهية ضد فرنسا.
وأما فيما يتعلق بالحكومة المحلية؛ فإن «ستين» أَدْخَل إصلاحًا في سنة ١٨٠٨ تَنَاوَلَ شئون المجالس البلدية، ولو أن هذه المجالس بقيت دائمًا تَخْضَع للإشراف والمراقبة من الناحية الإدارية للسلطة المركزية، فصارت تتألف من مجلس منتخَب هو الذي يُسَمَّى «العميد»، أو رئيس البلدية ومعاونيه، ولم يعد هذا المجلس مؤلَّفًا من النقابات القديمة، بل بواسطة الانتخاب الذي يشترك فيه دافعو الضرائب، وفي سنة ١٨١٢ أنشئت في المقاطعات المختلفة هيئات للشرطة المحلية تخضع لإشراف «الدولة»، فكان بفضل هذه الإصلاحات إذن أنْ أَمْكَنَ إنشاء سلطة متماسِكة وقوية في وسْعِها إنهاء التردد الذي اتسمت به سياسة فردريك وليم الثالث الذي أحاط نفسه بكل تلك المنافسات والخلافات الداخلية، والتي جَعَلَتْ بروسيا دولة عاجزة وضعيفة، وهكذا لم تَعُد الدولة مجرد آلة، بل صارت — على حد قول «ستين» نفسه — كائنًا حيًّا.
ولقد صار تحرير الفلاحين من الرق في أملاك الخاصة الملكية منذ ١٨٠٧، وفي سنة ١٨١١، أضاف «هاردنبرج» إصلاحًا آخر صار بمقتضاه الفلاحون من ملتزمي الأرض مُلَّاكًا لها، في حين أُلْغِيَت السخرة والالتزامات الإقطاعية، وفي نظير أن يترك الفلاحون للسادة أصحاب الأرض ثلث مساحة أرض الالتزام، وفي بعض الأحايين نصفها، وفي نظير أن يتنازل الفلاحون عن الحقوق التي لهم على الملاك في مُقَابِل أن يضفي هؤلاء الآخرون عليهم «حمايتهم»، ولقد كان من نتائج إلغاء الرق في مُقَابِل تَنَازُل الفلاحين عن جزء من الأراضي التي كانوا يستغلونها بالالتزام؛ أن صار هؤلاء أكثرهم أُجراء باليومية.
ولَقِيَتْ هذه الإصلاحات «الاجتماعية» معارَضة شديدة من جانب النبلاء البروسيين؛ حتى إن «ستين» و«هاردنبرج» صارا يريان ضروريًّا الاعتماد على قوة الرأي العام لإمكان تنفيذها؛ ففَكَّرَ «ستين» في إصلاح المجالس (البرلمانات) الإقليمية، وفي إنشاء مجلس أو برلمان قومي، «أو وطني» يتألف من طبقات تُمَثِّل مختلف العناصر التي يتألف منها المجتمع، ولكن على أن يكون التصويت بهذا المجلس عدديًّا وليس طبقيًّا، ولقد قوبل هذا المشروع بمعارَضة قوية، فاضْطُرَّ «ستين» إلى التخلي عنه، أما «هاردنبرج» فقد استطاع في سنة ١٨١١ أن يجمع «مجلس أعيان» لاستشارته في الإصلاحات التي يريدها بالرغم من معارَضة النبلاء، ثم إنه جمع في السنة التالية (١٨١٢) مجلسًا منتخَبًا روعي فيه تساوي نسبة التمثيل بين المقاطعات، بأن يكون لكل مدينة اثنان من النبلاء، واثنان من النواب، ومثل هذا العدد للدوائر الريفية (خارج المدن)، على أن يكون هؤلاء من الذين يملكون عقارًا «أو أرضًا»، ومع ذلك فقد كان هذا المجلس محرومًا من كل سلطة، ولا يجوز القول أنه كان هناك بسببه أي «تمثيل» سياسي في بروسيا.
وواضح من دراسة موقف «الحكومة» سواء في بروسيا أو في بفاريا، أن رد الفعل الذي حصل ضد السيطرة الفرنسية كان «فرديًّا»؛ فلم يكن ثمة تنسيق بين جهود أو موقف هذه الحكومات حيال النفوذ الفرنسي؛ وذلك لسبب واحد هامٍّ، هو غلبة الشعور الوطني المحلي، وانعدام الشعور القومي «أو الوطني» الذي يَتَرَتَّب على استثارته توحيد جهود الأمة الألمانية في كفاحٍ وطني عامٍّ يهدف إلى إنهاء كل سيطرة أجنبية ليس من بروسيا أو من بفاريا، أو من أية دويلة وإمارة أخرى وحدها، بل من كل ألمانيا بأَسْرها، حقيقةً تأسَّسَتْ — تحت السيطرة الفرنسية وبسبب هذه السيطرة ذاتها، سواء في بفاريا أو بروسيا — وحدات سياسية كانت أكْثَرَ قوة وحداثة من سابقاتها، بفضل «الإصلاحات» التي شاهدناها، ولكن تلك لم تكن «تنظيمات قومية».
واستبد القلق بالشباب الذين تبدَّدَ أملهم في ملء الوظائف التي تطلعوا إليها، ثم إن الاحتلال الفرنسي كان عبئًا ثقيلًا بهظ كاهل الأهلين بسبب النفقات الجسيمة التي تَحَمَّلَها هؤلاء، وبسبب المصادَرات التي حصلت، ولقد تَرَتَّبَ على هذا كله أن استبد شعور الكراهية ضد فرنسا بالأهلين، وكان شعورًا «وطنيًّا»، حدث من تلقاء نفسه، أو كان مبعثه تَعَرُّض المصالح — التي لمختلف طبقات الأمة — للخطر.
ولقد كان من أسباب استثارة هذه الروح العدائية «الوطنية» ضد فرنسا، وزيادة هياج الخواطر في ألمانيا، ما وَقَعَ من حوادث في إسبانيا في غضون عامي ١٨٠٨، ١٨٠٩؛ فقد هَزَّت المقاومة أو «الثورة» الإسبانية، الشعب الألماني هزًّا عميقًا ليفيق من سباته الطويل، وذلك في الوقت الذي بدأت فيه الحرب ضد النمسا (أبريل ١٨٠٩).
وواضح مِنْ كل ما تَقَدَّمَ أنه وُجِدَ فعلًا اضطراب أو «تحريك» وطني في ألمانيا، كان بمثابة محاوَلة للقيام بالثورة، ويتفق حدوث هذه الحركة مع الوقت الذي بدأت فيه الحرب مع النمسا في سنة ١٨٠٩، وواضح كذلك أن السيطرة الفرنسية كانت مكروهة من الشعب الألماني، آية ذلك كل الحوادث التي ذكرناها والتي كان مبعثها «رد الفعل» الذي حصل ضد هذه السيطرة الفرنسية، ومع ذلك فكل تلك إنما كانت حركات لم تترتب عليها أية آثار إيجابية أو أنها أفضت إلى نتائج محدودة، ولم تكن كذلك في حد ذاتها شيئًا عظيمًا، أو حركات قومية إطلاقًا، ولا يجب إغفال هذه الحقيقة بالرغم من محاولات المؤرخين الألمان أن يُضْفُوا عليها أهمية كبيرة عند محاولتهم — فيما بعد — «تمجيدَ» حركتهم القومية، فراحوا يضعون لهذه «الحركات» الفردية والمتناثرة «تفسيرات» قومية.
والمقاومة الوطنية أبسط الأشكال التي يتخذها الشعور القومي عند وصوله إلى درجة من النضج تؤذن بظهوره بعد قليل في وضوح كامل، ومع ذلك فلم يكن هناك ما يدل في هذه الآونة على أن «الشعور القومي» قد نضج بالدرجة التي تُؤْذن بظهوره فورًا، بل كان لا بد لحصول ذلك من مرور فترة أخرى، ولا جدال في أن الحركة الفكرية القومية قد سَبَقَتْ ظهور «الشعور القومي» بمدة طويلة، ولا جدال في أنه لم يكن هناك أي احتمال لقيام ثورة ما ضد السيطرة الفرنسية بعد صلح فينَّا (١٤ أكتوبر ١٨٠٩) الذي أنهى الحرب مع النمسا، وبعد زواج نابليون من الأرشيدوقة ماريا لويز النمسوية (أبريل ١٨١٠)، فاختفى كل أمل في إمكان التخلص من هذه السيطرة الفرنسية، وصار يبدو أن الألمان — في مجموعهم — قد وطَّدُوا العزم على التسليم بأحكام القدر بشكل منعهم من الإتيان بأية حركة، حتى لقد أَعْلَنَتْ ملكة بروسيا نفسها أنه لم يعد لديها أي أمل في شيء.
وفي هذا الوقت الذي تبددت فيه آمال الألمان في الخلاص، كانت تتزايد العوامل التي سببت استياء الشعب الألماني وتذمره من السيطرة الفرنسية وسخطه عليها، من ذلك ارتفاع أثمان المواد الغذائية إلى ثلاثة أمثالها، نتيجة لسياسة «الحصار القاري»، فالقهوة والسكر والكاكاو، وتؤلف جميعها عناصر هامة في غذاء الألمان قد بلغت أثمانها أرقامًا خيالية، فكانت مأساة لم يقابلها الشعب بالثورة، بل بقي سادرًا في استكانته، يخيم عليه نوع من الخمول وعدم الاكتراث، ومع ذلك فقد تَرتَّبَ على انهيار بروسيا (١٨٠٦-١٨٠٧) وسط هذا «الخمول» وعدم الاكتراث الذي خَيَّمَ على ألمانيا، أن نهض المفكرون وأولو الرأي والمثقفون عمومًا، يرسمون الخطوط لحركة جديدة باعتبار أن بروسيا كانت بمثابة المعقل الأخير الذي من المحتمل صموده في وجه السيطرة النابليونية، ولا مَفَرَّ من حدوث كارثة وطنية شاملة نتيجةً لانهيارها، إذا اتضح أن هؤلاء المفكرين والمثقفين لم يبادروا باعتبار هذا الانهيار «نقطة تحوُّل» في معنى الوطن والوطنية، لإحياء «الشعور القومي» وبَعْثه في البلاد.
و«كلايست» كان صاحب دراما أخرى بعنوان «أمير همبورج»، مُثِّلَتْ سنة ١٨٢١، أي بعد وفاته بسنوات عديدة، (وكان قد مات منتحرًا في سنة ١٨١١)، وتُعْتَبَر هذه المسرحية وسابِقَتُها أَرْوَع ما أَنْتَجَه هذا المؤلف المسرحي الألماني، ولقد كانت الفكرة المسيطرة على هذه «الدرامات» أو التمثيليات مستوحاةً من شعور الكراهية العميقة للأجنبي، ثم شعور التحقير والازدراء بالأمراء الألمان «المتعاونين» مع الإمبراطور والسيطرة الفرنسية، كما أن هذه المسرحيات كانت تَحُثُّ الألمان على ضرورة التكتل، وتدعو لترويض النفس على النظام الدقيق من أَجْل خلاص ألمانيا وتحريرها من النفوذ الأجنبي «الفرنسي».
وقد ترك هذا النوع من «التفكير» آثارًا سيئة ورديئة في نَظَر «آرندت» الذي يقول: «إنه بدون شعوب لا وجودَ لأية إنسانية، وليس هناك شعوب من غير مواطنين أحرار، ولا وجود لعظماء الرجال بدون شعوب عظيمة، ولا وجود لشعوب عظيمة من غير وطنية»، ولقد حَمَلَ «آرندت» على بروسيا؛ لأنها أَخْفَقَتْ في تأدية الرسالة التي جَعَلَها القَدَر من نصيبها، فكان من رأيه أن فردريك الثاني — وإن كان ملك بروسيا — إلا أنه لم يكن قط ملكًا ألمانيًّا، فلم يَهْتَمَّ بسعادة ألمانيا، ولم يبذل جهدًا لتحقيق هذه السعادة ولرعاية المصلحة الألمانية، بل إن فردريك الثاني كان يسترشد في أعماله «وإصلاحاته» بالآراء والأساليب الفرنسية، أيْ إنه كان يستوحي نشاطه من «الخارج».
وهاجم «آرندت» الأمراء الألمان الذين أسماهم «بالخدم والأتباع»، والذين باعوا أنفسهم لسلطان الأجنبي، فكانوا في نظره «مجرمين» — على نحو ما وَصَفَهُمْ في خِطَابٍ وَجَّهَ فيه الكلام إليهم — لم يفكروا في ألمانيا لأنهم يجهلونها، ولم يضعوا كل ثقتهم في مستقبلها لأنهم لا يعرفونها، ثم راح يُحَمِّلُهم وِزْر اختفاء شعور الألمان بأن هناك روابط تجمعهم في صعيد واحد، أَهَمُّها اللغة الواحدة والأصل المشترك، حتى بات لا وجود لألمانيا؛ نتيجةً لِفِعْل الأمراء الألمان أنفسهم، وبسبب الأخطاء التي ارتكبوها هم وحدهم.
وفي روسيا، كتب «آرندت» قصائده الملآنة بالإشادة بالوطنية الألمانية والتي صار يدعو فيها مواطنيه للثورة، ونالت بعضُ قصائده شُهرة عظيمة، من ذلك قصيدته عن نهر الراين الذي هو نهر وليس حدودًا لألمانيا، وأثناء حملة ١٨١٣ أصدر سلسلة من القصائد لم تلبث أن جُمِعَتْ بعنوان: «أغاني الحرب».
وواضح أن هذا النوع «من الوطنية» الذي ظَهَرَ في تفكير وكتابات وقصائد وأغاني: آرندت، كلايست، هاجن، بوشينج، كرونر وغيرهم، لم يكن «فرديًّا»، «خصوصيًّا» أو «محليًّا» مِنْ نَمَط تلك «الوطنية» التي حَرَّكَتْ أهل التيرول على الثورة ضد بفاريا، ولكن هذه كانت وطنية ألمانية تشمل آفاقُها كُلَّ ألمانيا، وعلى النحو الذي ظَهَرَ خصوصًا في قصائد «آرندت».
ولقد كان «فيشته» — الذي تحدثنا عنه كثيرًا — خير من يُمَثِّل بكتاباته وآرائه هذا التحول الذي طرأ على الفكر الألماني من الاتجاه نحو «المواطنية العالمية» والنظرة الإنسانية الواسعة إلى تحبيذ الوطنية «والقومية» الألمانية البحتة، بسبب الكوارث التي نجمت من اندحار بروسيا في واقعة «يينا» في ١٤ أكتوبر ١٨٠٦، وكان أثناء الحرب أن أراد «فيشته» الانخراط في سلك الجندية لا كمقاتل؛ لأنه لا يستطيع ذلك، ولكن كواعظ يبذل قصارى جهده لتقوية أخلاق الجند وشد أزرهم، ولم يلبث «فيشته» أن تَبِعَ البلاط الذي انتقل بعد كارثة «يينا» إلى «كونجزبرج»، ثم أقام بعض الوقت لاجئًا في «كوبنهاجن» بعد ذلك، ولكنه آثَرَ العودة بكل سرعة إلى برلين، بالرغم من وجود الاحتلال الفرنسي بها، معرضًا نفسه للأخطار، غير أن السلطات الفرنسية لم تتعرض له بشيء.
ولقد وَجَّهَ «فيشته» الدعوة لكل طبقات الشعب بشدة وحرارة؛ ليؤدي هؤلاء واجبهم الذي يَفْرِض عليهم مقاومةَ الغزاة الذين احتلوا بلادهم، وعَقَدَ «فيشته» آمالًا كبيرة على الشباب في القيام بأوفى نصيب من المقاوَمة المنتظَرة، «فكل فرد مسئول أمام الأجيال القادمة عن الجهد الذي يبذله من أجل تحرير ألمانيا وضمان خلاصها وأمنها»، فلا يجب أن تعتمد ألمانيا في خلاصها على أية مساعدة خارجية، بل يجب أن تضع ألمانيا كل ثقتها من أجل النجاح في الإرادة الحقة والواجب المُطْلَق، اللذين يَفْرضان عليها فَرْض المقاومة والنضال للتحرر من كل سيطرة أجنبية، وقال «فيشته»: «إن ألمانيا باعتمادها على هذه «الوطنية» وحدها، سوف تنال — من غيرِ شَكٍّ — خلاصها.»
وفي رأي «فيشته» أن إصلاح التربية والتعليم شَرْط أساسي لإعادة خَلْق أو صُنْع الروح الألمانية من جديد، وتلك فكرة أَوْحَت بها إليه تعاليم «كانط»، فنادى «فيشته» بوجوب وَضْع تربية وطنية «قومية» تستند عليها الثقافة الألمانية المراد إعادة خلقها أو صُنْعها، وكان من ضروب الإصلاح التربوي الذي أراده «فيشته» أن يُعْزَلَ الأبناءُ عن آبائهم؛ حتى لا يتلوث جيل الشباب المقبل بالرذائل القديمة التي سَبَّبَتْ هلاك ألمانيا، فيُعْهَد إلى الدولة بهؤلاء الأبناء لتعمل على تَنْشِئَتِهِم في نَوْع من المدارس الداخلية بَعِيدِين عن أُسَرِهِم، فيتساوى الأطفال جميعُهم في تَلَقِّي العلم، ويعيشون في منازل التعليم داخل «عالَم مغلَق» يتكفل بإنتاج كل ما يحتاج إليه هؤلاء الأطفال من أغذية وملابس وأدوات ضرورية، حتى إذا زاد الإنتاج على حاجة هذه «المنازل التعليمية»، بِيع الفائض ودَخَلَ الثمن خزينة هذه المؤسسات للإنفاق على الطلاب «الداخلية».
وكان غرض «فيشته» من هذا النظام أن يعيش الطلاب في مجتمعات صغيرة، معزولين عن المجتمع الألماني؛ وذلك حتى تتسنى تنشئتهم بروح جديدة غير تلك الروح الملوَّثة القديمة والتي كان نصيبها الفشل، أما هذا النظام التربوي الذي أراده «فيشته» فقد مَزَجَ — وعلى نحو ما هو ظاهر — بين التربية العقلية والأخرى اليدوية، أي ذلك النوع من التربية الذي ساد التفكير حَوْلَه في القرن الثامن عشر، ومع أن هذا الإصلاح التربوي والتعليمي كان ينطوي على ترتيبات غير عملية، أو «وهمية»؛ فقد اعتقد «فيشته» أنه الوسيلة الوحيدة لإمكان حدوث بعث خلقي ونهضة أخلاقية، كانا في نظر «فيشته» شرطًا أساسيًّا لإحياء ألمانيا ذاتها ونهضتها، وعَقَدَ «فيشته» الآمال الكبار على أجيال الشباب المُسَلَّحين بالخُلُق القويم لإنعاش ألمانيا.
ولم يكن ما نادى به «فيشته» في هذا الميدان إلا مستلْهَمًا من آراء وفلسفة «كانط»، ولكن الجديد في تفكير «فيشته» أنه صار يؤمن بفكرة «القومية» كما نادى بها «هردر»، فاتخذت «القومية» مكانةً عاليةً في تفكير «فيشته» وبَدَتْ في صفائها ونقائها فكرة «الإنسانية»، ورأى «فيشته» في اللغة الألمانية دليلًا يبرهن على عُلُوِّ مكانة «القومية» وتَفَوُّقها على «الإنسانية»؛ فاللغة الألمانية — في نظره — اللغة الأصيلة الوحيدة والتي احتفظت بصفائها البدائي، ونقاوتها الأصيلة، على عَكْس اللغات الأخرى التي ليست في نَظَرِهِ بدائيةً «أو فطرية» بل مُشْتَقَّة من اللغة اللاتينية، مثل الطليانية والإسبانية والفرنسية، وعلى عكس اللغات التي هي مزيج من عناصر مختلفة مثل الإنجليزية، وتلك جميعها لغات دَخَلَت الصنعة في خَلْقِها فَفَقَدَتْ حيويتها، فمالت إلى التقليد، بخلاف اللغة الفطرية والأصيلة التي يتكلمها الألمان، والتي كان من طبيعتها المحافَظة على طابعها الأصيل، أما هذا النقاء والصفاء الذي امتازت به اللغة الألمانية فقد عدَّه «فيشته» البرهان الناصع والدليل الحي على رِفْعة قَدْر «القومية الألمانية» وعُلُوِّ مكانتها، وتفوقها على غيرها من القوميات.
ولدى «فيشته» كان الشعب الألماني شعبًا بدائيًّا فطريًّا، مثل لغته البدائية الفطرية، تَسَنَّى له — أكثر من غيره من الشعوب الأخرى — الاحتفاظ بتلك الجرثومة التي وَضَعَهَا الله في خلقه لإنجاب أفضل الرجال وأعظمهم سموًّا وكمالًا، ولقد تَرَتَّبَ على هذه الحقيقة — في نظر «فيشته» — أنْ صار الأدب الألماني والثقافة الألمانية بمثابة «الرسالة» التي عَهِدَ بها الإله إلى الشعب الألماني لهداية وتنوير الإنسانية «أو البشرية»، وفي دروسه ومحاضراته تَتَبَّع «فيشته» الدور العظيم والمجيد الذي لَعِبَتْه ألمانيا على مسرح التاريخ، وخصوصًا في عهد الإصلاح الديني الذي كان «عملًا أو نتاجًا» ألمانيًّا يتعارض في رأيه مع ما أسماه بالأكاذيب التي قَبِلَتْها الشعوب اللاتينية، والرومانية، من جَرَّاء الفساد الذي انتشر على يد «الكنيسة» في عالم المسيحية.
ولقد خرج «فيشته» من كل هذا بفكرة واضحة؛ هي أن ألمانيا صاحبة رسالة لا يجب على المرء أن يَتْرُكها تزول وتموت؛ لأنها رسالة تريد النفع والخير لألمانيا وللإنسانية قاطبة؛ فألمانيا هي التي سوف ترسم للعالم الطريق وتُرْشِده إلى السير فيه للتوفيق بين «الإنسانية» أي الرغبة في تحقيق النفع للبشر، وبين «الحركة التعقلية» التي تَزِن الأمور بميزان العقل، وتفسرها في ضوء الأحكام العقلية، وكان في رأي «فيشته» أن هذا التوفيق سوف يترتب عليه الوصول إلى حل لمشكلة «الدولة المدنية»، ذلك أن الحركة التعقلية الفرنسية والفكر الفرنسي، إنما قد انتهيا فقط إلى تقرير الفكر الحر الذي لا قيود عليه، وإلى الكفر بالله والإلحاد، وإلى قيام الثورة الفرنسية.
ذلك كان موجز الآراء والنظريات التي نادى بها «فيشته» في دروسه ومحاضراته الموجَّهَة إلى الأمة الألمانية، وواضح أن مَوْقِفه الآن قد صار يختلف — بل يتعارض — تمامًا مع موقفه قبل الكارثة التي حَلَّت ببروسيا؛ فهو الآن يؤكد أن الألماني الذي يتشبث بألمانيته بكل ما وُسْعه من قوة، هو الذي في وُسْعه بفضل هذه «الألمانية» ذاتها أن يخدم «الإنسانية»، في حين أن أنصار «المواطنية العالمية» الذين رددوا سابقًا وجوب انتماء المرء لكل الأوطان أو البلدان، كانوا يرون أن بهذه الصفة العالمية وحدها يكون المرء في الوقت نفسه وأكثر من أي وقت مضى ألمانيًّا، و«فيشته» قد استطاع الآن — بجعله الحضارة (الثقافة) والأمة والدولة كلًّا واحدًا — أن يصل إلى فكرة القومية الكاملة.
على أن الذي يَجْدُر ذِكْرُه أن الآراء التي نادى بها «فيشته» وغيره من المفكرين كانت لها آثار مستديمة، أو على الأقل بَقِيَتْ آثارها زمنًا طويلًا؛ فقد صار «فيشته» أحد أنبياء القومية الألمانية، وفي الصورة التي اتخذتها هذه القومية، أي الدعوة للألمانية «أو الجرمانية»، أما الوطن الألماني فلم تكن له حدود أو نهاية في اعتبار «فيشته»، كما أنه في اعتبار «آرندت» كل مكان يُدَقُّ فيه ناقوس اللغة الألمانية، وتلك الآراء التي شَهِدْنَا إذَنْ مولدها في (١٨٠٨-١٨٠٩) كانت لذلك نقطةَ التحول في «مثالية» سوف تنتشر خلال القرن التاسع عشر حتى تَعُمَّ كل ألمانيا، وإن كانت قد وَجَدَتْ لها الآن مركزًا تنبثق منه وجهازًا يعاونها على الانتشار، ونعني بذلك إنشاء جامعة برلين.
ولقد حَدَثَ أن فَقَدَتْ بروسيا في اتفاق تلست (يوليو ١٨٠٧) بين القيصر إسكندر والإمبراطور نابليون نصف مساحتها تقريبًا، فكان رأي ملكها «فردريك وليم الثالث»: «أن الدولة يجب عليها الاستعاضة عن القوة المادية التي فَقَدَتْها بالقوة الذهنية»، وكان قد كتب «شلير ماخر» قبل ذلك من «هال» في أول ديسمبر ١٨٠٦ يصف التأثير الذي في استطاعة أستاذ الجامعة أن يُحْدِثه في عقول (أو أذهان) تلاميذه، بأنه قد صار الآن أعظم مما كان في أي وقت مضى، ويؤكد اعتقاده بأن ألمانيا التي وَصَفَها بأنها «قلب أوروبا» سوف تصبح قريبًا ذات قوة جديدة وكبيرة، ثم لم يلبث أن انتقل إلى برلين ليبدأ سلسلة «عظاته» في الوقت الذي جذب إليه هذا المركزُ الثقافيُّ الجديد كلَّ المثقفين في البلاد.
وهكذا تَضَافَرَ الغرضان: السياسي والفكري أو الثقافي؛ ليجعلا ممكنًا إنشاء جامعة برلين، على أساس إدخال الإصلاح الأخلاقي والفكري أو الثقافي الذي كان يُعَدُّ ضروريًّا لبعث ألمانيا وإنعاشها وإنهاضها، فقال «شلير ماخر»: «سوف تصبح برلين مَرْكَزَ النشاط الثقافي «والذهني» في ألمانيا الشمالية والبروتستنتية والأرض الصلدة المهيأة لتأدية الرسالة التي اختصَّتْ بها وحدها الدولة البروسية»، ومعنى ذلك أن إنشاء هذه الجامعة «في برلين» لم يكن من أجل تنفيذ برنامج ذهني وثقافي فحسب، بل كان لتحقيق غرض سياسي كذلك.
وصادف مشروع تأسيس الجامعة الجديدة صعوبات معينة، مبعثها ما كانت تعانيه الدولة من ضائقة مالية بعد هزيمتها وانهيارها تجعل متعذرًا إنفاق المال في إنشاء جهاز لم تكن هناك في الظاهر حاجة مُلِحَّة لإنشائه، وثمة صعوبة أخرى «أخلاقية» مبعثها التخوف من معارضة جامعة فرانكفورت التي لم تكن تريد وجود مُنَافِس جديد لها، ثم معارضة مجلس بلدية برلين الذي خشي من وجود الطلاب الجامعيين في المدينة وتعريض «البرلينيات» — كما قال هذا المجلس — لما من شأنه إضعاف أو إفساد أخلاقهن بسبب ذلك، أَضِفْ إلى هذا صعوبة إنشاء المراكز الكبيرة في هيئة التدريس بدرجة تكفي لإغراء الأساتذة وجذبهم للجامعة الجديدة، ولقد أَمْكَنَ التغلب على كل هذه الصعوبات شيئًا فشيئًا، وبرزت فكرتان بشأن الجامعة المزمعة، فأراد «فيشته» أن تكون هذه بمثابة «دير علماني»، في حين نادى «شلير ماخر» بوجوب أن تكون جامعة برلين جامعة عادية من نمط سائر الجامعات المعروفة.
أما مُنْشِئ هذه الجامعة؛ فكان العالمَ اللغوي والأثري «وليم همبولدت» الذي ذكرناه مرارًا، والذي تولى في سنة ١٨٠٩ وزارةَ المعارف في بروسيا، وقد احتفظ «همبولدت» من صفة «المواطنية العالمية» باتساع الأفق، واحترام الاستقلال الذهني، وإن كان هو الآخر قد تخلى عن هذه «المواطنية العالمية» وصار يعتنق الفكرة الوطنية، ويفسر الرغبة في إنشاء جامعة برلين قول «همبولدت»: «إنه لم يعد هناك ملجأ أو حمى للعلوم والفنون الألمانية، في وقت خَضَعَتْ فيه ألمانيا لسلطان سيد أجنبي، ولسيطرة لغة أجنبية؛ ولذلك فقد صار واجبًا افتتاح مركز للعلوم الألمانية وتوجيه الدعوة للعمل به إلى كل أولئك الرجال من أصحاب المواهب والكفايات الذين لا يعرفون ملجأ يلجئون إليه.»
وفي ضوء الأرقام التي ذَكَرْناها قد لا يجوز اعتبار جامعة برلين في هذه السنوات الأولى «مركزًا» ثقافيًّا، ولكنها كانت «بداية» أكثر من أنها «نتيجة».
ولا جدال في أن جامعة برلين كانت — على كل الأحوال — مركزًا ثقافيًّا، ومستقرًّا للمشاعر الوطنية الملتهبة، وأحد العناصر الهامة في التجديد والإنعاش الروحي، والنهضة الأخلاقية التي عاونت على تقويم ألمانيا وتثقفيها.
ولقد كان لهذا «الأصل» الذي انْحَدَرَ منه «ستين» أكبر الأثر في احتفاظه بكل تلك التقاليد الرجعية التي لطبقة فرسان الإمبراطورية الرومانية «الجرمانية» المقدسة، فهو لم يفعل شيئًا لتحسين أحوال فلاحيه، وهو يحتقر الفلاسفة والكهنوتيين على السواء، أولئك الذين أَيَّدُوا الاستبدادية المستنيرة، وهو بطبيعة الحال ولسببٍ أقوى يَحْتَقِر كذلك «المواطنية العالمية»، ويُرْعِبه أشد الرعب كل تلك الآراء «الاجتماعية» التي جاءت بها الثورة الفرنسية، واشتد مَقْتُه وعَظُمَتْ كراهيته لها.
وقد الْتَحَقَ «ستين» بخدمة بروسيا كمهندس أولًا، ثم كإداريٍّ، ثم عُيِّنَ وزيرًا للدولة في سنة ١٨٠٤، ولم يكن «ستين» ممن يهتمون بتفاصيل الإدارة التي تَرَكَهَا لمرءوسيه، في حين اهتم هو بالمسائل الرئيسية، وحَاوَلَ «ستين» بعد كارثة «يينا» إزالة مساوئ الإدارة وإصلاح الجهاز الحكومي؛ فقَدَّمَ في ذلك مذكرات عديدة إلى الملك فردريك وليم الثالث، يطلب فيها إصلاحًا كاملًا يُنْهِي ذلك النظام الإداري الذي كانت تسير عليه الدولة من أيام فردريك الثاني، والذي ساعد على انهيار الدولة عند أول كارثة نزلت بها، والذي ثبت فشله.
وفي نهاية شهر مارس ١٨٠٧ انسحب «ستين» إلى نساو، التي لم يلبث أن بَعَثَ منها «بمذكرة نساو» المشهورة إلى الملك يَعْرض فيها برنامجًا لإصلاح الدولة على أن يستند هذا الإصلاح على ما أسماه «ستين» بالروح العام الذي تُمَثِّله الهيئات الإقليمية، وكان هذا البرنامج منشأ الإصلاحات التي أجراها «ستين» في بروسيا؛ فقد دعاه الملك للوزارة بعد تنحية «هاردنبرج» في آخر شهر سبتمبر من سنة ١٨٠٧، وظل «ستين» في كرسي الوزارة حوالي ثلاثة عشر شهرًا، وكان أهم عمل قام به؛ استصدار مرسوم تحرير الرقيق الذي كان قد أَعَدَّهُ قَبْل وصوله للوزارة، ثم إصلاح مجالس البلدية «في نوفمبر ١٨٠٨»، ثم الإصلاح الإداري «الذي نُفِّذَ في ديسمبر»، ولقد ترك «ستين» الوزارة في ٢٤ نوفمبر (سبتمبر) ١٨٠٨ — كما عرفنا — بناء على رغبة نابليون بدعوى اكتشاف السلطات الفرنسية أن «ستين» كان مشتركًا في تدبير عصيان أو ثورة تنشب في سيليزيا، وأنه كان يريد أن يجعل بروسيا تتدخل إلى جانب النمسا في الحرب التي أُعْلِنَتْ ضد فرنسا.
على أن الذي تَجْدُر ملاحظته أن «ستين» برغم أنه خَصَّصَ أكثرَ نشاطه السياسي لخدمة ملك بروسيا، لم يكن «بروسيًّا» في تفكيره وتدبيره، بل كان «ألمانيًّا» في نظرته للأمور وتقديره لها، وتلك كانت ميزة «أصيلة» تُمَيِّزه من «هاردنبرج» — الذي كان أصلًا من هانوفر — ومن الوطنيين البروسيين مثل «شارنهورست» وكل المصلحين العسكريين في بروسيا.
بل إن «ستين» كان يرى وجوب أن تكون هذه التغييرات الإقليمية «والسياسية» على نطاق أوسع بكثير مما حدث؛ حتى لا يبقى في ألمانيا بأسرها سوى دولتين اثنتين فقط، هما بروسيا والنمسا، فهو عدو لكل الدويلات الصغيرة والوسطى، ويقسو قسوة بالغة على كل أولئك الأمراء «الجبناء» الذين حاوَلوا بطريقِ التقرب إلى الحكومة الفرنسية، زيادةَ مساحة أراضيهم وإماراتهم، فقد أَقَضَّ مضجعه أن التغييرات الإقليمية والسياسية والتي طُلِبَ من طائفة من الأمراء التضحيةُ ببعض ما يمتلكون بسببها لم تكن لصالح ألمانيا، أو لتحقيق غَرَضٍ نبيل وعظيم، يعود بالنفع على الأمة بأسرها.
إن الواجب يقتضي الآن تذكير كل ألماني بواجبه نحو الوطن المشترك، ودعوته لتأدية هذا الواجب بأن يبدأ النضال ضد أعداء البشرية، وأعداء ألمانيا.
ولقد جاء في مذكرة أخرى له في مارس ١٨١٠، أن الحاجة قد باتت مُلِحَّة لإعادة صُنْع وتنشئة الشعب الألماني؛ لاعتقاده أن تربية الشعب الألماني شَرْط أساسي لتقويمه، حيث إن القوة الروحية «والخلقية» قمينة بأن تجعله يتغلب في النهاية على القوة الجثمانية، والتي تمثلها في نظره السيطرة الأجنبية «الفرنسية».
إن من الواجب قبل كل شيء الامتناع عن إعادة الأحوال القديمة إلى ما كانت عليه سابقًا، ذلك أن «الوضع» الذي نشأ نتيجة لمعاهدات وسيفاليا (١٦٤٨) كان يدعو للحزن والأسى حقًّا، بالرغم من أنه لم يكن في صالح ألمانيا ولا في صالح أوروبا أن تكون ألمانيا «مشلولة» الحركة ولا حول لها ولا طَوْل؛ بسبب الترتيبات الإقليمية والسياسية التي أَوْجَدَتْها هذه المعاهدات، وبَقِيَتْ آثارها «المشئومة» ما يزيد على قَرْن من الزمان.
أما الحل الذي ارتآه «ستين» فكان وحدة ألمانيا في دولة واحدة ذات نظام ملكي، وذات سلطة عليا واحدة يخضع الجميع لها، على أن تبقى لكل الأحرار حقوقهم المدنية والسياسية، فإذا تَعَذَّرَ إنشاء هذه الوحدة، وكان لا معدى عن وجود بروسيا والنمسا تتمتع كل منهما بذاتيتها المنفصلة، ولا مفرد من وجود عدد من الدويلات إلى جانبهما، فلا أَقَلَّ من أن يكون عدد هذه الدويلات قليلًا، وأن يتألف من تلك التي في الشمال اتحاد كونفدرائي حول بروسيا، ومن تلك التي في الجنوب اتحاد كونفدرائي آخر حول النمسا، وبذلك سوف يمتنع على هذه الدويلات أن تحيا حياة مستقلة، وأن تتبع سياسة خاصة بها، فلا تَدْخُل في مفاوضات مباشرة، أو تُبْرِم معاهدات ما مع الدول الأجنبية.
وفي وُسْع الذين يلومونه على «بروسيته» أن يضعوا أية دولة أخرى يشاءونها في مكان بروسيا إذا أرادوا ذلك، وأن يُحَصِّنوا النمسا ويُزِيدوا من قوتها بإعطائها سيليزيا، وبادن، وبراندنبرج، وألمانيا الشمالية، مع استبعاد الأمراء الذين في المنفى، وأنْ يعُودوا ببفاريا وورتمبرج وبادن إلى الوضع الذي كان لها قبل سنة ١٨٠٢، وبالاختصار في وُسْعهم أن يجعلوا النمسا صاحبة السلطة والقوة والنفوذ الأعلى في ألمانيا، فإنه لن يتردد في الموافقة على ذلك إذا اتضح أنه إجراء طيِّبٌ ويمكن تنفيذه عمليًّا، ولكن يجب على الألمان «والحكومات الألمانية» أن تضع حدًّا لخلافاتها ومُنَازَعاتها التي تُشْبه — كما قال «ستين» — خصومات أُسْرَتَيْ «مونتاجيو» و«كابوليه» في مسرحية «شيكسبير» الخالدة «روميو وجولييت».
وفي سنة ١٨١٣ سوف لا يكون «ستين» مدفوعًا في نشاطه بأيِّ اعتبارٍ لمَصالح الحكومة البروسية، على أنَّ الذي تَجْدر ملاحظته أن «ستين» لم يكن يفكر في ألمانيا، والذي كان هَدَفُه رعاية مصالحهم من غير النمسا، ففي فكره اشتملت ألمانيا دائمًا على النمسا؛ لأنه إنما كان يسعى لبناء «ألمانيا العظمى».
وهكذا صار «ستين» يمثل فكرة الوحدة القومية الألمانية في معناها الأعلى، وفي أكبر درجات الشعور بها، ولا جدال في أن «ستين» كان يتقدم معاصريه كثيرًا في تفكيره هذا، ويَتَقَدَّم بِقَدْر كبير جدًّا في هذا التفكير على الحكومات الألمانية التي استرشدت بمصالحها الخاصة الإقليمية، سواء في الجنوب أو في الغرب، وسَرَّهَا أن ترى بروسيا وقد تَقَوَّضَتْ عروشها «في الحرب التي شنها عليها نابليون»، ووَجَدَتْ في التعاون مع فرنسا ما يخدم مصالحها، ولقد تَقَدَّمَ ستين في تفكيره كذلك على «الرأي العام» الألماني الذي ظل لا يعبأ بفكرة القومية.
وفي أثناء هذا كله كانت «الحكومة البروسية» ذاتها تقوم بدور مزدوج، فيسلم «هاردنبرج» الوطنيين إلى البوليس النمسوي، ويَتَحَالَف مع نابليون بالاتفاق مع «مترنخ» في حملة روسيا، في حين أنه استمر خُفْيةً ينشئ الصلات المتينة مع الوطنيين، ولقد فَصَمَ هذا الفريقُ من الوطنيين كُلَّ علاقة له بفرنسا، عندما حَلَّت الكارثةُ بنابليون في روسيا، ولم يَعُدْ هناك أيُّ مجال للشك في أن قوة «الجيش الأعظم» قد تحطمت نهائيًّا، فكان عندئذ فقط أنْ حاوَلَ هؤلاء وَضْع قوة بروسيا الجديدة تحت تصرف أولئك الذين صَحَّ عزمهم على الانتقام من نابليون وإنهاء السيطرة الفرنسية.
في إيطاليا
ولقد كان بسبب الإيمان بفكرة الوحدة الإيطالية أن صار للكاربوناري وللجمعيات السرية الأخرى — التي دانت هي أيضًا بهذه الفكرة — شأنٌ كعنصر نشاط من عناصر المستقبل التي قام على أكتافها العمل من أجل تحرير إيطاليا، في المحاولات التي حصلت بين سنتي ١٨١٥–١٨٤٨.
وواضحٌ أنَّ أنواع المقاوَمة التي ذكرناها ضد السيطرة الفرنسية لم تكن حركات «قومية» صحيحة، ولم تكن كذلك من الحركات القومية الصحيحة، كلُّ أنواع المقاومة التي قامت ضد السيطرة الفرنسية، على أيدي حكومات البربون التي أفقدها نابليون عروشها، ولجأت إلى صقلية أو إلى سردينيا، أو تلك التي قام بها الموظفون ورجال الدين في خدمة البابوية، ضد السيطرة الفرنسية، عندما أعلن نابليون (في ١٧ مايو ١٨٠٩) ضَمَّ الأملاك البابوية إلى الإمبراطورية.
على أن السيطرة الفرنسية من ناحية أخرى قد أَحْدَثَتْ تغييرًا وتحولًا عميقًا في الأحوال الاجتماعية والسياسية السائدة في شبه الجزيرة الإيطالية، وبدرجة يمكن اعتبارُه بها عملًا مُمَهِّدًا لإنشاء الوحدة الإيطالية، ومع أن نابليون اتبع في «سياسته» الإيطالية خُطَطًا مُتَعَارِضَة ومتناقضة، وعلى نحو ما فَعَلَ في ألمانيا، فالشيء الواضح إجمالًا أن النظام المبني على الإقطاع قد أُلْغِيَ، كما أُلْغِيَ حق القضاء الخاص الذي تَمَتَّعَ به المُلَّاك أصحاب الأراضي، وجُعِلَ من اختصاص الخدمة العامة أو القضاء العام، وخَضَعَ النبلاء لقانون مشترك عامٍّ في كل ما يتعلق بأراضيهم وأشخاصهم، وأُلْغِيَت العشور التي كانَتْ تُدْفَع لرجال الدِّين، كما أُلْغِيَت الواجبات أو الالتزامات الشخصية التي على الأفراد نحو الملاك والسادة، وأَمْكَنَ — إلى جانب هذا كله — ملاحظةُ بداية إصلاحٍ زراعيٍّ في أماكن متعددة من إيطاليا.
ثم تَنَاوَلَ الإصلاح الإداري — في النواحي الخاضعة لهيمنة السلطات الفرنسية — تَبْسِيطَ الإجراءات الإدارية وإلغاءَ عددٍ عظيم من «الوظائف» الإدارية التي كانت عبئًا ثقيلًا ضَجَّ الأهلون منه، مثل الوظائف الشرفية التي يتناول شاغِلوها أجورًا عالية دونَ عَمَلٍ يؤدونه، وكان عدد الوظائف عظيمًا، ثم الوظائف التي كانت تُبَاع وتُشْتَرى، ثم عَمَدَت السلطات الفرنسية في الجانب الآخر إلى تنظيم المصالح والإدارات، لا سيما تلك المتعلقة بالحسابات العامة، وشَكَّلَتْ في كل مكان تقريبًا هيئاتٍ نظاميةً من الموظفين الذين يخضعون لأساليب وقواعد العمل الفرنسية.
ولقد وَصَلَ عدد الجيش في «مملكة إيطاليا» أي في إيطاليا الشمالية سنة ١٨١٠ حوالي تسعة وأربعين ألفًا، وفي سنة ١٨١١ بَلَغَ الرقم واحدًا وتسعين ألفًا، ومعنى ذلك أنه لم يكن هناك مَفَرٌّ من اتصال الأهلين — سكان البلاد الطليان — بالجيوش النابليونية المُعَسْكِرة في أقاليمهم، وكان معنى ذلك أيضًا أن هذه الجيوش النابليونية — التي اعْتَمَدَت في إيطاليا على تجنيد الطليان لملء صفوفها — كانت تتألف من حشود من أصول مختلفة، صَارَتْ مجتمعة في مكان واحد، وفي «منظمة» واحدة — هي الجيش — لأول مرة، فصار ممكنًا حينئذ — وللمرة الأولى كذلك — أن يَحْصُل الاتصال والامتزاج بين النابوليتان والسردينيين، والجنوبيين، بأهل الميلانيز والشماليين عمومًا، ولقد كان ذلك أول امتزاج حَدَثَ مِنْ نَوْعه.
وأما الضباط الذين اسْتَخْدَمَهُم نابليون في جيشه؛ فقد صار اختيارهم — بقدر المستطاع — من بين النبلاء، ومن بين أفراد الطبقة المتوسطة (البورجوازية)، وثمة عامل آخر «لتوحيد» الطليان في نطاق الخضوع للسيطرة الفرنسية، نشأ من سياسة «الحصار القاري» التي أَوْجَبَتْ إنشاء نوع من الاقتصاد الموحد في إيطاليا، بمعنى التزام الطليان في أنحاء شبه الجزيرة باتباع نظام مُعَيَّن في علاقاتهم الاقتصادية مع بعضهم بعضًا، ومع البلدان الأجنبية.
وهكذا، فإن نابليون دون أن يَخْلُق «قومية إيطالية» — وذلك ما كان يَتَعَذَّر عليه فِعْلُه، وما لم يفعله إطلاقًا — قد أَوْجَدَ السيطرة الفرنسية التي جَعَلَتْ ممكنًا تَعَرُّف العناصر الإيطالية المختلفة والتي عاشت أجيالًا طويلة مُشَتَّتَة على بعضها بعضًا وبدرجة طيبة، ثم جَعَلَتْ ممكنًا قيام العمل المشترك بين هذه العناصر المختلفة، بإتاحة الفرصة لها لِفِعْل ذلك، ولا جدال في أن هذا التعارف، ثُمَّ الاشتراك في العمل، كانا كلاهما ضروريَّيْن للتمهيد لبناء «قومية» إيطالية في المستقبل.
ثم إن «مونتي» لم يلبث أن صار «الشاعر الرسمي» للإمبراطور؛ فنظم القصائد في مديح نابليون، حتى إذا بدأ نَجْم الإمبراطور في الأفول جَذَبَتْ عروضُ النمسا المغرية هذا الشاعرَ بعد سنة ١٨١٤ للتخلي عن المذهب الحر الذي كان قد اعتنقه، وصار يُسَبِّح بحمد هذه الدولة الأوتوقراطية؛ وهكذا لم تكن أحاسيسه السياسية صادرة عن مبدأ واحد ثَبَتَ عليه صاحبه، ومع ذلك فقد كان «مونتي» في كل مراحل تطوره لا يفتأ يبحث عن العناصر التي تتألف منها عظمة إيطاليا وعظمة الوطن وصالِحه؛ ليصوغ كل هذه المعاني في قصائده.
وقد استطاع هؤلاء جميعًا، وعن طريق بحوثهم في نقد الأدب، ودراساتهم في قواعد اللغة، وبفضل نتاجهم الأدبي العالي الذي صار مَثَلًا يَحْتَذِيه الأدباء الناشئون وغيرهم؛ نقول: استطاع هؤلاء جميعًا تنقية اللغة، وإحداث نهضة لغوية «إيطالية» أو «وطنية» عظيمة في إيطاليا، ولقد كانت اللغة الإيطالية السائدة هي «اللسان» التسكاني، حيث كانت «التسكانية» اللغة الرسمية الإيطالية منذ أمد طويل، فعمد هؤلاء الآن إلى تطهير هذه «اللغة» من كل شائبة وإعادتها إلى نقاوتها الأولى.
ولقد كان من أسباب نجاح جهودهم؛ التشجيع الذي نالوه من نابليون نفسه، حتى ظفروا بتحقيق شيء مما أرادوه في هذا السبيل في سنة ١٨٠٩ عندما تقرر أن تكون الإيطالية هي اللغة المستخدَمة في المحاكم، حتى في الأراضي التي ضُمَّتْ «من إيطاليا» إلى فرنسا، وفي سنة ١٨١٢ وافَقَ نابليون على إعادة تشكيل «أكاديمية العلوم» في فلورنسة، فكان هذا النشاط الأدبي واللغوي مبْعَثَ شعور جديد لدى الطليان بالفخر والكبرياء، يُضَاف إلى شعورهم القديم بأمجادهم الغابرة، كما لا يَجِبُ إغفالُ نهضتهم المعاصرة في الفنون الأدبية والموسيقى.
وواضح مما تَقَدَّمَ إذن، أن الفكرة القومية في إيطاليا بقيت في هذا العهد ضِمْن إطار الأقوال وحسب، تلقى تعبيرًا عنها في نوع الأدب الجديد، والإحياء اللغوي «الأدبي» ولم تَدْخل بتاتًا إلى ميدان العمل السياسي، فلا تزال معدودة لذلك «إضافةً» تُزِيد من قيمةِ ومقدارِ التراث الأدبي والفني الإيطالي فقط، في وقت لم يكن منتَظَرًا فيه — بسبب ما حَصَلَ مِنْ تعاوُن مع الفرنسيين — أن تبرز إلى عالم الوجود «فكرة قومية» أو شعور قومي صحيح في إيطاليا، وإن كانت كل العوامل التي ذكرناها قد مَهَّدَتْ لوجود هذا الشعور القومي بعد ذلك.